کتاب الصلاه المجلد 1

اشارة

سرشناسه : اراکی، محمدعلی، 1373 - 1273

عنوان و نام پديدآور : کتاب الصلاه/ الاراکی

مشخصات نشر : قم: مکتب آیه الله العظمی الشیخ محمدعلی الاراکی (ره)، 1421ق. = 1379.

مشخصات ظاهری : 2 ج.نمونه

شابک : 964-6677-07-x15000ریال

يادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس

موضوع : نماز

موضوع : فقه جعفری -- قرن 14

موضوع : نماز -- رساله عملیه

رده بندی کنگره : BP186/الف37ک2 1379

رده بندی دیویی : 297/353

شماره کتابشناسی ملی : م 80-4866

[مقدمة المحقق]

باسمه تعالى اكنون كه در آستانۀ هفتمين سالگرد ارتحال فقيه وارسته، اسوه زهد و تقوا شيخ الفقهاء و استاد المجتهدين آية اللّٰه العظمى اراكى قدّس سرّه، يكى ديگر از آثار گرانقدر و ارزشمند ايشان به زيور طبع آراسته شد، يادآورى چند مطلب را لازم مى دانيم:

1- بحمد اللّٰه تعالى با چاپ كتاب الصلاة، چاپ مجموعه آثار فقهى و اصولى آن مرحوم در شانزده مجلّد به پايان رسيد و چون اين كتابها در طول چند سال چاپ شده و نحوۀ توزيع آنها مطلوب نبوده و ممكن است برخى از كسانى كه علاقه مند به استفاده از اين آثار هستند نتوانسته باشند آنها را تهيه كنند، فهرست اين آثار تقديم مى شود تا در صورت نياز به همه يا برخى از آنها، با صندوق پستى 558/ 37185 مكاتبه و يا با تلفن 734533 و فاكس 735733 تماس گرفته و تهيه كنند:

1- رسالتان في الإرث و نفقة الزوجة.

2- المكاسب المحرّمة و رسالة الخمس.

3 و 4- كتاب البيع. رسالة اجتهاد و تقليد ضميمة جلد دوم بيع است.

5- كتاب الخيارات.

6 و 7- كتاب الطهارة.

8 و 9 و 10- أصول الفقه.

11- الحاشية على درر الأصول. رساله ديگر در اجتهاد و تقليد ضميمه اين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 4

حاشيه است.

12- كتاب النكاح.

13 و 14- كتاب الصلاة.

15- حاشيۀ عروة الوثقى.

16- استفتاءات.

2- در اين مجموعه آثار، مطالب نغزى كه تلفيق نظرات و مبانى اصحاب مكتب علمى نجف و سامراء است با كمال دقّت و تأمل، با قلمى شيرين و روان، با رعايت امانت در نقل و پرهيز از اطناب مملّ و ايجاز مخلّ، نگاشته شده است كه براى اهل فن بسيار مغتنم است.

البتة آية اللّٰه العظمى اراكى رحمه اللّٰه مكرر مى فرمودند كه اين نوشته ها با استفاده از بيانات مرحوم آية اللّٰه العظمى حائرى نگاشته شده گر چه عنوان «تقريرات» ندارد.

3- از آية اللّٰه حاج شيخ رضا استادى و حجة الإسلام و المسلمين شيخ مرتضى واعظى اراكى و حجة الإسلام حاج شيخ احمد مصلحى و ديگر عزيزانى كه در احياء و چاپ اين آثار زحماتى كشيده اند تشكر و قدردانى مى شود.

4- چون نوشته هاى آية اللّٰه العظمى اراكى در عين خوش خط بودن، بى نقطه نوشته شده، لذا با همۀ كوششى كه انجام گرفته، باز هيچ كدام خالى از اغلاط چاپى نيست از اين رو براى برخى از جلدها غلط نامه تهيه و چاپ شده و در آينده غلط نامۀ بقيه مجلّدات هم چاپ خواهد شد.

لازم است اساتيد و فضلاى گرامى، نسخه هاى خود را با اين غلط نامه ها تصحيح كنند.

ابو الحسن مصلحى 1421 ق

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 5

حياة المؤلف رحمه اللّٰه

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 7

حياة المؤلف رحمه اللّٰه «1» بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

ولادته:

ولد رحمه اللّٰه في 24 جمادى الآخرة سنة 1312 ه ق في بلدة سلطان آباد (العراق الأراك).

كتب بخطّه الشريف في مختتم كتاب «گلستان» مصلح الدين السعدي الشيرازي:

«تولد اين عاصى خاطى محمّد على چهار ساعت تخمينا از روز يكشنبه

______________________________

(1) من أراد من القرّاء الكرام أن يقف على مفصّل ترجمة المؤلف رحمة اللّٰه عليه فليراجع إلى هذه الكتب:

أ- شرح حال آية اللّٰه العظمى الأراكي تأليف السيّد أبي الحسن المطّلبي طبع قم في 80 صفحة.

ب- آية اللّٰه الأراكي (يك قرن وارستگى) تأليف الشيخ علي صدرائي الخوئي. طبع في 160 صفحة.

ج- شرح أحوال آية اللّٰه العظمى الأراكي تأليف الحقير (رضا الأستادي) طبع قم في 840 صفحة. و هذه الكتب فارسيّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 8

بيست و چهارم جمادى الأخرى سال يك هزار و سيصد و دوازده هجري قمرى در سلطان آباد عراق واقع شده» و هذه النسخة الثمينة الجليلة من «گلستان» التي هي بخطّه و كتبها في سنة 1324 محفوظة في مكتبته و بيته.

اسمه و نسبه:

محمّد علي بن الميرزا آقا بن الميرزا فتح اللّٰه بن أحمد بيك بن محمّد حسين خان المصلحي بن الحاجّ رضي بن الحاج حاتم.

و بيت محمّد حسين خان بيت علم و أدب و دراية، و فيهم علماء و شعراء و رجال السياسة كما ذكر في محلّه.

قيل: إنّ محمّد حسين خان كان شاعرا و لشدّة إرادته بالشيخ مصلح الدين السعدي الشيرازي جعل تخلّصه في إشعاره: «المصلحي». و لعلّ قرية «مصلح آباد» من قرى أراك، و أيضا قرية حاتم آباد بقرب «مصلح آباد»، و قرية «رضي آباد» في جوار «حاتم آباد»، سمّيت بهذه الأسماء تكريما لمحمّد حسين خان المصلحي و أبيه الحاجّ رضي و جدّه الحاج حاتم. و لعلّها أسّست هذه القرى باهتمام

محمّد حسين خان و أبنائه و سمّيت بهذه الأسماء.

أبوه:

أبوه حجّة الإسلام الحاج الميرزا آقا الفراهاني العراقي (1254- 1355) رحمه اللّٰه.

كان لشدّة تقواه و درايته معتمدا لأكابر علماء البلد: آيات اللّٰه: الحاج آقا محسن العراقي و آقا نور الدين العراقي و ملّا محمّد الكبير والد الشيخ ضياء الدين العراقي و الحاجّ الشيخ عبد الكريم الحائري رضوان اللّٰه تعالى عليهم و لذلك كانوا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 9

يرجعون إليه مستشيرين في حلّ بعض المشاكل و الحوادث الواقعة.

و كان رحمه اللّٰه شديد المحبّة و المودّة لأهل بيت العصمة عليّ و أولاده المعصومين عليهم السّلام و من شعره مخاطبا لمولى الموالي أمير المؤمنين عليه السّلام:

شاها تو مع اللّٰهي و اللّٰه معك حبّ تو به ايمان و به كفر است محك

چون نام تو و نمك يكى شد به عدد حق را نشناخت آن كه نشناخت نمك

و فيه مضمون الحديثين: من كان للّٰه كان اللّٰه له. و عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ. و (ع ل ي 110) و (ن م ك 110).

امّه:

بنت السيّد عقيل من أحفاد السيّد حسن الواقف (786- 857) الذي قبره مزار في بلدة نطنز و هو من أحفاد علي أصغر بن الإمام زين العابدين عليه السّلام. ماتت رحمة اللّٰه عليها سنة 1349 ه ق.

و كتب شيخنا المؤلّف رضوان اللّٰه تعالى عليه في خاتمة بعض مكتوباته: «كتبه محمّد علي الشريف» و الشريف يطلق على من كان امّه من السادات العلويّات.

مشايخه و أساتيذه:

1- الشيخ جعفر الشيثي (الشيث اسم قرية بأراك) كان من أفاضل تلاميذ الشيخ عبد الكريم الحائري بأراك في (1316- 1324) أي في هجرة الشيخ الحائري الاولى. و كانت هجرته الثانية من سنة 1332 إلى 1340 ثمّ هاجر إلى قم المشرّفة.

استفاد شيخنا المؤلّف من الشيخ الشيثي في قراءة سطح المكاسب و الرسائل للشيخ الأنصاري رضوان اللّٰه تعالى عليه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 10

2- الحاجّ شيخ عبّاس الإدريس آبادي، كان رحمه اللّٰه من مشاهير أساتذة الحوزة العلميّة بأراك في مدرسة الآقا ضياء الدين.

3- الحاجّ شيخ محمّد سلطان العلماء (1296- 1382) كان من أجلّة تلاميذ صاحب كفاية الأصول و الشيخ الميرزا محمّد تقي الشيرازي، له تعليقة قيّمة مفصّلة على كفاية أستاذه طبع في مجلّدات.

و شيخنا المؤلّف رحمة اللّٰه عليه كتب من تقريرات درسه بعنوان التعليقة على كفاية الأصول قسما من مباحث الألفاظ.

4- السيّد المجاهد آقا نور الدين العراقي (1278- 1341) كان من تلامذة الميرزا حبيب اللّٰه الرشتي صاحب الإجارة و الغصب، و الخراساني صاحب الكفاية، و الملّا علي النهاوندي صاحب تشريح الأصول و غيرهم. له كتاب القرآن و العقل طبع بأمر آية اللّٰه الأراكي رحمه اللّٰه مع مقدّمة بقلمه حول شخصيّة المؤلّف في ثلاث مجلّدات.

5- آية اللّٰه العظمى الحاجّ الشيخ عبد الكريم الحائري (م 1355) مؤسّس الحوزة

العلميّة بقم و صاحب الدرر و الصلاة.

كان مدّة تتلمذ شيخنا عليه 23 سنة و كتب تقريرات أكثر دروسه. و كانا رحمهما اللّٰه كالوالد و الولد و صار شيخنا رحمه اللّٰه- كما قيل- نسخة ثانية لاستاذه في الفقه و الأصول.

شركاء بحثه:

1- آية الهّٰع العظمى السيّد محمّد تقي الخوانساري (1305- 1371) رحمة اللّٰه عليه و كان شيخنا رحمه اللّٰه لشدّة إرادته بالسيّد يحضر مجلس درسه و كتب قسما من تقريرات بحثه مع أنّه كان شريك بحثه لا أستاذه. رضوان اللّٰه تعالى عليهما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 11

2- آية اللّٰه العظمى السيّد أحمد الخوانساري (1309- 1405) صاحب جامع المدارك طبع في مجلّدات.

3- الحاجّ الشيخ إسماعيل الجابلقي (حدود 1305- 1313) كان من أفاضل تلاميذ الشيخ محمّد سلطان العلماء و الشيخ الحائري في أراك و قم.

بعض تلامذته:

تلامذته و المستفيدون من إفاداته القيّمة كثيرة جدّا إذ هو رحمه اللّٰه كان من المدرّسين طول خمسين سنة أو أكثر، و هم من العلماء و الفضلاء و المدرّسين، منهم:

1- آية اللّٰه الحاجّ الشيخ محمّد الشاه آبادي بن العارف الحكيم الفقيه الشيخ محمّد علي الشاه آبادي. و هو سلّمه اللّٰه من أكابر أساتذة الحوزة المباركة و له تأليفات.

2- آية اللّٰه الحاجّ الشيخ محمّد تقي ستوده، من مشاهير أساتذة الحوزة في تدريس السطوح العالية.

3- آية اللّٰه الحاجّ الشيخ محسن الحرم پناهي. له تأليفات و هو من أكابر العلماء و المدرّسين بالحوزة العلميّة.

4- آية اللّٰه الحاجّ الشيخ علي پناه الاشتهاردي صاحب شرح العروة الوثقى المطبوع في مجلّدات و هو من مشايخ الحوزة المباركة.

5- آية اللّٰه الحاجّ السيّد محسن الخرّازي صاحب التأليفات الكثيرة منها عمدة الأصول طبع مجلّد منها أخيرا.

6- آية اللّٰه الحاجّ الشيخ أبو الحسن المصلحي ابن شيخنا المؤلّف و لعلّه سلّمه اللّٰه استفاد من والده المرحوم أكثر من غيره في طول سنين متمادية.

و غيرهم و غيرهم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 12

تأليفاته:

من مختصّات هذه الآثار كونها حاوية لمباني أستاذه الحائري و آرائه ببيان صحيح و تحرير واضح.

1- رسالة في الإرث. طبعت في سنة 1413.

2- رسالة في نفقة الزوجة. طبعت ضميمة الرسالة الاولى في سنة 1413.

3- المكاسب المحرّمة. طبع في مجلّد في سنة 1413.

4- البيع. طبع في مجلّدين في سنة 1415.

5- الخيارات. طبع في مجلّد في سنة 1414.

6- رسالة في الخمس. طبعت ضميمة المكاسب المحرّمة في سنة 1413.

7- الطهارة. هي شرح العروة الوثقى للسيّد الطباطبائي. ألّفت في حياة السيّد و لعلّها كانت أوّل شرح كتب لها. طبعت في مجلّدين في سنة 1415.

8- رسالة في الدماء الثلاثة و أحكام الأموات و

التيمّم. هي تقريرات بحث الآية العظمى السيّد محمّد تقي الخوانساري. طبعت ضميمة المجلّد الثاني من الطهارة في سنة 1415.

9- النكاح. طبع في مجلّد في سنة 1419.

10- الصلاة. و هو الكتاب الذي بين يديك في مجلّدين.

11- الحاشية على العروة الوثقى. طبعت في سنة 1409 و هي التي علّقها عليها مع مشاركة آية اللّٰه السيّد محمّد تقي الخوانساري رحمه اللّٰه و كان فتواهما متوافقين إلّا في مسألتين: البقاء على تقليد الميّت و صلاة الجمعة، و في سائر الموارد عند اختلاف الفتوى روعي نظرهما بالحكم بالاحتياط.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 13

12- أصول الفقه. طبع في مجلّدين (الدورة الأولى التي كتبها).

13- تعليقة على الكتاب السابق. طبعت معه (الدورة الثانية).

14- أصول الفقه أيضا طبع في مجلّد (و هي الدورة الثالثة التي كتبها رحمه اللّٰه).

15- رسالة في الاجتهاد و التقليد. طبعت ضميمة تعليقته على درر الفوائد لاستاذه في سنة 1408.

16- تعليقة على درر الفوائد لاستاذه الحائري رحمه اللّٰه طبع مع الدرر في سنة 1408.

17- رسالة ثانية في الاجتهاد و التقليد. طبعت ضميمة المجلّد الثاني من البيع في سنة 1415.

18- رسالة في إثبات ولاية مولانا أمير المؤمنين. طبعت ضميمة كتاب القرآن و العقل لاستاذه آقا نور الدين العراقي و أيضا طبعت في كتاب «شرح أحوال آية اللّٰه العظمى الأراكي» و ستطبع ترجمته بالفارسيّة.

19- رسالة في 20- تقريرات بحث أستاذه سلطان العلماء (قسم من مباحث ألفاظ الأصول) لم تطبع.

الثناء عليه:

كان له المنزلة العالية عند العلماء و أهل الفضل و اعترف بفضله و تقاه و ورعه و زهده فطاحل الأعلام و إليه انتهت المرجعيّة العامّة بعد وفاة آية اللّٰه العظمى السيّد روح اللّٰه الخميني و آية اللّٰه العظمى السيّد محمّد رضا الگلپايگاني.

و كان

رحمه اللّٰه مدافعا عن الإسلام و المسلمين و ولاية الأئمة المعصومين و مكتبهم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 14

و حاميا للنهضة الإسلاميّة و قائدها الإمام الخميني رحمة اللّٰه عليه و له سهم وافر في تقوية النظام الإسلامي خصوصا بعد وفاة مؤسّسه رحمة اللّٰه عليه.

كان رحمه اللّٰه يقيم صلاة المغرب و العشاء بالجماعة في المدرسة الفيضيّة و صلاة الظهر و العصر في حرم سيّدتنا فاطمة المعصومة سلام اللّٰه عليها في طول قريب من خمسين سنة، و يقتدي به جمع كثير من العلماء و الفضلاء و المجتهدين و أهل التقوى و الديانة.

و كذا كان رحمه اللّٰه يقيم صلاة الجمعة قريبا من أربعين سنة و مواعظه في خطب الجمعات كانت تدخل في القلوب المستعدّة لأنّها كانت تخرج من القلب السليم و اللسان الطيّب.

و كان مجلسه رحمه اللّٰه مجلس علم و موعظة و إفادة و من مجالس إحياء أمر أهل البيت عليهم السّلام و الدعوة إلى المعرفة و المحبّة و الديانة، و من مواهب البارئ تعالى عليه رحمه اللّٰه اللسان الطلق و البيان الحلو و استعمال العبارات الحسنة البليغة الوضيحة بحيث يستفيد من محفلة كلّ الناس خاصّهم و عامّهم.

توفّي رحمه اللّٰه في 25 جمادى الأخرى سنة 1415 و استقبل جثمانه بتشييع حافل بالعلماء و الوجوه العلميّة و سائر الطبقات. و كان يوم وفاته و تشييعه محفوفا بالحزن و العزاء و كأنّه نادى مناد:

اليوم أعولت الملائك في السماء و المسلمون تضجّ و الإسلام

و صلّى عليه آلاف من العلماء و المؤمنين بإمامة آية اللّٰه العظمى العارف الكامل البهجة دامت بركاته، ثمّ دفن بتكريم و تبجيل في جوار حرم كريمة أهل البيت فاطمة المعصومة سلام اللّٰه عليها بقرب قبري أستاذه

الحائري و صديقه و مراده السيّد الخوانساري رضوان اللّٰه تعالى عليهما و عليه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 15

و أقيمت له رحمه اللّٰه و لتكريمه و تعظيمه مآتم و محافل كثيرة في مختلف البلاد و في الحوزة العلميّة بقم، و رثاه الراثون بالنظم و النثر من شتّى الطبقات.

و من أحسن مراثيه قصيدة قيّمة بليغة قالها أحد الفضلاء الشعراء سلّمه اللّٰه و كأنّه نطق بلسانه روح القدس، و هي هذه:

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

ورقاء ذات تعزّز و تمنّع طارت إلى أسنى المكان الأرفع

ضاقت عليها الأرض مع رحب لها فاستبدلتها بالمكان الأوسع

إذ جاءها يا نفس يا مأمونة من كلّ خوف فارجعي لا تفزعي

قد كنت في سجن البلايا كلّها حان النجاة اليوم منها فاسرعي

يا آية ل «اللّٰه» كنت عظيمة نحن افتقدناك بفقد مفجع

يا نور يا ضوء القلوب أضأتنا فاخترت للنفس الخفاء بمضجع

كان الفضائل كلّها فيك انطوت صارت بمرأى كلّهم و المسمع

من ذا لأيتام النبيّ و آله عن حفظهم في دينهم لم يجزعي

عمّرت قرنا بالطهارة و التقى نور الهدى في الوجه منك بساطع

من فقدك المهديّ محزونا أتى من حزنه يا عين جودي و ادمعي

يا حجّة الإسلام في ما قد أتى بالفعل و القول الرضيّ النافع

خمسين عاما قد جلست بمسند بالحقّ للفتوى و ما للمرجع

قد كنت فينا ملجأ و معاضدا في المعضلات الحادثات بمفزع

أنموذجا أعلى لكلّ كريمة حتّى بأدنى بعضها لم تقنع

صار البلاد و ما لها من مرتع لو لا الفقاهة و الفقيه كبلقع

قد كنت كشّاف الغوامض فائقا من كان في هذا الطريق بمولع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 16

منّ الإله على الورى إذ ما

أتى فيهم بمثلك من فقيه بارع

لمّا ارتحلت إلى النبيّ أتيته بالخير و الوجه المضي ء الناصع

جاهدت في الإسلام حقّ جهاده بالذبّ أعداء الشريعة أجمع

يا صاحب العصر (عج) الذي هو غائب كالشمس إذ صارت لنا بمبرقع

إنّا نعزّيك العزاء بثلمة في ديننا الإسلام ثمّ تشيّع

بعد الأراكيّ العظيم مصابه قد جدّد الأحزان فينا أكتع

ثمّ السلام عليه في يوم الجزاء من كلّ ما فيه و كلّ مواضع

أقول و أنا من أقلّ تلامذته و محبّيه: كتبت هذه الوجيزة إظهارا لحبّي له و أداء لشكر بعض حقوقه رحمه اللّٰه:

أحبّ الصالحين و لست منهم لعلّ اللّٰه يرزقني صلاحا

قم المشرّفة- رضا الاستاذي 1420 ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 17

صورة بعض الصفحات من نسخة خطّ المؤلّف

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 23

كتاب الصلاة لشيخ الفقهاء و المجتهدين آية اللّٰه العظمى الأراكي (ره) الجزء الأوّل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 25

بسم اللّٰه الرحمن الرحيم الحمد للّٰه ربّ العالمين، و صلّى اللّٰه على محمّد و آله الطاهرين، و اللعن على أعدائهم أبد الآبدين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 27

كتاب الصلاة و فيه مقاصد:

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 29

المقصد الأوّل في مقدّماتها و فيها أبحاث:

فالأوّل يشتمل على فصول:

[الفصل] الأوّل في أعداد الصلوات اليومية و نوافلها و فيه ثلاث مسائل:

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 31

الاولى لا إشكال في ثبوت النوافل النهاريّة و الليليّة في حقّ الحاضر

و سقوط النهاريّة منها في حقّ المسافر، إنّما الكلام في المواطن الأربع التي يتخيّر المسافر فيها بين القصر و الإتمام، فهل نافلتا الظهرين فيها أيضا ساقطة مطلقا، أو ثابتة كذلك، أو ساقطة مع اختيار القصر و ثابتة مع اختيار التمام؟

و الكلام تارة حسب مقتضى الأخبار العامّة، و اخرى مع النظر إلى الأخبار الخاصّة.

أمّا الأوّل: فاعلم أنّ الأخبار المتضمّنة لتعداد الفرائض و النوافل دالّة على أنّ الفريضة سبع عشرة ركعة، و سنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله النوافل أربعا و ثلاثين ركعة مثلي الفريضة، فمجموع الفريضة و النافلة إحدى و خمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعدّ بركعة مكان الوتر.

و في حديث العيون و العلل تعليل ذلك بقوله عليه السّلام: «و إنّما جعلت السنّة أربعا و ثلاثين ركعة، لأنّ الفريضة سبع عشرة، فجعلت السنّة مثلي الفريضة كمالا للفريضة» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 22.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 32

و المستفاد من هذا أنّ الموضوع المجعول في حقّه صلاة الأربع و الثلاثين هو الذي جعل في حقّه فريضة السبع عشرة، و ظاهره كون ذلك بنحو التعيين، أو هو الحاضر، فإنّه الذي فرضه التعييني هو السبع عشرة.

و أمّا المسافر في المواطن الأربع فليس المجعول التعييني في حقّه ذلك، نعم يشرع له ذلك، و ظاهر الأخبار المذكورة هو الجعل التعييني.

ألا ترى أنّه لو قيل: فرضك سبع عشرة، كان ظاهرا في التعيين؟ فكذلك لو قيل: جعلت صلاة أربع و ثلاثين تكميلا لفرض سبع عشرة ركعة، كان ظاهرا في التعيين، فلا يكون الكلام شاملا لمطلق الجعل الأعمّ من التخيير الثابت في المواطن الأربعة، هذا

حال الأدلّة الحاكية لأصل جعل النوافل.

و أمّا الحاكية لإسقاطها عن المسافر فالمذكور فيها أيضا قولهم عليهم السّلام بعد السؤال عن الصلاة تطوّعا في السفر: «لا تصلّ قبل الركعتين و لا بعدهما شيئا نهارا» «1».

و في آخر: «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما و لا بعدهما شي ء» «2».

و ظاهرهما أيضا هو صورة تعيينيّة الركعتين.

فيكون المسافر في المواطن الأربع خارجا عنها، كما كان خارجا عن الأخبار الأول، فيبقى المرجع فيه الأصل، و يكفي في العدم الشكّ في الثبوت و عدم الدليل على المشروعيّة، هذا.

و لكن يمكن استفادة المشروعيّة أو الاستيناس لها ببعض الشواهد.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 33

منها: قوله عليه السّلام في بعض أخبار سقوط النافلة في السفر بعد سؤال أبي يحيى الحنّاط عن صلاة النافلة بالنهار في السفر، قال: «يا بنيّ لو صلحت النافلة في السفر تمّت الفريضة» «1».

فإنّ المستفاد منه أنّ السفر لا يناسبه كثرة الصلاة و إلّا لشرعت فيه الصلاة التامّة فريضة، فيستفاد منه أنّه إذا ناسبه لأجل عروض بعض العوارض كثرة الصلاة- مثل المصادفة للمواطن الأربع- تصلح النافلة حينئذ.

و الظاهر الأولى من قوله عليه السّلام: تمّت الفريضة أيضا و إن كان التمام التعييني، إلّا أنّ مناسبة المقام يشهد بإرادة ما ذكرنا.

و منها: ما في بعض أخبار التخيير في المواطن من تعليل ذلك بأنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله يحبّ إكثار الصلاة في الحرمين «2». هذا هو الكلام مع قطع النظر عن الأخبار الخاصّة.

و أمّا مع النظر إليها فاعلم أنّه قد عقد في الوسائل في آخر كتاب الصلاة بابا

لاستحباب تطوّع المسافر و غيره في الأماكن الأربعة ليلا و نهارا، و كثرة الصلاة و إن قصّر في الفريضة «3»، فراجع أخبار ذلك الباب، فإنّ بعضها في غاية الظهور في مشروعيّة النوافل في تلك الأماكن و لو في حال اختيار التقصير في الفريضة.

و نحن نذكر واحدا منها تيمّنا و تبرّكا، و هو ما عن ابن أبي عمير و إبراهيم ابن عبد الحميد بعدّة طرق عن أبي الحسن عليه السّلام قال: سألته عن التطوّع عند قبر

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 18.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب صلاة المسافر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 34

الحسين عليه السّلام و بمكّة و المدينة و أنا مقصّر؟ فقال عليه السّلام: «تطوّع عنده و أنت مقصّر ما شئت و في المسجد الحرام و في مسجد الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و في مشاهد النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، فإنّه خير» «1».

فإنّ ظاهر السؤال أنّه راجع إلى النوافل النهاريّة التي تكون ساقطة في السفر، و خصوصا بقرينة قوله: و أنا مقصّر. فأجاب الإمام عليه السّلام بالعموم الذي يشملها و غيرها، و لكن القدر المتيقّن منه هو النوافل النهاريّة، نظير قولك لمن قال: أخاف زيدا: لا تخف من أحد، فإنّ الزيد قدر متيقّن من هذا الكلام.

و لا يعارضها خبر عمّار، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الصلاة في الحائر، قال عليه السّلام: «ليس الصلاة إلّا الفرض بالتقصير، و لا تصلّ النوافل» «2»، لأنّ هذا الخبر ناف للتخيير في الحائر الذي هو أحد الأماكن الأربع، و قد حكم في أخبار

كثيرة بأنّ التخيير فيها من مخزون علم اللّٰه، فمن المحتمل قويّا صدور الخبر تقيّة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 35

المسألة الثانية المشهور، بل عن الحلّي دعوى الإجماع على سقوط الوتيرة في السفر،

و هو المستفاد أيضا من العمومات الواردة في أنّ «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما و لا بعدهما شي ء» «1» إذا انضمّت إلى الأخبار الواردة في تعداد النوافل و أنّها «أربع و ثلاثون ركعة، ثمان ركعات قبل فريضة الظهر، و ثمان ركعات قبل فريضة العصر، و أربع ركعات بعد المغرب، و ركعتان من جلوس بعد العتمة تعدّان بركعة» «2» إلخ.

فإنّ الظاهر بحسب هذا التقسيم أنّ الركعتين عن جلوس حالهما بالنسبة إلى العتمة حال الثمان ركعات بالنسبة إلى الظهر و العصر، فتدخلان تحت العمومات المذكورة.

و لا ينافيه التقييد بالنهار في بعض تلك العمومات، إذ هو في بعضها مذكور في كلام السائل، و في بعض آخر منها و إن كان مذكورا في كلام الإمام عليه السّلام و هو رواية محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن الصلاة تطوّعا في السفر؟

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 23.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 36

قال عليه السّلام: «لا تصلّ قبل الركعتين و لا بعدهما شيئا نهارا» «1» إلّا أنّه من المحتمل أن يكون المراد أنّ الليل ليس حكمه هكذا، بل فيه تفصيل، فالمغرب ثلاث ركعات، و نوافله ثابتة، و العشاء ركعتان ليس له نافلة، و الصبح ركعتان و نافلته باقية، و يكفي هذا الاختلاف في ذكر قيد النهار.

و بالجملة،

لا ريب في أنّ مقتضى هذا الأخبار العامّة هو الحكم بالسقوط، إلّا أنّ هنا رواية خاصّة واردة في خصوص الوتيرة في السفر ناصّة بعدم السقوط، و علّله بقوله عليه السّلام: و إنّما صارت العتمة مقصورة و ليس تترك ركعتاها، لأنّ الركعتين ليستا من الخمسين، و إنّما هي زيادة في الخمسين تطوّعا ليتمّ بهما بدل كلّ ركعة من الفريضة ركعتين من التطوّع.

و أنت خبير بأنّ هذه الرواية علاوة على صراحتها و خصوصيّتها حاكمة و شارحة بالنسبة إلى الأخبار المتقدّمة.

أمّا الأخبار الدالّة على أنّ الصلاة في السفر ركعتان إلخ فهذه تدلّ على أنّ الأمر كذلك، و لكنّ العشاء ليس لها ركعتان حتّى تسقطا بواسطة مقصوريّته في السفر و صيرورته ركعتين، فيصدق في حقّه أنّه ركعتان ليس قبله و لا بعده شي ء، إذ ليس المراد مطلق عدم الكون، بل الكون المختصّ به، و إلّا لنافاه وجود الأربع ركعات للمغرب، فكما أنّها لا تنافي تلك الكلّية لأجل أنّها ليست للعشاء بل للمغرب، فكذلك هاتان الركعتان لا ينافي ثبوتهما تلك الكلّية، لأنّهما لا تحسبان أيضا نافلة للعشاء، كما لا تحسبان من نافلة الليل أيضا، بل هما نافلتان مستقلّتان شرّعتا لمحض تكميل عدد الواحد و الخمسين، غاية الأمر قد عيّن محلّهما بعد العشاء،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 37

لا أنّهما جعلتا نافلة له.

و بهذا البيان يحصل الشرح للأخبار الثانية الظاهرة في كون الركعتين بعد العتمة حالهما حال الثمان ركعات بالنسبة إلى الظهر و العصر، فإنّه ظهر ببيان هذه الرواية أنّ بعديّة العتمة صرف تعيين المحلّ للركعتين من دون إضافة لهما إلى العتمة، كإضافة الثمان إلى الظهر و العصر.

و يؤيّد هذه

الرواية أيضا ما نقل من اشتمال رواية رجاء بن أبي الضحّاك «1» أيضا على فعل الرضا صلوات اللّٰه عليه هاتين الركعتين في السفر و إن أنكر صاحب الجواهر قدّس سرّه وجوده في نسخة كانت عنده من العيون.

و يؤيّده أيضا رواية الفقه الرضوي «2».

و يؤيّده أيضا جملة روايات واردة بمضمون أنّ: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يبيتنّ إلّا بوتر» «3».

و حيث صعب هذا التشديد على بعض احتمل أن يكون المراد بالوتر هو العشاء، لأنّه خامس الصلوات.

و لكن في رواية أبي بصير بعد نقل هذا المضمون عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال:

قلت: يعنى الركعتين بعد العشاء الآخرة؟ قال: نعم، إنّهما بركعة، فمن صلّاهما ثمّ حدّث به حدث مات على وتر، فإن لم يحدث به حدث الموت يصلّي الوتر في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 8.

(2) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 20 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب أعداد الفرائض.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 38

آخر الليل» «1» الحديث.

و هذه و إن كانت مشتملة على لفظة «يعنى» بصيغة المغايب و غير متعارف ذكرها بالنسبة إلى المخاطب، إلّا أنّ الكلام البعد شاهد على أنّ قائل «قلت» أبو بصير، و قائل «نعم إلى آخره» هو الإمام عليه السّلام، و على هذا فيصير هذا الحديث مبيّنا للمرام من تلك الجملة.

و هذه الأخبار و إن كان نسبتها مع الأخبار العامّة المتقدّمة الواردة بالسقوط عموما من وجه- لأعمّية هذه من السفر و الحضر و تلك من العشاء و غيره، فيجتمعان في العشاء في السفر- إلّا أنّ هذه الأخبار أظهر، بملاحظة هذا التشديد الموجود فيها

الآبي عن التقييد بحال الحضر، و بملاحظة كون صلاة الوتر ثابتة في حالتي السفر و الحضر، و قد جعلت هاتان الركعتان بدلا عنه لو حدث الموت.

هذا كلّه بحسب الدلالة، و أمّا الكلام في سند الرواية المتقدّمة- التي قلنا إنّها شارحة للمراد من أخبار السقوط و أخبار تعدّد النوافل- فقد طعنوا فيه بوجود عبد الواحد بن عبدوس، و عليّ بن محمد القتيبي النيشابوري، و وجهه خلوّ كتب الرجال عن توثيق الرجلين.

و لكن عبد الواحد- على ما يوجد من الرجال- من مشايخ الصدوق الذي قد أكثر من أخذ الحديث عنه، و العلّامة في التحرير قد حكم بصحّة الرواية الواردة في الإفطار بالمحرّم بوجوب الكفّارات الثلاث «2»، و في سندها عبد الواحد و عليّ.

و أمّا عليّ بن محمّد فالمذكور في الرجال أنّه تلمّذ على فضل بن شاذان و أنّه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب أعداد الفرائض، الحديث 8.

(2) الوسائل: كتاب الصوم، الباب 10 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 39

من مشايخ الكشّي الذين أكثر النقل عنهم، و صاحب الحاوي مع ما عرف من طريقته- حيث جعل كتابه على أربعة أقسام: ثقات، و موثّقين، و حسان، و ضعاف، و أدرج كثيرا من الحسان في قسم الضعاف- قد ذكر هذا الرجل من قسم الثقات.

و بالجملة، وجود هذه القرائن في الرجلين أقوى من وجود لفظ «ثقة» في كتاب رجالي، فالظاهر أنّ السند أيضا كالدلالة معتبر.

و لكنّ الذي يوجب عدم جرأة الفقيه على الفتوى عدم موافقة الأصحاب و عدم إفتائهم بمضمونها، فإنّه لم ينقل في الجواهر من القائل بالثبوت إلّا الشيخ في النهاية، و ابن فهد في المهذّب، و الشهيدين في الذكرى

و الروضة، لكن نقل عن الشهيد في الذكرى أنّه بعد تقويته الثبوت قال: إلّا أن ينعقد الإجماع على خلافه.

و إعراض الأصحاب يوهن الرواية من حيث الجهة و إن كان سندها في غاية القوّة كدلالتها، فيسقط عن قابليّة التمسّك، لأنّه فرع القوّة في جميع الجهات الثلاث، أعني: الجهة و الصدور و الدلالة، و كلّ من هذه الثلاثة ضعف سقطت الرواية عن قابليّة التمسّك، و حينئذ فإن أراد الإتيان بها في السفر فالاحتياط أن لا يقصد بها إلّا الرجاء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 40

المسألة الثالثة قد خرج من عموم حرمة التطوّع في وقت الفريضة أو كراهته النوافل

المتقدّمة بمقتضى أدلّتها، و أمّا غيرها من الصلوات المندوبة فخروجها خصوصا إذا أريد إثبات استحبابها في أوقات الفرائض فيحتاج إلى دليل.

و من جمله ما أفتى بخروجه البعض و قوّاه في نجاة العباد صلاتان: إحداهما:

صلاة الغفيلة، و الأخرى: صلاة الوصيّة.

و اللازم أوّلا التيمّن بذكر الأخبار، فنقول:

روى هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: من صلّى بين المغرب و العشاء ركعتين يقرأ في الأولى الحمد و ذا النون إذ ذهب مغاضبا إلى قوله تعالى:

وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ، و في الثانية الحمد وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ الْغَيْبِ، الآية، فإذا فرغ من القراءة رفع يديه و قال: اللّٰهمّ إنّي أسألك بمفاتح الغيب التي لا يعلمها إلّا أنت أن تصلّي على محمّد و آل محمّد و أن تفعل بي كذا و كذا، اللّٰهمّ أنت وليّ نعمتي و القادر على طلبتي تعلم حاجتي فأسألك بحقّ محمّد و آله لمّا قضيتها لي، و سأل اللّٰه حاجته أعطاه اللّٰه ما سأل» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 20 من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 41

و بعدّة طرق روي عن النبيّ صلّى

اللّٰه عليه و آله أنّه قال: «تنفّلوا في ساعة الغفلة و لو بركعتين خفيفتين، فإنّهما تورثان دار الكرامة» «1».

و في خبر آخر: دار السلام و هي الجنّة، و ساعة الغفلة ما بين المغرب و العشاء الآخرة «2».

و أنت ترى عدم تصريح الاولى بكونهما صلاة غفيلة، فمن المحتمل مغايرتها مع هذه الأخيرة.

و أمّا صلاة الوصيّة فقد روي عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله «قال: أوصيكم بركعتين بين العشاءين يقرأ في الأولى الحمد و إذا زلزلت الأرض ثلاث عشرة مرّة، و في الثانية الحمد و قل هو اللّٰه أحد خمس عشرة مرّة، فإن فعل ذلك في كلّ شهر كان من المؤمنين، فإن فعل في كلّ سنة كان من المحسنين، فإن فعل في كلّ جمعة كان من المخلصين، فإن فعل ذلك كلّ ليلة زاحمني في الجنّة و لم يحص ثوابه إلّا اللّٰه تعالى» «3».

إذا عرفت ذلك فنقول: قد ورد الحثّ في الأخبار الكثيرة بإتيان أربع ركعات نافلة للمغرب فيما بينه و بين العشاء، و لم يرد إلّا بعنوان أربع ركعات بلا أخذ خصوصيّة فيها، فهل هذه الأخبار الواردة في هاتين الصلاتين ترغيب و حثّ إلى إعمال هاتين الكيفيّتين في تينك الصلاتين المعدودتين في تلك الأخبار نافلة للمغرب، أو هما مستقلّتان عنها؟

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 20 من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، الحديث 1.

(2) المصدر.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 42

و لا بدّ قبل التكلّم في ذلك من تقديم مقدّمة، و هي: أنّه كلّما ورد في لسان المولى مطلق و ورد مقيّد و علم بتعدّد المطلوب، فإمّا أن يكون

ذلك قيد ذات الأسباب كأن يقول: إن أفطرت فأعتق رقبة، و إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، و إمّا يكون في غيرها، كأن يقول: أعتق رقبة، ثمّ يقول: أعتق رقبة مؤمنة.

فإن كان من القبيل الأوّل فهو محلّ النّزاع في كونه مقتضيا لتعدّد الوجود، كما قاله شيخنا العلّامة المرتضى في منزوحات البئر، أو يكفي فيه الوجود الواحد كما اخترناه في محلّه.

و إن كان من قبيل الثاني فالمقيّد يحتمل وجهين:

الأوّل: أن يكون أمرا بالكيفيّة في موضوع ذلك المطلق، بأن يكون الأمور به إتيان ذلك الموضوع الذي أمر به أمرا مطلقا بكيفيّة خاصّة.

و الثاني: أن يكون أمرا استقلاليّا في عرض ذلك الأمر، فهنا أمران: أحدهما بالمطلق و الآخر بالمقيّد في عرض ذلك المطلق.

و يظهر الثمر في ما لو امتثل المطلق بإتيان الفرد الفاقد للقيد، فإنّه امتثال للمطلق، و يبقى على عهدته امتثال المقيّد، فيجب عليه إتيان الطبيعة مرّة أخرى مع القيد، هذا على النحو الثاني.

و أمّا على النحو الأوّل فقد فوّت المحلّ للامتثال بالنسبة إلى الأمر الثاني، لأنّه قد فرض كون محلّه صرف الوجود الذي صار مأمورا به بالأمر الأوّل و قد سقط، فلم يبق للأمر الثاني موضوع.

و نظير هذين الاحتمالين يجي ء في اعتبار الكيفيّة الخاصّة في أجزاء المركّب المأمور به، مثلا يحتمل أن يكون الجهر في القراءة جزءا مستقلّا للصلاة في عرض القراءة، فلو نسيه و تذكّر قبل الركوع كان محلّه باقيا، و يحتمل أن يكون الجهر قد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 43

اعتبر في القراءة التي هي الجزء بحيث لو نسيه و تذكّر قبل الركوع لم يبق محلّه، فهو و إن كان أتى بالقراءة و لكن لم يأت بالجزء الآخر الذي هو الجهر فيها.

إذا عرفت ذلك

فاعلم أنّ الاحتمال الأوّل في أخبار هاتين الصلاتين بالنسبة إلى مطلقات الأربع ركعات في غاية البعد، فإنّه مبنيّ على أن يكون المراد بها الإشارة إلى تلك النوافل و الأمر بإتيانها بهذه الكيفيّة، و هو من البعد بمكان، إذ فرق بين الأمر بإتيان الصلاة الكذائيّة بهذه الكيفيّة و بين الأمر أوّلا بإتيان الصلاة المكيّفة، و هذه الأخبار من الثاني و لا وجه للاحتمال الأوّل.

إلّا أنّه مع ذلك يمكن أن يقال: لا يقتضي استقلالها عن النوافل المغربيّة لزوم انفكاكها في الوجود عنها، بمعنى أنّه ليس المحصّل من الأمر المطلق و الأمر المقيّد بالوجه الثاني إلّا تأكّد مطلوبيّة صرف وجود الطبيعة، لكونه موردا للطلب مرّة بالأمر المطلق، و اخرى في ضمن المقيّد.

و بعبارة أخرى: ليس الأمر المقيّد متعلّقا بما عدا صرف الوجود أعني:

الوجود الثاني، بحيث لا بدّ من التفريق بينهما في الوجود.

بل نقول: هكذا الحال في العنوانين المتغايرين مفهوما المتصادقين خارجا، مثل: إكرام العالم و إكرام الهاشميّ، فليس المستفاد من وقوع كلّ منهما تلو الأمر إيجادهما منفكّين، بل يكفي و لو أتى بالمجمع، ففي ما نحن فيه لو أتى بالمقيّد خرج عن عهدة كلا الأمرين، نعم لو أوجد الطبيعة خالية عن القيد كان عليه الإيجاد الثانوي مع القيد.

بل نقول: و هكذا الحال في ذوات الأسباب على خلاف ما اختاره الشيخ الأعظم، لأنّ تأثير السببين إن كان في الأمر كان اللازم تأكّد الأمر في صرف الوجود، و إن كان تأثيرهما في الوجود أعني: صرفه كان اللازم أيضا عدم تعدّد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 44

الوجود، إذ الصرف غير قابل للتكرار.

مع أنّه يمكن أن يقال- و لو على فرض المماشاة و تسليم التعدّد- إنّ المقام ليس من قبيل ذوات

الأسباب، بل هو من قبيل قولك: إذا دخل الجمعة فصلّ كذا، و إذا جاء نصف الشهر فصلّ كذا، ثمّ صار الجمعة وسط الشهر، فإنّ الظاهر أنّ الوقت ليس سببا و مؤثّرا، بل المؤثّر شي ء آخر، و الوقت صرف الظرف للعمل، مثل سائر الكيفيّات المأخوذة فيه و القيود المعتبرة فيه.

ثمّ هذا الذي ذكرنا من الاجتزاء بالفرد المجمع للمطلق و المقيّد أو المفهومين المتصادقين ممّا لا إشكال فيه فيما إذا كان الأمران توصّليين.

و أمّا إذا كانا تعبّديين كما في مقامنا فلا إشكال أيضا لو قصد القرب من جهة كلا الأمرين، و أمّا لو قصد أحدهما فقط فربما يقال بالاجتزاء عن الآخر أيضا، إذ الفرض حصول القرب و إتيان العمل في الخارج مقرونا بقصد قربي، و لا يلزم أن يكون القرب حاصلا بقصد خصوص أمره، بل يكفي كون الداعي هو اللّٰه تعالى، نعم لو قلنا بعدم الكفاية و لزوم قصد خصوص الأمر فلا بدّ من عدم الاجتزاء و الإتيان بفرد آخر.

و قد تحقّق ممّا ذكرنا تخصيص عمومات: «لا تطوّع في وقت الفريضة» «1» بهاتين الصلاتين، سواء حملناها على الحرمة أم الكراهة، و ذلك لوجود المعارضة على الفرض الأخير أيضا، فإنّ الحث على الصلاتين ينافي كراهتهما، فكما يتحقّق المعارضة بناء على الحرمة يتحقّق بناء على الكراهة أيضا.

نعم ربما يقال: إنّ هذه الأخبار ليس لها إطلاق شامل، و القدر المتيقّن منها

______________________________

(1) راجع الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 35 من أبواب المواقيت.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 45

من لم يصلّ نوافل المغرب، و أمّا الذي جاء بها و أراد أن يأتي بهاتين مستقلّتين عنها فغير مشمول، و لكنّه دعوى بلا بيّنة، فإنّ منع إطلاق الأخبار المذكورة لا وجه له، و معه

يكون التخصيص متعيّنا.

فإن قلت: ما ذكرت من كون نافلة المغرب و هاتين الصلاتين من باب المطلق و المقيّد ليس في محلّه، بل هما من المتباينين، إذ لا أقلّ من التقييد بعنوان نافلة المغرب في الأولى، كما أنّ في الثانية التقييد بالكيفيّة الخاصّة.

قلت: لا ينافي عنوان نافلة المغرب مع إطلاقها، إذ هي مع ذلك مطلقة من حيث قصد تحقّق صلاة أخرى بها و عدمه، و لا يعتبر فيها عدم هذا القصد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 47

الفصل الثاني في أوقات الإجزاء و الفضل للفرائض

اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الاولى في اختصاص أوّل الوقت بالظهر
اشارة

لا إشكال في عدم مشروعيّة الظهرين قبل الزوال، و أمّا بعده فهل الوقت بمقدار أداء فريضة الظهر مختصّ بها ثمّ يشترك الوقت بينهما، أو أنّه من أوّل الزوال يكون الوقت مشتركا؟

و ليعلم أوّلا أنّ المراد باشتراك الوقت كون الخطاب و التكليف عنده بالنسبة إلى كليهما مطلقا و بلا شرط، بحيث لا يبقى بين المكلّف و بين العمل حائل غير القدرة العقليّة، و لو فرض أنّ له ألف شرط و مقدّمة وجوديّة لا يكاد يحصل تلك المقدّمات إلّا بعد مضيّ مقدار معتدّ به من الوقت، فلا ينافي هذا مع صيرورة الخطاب و الوجوب فعليّا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 48

و الحاصل: فرق بين مشروطيّة الخطاب و التكليف و بين احتياج العمل و الإيجاد الخارجي إلى مقدّمات، فالمقصود بالاشتراك و أنّ وقتا كذا وقت للواجب أنّ الوجوب يصير بدخول هذا الوقت فعليّا، لا أنّه يصلح لإيجاد العمل فيه.

فكما أنّ احتياج المصلّي إلى تحصيل الستر و الطهارة و معرفة القبلة و سائر المقدّمات لا يمنع من كون وقت الصلاة أوّل الزوال بالنسبة إلى الظهر، كذلك بالنسبة إلى العصر، غاية الأمر أنّه مضافا إلى هذه الأمور يحتاج إلى مقدّمة أخرى وجوديّة و هي سبق الإتيان بالظهر حتّى يتحقّق العصر المتّصف بكونه بعد الظهر.

فعدم إمكان إدراجه في أوّل الزوال لأجل اختلال وصف بعديّة الظهر فيه ليس إلّا كعدم إمكان إتيانه لفاقد الشرائط الأخر، فكما لا يمنع ذلك عن وقتيّة الزوال بالنسبة إليه كذلك هنا.

فعلم ممّا ذكرنا أنّ بعض الوجوه التي تمسّك بها في هذا المقام لإبطال القول بالاشتراك من عدم المعقوليّة ليس في محلّه، و إلّا فكيف يتصوّر الاشتراك بينهما بالنسبة إلى ما بعد مضيّ الأربع ركعات

من أوّل الزوال.

و حينئذ نقول: قد وردت الأخبار الكثيرة كلّها بمضمون أنّه: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر و العصر» «1» و في بعضها زيادة قوله عليه السّلام: «إلّا أنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتّى تغيب الشمس» «2».

و ليس بإزاء هذه الأخبار الكثيرة الظاهرة في اشتراك الوقت بينهما من أوّل الزوال إلّا خبر واحد، و هو رواية داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت.

(2) المصدر، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 49

أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر و العصر حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر و بقي وقت العصر حتّى تغيب الشمس» «1».

و هذه الرواية و إن كانت مرسلة، إلّا أنّه لا يضرّها الإرسال لوجهين:

أحدهما: أنّ المشهور- بل ادّعي الإجماع- قد عملوا بهذا المرسل، و هذا يكفي في انجبار ضعفه- لو كان- فإنّه ليس في البين مستند لما ذهبوا إليه من الاختصاص غير هذا الخبر، و ما سواه من الوجوه الأخر عليلة بحيث لا ينبغي احتمال خفاء علّتها عليهم، كما عرفت من عدم معقوليّة الاشتراك مع لابدّية تصويره في ما بعد مضيّ مقدار الأربع ركعات، فليس مستندهم إلّا هذه الرواية.

و الثاني: أنّ السند إلى الحسن بن عليّ بن فضّال صحيح، فإنّ شيخ الطائفة قدّس سرّه يرويها بإسناده عن سعد عن أحمد بن محمّد بن عيسى، و موسى بن جعفر بن أبي جعفر جميعا عن عبد اللّٰه

بن الصلت عن الحسن بن عليّ بن فضّال عن داود بن أبي يزيد، و هو داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام.

و ما بعد الحسن لا حاجة إلى الفحص عنه، بملاحظة ما ورد في شأن كتب بني فضّال و رواياتهم بعد السؤال عن حالها و أنّ بيوتنا منها ملاء من قوله عليه السّلام:

«خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا» فإنّه بعد ملاحظة ظهور ورود الكلام المزبور في شأن الكتب لا في شأن الأشخاص- حتّى يقال: توثيق الرجل لا يدلّ على توثيق من بعده في السند- يكون دليلا على حجّية جميع ما في كتبهم.

______________________________

(1) المصدر، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 50

تحقيق في معنى: «خذوا ما رووا .. إلخ»

و لكنّ الإنصاف عدم دلالة الكلام المزبور إلّا على تصديقهم فيما يروون، بمعنى صدقهم في قولهم: حدّثني فلان، و المعاملة معه معاملة حديث ذلك الفلان، كما لو كنّا سمعنا منه، فلا يدلّ على توثيق المرويّ عنه حتّى لا يلزم علينا الفحص عنه لو كان مجهولا، بل غايته صيرورة روايتهم كحال علمنا بصدق قولهم، فلو علمنا بأنّ داود بن فرقد روى عن بعض أصحابنا كان علينا تحقيق حال هذا البعض، فالعمدة هو الوجه الأوّل، هذا حال السند.

و أمّا الدلالة فالظاهر أنّها بمرتبة الصراحة، و لا يحتمل أن يكون وجه التقديم مراعاة الترتيب، كما في قوله عليه السّلام: إلّا أنّ هذه قبل هذه، لأنّه عليه السّلام قال: حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي، فلم يقيّد بالصلاة الفعليّة، بل بمضيّ هذا المقدار و لو لم يصلّ.

كما أنّه لا يحتمل إرادة وقت الفضيلة دون الإجزاء، فإنّه قال: «فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر و العصر حتّى يبقى من العصر مقدار ما

يصلّي المصلّي أربع ركعات»، و معلوم أنّه ليس هذا الامتداد إلّا لوقت الإجزاء.

و بالجملة، فصراحة الرواية في الاختصاص ممّا لا ينبغي إنكارها.

و هذا بخلاف الحال في روايات الاشتراك، فإنّها قابلة للتوجيه، بل في نفسها ما يؤيّد الاختصاص، و هو قوله عليه السّلام في إحدى روايتي عبيد بن زرارة منها:

«إلّا أنّ هذه قبل هذه» «1» عقيب قوله: «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 51

و العصر» فإنّ كلمة «إلّا» إنّما تؤتى بها في مقام يتوهّم من الكلام السابق أمر خلاف الواقع، فيؤتى بها لأجل دفع ذلك التوهّم.

و لا يخفى أنّ الكلام السابق و هو قوله عليه السّلام: «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر و العصر» لا يوقع في الوهم أنّ الصلاتين يصحّ إتيانهما بأيّ وجه كان، بل من المعلوم أنّ سوق الكلام لأجل بيان الوقت مع إحالة سائر الشروط و القيود إلى محالّها.

فكما أنّ الطهور شرط، و القبلة شرط، كذلك من الشرائط أيضا ترتيب ما بين الصلاتين، فليس المناسب للمقام الإشارة إلى بيان شرطيّة الترتيب، كما ليس المناسب الإشارة إلى شرطيّة الطهور و القبلة و غير ذلك.

فالذي يناسب مع إتيان كلمة «إلّا» أن يقال: إنّه و إن كان الوقت بحسب الاقتضاء و الصلاحيّة الذاتيّة صالحا لكلّ منهما، إلّا أنّه منع الشارع في مقام تشريع الوقت عن الجري على مقتضى هذا المقتضي ملاحظة كون هذه قبل هذه، فصارت هذه الجهة حكمه لأن يؤخّر في مقام الجعل وقت العصر عن وقت الظهر بمقدار أربع ركعات، كما صارت حكمة لتخصيص مثل هذا المقدار من آخر الوقت بالعصر، و على هذا يكون الإتيان بكلمة

«إلّا» في كمال السلاسة.

و إن أبيت عن ظهور هذه الأخبار و لو مع هذه الضميمة في الاختصاص، بل هي ظاهرة في الاشتراك و هذه الفقرة جي ء بها لأجل بيان شرطيّة الترتيب نقول:

لا أقلّ من كونه جمعا عرفيّا و مقبولا في مقام الجمع، فإنّ الأمر دائر بين هذا التصرّف في هذه الأخبار، و بين رفع اليد عن المرسلة رأسا، إذ قد عرفت عدم احتمالها معنى آخر.

و يشهد لما ذكرنا أيضا قوله عليه السّلام بعد الفقرة المذكورة: «ثمّ أنت في وقت منهما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 52

جميعا حتّى تغيب الشمس» فإنّ حمله على إرادة بيان امتداد الوقت لا يناسبه الإتيان بكلمة «ثمّ» بخلاف الحال بناء على الحمل الذي ذكرنا، فإنّ الإتيان بثمّ حينئذ في غاية المناسبة.

و ما ذكرنا أحسن ممّا قيل في وجه الجمع تارة بأنّ الكلام من باب حذف المضاف أعني: أنّ وقت هذه قبل وقت هذه، فإنّه لا يخلو من برودة، فإنّه راجع إلى أنّه دخل الوقتان و ما دخل أحدهما.

و اخرى بأنّ المقصود دخولهما متعاقبين، فإنّه أيضا لا يناسب مع تعيين الوقت الواحد لكلا الوقتين، ألا ترى عدم صحّة قولك: عند ساعة كذا دخل زيد و عمرو، مع كون دخولهما متراخيا و كان المقرون منهما لتلك الساعة دخول الزيد فقط.

و يؤيّد ما ذكرنا أيضا قوله عليه السّلام في بعض روايات بيان وقت فضل الظهر:

«إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر، إلّا أنّ بين يديها سبحة» «1» فإنّ ظاهرها أيضا أنّ الوقت من أوّل الزوال و إن كان صالحا لفضل الظهر، إلّا أنّه منع عن جعله كذلك وجود السبحة و هي النافلة بين يديها، و لأجل هذه الحكمة أخّر وقت فضلها عن السبحة.

و

حاصل ما اخترناه في وجه الجمع أنّ كلمة «إلّا» في قوله عليه السّلام: «إلّا أنّ هذه قبل هذه» استعملت في موضع كلمة «لو لا» فالمراد- و اللّٰه أعلم- أنّ الوقت من أوّل الزوال إلى غيبوبة الشمس صالح لكلّ من الصلاتين لو لا ملاحظة كون هذه قبل هذه، فمراعاة هذه الجهة صارت سببا لتعقيب وقت العصر عن أوّل الزوال بمقدار مزاحمة الظهر و لانتهاء وقت الظهر من طرف الآخر بمقدار أداء العصر،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 53

و إلّا فالوقت وقت لكليهما.

لا نقول: هذا معنى الرواية في نفسها، بل ظاهرها أوّلا هو إفادة الترتيب بين الصلاتين مع اشتراكهما في جميع أجزاء الوقت، كما أنّ معنى الرواية الأخرى أجنبيّة مقدار أداء الظهر من أوّله عن العصر كما قبل الزوال بالنسبة إلى الظهر، و أجنبيّة مقدار أداء العصر من آخره عن الظهر كما بعد الغروب بالنسبة إلى العصر، و لكن لمّا لم يمكن الجمع بين هذين المفادين فالأمر دائر بين أحد وجهين لا ثالث لهما:

إمّا حمل الرواية الثانية على بيان وقت إمكان العمل، فهو بالنسبة إلى الصلاتين مختلف، لأنّه بالنسبة إلى الظهر أوّل الوقت بأنّه وقت إمكانه و لو في حقّ من استجمع الشرائط و المقدّمات، و ليس كذلك بالنسبة إلى العصر بحسب الغالب من التذكّر و لو في حقّ المستجمع، إذ لا أقلّ من مراعاة شرط الترتيب، فلا محالة يتأخّر وقت إمكان العمل فيه إلى ما بعد الأوّل بمقدار أداء الظهر، و كذلك الحال بالنسبة إلى آخره.

و إمّا حمل الاولى على بيان علّة تشريع الوقت كذلك، أعني: على نحو يختصّ مقدار أداء الظهر من أوّله بالظهر، و

مقدار أداء العصر من آخره بالعصر، و أنّها مراعاة تقديم هذه و قبليّتها على هذه، فيعلم من هذه الفقرة أنّ المراد بقوله: دخل الوقتان هو الوقت الاقتضائي لا الفعلي الغير المصادف للمزاحم و المانع.

و أمّا وجه اختصاص عليّة هذا المطلب بالجزء الأوّل و الجزء الآخر دون سائر الأجزاء مع وجودها في غيرهما أيضا فليس علينا الفحص عنه، و لا يقال: إنّه حمل للرواية على بيان فلسفة التشريع، لأنّا نقول: بل المقصود بيان الحكم ببيان ذلك، إذ يتفرّع عليه الثمرة الآتية.

و بالجملة، بعد الدوران بينهما يتعيّن المصير إلى الثاني، لأنّ الأوّل بعيد غاية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 54

البعد، فإنّ الوقت متى أضيف إلى العمل في لسان الشارع فإمّا يراد وقت وجوبه أو فضيلته و استحبابه، و أمّا وقت إمكان إتيانه فليس وظيفة له من حيث كونه شارعا، فإنّه أمر غير مربوط بالشرع يعلمه كلّ أحد.

ثمّ إنّه يتفرّع على المعنى الذي حملنا عليه رواية «إلّا أنّ هذه قبل هذه» ثمرات:

منها: أنّه لو فرض رفع مزاحمة صلاة الظهر بأن كان آتيا به قبل الظهر بظنّ دخول الوقت و كان قد أدرك لحظة من الوقت كان اللازم صحّة إتيان العصر في هذا الوقت، و لا يلزم الصبر إلى انقضاء مقدار الأربع ركعات.

و كذلك لو قدّم العصر سهوا على الظهر جاز إتيان الظهر في آخر الوقت، إذ فهمنا من هذه العلّة أنّه لا موضوعيّة لأربع ركعات لا في الأوّل و لا في الآخر، بل المعيار الأصلي إنّما هو قبليّة هذه على هذه، فمتى ارتفع مزاحمة هذه لا مانع لإتيان هذه في الأوّل، و كذا متى ارتفع مزاحمة هذه الثانية لهذه الاولى في طرف الآخر.

و هذا نظير ما ورد

من أخبار تحديد وقت الفضيلة بالقدم و القدمين، و المثل و المثلين، و القدمين و الأربعة أقدام مع الخبر الوارد فيه بأنّه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر، إلّا أنّ بين يديها سبحة، فإنّ مفاد الأخير أنّ تلك التحديدات منزلة على الغالب، و المعيار الأصلي هو مزاحمة السبحة، فمتى ارتفع هذا المزاحم- بسرعة أتى به أم ببطء- كان بعده وقت فضيلة الظهر.

و على هذا ففي مقامنا يختلف وقت الاختصاص بحسب الموارد طولا و قصرا كما في ذلك المقام.

و منها: أنّه لو سها و أتى بالعصر مقدّما على الظهر في هذا الوقت المختصّ بالظهر فعلى القول بالاشتراك، كان من سهو الترتيب، فيدخل في المستثنى منه من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 55

قوله عليه السّلام: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود» «1».

و أمّا على القول بالاختصاص مع اختيار وجه الجمع الذي ذكرنا فلا إشكال أنّه من سهو الوقت أيضا، فإن قلنا بأنّ المستثنى شامل لمثل السهو عن الوقت بالإتيان في الوقت الاقتضائي أيضا كان محكوما بالإعادة بحكم المستثنى، و إن قلنا بانصرافه عن هذا الفرض كان محكوما بعدمها بحكم المستثنى منه، إذ بعد خروجه عن المستثنى كان داخلا في المستثنى منه، و حينئذ يرتفع الثمرة بين القولين.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 56

المسألة الثانية في امتداد وقت الظهرين إلى الغروب اختيارا

اعلم أنّ في آخر وقت الظهرين أقوالا:

منها: أنّ الوقت الاختياري للظهر من الزوال إلى ذراع، و للعصر إلى ذراعين و الوقت الاضطراري يمتدّ إلى الغروب.

و منها: أنّ اختياري الظهر إلى أربعة أسباع، و اختياري العصر إلى ثمانية أسباع، و اضطراريّهما يمتدّ إلى الغروب.

و

منها: أنّ اختياريّ الظهر إلى أن يصير ظلّ كلّ شي ء مثله، و اختياري العصر إلى أن يصير مثليه، و اضطراريّهما ممتدّ إلى الغروب.

و القول الأقرب أنّه يبقى وقتيهما للمختار إلى أن يبقى من الغروب مقدار أداء العصر، فيختصّ بالعصر.

و قبل الشروع في الاستدلال على هذا المرام و تزييف أدلّة الخصم لا بدّ من تمهيد مقدّمة و هي أنّه إذا أضيف الوقت إلى عمل فقيل: وقت عمل كذا كذا، فإمّا يكون باعتبار كونه وقتا لفضل ذلك العمل، أو باعتبار كونه وقتا لإجزائه و حصول امتثاله.

و على الثاني أيضا تارة يكون وقتا للامتثال مطلقا من دون توقّف على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 57

حصول شي ء، و اخرى يكون وقتا مشروطا بحصول أمر من اضطرار أو عصيان.

إذا عرفت ذلك فنقول: قد عرفت ما في رواية داود بن فرقد من قوله: «حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات» إلخ و قوله في رواية عبيد بن زرارة: «ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتّى تغيب الشمس» و بمضمونهما أخبار كثيرة دالّة على امتداد وقتهما إلى الغروب.

و بإزاء هذه الأخبار أخبار أخر دالّة على أنّ وقت الظهر إذا زاغت الشمس إلى أن يذهب الظلّ قامة، و وقت العصر إلى أن يذهب قامتين، و أخبار أخر دالّة على أنّ وقت الظهر إذا زالت الشمس حتّى يمضي من زوالها أربعة أقدام، و أخبار دالّة على أنّ وقت الظهر ذراع من زوال الشمس، و وقت العصر ذراعان منه.

ثمّ من المسلّم فيما بينهم أنّ من أتى بالفريضة بعد هذه الأوقات قبل أن يبقى من الغروب مقدار أربع ركعات فصلاته أداء و ليس كإتيانها بعد الغروب.

و بعد هذا يتردّد أمر هذه الروايات

مع الروايات الأول بين أمرين: إمّا الالتزام بأنّ المراد بالروايات الأول تحديد وقت الإجزاء، لكنّ الأعمّ من المطلق بلا شرط و المشروط بالاضطرار و العصيان بالترك في الوقت الأوّل.

و المراد بالثانية بيان وقت الإجزاء أيضا بطريق الإطلاق.

و أمّا الالتزام بأنّ المراد بالأخبار الأول بيان الوقت المطلق الغير المشروط بشي ء لكن للإجزاء، و من الثانية أيضا كذلك، لكن للفضل و الاستحباب، و نحن و إن قلنا: إنّ إطلاق إضافة الوقت إلى العمل منصرف إلى كونه وقت إجزاء، إلّا أنّ إضافته إليه باعتبار الفضل أيضا إضافة متعارفة بحيث يترجّح في مقام الجمع على الوجه الآخر و هو حمل الوقت الوارد في النصوص الأول مع ورودها في مقام البيان على الأعمّ من المطلق و المشروط، مع عدم إشعار فيها بذكر الشرط و القيد،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 58

و خصوصا مثل قوله عليه السّلام: «ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتّى تغيب الشمس» فإنّه حمل في غاية البعد من تلك الأخبار.

و إذا لوحظ هذا مع حمل قوله: «وقت الظهر من الزوال إلى أربعة أقدام» على أنّ هذا وقت فضله، كان الثاني أرجح قطعا، لأنّه من المتداول المتعارف في المحاورة إضافة الوقت باعتبار فضل العمل، فيقولون: هذا وقت الصلاة، و أمّا إطلاق الوقت مع كونه مشروطا بالعصيان أو النسيان مع عدم الإشارة إلى بيان القيد، مع كون المخاطب محتاجا إلى البيان و سائلا عن تحديد الوقت ففي غاية البعد.

و إذن فيسهّل أمر اختلاف التحديد الوارد في الأخبار الثانية، فإنّه محمول على اختلاف مراتب الفضل، بخلاف ما لو حملناها على وقت الإجزاء، فإنّه لا جمع بينهما أصلا.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت ما ذكرنا لا تحتاج إلى تعداد الأخبار و استخراج

الأمارات في أنفسها على حملها على كونها في مقام بيان وقت الفضل، مع كونها كذلك، كما يعلم بمراجعتها.

كما أنّك عرفت بما ذكرناه في المسألة السابقة بطلان ما حكي عن العلّامة من الاستدلال على بطلان القول بالاشتراك بما ملخّصه- على ما لخّصه بعض- أنّ القول باشتراك الوقت حين الزوال بين الصلاتين مستلزم لأحد باطلين، إمّا التكليف بما لا يطاق، و إمّا خرق الإجماع، لأنّ التكليف حين الزوال إن كان واقعا بالصلاتين معا، كان تكليفا بما لا يطاق، و إن كان واقعا بأحدهما الغير المعيّن أو بأحدهما المعيّن و كان هو العصر، كان ذلك خرقا للإجماع، و إن كان واقعا بأحدهما المعيّن و كان هو الظهر ثبت المطلوب. انتهى.

فإنّه مضافا إلى استدراك قوله: أو بأحدهما المعيّن و كان هو العصر كان ذلك

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 59

خرقا للإجماع- لعدم ارتباطه بمرام الخصم، و إنّما المرتبط به هو الاحتمالان الأوّلان أعني: كون المكلّف به هو الصلاتين معا تعيينا في أوّل الزوال، أو هما تخييرا كذلك، و إلى انتقاضة بما بعد مضيّ مقدار أداء الظهر، فإنّه يجري فيه هذا الكلام حرفا بحرف مع أنّه ليس وقت اختصاص- قد عرفت في ما تقدّم أنّ المراد بالاشتراك ليس كون الوقت محلّا لوقوع كليهما فيه، بل المراد أنّ التكليف بهما يصير عنده فعليّا، و لا حائل إلّا قدرة المكلّف.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 60

المسألة الثالثة في أنّ العصر يختصّ بآخر الوقت بمقدار أدائها

و يدلّ عليه رواية داود بن فرقد المتقدّمة، و رواية الحلبي في حديث قال:

سألته عن رجل نسي الاولى و العصر جميعا، ثمّ ذكر ذلك عند غروب الشمس، فقال عليه السّلام: «إن كان في وقت لا يخاف فوت إحداهما فليصلّ الظهر ثمّ يصلّي العصر، و إن

هو خاف أن يفوته فليبدأ بالعصر و لا يؤخّرها فتفوته، فيكون قد فاتتاه جميعا، و لكن يصلّي العصر في ما قد بقي من وقتها، ثمّ ليصلّ الاولى بعد ذلك على أثرها» «1».

و هذه الرواية و إن كانت بسؤالها دالّة على مذهب القائل بذهاب الحمرة في تفسير الغروب، لكن الكلام في المقام يتعلّق بالجواب، فإنّه إمّا أن نقول بمفاد هذا السؤال- كما هو الحقّ و يأتي إن شاء اللّٰه تعالى- و إمّا أن نرجّح أخبار سقوط القرص و نحمل هذا الخبر على أنّ الإمام عليه السّلام أعرض عن ذكر حكم مورد السؤال و أجاب بهذه الكلّية لموارد ضيق الوقت، و يستفاد منها أنّه لو أتى بالظهر في الوقت الذي لا يدركهما معا كانت باطلة، لأنّه مفاد قوله: «و لا يؤخّرها- يعني العصر- فيفوته، فيكون قد فاتتاه جميعا».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 18.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 61

ثمّ إنّ مقتضى القاعدة مع الغضّ عن تينك الروايتين أن يقال: هنا صلاتان قد نصّت الأخبار بامتداد الوقت بالنسبة إلى كليهما إلى الغروب، و بلزوم الترتيب في ما بينهما مع إمكانه، أمّا مع عدم إمكانه كما في الوقت الذي لا يسع كليهما و يدور الأمر بين إتيان أحدهما و ترك الآخر فلا دلالة لأدلّة الترتيب على اعتباره، لأنّه مع فرض سعة الوقت، و حينئذ فيحتمل أن يكون الوقت للظهر خاصّة لأهميّته و أن يكون للعصر كذلك، و أن يكون المكلّف بالخيار.

لا يقال: كما أنّ الآتية المركّبة من الذهب و الفضّة يستفاد حكمها من دليل الذهب الخالص و الفضّة الخالصة، كذلك الترتيب في هذا الفرض الذي هو مركّب من داخل الوقت و خارجه يستفاد من

أدلّة اعتبار الترتيب في الداخلين و أدلّة اعتباره في الخارجين.

لأنّا نقول: في ذاك الموضع ليس في البين احتمال آخر، و أمّا في هذا الموضع فيحتمل أن يكون رعاية وقت العصر في نظر الشارع أهمّ من رعاية الترتيب، و مع هذا الاحتمال كيف نحكم بتعيّن الظهر و لا دليل في البين يرفع الاحتمال المزبور بعمومه أو إطلاقه أو نصوصيّته؟

فلم يبق إلّا القول بالتخيير، لعدم العلم بالأهميّة في ما بينهما، كما هو الحال في كلّ واجبين متزاحمين، و لكنّ الذي سهّل الخطب هو وجود الخبرين الأوّلين الناصّين بتقديم العصر و تخصيص الوقت إيّاه.

و ما ذكرنا هو الموافق للتحقيق، خلافا لما عن بعض أجلّة العلماء في كتاب صلاته، حيث ذهب إلى اشتراك الوقت، بمعنى صلاحيّته من الزوال إلى الغروب لكلّ من الظهر و العصر، إلّا أنّه بحسب الفعليّة قد اختصّ الظهر من الأوّل بمقدار أدائه كذلك، و العصر من الآخر، و جعل هذا قضيّة ما دلّ على أنّ وقت الظهر من الزوال

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 62

إلى الغروب، و ما دلّ على مثل ذلك في العصر، و ما دلّ على لزوم الترتيب بينهما.

فكان هذه المضامين الثلاث قد اجتمعت في دليل واحد، كأن يقال: وقت هاتين الصلاتين من الزوال إلى الغروب، و لكن يجب تقديم الظهر على العصر، فإنّه يستفاد منه أنّ أوّل الزوال بمقدار أداء الظهر وقت فعليّ للظهر، لعدم سعته للعصر مع حفظ الترتيب.

و كذلك الحال من جانب الآخر، بتقريب أنّ التكليف بهذا النحو أعني بنحو التركيب يكون ممتدّا من الزوال إلى الغروب، فإذا بقي ثمان ركعات من آخر الوقت يصير كلّ من الصلاتين مضيّقة لا محالة، ككلّ تكليف مخيّر أو موسّع عند تعذّر سائر

أطرافه أو فوت سائر أجزاء وقته، فيختصّ الأربع الاولى من هذه الثمان ركعات بالظهر، و الأربع الأخيرة بالعصر، هذا محصّل ما ذكره.

و استشكل عليه شيخنا الأستاذ دام بقاه بأنّ للظهر تكليفين: أحدهما نفسي، و الآخر غيري، لأنّ العصر مقيّد ببعديّة الظهر، فيكون الظهر لأجل تحصيل هذا القيد بالنسبة إلى العصر، كالوضوء بالنسبة إلى كلّ صلاة مع الطهارة، فإنّ الترتيب إنّما يقيّد العصر بالبعديّة، لا الظهر بالقبليّة، و لذا لو أتى بالظهر و لم يأت بالعصر عصيانا صحّ ظهره.

و حينئذ فإن عصى و لم يأت بالظهر في الأربع الاولى من الثمان ركعات، فإن بقي اشتراط العصر بالبعديّة بحاله لزم اختصاص الأربع الآخر بالظهر من حيث التكليف النفسي و إن سقط تكليفه الغيري بالعصيان كتكليف ذيه أعني العصر، و إن لم يبق بحاله، بل صار العصر مطلقا فهنا وقت واحد و واجبان مطلقان نسبتهما إليه نسبة واحدة لا بدّ من تخصيص الأهمّ به- إن كان- و إلّا فالتخيير.

فالاستدلال مبنيّ على المغالطة و الخلط بين الوجوب الغيري و النفسي،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 63

فالذي يسقط ببقاء الأربع ركعات إلى الغروب إنّما هو الأمر الغيري، لا النفسي، هذا.

و لكنّ الذي سهّل الأمر كما عرفت إنّما هو وجود الروايتين، و الرواية الاولى و إن كان لا يستفاد منها أزيد من انقضاء الوقت بالنسبة إلى الظهر و أنّ حاله كحال ما بعد الغروب، و أمّا وقوعه قضاء بناء على عدم إضرار نيّة الأداء لكونه من باب الخطاء في التطبيق، فلا يستفاد من تلك الرواية ما ينافيه.

غاية الأمر ابتناؤه على مسألة الضدّ و أنّ العبادة الموسّعة هل تقع صحيحة إذا زاحمها الضدّ الأهمّ أو لا؟ و قد رجّحنا الصحّة في محلّه،

فبناء عليه لا يستفاد من الرواية فساد الشريكة في الوقت المختصّ بعنوان القضاء.

و لكنّ الرواية الأخيرة قد كفتنا مئونة هذه الجهة أيضا و دلّت على أنّ الشريكة غير صحيحة في هذا الوقت و لو قضاء، و محلّ الاستفادة قوله عليه السّلام:

و لا يؤخّرها- يعني العصر- فتفوته، فيكون قد فاتتاه جميعا. فإنّ معناه أنّه في صورة تأخير العصر إن أتى بالظهر أو لم يأت فهما سيّان في أنّ الصلاتين معا قد فاتتا منه، فكما أنّ العصر فائتة فيشملها قوله عليه السّلام: من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته.

فكذلك الظهر الذي أتي به أيضا فائتة مشمولة لهذه الكبرى.

و الحاصل أنّ الظاهر أنّ الفوت متعلّق بذات الصلاة في طرف الظهر المأتي، كما في طرف العصر الغير المأتيّ بها بوصف وقوعها في الوقت، لأنّ ظاهر جمعهما في التعبير بصيغة التثنية وحدة المراد به فيهما، فكما أنّ المراد بفوت العصر عدم الحصول رأسا، فكذلك في طرف الظهر، هذا.

و لكن يبقى هنا سؤال مطلب و هو أنّ المستفاد من الرواية هل الاختصاص في صورة بقاء الوقت بمقدار الشرائط الاضطراريّة، أو و لو بمقدار الاختياريّة، فلو كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 64

الوقت بمقدار ثمان ركعات لو تيمّم و بمقدار أربع لو توضّأ فهل المستفاد من الرواية تخصيصه بالعصر و إتيان الوضوء، أو أنّ اللازم هو التيمّم و الجمع بينهما؟

قد يقال: حال آخر الوقت كحال أوّله، فكما أنّ المراد باختصاص الأوّل بالظهر هو مقدار أدائه مع الشرائط الاختياريّة، فكذلك الحال في جانب الآخر.

و على هذا فلا يبقى المجال لمراعاة أهمّية الوقت من الطهارة المائيّة- مثلا- و سائر الشروط الاختياريّة إذا دار الأمر بينهما، و ذلك لأنّه فرع إحراز المقتضي و إطلاق المادّة

في كلا الطرفين و هو غير معلوم في جانب الوقت، بل المستظهر عدمه و أنّ الوقت للظهر بحسب الاقتضاء و التشريع مخصوص بهذا المقدار، فلا وجه لملاحظة المزاحمة، هذا ما ربما يقال.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ دليل تشريع التيمّم و سائر الأبدال الاضطراريّة موسّع للوقت و حاكم على دليل الاختصاص، لأنّ مفاد تنزيل تلك الأبدال منزلة الشروط الاختياريّة أنّه متى يفوت الوقت من قبل رعاية تلك الشروط فهذه الشروط ساقطة، و معنى هذا أنّ الوقت باق غير فائت.

و حينئذ نقول: نحن و إن كنّا لو راعينا الطهارة المائيّة أو تحصيل الستر أو طهارة البدن و اللباس مثلا خرج الوقت إلّا بمقدار أربع ركعات، و لكن لو اكتفينا بالتيمّم أو بالصلاة عاريا أو مع النجاسة لأدركنا من الوقت ثمان ركعات، فلو لم يكن في البين دليل التنزيل لكنّا مشمولين للرواية الثانية من الروايتين المتقدّمتين، فإنّه يصدق في حقّنا أنّا نخاف فوت إحدى الصلاتين، و لكن بعد ملاحظته يصدق في حقّنا الموضوع الآخر، أعني: لا يخاف فوت إحدى الصلاتين، فيشملنا قوله:

«فليصلّ الظهر ثمّ يصلّي العصر» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 18.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 65

المسألة الرابعة في تحديد وقت المغرب

اعلم أنّه قام الإجماع و تواترت الأخبار بأنّ وقت المغرب غروب الشمس، إلّا أنّه ورد أخبار كثيرة بأنّ الغروب عبارة عن ذهاب الحمرة المشرقيّة، و في بعضها تعليل ذلك بأنّ المشرق مطلّ على المغرب هكذا، و رفع يمينه فوق يساره، فإذا غابت هاهنا ذهبت الحمرة من هاهنا.

و قد يجمع بين الطائفتين بأنّ الثانية شارحة للمراد من الاولى و أنّ الغروب الذي جعل وقتا يراد به ذهاب الحمرة المشرقيّة، لا غيبوبة القرص و لو مع

عدم ذهابها، فهذا من قبيل حمل المحكوم على الحاكم و الأظهر على الظاهر.

لكن قد يستشكل في هذا الجمع بعدم احتياج الغروب إلى التفسير، فإنّه موضوع مبيّن لدى العرف كالطلوع، فكما لا يحتاج هو إلى التفسير فكذلك الغروب.

و التوجيه بأنّ المراد هو بيان موضوع الحكم لدى الشارع- بمعنى أنّ الغروب و إن كان هو استتار القرص في مقابل الطلوع عرفا، إلّا أنّ موضوع الحكم الشرعي ليس إلّا ذهاب الحمرة المشرقيّة- غير وجيه، فإنّ مجرّد كون أحد الموضوعين المتغايرين موضوعا للحكم لا يصحّح حمل أحدهما على الآخر و استعمال لفظ أحدهما في الآخر، بل اللازم إيراد الحكم على الموضوع أعني: الذهاب، لا إيراده

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 66

أوّلا على الاستتار و استعمال لفظه في الذهاب ثمّ القول بأنّ الاستتار هو الذهاب.

و أيضا المشرق و المغرب نقطتان متقابلتان في كلّ أفق محاذيتان، فما معنى كون أحدهما فوق الآخر و مشرفا عليه، الذي قد ذكر تعليلا لذلك التفسير في بعض الأخبار؟

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: يمكن دفع كلا الإشكالين عن الجمع المزبور.

أمّا الأوّل: فللفرق بين موضوعي الطلوع و الغروب، فإنّ المراد بالطلوع هو الظهور، و لا يقال للجسم: إنّه ظهر و صار بارزا للحسّ إلّا إذا صار جسمه مشاهدا مرئيّا، و أمّا الغروب بمعنى السقوط عن مرتبة الظهور بعد ما كان ظاهرا فله مراتب، أولاها أن يغيب جسمه عن النظر و لو بقي ظلّه مشاهدا محسوسا، و الثانية غيبوبته بجميعه عينا و أثرا، مثلا لا يقال: زيد ظهر و طلع بمحض ظهور ظلّه، و أمّا إطلاق الاختفاء بعد أن كان ظاهرا فلا يصدق عليه ما دام ظلّه مرئيّا و إن اختفى بدنه عن النظر، فالغروب المجعول حدّا

للإفطار و الصلاة بهذه الملاحظة يصحّ السؤال عن شرحه، حيث لا يعلم أنّ المراد أيّ مرتبة من اختفاء القرص، هل الاختفاء العيني الغير المنافي مع بقاء شعاعه و آثاره على الجدران و المنارة و الجبال كما هو ظاهر لفظه، أو أنّه الاختفاء الرأسي عينا و أثرا، فالأخبار الثانية معيّنة لإرادة الثاني.

لا يقال: الظهور و الاختفاء متقابلان، فمتى صدق أحدهما لا يصدق الآخر، و متى لم يصدق أحدهما صدق الآخر، و إذن فإذا خفي جسم زيد فلا يصدق أنّه ظاهر، فيصدق أنّه مختف، و لا واسطة بينهما.

لأنّا نقول: المعيار هو العرف، فإنّهم يرون الظهور في ابتداء حدوثه منوطا برؤية الجسم، و في مقام الارتفاع و السقوط عن الظهور يزول الاحتياج إلى ارتفاع الجسم و الأثر كليهما عن النظر، و من أنكر فليراجع وجدانه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 67

و بالجملة، فلعلّ هذا هو السرّ في التفرقة بين الطلوع و الغروب، حيث لم يرد سؤال في خبر عن حدّه و لا ابتداء شرحه عن إمام عليه السّلام بخلاف الغروب، و إن أبيت إلّا عن اتّحادهما في الوضوح و الخفاء، لكن نقول: إنّ الاهتمام بشأن الغروب أزيد، حيث إنّه وقت الإفطار و الصلاة و الإفاضة من عرفات، بخلاف الطلوع، فإنّه و إن كان آخر وقت صلاة الصبح، لكن المصلّين في تلك الأزمنة لم يكونوا يؤخّرون صلاتهم إلى هذه الغاية حتّى يحتاجون إلى الفحص و السؤال عن حدّه.

و أمّا الثاني: فالنقطة التي هي المشرق يكون أعلى أبدا من التي هي المغرب، فإنّ الأولى هي النقطة الداخلة في الأفق، و الثانية هي النقطة الخارجة عنه، إذ الجسم إنّما يغيب عن النظر إذا انحدر بتمام أجرامه عن أفق الناظر، و لكنّه

يصير ظاهرا للنظر إذا صار إلى الناظر أقرب من نقطة الغروب، هذا إذا اعتبرنا بصرف غيبوبة العين، و أمّا إذا اعتبرنا بغيبوبتها و غيبوبة الأثر كما هو المفروض في الخبر، فالتفاوت بين النقطتين يكون أكثر من الأوّل، بمعنى أنّه لا بدّ من تجاوز الجسم عن النقطة الأولى التي يغيب فيها جسمه عن النظر إلى ما دونها حتّى يغيب أثره أيضا، فيكون محلّ غيبوبة عينه و أثره أدون بالنسبة إلى محلّ رؤيته و مشاهدته بأكثر من أدونيّة محلّ غيبوبة عينه عن محلّ رؤيته.

و على هذا فيصير الجمع المزبور خاليا عن الإشكالين، و لكنّه مع ذلك لا يتمشّى في بعض الأخبار، نعم هو جمع حسن بالنسبة إلى جلّها.

فمن جملة ما لا يقبله: مرسلة عليّ بن الحكم عمّن حدّثه عن أحدهما عليهما السّلام أنّه «سئل عن وقت المغرب؟ فقال عليه السّلام: إذا غاب كرسيّها، قلت: و ما كرسيّها؟

قال عليه السّلام: قرصها، فقلت: متى يغيب قرصها؟ قال عليه السّلام: إذا نظرت إليه فلم تره» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 25.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 68

و هذه الرواية و إن كان صدرها شاهدا على ما ادّعينا من كون الغروب معنى مجملا يحتاج أن يسأل عنه، و لكن ذيله المصرّح في تفسيره بأنّه إذا نظرت إليه فلم تره لا يلائم الجمع المزبور، فإنّ حمل قوله: إذا نظرت فلم تره على عدم رؤية عينه و أثره ليس جمعا عرفيّا، كما أنّه ليس عدم الرؤية إذا نظر إليه أيضا معنى ذو تشكيك حتّى يمكن أن يقال: إنّ المراد أقصى مراتبه، كما قلنا في الغروب.

و ممّا لا يقبله أيضا رواية الربيع بن سليمان و أبان بن أرقم و

غيرهم، قالوا:

أقبلنا من مكّة حتّى إذا كنّا بوادي الأخضر، إذا نحن برجل يصلّي و نحن ننظر إلى شعاع الشمس، فوجدنا في أنفسنا، فجعل يصلّي و نحن ندعوا عليه و نقول: هو شابّ من شباب أهل المدينة، فلمّا أتيناه إذا هو أبو عبد اللّٰه جعفر بن محمّد صلوات اللّٰه عليهما، فنزلنا فصلّينا معه و قد فاتتنا ركعة، فلمّا قضينا الصلاة قمنا إليه فقلنا له:

جعلنا فداك، هذه الساعة تصلّي؟ فقال عليه السّلام: إذا غابت الشمس فقد دخل الوقت «1».

فإنّ صدر الرواية ناصّة بأنّ الذهاب كان مطلبا مقرّرا عند الشيعة، و مع ذلك كان الإمام عليه السّلام يصلّي في ذلك الوقت، فعلى القول المذكور لا بدّ من حمل ذلك على كون الشعاع الذي رأوه في أعلى جبل كان بالوادي خارجا عن المتعارف في الارتفاع، حيث إنّ المعتبر هو الذهاب عن المواضع المرتفعة بقدر المتعارف، لا مثل جبل دماوند، و إن لم تقبل هذا أيضا فلا مسرح فيه للجمع المتقدّم قطعا.

و ممّا لا يقبله رواية محمّد بن يحيى الخثعمي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه قال:

«كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله يصلّي معه حيّ من الأنصار يقال له بنو سلمة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 23.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 69

منازلهم على نصف ميل، فيصلّون معه ثمّ ينصرفون إلى منازلهم و هم يرون مواضع سهامهم» «1».

و قد يجمع بين الطائفتين بحمل الثانية الدالّة على اعتبار ذهاب الحمرة على الأماريّة، و حمل الأولى الدالّة على استتار القرص على الأصاليّة، فالميزان الأصلي هو الاستتار، و لكن حيث إنّه قد يختفي على الحسّ و يحصل الاشتباه الموضوعي لأجل وجود السحاب أو الغبار أو

الجبل و نحو ذلك نبّه الشارع بأنّ ذهاب الحمرة أمارة قطعيّة على تحقّقه، فهذا إنّما يكون معتبرا مع الشكّ في الأوّل، و إلّا فمع القطع بالأوّل يكون هو المناط، و هذا أيضا لا يتأتّى في جميع الأخبار.

فإنّ منها: رواية عبد اللّٰه بن وضّاح قال: كتبت إلى العبد الصالح عليه السّلام:

يتوارى القرص و يقبل الليل، ثمّ يزيد الليل ارتفاعا و يستتر عنّا الشمس و يرتفع فوق الجبل حمرة و يؤذّن عندنا المؤذّنون، أ فأصلّي حينئذ و أفطر إن كنت صائما، أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب عليه السّلام إليّ: أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة و تأخذ بالحائطة لدينك «2». و هي غير قابلة للجمع المزبور كما ترى.

و منها: مرسلة ابن أشيم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سمعته يقول: وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق، و تدري كيف ذلك؟ قلت: لا، قال عليه السّلام: لأنّ المشرق مطلّ على المغرب هكذا و رفع يمينه فوق يساره، فإذا غاب هاهنا ذهبت الحمرة من هاهنا «3».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 18 من أبواب المواقيت، الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 14.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 70

فإنّه لو كان المراد من الغروب هو الغيبوبة عن الحسّ و لو لم يغب شعاعه فهو أمر دائم الانفكاك عن ذهاب الحمرة، و معنى هذا الخبر أنّ بينهما الملازمة الدائميّة.

و الداعي إلى الخروج عن ظاهر أخبار ذهاب الحمرة من كونها تفسيرا للغيبوبة و الغروب إلى هذا الاحتمال أعني: الأمارة العلميّة هو ما مرّ من توهّم أنّ الغروب و الذهاب أمران متباينان

لا ارتباط و علاقة بينهما حتّى يصلح إرادة أحدهما من لفظ الآخر، و حينئذ فيأبى أخبار الغروب عن الحمل على إرادة الذهاب.

مثلا: لو قال القائل: جئني بالأسد، ثمّ قال: أعني بقولي الأسد الكتاب، فلا يمكن العمل بهذا الظاهر من الحكومة و الشارحيّة، لعدم قبول لفظ الأسد لهذا الحمل، بخلاف ما إذا قال: أعني به الرجل الشجاع، فإنّه لا محيص عن الأخذ بالحاكم و رفع اليد عن ظهور المحكوم، و ما نحن فيه من القبيل الأوّل، هذا وجه التوهّم، و لكنّ الحقّ خلافه.

بيان ذلك أنّا نسلّم أنّ لفظ الغروب لو خلّي و طبعه ظاهر في غيبوبة الجسم التي هي المحسوسة و لا حاجة لها إلى الشرح، و لكن نقول: يصحّ استعمال هذه اللفظة تجوّزا و توسّعا على غيبوبة الجسم و بعض آثاره، مثلا قولك: زيد قد خفي، ظاهر في خفاء جسمه و لو بتواريه وراء جدار مع مشهوديّة ظلّه، و لكنّ الكلام قابل لأنّ تقول: أعني من الخفاء خفاؤه بآثاره و ظلّه، بحيث يستعمل هذه اللفظة في هذا المعنى، لا بطريق الإطلاق و التقييد.

و حينئذ نقول بأوّل مراتب غيبوبة الشمس غيبوبة جرمها عن النظر، فيقع شعاعه عند المغرب، و يقع انعكاس هذا الشعاع و البياض إلى جانب المشرق، فيكون هذا الانعكاس بصورة الحمرة، كما يرى في بعض الأبنية و الجدران العالية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 71

أيضا، فإذا انحدر أزيد من ذلك يرتفع ذلك البياض المغربي و تلك الحمرة المشرقيّة، و يحدث الحمرة المغربيّة، و هي أيضا انعكاس شعاع الشمس، فإذا انحدرت أزيد من ذلك ارتفع ذلك الانعكاس أيضا، و هذا بعينه هو الحال في طرف الطلوع، فإنّه متى ظهر الشعاع و البياض في المشرق

انعكست الحمرة في المغرب.

و هذا هو المراد بقولهم عليهم السّلام في بعض الأخبار: إذا ذهبت الحمرة من هذا الجانب (و أشار إلى المشرق) و في بعضها: من المشرق فقد غابت الشمس من شرق الأرض و غربها «1»، يعني من شرق أفق هذا المكلّف و غربة، فإنّ الشعاع المغربي إذا ارتفع و كذا انعكاسه المشرقي، فقد حصل غيبوبة الشمس من جميع المشرق و المغرب.

و أمّا التعبير بسقوط القرص كما هو الواقع في بعض أخبار الغروب و الذهاب فلعلّ المراد به كون الشمس خالية ممّا يترقّب منها من الإنارة، فالسقوط ليس السقوط الجسماني، إذ لا يقال على الجسم المنحدر تدريجا أنّه ساقط، إلّا إذا وقع دفعة، فهو كناية عن بطلان آثاره عن وجه الأرض من الإضاءة و الإشراق.

و على كلّ حال، فإذا قال قائل: إذا غربت الشمس فكذا، ثمّ قال: مقصودي من غروبها غروب جرمها و شعاعها أعني: الشعاع الذي في المغرب الذي يحصل بانعكاسه الحمرة في المشرق و يلازم ذهابه مع ذهاب الحمرة، فليس استعماله الغروب في هذه المرتبة من الخفاء كاستعمال لفظة «الأسد» في الكتاب ممّا لا مأنوسيّة له في الاستعمال و يعدّ غلطا، بل يكون ممّا يقبله الطبع و يستحسنه، فإذا تحقّق القبول الطبعي و التوسّع المجازي و المفروض ثبوت نسبة الحكومة و الشارحيّة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 72

بين أخبار الغروب و ذهاب الحمرة فلا يمنعنا عن الحمل على هذا المعنى الاستيحاش المتقدّم لوضوح بطلانه.

نعم يبقى في البين في معارضات أخبار الذهاب طائفتان:

الاولى: الأخبار الحاكية لفعل النبيّ و بعض الأئمّة عليهم السّلام التي يدّعي ظهورها في أنّهم عليهم السّلام فعلوا المغرب عند

الغروب قبل الذهاب، و خصوصا فعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم الذي هو غير قابل للحمل على التقيّة.

و الأخرى: خبر عليّ بن الحكم المتقدّم، حيث إنّه صريح في أنّ المناط هو الغروب الحسّي للجرم، و لا يقبل الحمل الذي ذكرنا، لأنّه فسّر غيبوبة القرص بأنّه إذا نظرت إليه لم تره، و أنت ترى عدم قابليّته للحمل على عدم رؤية العين و الأثر، فإنّه صريح في عدم رؤية القرص، و لسانه أيضا لسان الحكومة و الشارحيّة، كما أنّ لأخبار الذهاب أيضا كان هذا اللسان، فلا محيص عن معاملة المعارضة بينه و بين أخبار الذهاب، فإنّ كلّا منهما حاكم و مفسّر للغروب و صريح في مفاد غير مفاد الآخر.

فنقول: أمّا الخبر الحاكي لفعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و فلا منافاة فيه للقول بالذهاب إذا كان صلّى اللّٰه عليه و آله آتيا بالصلاة متّصلا بالذهاب و كانوا ذاهبين بسرعة عقيبها، إذ رؤية مواضع النبل مع هذا الوصف و الحال أنّ مسافة سيرهم إلى منازلهم نصف ميل و هو ألفا ذراع لا ينافي مع كون ابتداء الشروع بالصلاة أوّل الذهاب.

و أمّا الخبر الحاكي لفعل الصادق عليه السّلام فالجواب عنه أنّ صحّة التمسّك بخبر إنّما هي بعد تماميّة ثلاث جهات: الدلالة و السند و جهة الصدور، فالسند قد فرغ عنه بما تقرّر في الأصول، و كذا الدلالة أيضا لا خدشة فيها في هذا الخبر إن لم يجر فيه الاحتمال الذي تقدّم في طيّ الكلمات السابقة، بقي أصالة الجهة، و لا شكّ أنّها مثل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 73

أصالة الظهور في أنّ الأخذ بها في كلام كلّ متكلّم إنّما هو ما دام لم يصرّح

هو بخلاف هذا الأصل، و إلّا فيسقط الأصل في كلامه.

ألا ترى أنّه لو قال متكلّم: إنّي ربما أتكلّم بلفظة الأسد و أريد منها الرجل الشجاع بدون نصب قرينة فلا يبقى لكلامه ظهور إذا قال: جئني بالأسد مثلا، فهكذا لو صرّح المتكلّم بأنّي ربما فعلت كذا أو قلته و الداعي إلى ذلك هو التقيّة من الأعداء، فرأيناه فعل أو قال، فلا يبقى بعد هذا التصريح منه أصل عقلائي في جهة الصدور لكلامه و فعله.

إذا عرفت هذا فنقول: قد صرّح الصادق سلام اللّٰه عليه بذلك في ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسن بن محمّد بن سماعة عن ابن رباط عن جارود أو إسماعيل ابن أبي سماك عن محمّد بن أبي حمزة عن جارود قال: قال لي أبو عبد اللّٰه عليه السّلام:

«يا جارود، ينصحون فلا يقبلون، و إذا سمعوا بشي ء نادوا به أو حدثوا بشي ء أذاعوه، قلت لهم: مسّوا بالمغرب قليلا فتركوها حتّى اشتبكت النجوم، فأنا الآن أصلّيها إذا سقط القرص» «1».

فإنّ هذا الخبر كما ترى دالّ على شكايته عليه السّلام عن أصحابه، حيث يذيعون قوله عليه السّلام: مسّوا بالمغرب قليلا بواسطة صعودهم مثلا المواضع المرتفعة لاستعلام الحال و التأخير إلى اشتباك النجوم بحيث صاروا معروفين بذلك عند العامّة، فمن هذا السبب التجأ عليه السّلام بأن يصلّي هو بنفسه عليه السّلام في وقت سقوط القرص لإخراج ذلك عن أذهان العامّة و إصلاح ما أفسده أصحابه.

و كما أنّ هذا الخبر يوهن في أصالة الجهة في الخبر المتقدّم الحاكي لفعله عليه السّلام،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 15.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 74

كذا هو موهن لخبر ابن الحكم المتقدّم المشتمل على إصرار السائل و استنطاقه

الإمام بتكرار السؤال، فإنّه يوجب زوال الأصل المذكور عنه و إن فرضنا صحّة سنده كما في طريقه الذي رواه الصدوق.

لا يقال: فلا داعي إذن إلى حمل أخبار الغروب على المعنى الذي تقدّم منك من جمع الحكومة بينها و بين أخبار الذهاب، بل يتعيّن القول بسقوطها عن درجة الحجّية، لاختلال أصلها الجهتي.

لأنّا نقول: لا داعي إلى الحمل على التقيّة ما دام الجمع العرفي المقبول ممكنا، و الغرض من البيانات المتقدّمة إثبات إمكانه و أنّ إطلاق غروب الشمس و لو بطريق التوسّع على خفائها عينا و شعاعا عن النظر ليس أمرا مستوحشا، و يكون غاية الأمر انفصال القرينة على هذا التوسّع عن مجلس الخطاب و الإتيان بها في أخبار الذهاب، و هو لأجل مصلحة لا بأس به.

و بالجملة، ما دام للكلام محمل على طبق قانون المحاورة موجود لا تصل النوبة إلى أصله الجهتي.

و ممّا يصحّح هذا التوسّع في كلمة غروب الشمس أنّ إطلاق الشمس على شعاعها إطلاق مجازي شائع، فيشار إلى الشعاع الواقع في البيت أنّه شمس، و إلى شعاع السراج أنّه سراج، فليس من المستنكر إطلاق غروب الشمس و إرادة زوال شعاعها، و لا يخفى أنّ الباقي في أفق المغرب شعاع الشمس، و ربما يطلقون توسّعا عليه اسم الشمس، فغروب الشمس بهذا الإطلاق إنّما يتحقّق إذا زال ذلك الشعاع أيضا المستلزم لزوال الحمرة من جانب المشرق.

و حاصل الكلام أنّ مقتضى التأمّل تعيّن الأخذ بأخبار ذهاب الحمرة التي هي بعد ملاحظة ما ورد منها في باب الإفاضة من عرفات تبلغ حدّ الكثرة، إذ المعارض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 75

لها إمّا الأخبار البالغة حدّ التواتر المشتملة على التحديد بالغروب، و قد عرفت تعيّن القول بحكومة أخبار

الذهاب عليها، و إمّا الأخبار الحاكية لفعل المعصوم، و قد عرفت جوابها أيضا، و إمّا خبر ابن الحكم حيث عرفت عرضيّته لأخبار الذهاب بملاحظة ثبوت لسان الحكومة له أيضا، فالتعارض وقع في مقام الشارحيّة، و قد عرفت ممّا تقدّم آنفا اختلال جهة صدوره أيضا.

مع أنّه ربما يقال بمعارضته مع أخبار الغروب أيضا بملاحظة أنّ قوله عليه السّلام فيه بعد السؤال عن وقت المغرب: إذا غاب كرسيّها، معلوم أنّ الضمير فيه يعود إلى الشمس، فلا بدّ إمّا من إرادة نفس الشعاع من الشمس المرجع للضمير توسّعا حتّى يصحّ إضافة الكرسي إليه، و إمّا من إرادة مجموع الشعاع و الجرم، ضرورة أنّ إرادة نفس الجرم يوجب صيرورة إضافة الكرسي غلطا، لعدم صحّتها لا بنحو البيانيّة و لا بنحو اللاميّة، إذ ليس الشي ء كرسيّا بقول مطلق و لا كرسيّا لنفسه.

فمفاد هذا الخبر أنّ المعتبر غيبوبة كرسيّ الشمس، لا غيبوبة نفسها، كما عبّر بها في أخبار الغروب، و لا ذهاب الحمرة كما اشتملت عليه الأخبار الأخر.

ثمّ لا يخفى أنّ كثرة عدد أخبار ذهاب الحمرة بملاحظة ما ورد منها في هذا الباب و بابي الصوم و الإفاضة من عرفات تغني عن تتبّع سندها.

ثمّ قد يجعل من الأخبار الشاهدة على تقيّة الإمام عليه السّلام في أخبار الغروب مكاتبة عبد اللّٰه بن وضّاح المتقدّمة بأحد تقريبين: إمّا حمل كلام السائل على الشبهة الموضوعيّة و أنّ الإمام عليه السّلام إنّما أرجع السائل إلى الانتظار حتّى يذهب الحمرة بصورة الاحتياط و كونه مورثا للجزم بغيبوبة القرص و مخرجا عن الشبهة الموضوعيّة لأجل التقيّة.

و إمّا حمل كلامه على الشبهة الحكميّة و أنّ الإمام عليه السّلام إنّما لم يظهر مذهبه، بل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص:

76

أظهر أنّه لا يدري بالواقع، فيحتاط لذلك لأجل التقيّة، فإنّ الذي يتّقى منه جعل مذهب و تأسيس أساس في قبال العامّة، و أمّا مجرّد أنّه لا يدري فلا تتولّد منه فتنة.

و الحقّ أنّ التقريب الأوّل لا مسرح له في الرواية، فإنّه كيف يمكن حمل الجواب على الشبهة الموضوعيّة مع شدّة تكرار السائل الفقرات الشاهدة بطريق القطع بحصول الاستتار، فأيّ تقيّة يحصل لو قال السائل: هذا الاحتياط لأجل أيّ شي ء، إن كان لأجل احتياط الاستتار، فقد فرضت الجزم بتحقّقه، فما معنى الاحتياط لأجله؟ فلم يبق إلّا لأجل الاحتياط في الحكم، و هو الذي يتّقى منه.

و أمّا التقريب الثاني فالإنصاف عدم كونه مرضيّا، فإنّ الإمام عليه السّلام كان يصلّي عند سقوط القرص، فإن كان أداء التقيّة ممكنا بما ذكر تعيّن أن يصبر و يقول:

إنّي غير عالم بالواقع، و أريد أن أحتاط، مع أنّه لم يعهد في مورد من الموارد صدور التقيّة بإظهار الجهل بالواقع و إرادة الاحتياط.

و إذا انسدّ باب التقيّة للإمام في هذه المكاتبة تعيّن أن نقول: إنّ قوله عليه السّلام:

و تأخذ بالحائطة إلخ ليس كبرى لقوله عليه السّلام: أرى لك أن تنتظر، حتّى يكون المعنى:

الانتظار أراه لك، لأنّه احتياط للدين، بل هو فقرة مستقلّة و حكم مستقلّ، فإنّه بعد أن حكم و أوجب عليه الصبر إلى ذهاب الحمرة أراد أن ينبّهه أنّ الصبر لا بدّ أن لا يكون مثيرا للفتنة، كأن يكون بمشهد منهم بحيث يظهر عندهم أنّ لك مذهبا غير مذهبهم، بل الصبر لا بدّ و أن يكون في غير مشهدهم، أو في مشهدهم لكن لا بعنوان أنّه مذهبه، بل بعنوان أنّه مبتلى بشغل مهمّ و التأخير جائز، فيرى نفسه مشغولا بفعل و

يرى أنّ التأخير لأجل هذا الاشتغال، و إلّا كان هو أيضا مبادرا إلى الصلاة مثلهم، ثمّ إذا حصل الذهاب بادر إليها، فمقصود الإمام عليه السّلام تقيّة السائل، يعني إنّك لا بدّ لك الصبر، و لكن مقرونا بالاحتياط و المحافظة لدينك و مذهبك، لا أنّه عليه السّلام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 77

بصدد التقيّة في إبراز الفتوى بصورة الاحتياط.

ثمّ إنّه حكى الأستاذ دام ظلّه عن صلاة بعض أجلّة العلماء رضوان اللّٰه عليهم أنّه حكى عن جمع من المتقدّمين و كثير من المتأخّرين الذهاب إلى حمل أخبار الذهاب على الاستحباب جمعا بينه و بين أخبار الاستتار، و هو و إن كان متمشّيا في بعض أخبار الذهاب و هو غير المشتمل منها على التفسير و الملازمة بين الأمرين، و لكنّ المشتمل منها على ذلك آب عنه كما هو واضح.

مضافا إلى ما يستفاد من جملة من الأخبار الأخر من أنّ الفضل في صلاة المغرب إنّما هو بتعجيلها في أوّل وقتها و أنّها ليست كالصلوات الأخر موسّعا وقت فضلها، كما هو المستفاد من قولهم عليهم السّلام: وقتها وجوبها، سواء فسّر الوجوب بغروب الشمس أو بوجوب الصلاة، يعني أنّ وقت فضلها وقت وجوبها بلا مهلة.

و لهذا قال في الكافي: المغرب يحصل بذهاب الحمرة إلى ما يسامت الرأس، و الشفق هو الحمرة المغربيّة، و ليس بين هذين الذهابين إلّا قدر ما يصلّى المغرب و نوافلها بتؤدة، و قد تفقّدت ذلك غير مرّة «1»، انتهى. و الحاصل يكاد يحصل القطع بعد ملاحظة النصوص بفساد هذا الجمع.

ثمّ المراد بما في مرسلة ابن أبي عمير من أخبار الذهاب من قوله: «وقت سقوط القرص و وجوب الإفطار من الصيام أن تقوم بحذاء القبلة و تتفقّد

الحمرة التي يرتفع من المشرق، فإذا جازت قمّة الرأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الإفطار و سقط القرص» «2» هو ارتفاع الحمرة من تمام ربع الفلك الشرقي، و إلّا فليس جواز الحمرة من فوق الرأس أمرا محسوسا كما هو واضح، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

______________________________

(1) الكافي 3: 280، باب وقت المغرب و العشاء، ذيل الحديث 9، نقلا بالمعنى.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب المواقيت، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 78

المسألة الخامسة في امتداد وقت العشاءين إلى نصف الليل اختيارا

لا يخفى عليك جريان مثل ما تقدّم من الكلام في الظهرين هاهنا، أعني: في العشاءين في مقام الجمع بين طائفتي الأخبار المحدّدة لوقتها بنصف الليل، مثل مرسلة داود بن فرقد، و المحدّدة لوقت المغرب بربعه أو ثلثه أو زوال الشفق و هو الحمرة المغربيّة.

و مجملة أنّ الأمر دائر بين أحد أمرين: إمّا التزام التقييد في الطائفة الاولى و القول بأنّ امتداد وقتهما إلى الانتصاف إنّما هو للمختار بالنسبة إلى قطعة و للمضطرّ بالنسبة إلى أخرى، و إمّا القول بأنّ أضافه الوقت في الطائفة الثانية إنّما هي بملاحظة المطلوبيّة الاستحبابيّة، و هي إضافة شايعة، فيطلقون أنّ وقت عمل كذا كذا، و يريدون أنّه وقت فضله و استحسانه، و هذا كما ترى أنسب بمقام الجمع، لسلامته عن التقييد المذكور و شيوع الإضافة المذكورة.

و من هنا يفهم الجواب عمّا يقال في مقام ترجيح الأوّل بأنّ هنا طائفة ثالثة مفصّلة بين صاحب العلّة و الحاجة و المسافر و مطلق ذوي الأعذار و بين غيرهم بجعل النصف غاية لوقت الأوّل و زوال الحمرة المغربيّة غاية لوقت الثاني، فإنّك عرفت أنّ هذا الإطلاق أيضا في مقام التأكيد و المبالغة لفضل أوّل الوقت حتّى كأنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)،

ج 1، ص: 79

ليس غيره وقتا إلّا لذوي الأعذار، كما ورد في تأخير صلاة الصبح من أنّه صلاة الصبيان، هذا.

مضافا إلى أنّ المراد بالعلّة و الحاجة في الأخبار المذكورة كما لا يخفى على من راجعها مطلق الحوائج العرفيّة و لو لم يبلغ حدّ الاضطرار الشرعي، و مثله لا يصلح أن يصير مجوّزا لتأخير الواجب عن وقته، فهو أيضا شاهد على التوسعة، و لكنّ الفضل إنّما هو في التعجيل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 80

المسألة السادسة في امتداد وقتهما الاضطراري إلى طلوع الفجر

لا إشكال في أنّ تأخير العشاءين عن نصف الليل عمدا محرّم، فليس ما بعد النصف وقتا اختياريّا قطعا، و لكن هل يكون وقتا اضطراريّا إلى طلوع الفجر بمعنى أنّه لو عرض له عذر عن الصلاة قبل النصف مثل النوم و النسيان و الحيض، أو عصى بالتأخير عمدا إلى النصف، يأتي بهما بعده إلى طلوع الفجر بعنوان الأداء، أو لا يكون كذلك، فلا يجب المبادرة بالإتيان قبل الطلوع، و إنّما هو كسائر الأوقات، فلو بادر يأتي بهما بعنوان القضاء؟ المشهور هو الثاني، و لكن هنا أخبار دالّة على الأوّل.

مثل ما رواه الشيخ قدّس سرّه بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حمّاد بن عيسى عن شعيب، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «إن نام رجل و لم يصلّ صلاة المغرب و العشاء، أو نسي فإن استيقظ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما، و إن خشي أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة، و إن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصلّ الفجر ثمّ المغرب ثمّ العشاء الآخرة قبل طلوع الشمس، فإن خاف أن تطلع الشمس فتفوته إحدى الصلاتين فليصلّ المغرب و يدع العشاء الآخرة حتّى تطلع الشمس و تذهب شعاعها ثمّ

ليصلّها» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 62 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 81

و قريب منه إلى قوله: قبل طلوع الشمس روايتان أخريان رواهما الشيخ أيضا عن الحسين بن سعيد، إحداهما: عن فضالة عن ابن مسكان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام، و الأخرى: عن فضالة عن ابن سنان يعني عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام.

و مثل ما رواه الشيخ أيضا بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن أحمد بن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن عليّ بن يعقوب الهاشمي عن مروان بن مسلم عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام، قال: «لا تفوت الصلاة من أراد الصلاة، لا تفوت صلاة النهار حتّى تغيب الشمس، و لا صلاة الليل حتّى يطلع الفجر، و لا صلاة الفجر حتّى تطلع الشمس» «1». و روى الصدوق نحوه.

و مثل ما ورد في باب الحائض إذا طهرت من الحيض في آخر الليل قبل طلوع الفجر أنّها صلّت المغرب و العشاء، كما أنّها إن طهرت قبل غروب الشمس صلّت الظهر و العصر، و هذه أربع روايات مذكورة في الوسائل في باب الحيض.

إحداها عن عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام، و الثانية عن داود الدجاجي عن أبي جعفر عليهما السّلام، و الثالثة عن عمر بن حنظلة عن الشيخ عليه السّلام، و الرابعة عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «2»، هذه أخبار المسألة.

و أمّا الكلام فيها فمجمله أنّ مقتضى الجمع فيها و بين ما دلّ على انتهاء وقت العشاءين بانتصاف الليل هو القول بأنّ لهما وقتين اختياريّا و اضطراريّا، و الاختياريّ هو الممتدّ إلى النصف،

و يكون الأربع ركعات من آخره مختصّا بالعشاء، و أمّا الاضطراريّ فهو ممّا بعد النصف إلى طلوع الفجر مع اختصاص

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب المواقيت، الحديث 9.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 49 من أبواب الحيض، الأحاديث 7، 10، 11 و 12.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 82

آخره بمقدار أربع ركعات أيضا بالعشاء.

و لا يجري هنا ما تقدّم من وجه الجمع بين أخبار زوال الحمرة و الربع، و بين أخبار النصف من الحمل على الفضيلة و الإجزاء، إذ لا تصريح في هذه الأخبار إلّا بأنّه متى زال العذر من قبيل الحيض أو النوم أو النسيان و هو في آخر الليل قبل طلوع الفجر يجب إتيان العشاءين، و ليس في هذا المضمون إطلاق بالنسبة إلى المختار حتّى نقول بأنّه يجوز من أوّل الليل تأخير الصلاتين عمدا إلى ما قبل الفجر.

نعم قوله في رواية عبيد بن زرارة: لا تفوت صلاة النهار حتّى تغيب الشمس، و لا صلاة الليل حتّى يطلع الفجر، و لا صلاة الفجر حتّى تطلع الشمس «1» ليس فيه ذكر لاسم اليوم و شبهه، و لكنّ التعبير بقوله: لا تفوت، غير التعبير بأنّه وقت، بل إنّما هو كقولنا: ليس بقضاء، و نحن و إن كنّا و هذا التعبير قلنا بأنّه لا إثم في التأخير عن النصف، و لكن يمنعنا عن هذا ما اشتمل من الأخبار على أنّ من نام عن العشاء إلى نصف الليل فالملك يقول: «لا أنام اللّٰه عينه» «2»، و في آخر: «فليقض صلاته فليستغفر اللّٰه» «3»، و في ثالث: «يصلّيها و يصبح صائما» «4»، و في رابع مرسل:

«يقضي و يصبح صائما عقوبة» «5».

و أيضا ما في مرسلة داود بن

فرقد من اختصاص مقدار أربع ركعات قبل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب المواقيت، الحديث 9.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب المواقيت، الحديث 5.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب المواقيت، الحديث 8.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب المواقيت، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 83

النصف بالعشاء لا يناسب كونه وقت الفضيلة، فيتعيّن الجمع بما ذكرنا.

و لا ينافيه قوله: يقضي، في روايتين، لأنّه لا ظهور في لفظ القضاء في لسان الأخبار في ما هو المصطلح الآن، بل الظاهر منه هو الأداء و الإتيان، هذا.

ثمّ هذا كلّه في المضطرّ الغير الاختياري، و أمّا من أخّر الصلاة عمدا عصيانا حتّى بلغ النصف فهل يمكن استفادة الحكم الأدائيّة المذكورة بالنسبة إليه أيضا؟

فنقول: يمكن من وجهين:

أحدهما: إطلاق رواية عبيد، و الآخر: روايات الحائض، بضميمة ما دلّ على أنّ الحائض متى طهرت في وقت الصلاة و هي قادرة على الغسل ففرّطت حتّى خرج الوقت كان عليها القضاء، و إن قامت في تهيئة ذلك فجاز الوقت فليس عليها قضاء.

و الحاصل منها قضيّتان: الاولى: أنّ الحائض متى طهرت في الوقت كان عليها الأداء، و إن عصت فالقضاء، و الثانية: أنّها متى طهرت بعد مضيّه فلا قضاء عليها.

و من المعلوم أنّ المراد بقوله عليه السّلام: متى طهرت في وقت الصلاة هو الوقت المجعول لعامّة الناس المصلّين، لا المجعول لخصوص الحائض عند ارتفاع حيضها، فيصير المحصّل بعد هذه الضميمة أنّ الحائض متى طهرت في وقت صلاة الناس المصلّين كان عليها أداء الصلاة، و إلّا فلا.

ثمّ يضمّ هذا إلى قوله في أخبار الباب الواردة في الحائض: إذا

طهرت المرأة قبل طلوع الفجر صلّت المغرب و العشاء، فيستفاد من مجموعهما أنّ هذا وقت لعامّة الناس، إذ لو كان مخصوصا بالحائض المرتفع حيضها لكان اللازم تخصيص الخبر المتقدّم الدالّ على أنّها لو طهرت بعد خروج وقت سائر الناس لا يجب عليها الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 84

لا أداء و لا قضاء.

و بالجملة، ما ذكرنا جمع مقبول عرفي لا تصل معه النوبة إلى الحمل على التقيّة و لو فرض مطابقة مضمونها مع الفقهاء الأربعة.

نعم لو كان السند في جميع هذه الأخبار مخدوشا أو لم يكن السند مخدوشا و لكن تحقّق إعراض الأصحاب أو جلّهم عن العمل بها كان هو مطلبا آخر، أمّا الأوّل فبعض الأخبار المذكورة معتبر السند، كما يعلم بالمراجعة، و أمّا الثاني فمحتمل، و لهذا يكون الأحوط عدم تعرّض الأداء و القضاء بعد نصف الليل، خصوصا بالنسبة إلى العامد في تأخيره.

ثمّ إنّ الكلام في العشاءين من حيث اختصاص أوّل الوقت بالمغرب و آخره بالعشاء أو اشتراك تمام الوقت بينهما هو ما تقدّم في الظهرين حرفا بحرف، فلا يحتاج إلى الإعادة، و قد عرفت تقوية الاختصاص هناك و أنّه بالنسبة إلى حال اشتغال الذمّة بالشريكة، و أمّا مع فراغها عنها فعموم أدلّة الاشتراك سليم عن التخصيص.

مضافا إلى استفادة ذلك من قوله عليه السّلام: إلّا أنّ هذه قبل هذه، و قد تقدّم وجه الاستفادة، كما أنّك عرفت أنّ مقدار وقت الاختصاص يتفاوت على حسب اختلاف أحوال المكلّف في وجدان الشرائط و عدمها و غير ذلك و أنّ الاختصاص إنّما هو بالإضافة إلى الشريكة دون قضاء صلاة آخر، فلا مانع من إتيان قضاء في هذا الوقت و إن عصى بترك صاحبة الوقت و هو

من صغريات مسألة الضدّ.

و أمّا قضاء الشريكة فقد تقدّم أنّه ليس في الأخبار ما ينفيه غير رواية الحلبي المشتمل على أنّه «إن خاف فوت إحدى الصلاتين فليبدأ بالعصر و لا يؤخّرها فتفوته، فيكون قد فاتتاه جميعا» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 18.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 85

فإنّ مقتضاه أنّه لو أخّر العصر كان الصلاتان فائتتين، و إطلاق وجود الفائتة لا يصحّ بعد التدارك، فلا يقال في من كان عليه فوائت و قضاها: إنّ عليه فوائت، فهنا لو كان صلاة الظهر عند تقديمها في وقت اختصاص العصر واقعة قضاء لما صحّ أن يقال: إنّ هذا الشخص يكون بعد هذه الصلاة عليه فائتتان إحداهما الظهر، و الأخرى العصر، فإطلاق ذلك شاهد على بطلان الظهر المذكور قضاء أيضا.

ثمّ إنّ وقت صلاة الصبح ليس فيه بحسب الأدلّة إشكال يحتاج إلى التكلّم و البحث، فالأولى الصفح عنه و الاشتغال بما هو أهمّ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 86

المسألة السابعة في بيان قاعدة «من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت كلّه»

فنقول و على اللّٰه التكلان و منه المستعان في كلّ آن: إنّ هنا فروعا فرّعها الأصحاب على القاعدة المذكورة، و ظاهرهم الإجماع على تلك الفروع.

منها: أنّه لو بقي إلى الغروب بمقدار خمس ركعات يجب أداء الظهرين معا في الحضر، و في السفر لو بقي مقدار ثلاث ركعات فكذلك، و لو بقي مقدار خمس ركعات إلى نصف الليل وجب إتيان العشاءين في الحضر، و في السفر لو بقي مقدار أربع ركعات فكذلك، و هكذا لو بقي إلى طلوع الشمس مقدار ركعة وجب أداء الصبح.

و العمدة التكلّم في مدرك القاعدة من الأخبار و النظر في مقدار دلالتها، فاعلم أنّ أخبار الباب أربعة:

أحدها: ما رواه الشيخ قدّس سرّه بإسناده

عن سعد بن عبد اللّٰه، عن أحمد بن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن عمرو بن سعيد، عن مصدّق بن صدقة، عن عمّار ابن موسى، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث «قال: فإن صلّى ركعة من الغداة ثمّ طلعت الشمس فليتمّ و قد جازت صلاته» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 87

و الثاني: ما رواه أيضا بالسند المتّصل إلى أصبغ بن نباتة قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامّة» «1».

و الثالث: ما روي عن عليّ عليه السّلام: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» «2».

و الرابع: ما روي عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله أنّه «قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» «3».

و هذان الأخيران لم يعثر عليهما في طرق الخاصّة، و لكن يجبر ضعفهما بالعمل، حيث إنّ الأصحاب أفتوا بمضمونهما على وجه يعلم استنادهم إليهما.

إذا عرفت ذلك فنقول: لو كنّا نحن و الأخبار الثلاثة الأول أمكن أن نحملها على الإرشاد إلى مطلب فهمناه من دليلي الأداء و القضاء من أنّ الملفّق من داخل الوقت و خارجه لا يقصر عن الممحّض من خارج الوقت و إن كان خارجا عن المفاد اللفظي لكلّ من الدليلين، نظير الآنية المصوغة من الذهب و الفضّة المختلطين، فإنّها و إن لم يصدق عليها شي ء من عنواني آنية الذهب و الفضّة، إلّا أنّه يمكن القطع بأنّها لا يقصر عن الخالص من أحدهما في حكم الحرمة.

و بالجملة، فالمقصود من الأخبار أنّه يمكن الاجتزاء بهذه الصلاة التي وقعت ركعة منها في الوقت،

و لا يتوهّم لزوم الصبر إلى انقضاء الوقت حتّى يكون تمامها في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب المواقيت، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب المواقيت، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب المواقيت، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 88

خارج الوقت، و على هذا لا يستفاد من الروايات وقت الاضطراري أو تنزيل خارج الوقت بمنزلة الوقت.

و أمّا وجه التخصيص بالركعة مع مجي ء ما فهمناه في نصف الركعة و أقلّ من النصف أيضا فيمكن أن يكون كراهة مقارنة الصلاة لذينك الوقتين أعني: الطلوع و الغروب، فجعل الشارع ما إذا كان المدرك بمقدار الركعة مغتفرا، و أبقى الباقي على الكراهة.

و لكن هذا المعنى في النبوي بعيد، إذ الظاهر منه تنزيل مدرك الركعة منزلة مدرك الصلاة، لكن هو أيضا ذو احتمالين آخرين غير ما فهمه الأصحاب.

أحدهما: أن يكون ناظرا إلى فضيلة الجماعة، بمعنى أنّ أدنى ما يدرك به فضل صلاة الجماعة إدراك ركعة مع الإمام.

و الثاني: أن يكون المراد الاجتزاء بالصلاة التي يؤتى بها بظنّ سعة الوقت، ثمّ ينكشف أنّه إنّما أدرك ركعة منها في الوقت، فلا يكون وقتا بالنسبة إلى العامد، و ذلك بقرينة قوله عليه السّلام: «أدرك» بصيغة الماضي، فيكون نظير من شرع في الصلاة بظنّ دخول الوقت، حيث يجزيه لو وقع جزء من صلاته في الوقت، و لكنّه ليس وقتا للعالم العامد، و هذا الاحتمال يجري أيضا في الثلاثة الأول.

و لكن يمكن دفع هذين الاحتمالين:

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر من لفظ الصلاة هو الصلاة بجعلها الأوّلي، لا بما يطرأ عليه من العنوان الثانوي، أعني الجماعة.

و أمّا الثاني: فلأنّ الماضي في أمثال هذا التركيب يفيد معنى المضارع، فيشمل

العامد و غيره.

فيصير المحصّل من الرواية أنّ من أدرك من الوقت بمقدار ركعة فهو كمن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 89

أدرك جميع الصلاة في الوقت، فيجب عليه المبادرة إلى الإتيان، و لا يعامل معه معاملة القضاء، و أمّا أنّ الثلاث ركعات الواقعة في خارج الوقت واقعة حقيقة في الخارج و لكنّها بحكم الداخل، أو أنّه وقت لهما اضطرارا مثل ما بعد نصف الليل بالنسبة إلى العشاءين كلّ محتمل و إن كان ربما يستظهر الأوّل من العبارة، لأنّه قال:

كمن أدرك الجميع، فهو بالتنزيل أشبه.

و على كلّ حال يبقى في المقام إشكال، و هو أنّ غاية ما يستفاد من الرواية كما عرفت أحد الأمرين من جعل الوقت الاضطراري، أو التنزيل منزلة الوقت، و هذا بمجرّده إنّما ينفع إذا لم يصادف الوقت المختصّ المضيّق لصلاة أخرى، كما في صلوات الصبح و العصر و العشاء، و أمّا الظهر و المغرب فمجرّد جعل ركعة منهما في وقتهما منزلة إدراك تمامهما في الوقت لا يقتضي حيازة الوقت المختصّ بالعصر و العشاء الذي قد دلّ الدليل على اختصاص أربع ركعات من آخر الوقت بهما بجميع أجزائها بحيث لا يجوز صرف جزء منها في شريكتهما.

و بعبارة أخرى: الأربع ركعات من آخر الوقت وقت تحقيقي اختياري للعصر و العشاء و ثلاثة أو اثنان منها وقت تنزيلي أو اضطراري للظهر و المغرب، فكيف يحكم بتقديم التنزيلي على التحقيقي أو الاضطراري على الاختياري، فإنّه إذا بقي مقدار خمس ركعات فتوجّه التكليف بالظهر أو المغرب مستلزم لتفويت ثلاث ركعات من أربع العصر و ركعتين من أربع العشاء.

نعم، لو قيل بأنّ التنزيل منزلة الأربع ركعات في وقت الظهر و المغرب ناظر إلى جميع الجهات حتّى جهة عدم

مزاحمة العصر و العشاء كان بلا إشكال، لكن دون إثبات هذا المعنى خرط القتاد.

كما أنّه لو كان مصبّ الدليل خصوص صورة بقاء الخمس ركعات إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 90

الغروب أو إلى النصف أو إلى الفجر كان اللازم صونا للكلام عن اللغويّة هو الالتزام بذلك أيضا، و لكن مصبّ الكلام غير منحصر فيه، و حينئذ ليس المستفاد إلّا أحد المطلبين المتقدّمين من التنزيل أو جعل الوقت الاضطراري، و كلّ منهما كان ساكتا عن مقام المزاحمة مع الواجب المضيّق، و ترجيح أيّ المضيّقين على الآخر.

و الذي أفاده شيخنا الأستاذ أدام اللّٰه علينا و على جميع المحصّلين فيوض أنفاسه القدسيّة أنّ الإشكال إنّما يتوجّه لو احتسبنا كلّا من الصلاتين مستقلّا في مقام إجراء قاعدة من أدرك، فإنّه يقال: إنّ العصر غير مصداق الآن، لأنّ المفروض بقاء خمس ركعات إلى الغروب، و الظهر أيضا فيه الإشكال المتقدّم.

و أمّا إذا لاحظناهما مجتمعين و أوردنا عليهما القاعدة المذكورة، فكما أنّه إذا كان المطلوب للشارع وحدانيّا بهذه الكيفيّة أعني: ثمان ركعات مقيّدة بعدم تجاوز أربع منها عن حدّ الأربع و عدم تجاوز الأربع الأخيرة عن الغروب، ثمّ ورد أنّ من أدرك ركعة فهو كمن أدرك الكلّ كنّا بلا إشكال في صورة إدراك الخمس مصداقا لهذه الكلّية، لأنّا بالنسبة إلى كلّ من الحدّين لا ندرك إلّا ركعة واحدة، فيجري علينا حكم الكلّية.

كذلك الحال بعينه إذا كان الثمان ركعات بالكيفيّة المذكورة مطلوبين للشارع بطلبين مستقلّين، فإنّه أيضا عند عدم بقاء الوقت إلّا مقدار الخمس يصدق علينا أنّا لا ندرك من الصلاة المجعولة الإلهيّة بالكيفيّة التي طلبها الشارع منّا إلّا ركعة في الحدّ الذي جعله الشارع.

و إن شئت توضيح المقام بالمثال فافرض

أنّ المولى أمرك بأمرين مستقلّين بإعطاء كلّ من الزيد و العمرو عشرة دراهم، و إن لم تتمكّن فبقدر الميسور، ثمّ كان الموجود عندك عشرة دراهم فقط، فإنّ العرف حينئذ يحكم بأنّ اللازم دفع العشرة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 91

المذكورة إليهما و أنّك لا تقدر على دفع العشرة إلى هذا و العشرة إلى ذاك، فلا بدّ أن تدفع بقدر الميسور، و لا يجوز تخصيص أحدهما بتمام العشرة.

و لا فرق عندهم بين أداء ذلك بكلام واحد كأن يقول: أعط كلّا من الرجلين عشرا، و إن لم تقدر عليه فأعطهما بقدر ميسورك، أو قال ذلك بكلامين مستقلّين، كأن يقول: أعط زيدا عشرا، و إن لم تستطع فبقدر الاستطاعة، ثمّ يقول في مجلس آخر: أعط عمرا عشرا و إن لم تستطع فبقدر الوسع، فإنّ الفرض الأخير أيضا عند العرف في حكم الفرض الأوّل.

و حينئذ نقول في مقام التطبيق على المقام: إنّ الشارع قال لنا: ائت ثمان ركعات قبل الغروب بحيث لم يتجاوز الركعة الرابعة عن حدّها إلى الخامسة، و لم يتجاوز الثامنة إلى الغروب، فإن لم تستطع على محافظة هذه الكيفيّة و أمكنك محافظة الحدّين بمقدار الركعة الواحدة فهو الواجب عليك، غاية ما في الباب أنّ الشارع لم يقل ذلك في كلام واحد، و إنّما فرّقه في ثلاث كلامات.

الأوّل: قال: صلّ الظهر أربع ركعات بحيث لم يتجاوز ركعته الرابعة إلى حدّ الأربع الأخيرة.

و الثاني: قال: صلّ العصر في الأربع الأخيرة بحيث لم يتجاوز إلى الغروب.

و الثالث: كلّما لم تدرك من الصلاة بحسب موظّفها و مقرّرها الشرعي إلّا مقدار ركعة فعليك بمحافظة الموظّف بهذا القدر، و لا شكّ حينئذ أيضا في أنّه إذا صار الوقت مضيّقا على المكلّف

بمقدار خمس ركعات صدق عليه أنّ الشارع وظّف و قرّر في حقّه الثمان بالحدّين، و هو لا يقدر على أداء هذا الموظّف بحدّيه إلّا بمقدار ركعة من كلّ من الحدّين، و الظاهر عرفيّة هذا المعنى، فلا يحتاج إلى الإطالة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 92

المسألة الثامنة في بيان موضوع قاعدة من أدرك

هل المعيار في القاعدة المتقدّمة هو إدراك الركعة بحسب الحال التي عليها المكلّف مع قطع النظر عن هذه القاعدة و جعلها في حقّه، فإن كان موضوعا مع قطع النظر عنها للتيمّم اعتبر إدراك الركعة معه، و إن كان موضوعا كذلك للوضوء أو الغسل اعتبر إدراكها مع أحد الأمرين، فلا يكفي إدراكها مع التيمّم للانتقال إلى التيمّم، بل يحكم بفوت صلاته و صيرورتها قضاء، و هكذا الحال بالنسبة إلى سائر الشرائط من الستر و غيره؟

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 92

قد يقال بالثاني، نظرا إلى لزوم الدور لو قيل بالانتقال إلى التيمّم أو الإبدال الاضطراريّة لسائر الشرائط ببركة هذه القاعدة المفروض توقّف موضوعها أيضا على جعل التيمّم و سائر الإبدال في هذا الحال.

و لكن يمكن دفعه بأنّ الدليل في هذه القاعدة و في جعل الأبدال للشرائط حيثي ليس كلّ منها ناظرا إلى الآخر، فدليل القاعدة متكفّل لإصلاح جهة الوقت من غير نظر إلى سائر الجهات، و دليل جعل الأبدال للشرائط متكفّل لجهة تلك الشرائط من غير نظر إلى غيرها، فالمتألّف من المجموع يكون مشمولا للأدلّة، لكن لا بهيئته المجموعيّة، بل بطريق التفرقة و النظر إلى كلّ جهة منه على حدة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 93

عن جهته الأخرى.

فإذا فرضنا أنّ المكلّف لو توضّأ لا يدرك خمسا، و لكن لو تيمّم يدرك

خمسا، فدليل من أدرك من حيث الوقت يجعل له الوقت، و دليل جعل التيمّم الدالّ على أنّه متى دار الأمر بين رعاية الطهارة المائيّة و بين رعاية الوقت فالثاني أولى و يتعيّن التيمّم، يجعل له التيمّم، فيحكم بصحّة صلاته بمجموع الدليلين، و كذا الحال بالنسبة إلى سائر الشرائط.

و استشكل فيه شيخنا الأستاذ أطال اللّٰه بقاه بأنّه إنّما يصحّ هذا فيما إذا جعل الوقت زمانا محدودا مثل عشر دقائق قبل الغروب، إذ حينئذ أمكن أن يقال: إنّ كلّا من دليلي التيمّم و سائر الأبدال و دليل جعل الوقت غير ناظر إلى الوقت، فإذا خيف من فوت العشر دقائق بواسطة تحصيل الطهارة المائيّة أو اللباس الطاهر أو قطع بالفوت بتحصيل ذلك يقال بسقوط الشرطين و الانتقال إلى التيمّم أو الصلاة مع اللباس النجس.

و أمّا إذا لم يكن في البين إلّا عنوان إدراك ركعة من الصلاة فلا محالة هذا يختلف باختلاف أحوال الأشخاص مع قطع النظر عن هذا الدليل، إذ من المعلوم أن ليس المراد ركعة خالية عن كلّ الشرائط و لو كان فاقد الطهورين، بحيث لا يسع الوقت إلّا لركعة بدون شي ء منهما، بل المراد هو الركعة من الصلاة الصحيحة الجامعة للشرائط، و الصحّة و الاستجماع للشرائط لا بدّ من ملاحظتهما بحسب الحال الفعليّة مع قطع النظر عمّا يتولّد من قبل قاعدة من أدرك، إذ لو كان الملحوظ الصحّة و لو بالنظر إلى الشرط المتولّد منها لزم أن يكون النظر في القاعدة إلى ما يتولّد من نفسها و يتأخّر عنها.

فالظاهر أنّ المراد أنّ كلّ مكلّف بحسب تكليفه الفعلي في صلاته من تحصيل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 94

الشرائط الاختياريّة أو الاكتفاء بأبدالها إذا أدرك من الصلاة

المشروعة في حقّه ركعة فهو مكلّف بالمبادرة إلى تلك الصلاة، فإذا فرضنا أنّه صحيح البدن ليس فيه علّة يضرّ به الماء و يكون الماء حاضرا عنده، و لكن ليس الوقت واسعا بقدر الوضوء و الركعة، و كذا لو كان لباسه نجسا و كان تحصيل الثوب الطاهر محتاجا إلى صرف مقدار من الوقت لا يسع معه لإدراك الركعة فهو غير مدرك لركعة من صلاته المشروعة في حقّه.

إن قلت: هذا الكلام يجري بالنسبة إلى ما إذا كان الوقت قبل الغروب بمقدار ثمان ركعات مع التيمّم لا مع الوضوء فلا بدّ أن يقولون بلزوم الوضوء عليه و إن لزم منه دخول بعض الظهر في وقت اختصاص العصر و بعض العصر في ما بعد الغروب، و أنتم لا تلتزمون، بل توجبون عليه في هذا الفرض التيمّم، و لا نعلم بينه و بين مقامنا فرقا، فإنّ الدليل الدالّ على تحديد وقت اختصاص العصر أيضا حدّده بأربع ركعات بحسب حال المكلّف، كما أنّ دليل المقام حدّده بالركعة بحسب حاله على ما قلتم.

قلت: الفارق بين المقامين أنّ الوقت بحسب الذات لو لا أنّ هذه قبل هذه صالح لكلتا الصلاتين، فالوقت المجعول الأصلي للصلاتين إنّما هو من الزوال إلى الغروب، إلّا أنّه بملاحظة الظهر للعصر خصّ مقدار من آخر الوقت بالعصر، فإذا كان الوقت قبل الغروب بمقدار عشر دقائق مثلا و خفنا أنّه لو توضّأنا ما أدركنا كلتا الصلاتين قبل الغروب صدق في حقّنا بالنسبة إلى كلتا الصلاتين أنّا نخاف من فوت الوقت الذاتي المجعول لهذين العملين شرعا، و الدليل قام على أنّه متى خيف من فوت الوقت بواسطة الوضوء وجب التيمّم.

و الحاصل أنّه إن قلنا هناك باشتراك الوقت إلى الغروب فالأمر واضح،

و إن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 95

قلنا باختصاص مقدار العصر من الآخر بالعصر فالوقت إلى الغروب صالح بحسب الذات لكلتا الصلاتين، كما مرّ تقريبه في محلّه، و بهذه الملاحظة يصدق خوف فوت الوقت، أو يقطع به في الفرض الذي ذكرت.

و هذا بخلاف ما نحن فيه، حيث لم يجعل مقدار معيّن لا ذاتا و لا فعلا وقتا اضطراريّا، بل إنّما جعل الضابط إدراك الركعة من الصلاة، و بعد معلوميّة إرادة الصلاة الصحيحة فلا محالة يكون ناظرا إلى أدلّة الشرائط، و من المعلوم أنّا لو أردنا تصحيح التيمّم لا بدّ أوّلا من جعل الوقت في حقّه حتّى يتحقّق في حقّه موضوع خوف فوت الوقت حتّى يشمله دليل التيمّم، و جعل الوقت يكون ببركة هذا الضابط، فكيف يكون ناظرا إلى ما يحصل ببركته؟

ثمّ هذا كلّه في صورة ارتفاع العذر في آخر الوقت أو التأخير العصياني، و هذا بخلاف ما لو حدث أحد الأعذار من الحيض و الجنون و الإغماء و نحوها في أوّل الوقت كما هو المسألة الآتية، و فرض العلم بساعة حدوثه و تأخّره عن أوّل الزوال و أنّه غير واسع للصلاة التامّة مع تمام الشرائط الاختياريّة، و واسع لها بدون تلك الشرائط، فإنّه يمكن أن يقال بجعل الأبدال الاضطراريّة من التيمّم و الصلاة مع النجس أو عاريا في حقّه، كما هو أحد الوجوه الآتية في المسألة الآتية، فإنّ الوقت مجعول من الزوال إلى طروّ العذر و هي دقائق مضبوطة معيّنة، فيصدق في حقّه فوت هذا الوقت المعيّن لو صار بصدد تحصيل الستر أو الساتر الطاهر، أو الماء أو الوضوء، فيكون موضوعا لدليل جعل البدل، و على هذا فيجب عليه الأداء، و مع عدمه يجب

القضاء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 96

المسألة التاسعة في حكم ذوي الأعذار عند طروّ العذر في أوّل الوقت أو أثنائه

إذا حصل للمكلّف أحد الأعذار المانعة عن التكليف بالصلاة كالجنون و الحيض و الإغماء و قد مضى من الوقت بمقدار فعل الصلاة مع الشرائط المعتبرة بحسب حاله و لم يصلّ وجب عليه القضاء بلا إشكال، لعموم أدلّة القضاء.

و أمّا إذا لم يكن زمان الفراغ من المانع متّسعا لأداء الصلاة كذلك فقد يتمكّن من أداء الصلاة مع إسقاط بعض الشرائط أو تمامها، و قد لا يتمكّن من ذلك أيضا، فهل يجب عليه القضاء مطلقا، أو لا مطلقا، أو يفصل بين الصورتين؟

توضيح المقام يبتني على تقديم مقدّمة و هي أنّ الفوت المعلّق عليه القضاء يختلف صدقه باختلاف اعتبار القيود في مادّة المطلوب شرعا أو إطلاق المادّة بالنسبة إليها و اعتبارها بحسب العقل، مثلا عدم النوم و الغفلة و النسيان قيد في التكليف الفعلي بحسب العقل، إذ لا يحسن مع وجود أحدها توجيه الخطاب عقلا.

و أمّا شرعا فربما كان المادّة مطلقة بالنسبة إلى وجود ذلك و عدمه، ففقدان المطلوب بواسطة فقدان الشرط العقلي يسمّى فوتا عرفا، بمعنى أنّهم يقولون: قد فات المطلوب الذاتي عن النائم و الغافل و الساهي، و هذا بخلاف فقدانه من قبل فقدان الشروط التي اعتبرها الشارع في الطلب لا في المطلوب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 97

مثلا عدم إعطاء الكفّارة بواسطة عدم إيجاد شرطه الذي علّق وجوبها شرعا عليه و هو الإفطار مثلا لا يسمّى فوتا، فلا يقال: قد فات من الصائم واجب شرعي و هو الكفّارة.

و الحاصل أنّ الفوت المطلوب لا يصدق بفوت ما كان قيدا للطلب شرعا، و يصدق بفوت ما كان قيدا له عقلا، لا شرعا، فإنّ فقدان الشي ء بسبب فقدان شرط طلبه لا

يسمّى فوتا، فإذا قال المولى: أكرم زيدا إن جاءك، فعدم الإكرام بعدم المجي ء ليس فوتا للمحبوب، و أمّا فقدانه بعد حصول شرط طلبه و إن كان لفقد شرطه العقلي فهو فوت، كما إذا ترك الإكرام بعد المجي ء لأجل عدم القدرة أو عصيانا، فليس الفوت دائرا مدار الطلب الفعلي، كيف و العاجز ليس مكلّفا و مطلوبا منه الفعل طلبا فعليّا، و مع ذلك يصدق أنّه قد فات منه محبوب المولى كالصلاة، و القضاء تابع لصدق هذا العنوان.

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في اشتراط طلب الصلاة بدخول الوقت، ففقدانها بواسطة انتفاء هذه المقدّمة ليس فوتا، و لا إشكال أيضا في أنّ الطهارة من حدث الحيض مثلا يكون كالوقت شرطا للطلب لا للمطلوب، لكن هنا ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أن يكون الشرط هو الطهارة في جزء من الوقت و لو لم يسع لفعل الصلاة خالية عن تحصيل الشرائط من الستر و الطهارة في البدن و اللباس و الغسل و الوضوء و التيمّم، فلو طهرت المرأة بعد الوقت بهذا القدر كان المطلوب و المحبوب في حقّه حاصلا، فإن أمكنها و لو بعلاج و شرب دواء تأخير حدوث الحيض إلى أن تأتي بالصلاة وجب عليها ذلك، و إن كان الحيض يفاجئها من غير اقتدار منها على دفعه و تأخيره كانت معذورة، لعجزها عن إتيان المطلوب، فبقاء الطهارة على هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 98

شرط المطلوب، و حدوثها شرط للطلب.

الثاني: أن يكون الشرط هو الطهارة في جزء يسع الصلاة مع تحصيل كلّ شرط غير حاصل، فلو وسع الطهارة الترابيّة و الصلاة مع النجس أو عاريا فلا أداء و لا قضاء.

الثالث: أن يكون الشرط هو الطهارة في جزء يسع الصلاة و

الشرائط المطلقة، فلو قدرت على التيمّم و الصلاة بدون الساتر أو مع النجس يجب الأداء، و على تقدير عدم فعله فالقضاء.

و نحن نذكر فروع المبنى الأوّل، و يظهر منه الحال على المبنيين الأخيرين.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: لو بنينا على الأوّل و قلنا: إنّه إذا حصل الطهارة بعد الوقت و لو لم يسع الفعل فضلا عن مقدّماته كفى في حصول المطلوبيّة، فاللازم حينئذ هو ما اختاره كاشف اللثام على ما نقله عنه شيخنا المرتضى قدّس سرّه في مبحث الحيض من طهارته، و هو أنّ مقتضى القاعدة هو الحكم على المرأة المذكورة بلزوم المبادرة إلى الصلاة بتمام شرائطها الاختياريّة إن أمكنها ذلك، و إلّا فاللازم المبادرة إلى الصلاة بدون سائر الشرائط من غير طهارة و الاكتفاء من الطهارة بالترابيّة.

و الفرق أنّ سائر الشروط تسقط عند العجز عن تحصيلها و أمّا الطهارة فهي و إن كانت تسقط بمرتبتها المائيّة، و لكن بمرتبتها الترابيّة لا تسقط، فالفاقد للطهورين غير مكلّف بالصلاة.

و بالجملة، فإن لم تبادر في الصورتين إلى الأداء حتّى خرج الوقت فقد صدق في حقّها الفوت، فيجب عليها القضاء.

فإن قلت: ما وجه مشروعيّة التيمّم لأجل ضيق الوقت؟

قلت: مضافا إلى ما ورد في ضيق الوقت عن تحصيل الماء بالطلب من الأمر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 99

به يمكن استفادته من قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا .. «1» بعد تفسيره في الأخبار بأن لم تتمكّنوا من استعماله، و كذلك من قوله عليه السّلام: «التراب أحد الطهورين» «2» فإنّ عموم المنزلة شامل للمقام.

و على كلّ حال فإن لم يمكنها الصلاة مع التيمّم أيضا فهي معذورة في ترك الأداء، و لكن يجب عليها القضاء، كما هو الحال في النائم،

هذا مقتضى القاعدة في طرف أوّل الوقت، و كذا الحال في جانب آخره.

لكن عارضنا النصّ في جانب آخر الوقت، حيث خصّ وجوب الأداء و القضاء في روايتي عبيد بن زرارة و الحلبي بإدراك مقدار الصلاة مع تمام شرائطها الاختياريّة، فراجع.

ثمّ بهذا فقط لا يتمّ مرام كاشف اللثام، بل مع ضمّ مطلب آخر نبّه عليه شيخنا المرتضى قدّس سرّه و إن كان هو قدّس سرّه فرّع عليه ما لا نسلّمه، و ذلك المطلب أنّ المستفاد من أدلّة عدم قضاء فوائت الحائض أنّ كلّ فوت صلاة استند إلى الحيض فالشارع أسقط قضاءه عن الحائض، و بهذا المطلب يتمّ اعتبار سعة الوقت في جانب الأوّل بمقدار التيمّم، فإنّه إذا لم يسع ذلك أيضا كان الفوت لأجل الحيض، و أمّا مع سعته له كان الفوت إمّا للجهل بطروّ المانع، أو لأجل الإهمال.

و أمّا ما فرّعه شيخنا المرتضى قدّس سرّه على هذا المطلب و لم يرتضه شيخنا الأستاذ دام ظلّه فهو عدم وجوب القضاء في صورة إدراك الصلاة مع التيمّم و إسقاط سائر

______________________________

(1) النساء: 43، و المائدة: 6.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 21 من أبواب التيمّم، الحديث 1، و فيه: فإنّ التيمّم أحد الطهورين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 100

الشرائط الاختياريّة و قال بأنّا و إن قلنا بوجوب الأداء حينئذ، لكن لا يلزم منه وجوب القضاء لو تركه.

قال قدّس سرّه: لأنّ الواجب مع فوت الفعل الاضطراري تدارك الفعل الاختياري الذي فات من غير بدل، لا تدارك بدله الاضطراري الذي أمر به فعلا، فإذا فرض استناد فوت الاختياري إلى الحيض مع كون المفروض عدم وجوب تدارك ما فات لأجل الحيض فلا مقتضى آخر للقضاء، انتهى كلامه، رفع في الخلد مقامه.

و

لكنّك خبير بأنّ الصلاة حقيقة واحدة و إن اختلف مصاديقها بحسب اختلاف الأحوال، فالفائت هو حقيقة الصلاة و إن كان تكليفه فعلا عند التكليف بالأداء هو الصلاة مع التيمّم أو مع النجس أو عاريا أو نحو ذلك من أحوال الاضطرار، فيكون مكلّفا بالقضاء و إن كان تكليفه حين القضاء هو الصلاة مع الوضوء أو الغسل و مع سائر الشرائط الاختياريّة.

و بالجملة، فمن كان تكليفه الصلاة مستلقيا مثلا لم يفت منه حقيقة الصلاة، و إذا تركها فقد فاتت منه الصلاة، لا أنّه فات منه الصلاة قائما و لم يأت ببدلها أيضا، فالقضاء متوجّه إليه لأجل فوت الفرد الاختياري من الصلاة، بل فوت الصلاة منه بمعنى فوت فردها الذي وجب في حقّه و هو مخاطب به، كالمسافر و الحاضر، فلا وجه لجعل الفائت في حقّ المضطرّ ما هو المطلوب في حقّ المختار، بل فائت كلّ منهما عند الترك هو الصلاة بفردها المجعول في حقّه.

و إذن ففي مقامنا لم تفت الصلاة من الحائض من جهة الحيض، بل من جهة مسامحتها و تقصيرها و إن كان الفرد الاختياريّ فات منها لأجل الحيض، لكنّ المعتبر هو فوت الصلاة المشروعة في حال الفوت، كما أنّ المعتبر في القضاء هو حال الإتيان به دون حال الفوت، فإن كان حال الفوت فاقد الماء و كان تكليفه الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 101

مع التيمّم ثمّ صار حال القضاء واجدا للماء فيجب عليه القضاء مع الطهارة المائيّة.

و صار حاصل المقام أنّه بعد ضمّ المطلب المذكور أعني سقوط قضاء كلّ فائتة استند فوتها إلى الحيض إلى المبنى المتقدّم أعني كون الشرط طلب الصلاة في حقّ الحائض هو الطهارة في جزء من الوقت مطلقا، و

لو لم يسع فعل الصلاة يكون مرام كاشف اللثام مطابقا للقاعدة.

لكن هنا مطلب آخر و هو أنّ موثّقة يونس بن يعقوب و رواية ابن الحجّاج الواردة أولاهما في المرأة التي دخل عليها الوقت و هي طاهرة فأخّرت الصلاة حتّى حاضت فأجاب بقوله عليه السّلام: «يقضي إذا طهرت» «1». و ثانيتهما: عن المرأة تطمث بعد ما تزول الشمس و لم تصلّ الظهر، هل عليها قضاء تلك الصلاة؟ «قال عليه السّلام:

نعم» «2»، يدلّان على أنّ الاعتبار بالصلاة المشروعة في حقّ المرأة بحسب حالها مع قطع النظر عن هذا الضيق العارضي لأجل عروض المانع، فإن كان تكليفها الصلاة مع الطهارة المائيّة و الطهارة الخبثيّة في البدن و اللباس فالمعتبر سعة الوقت لجميع ذلك، و ذلك لأنّه المفهوم من قول السائل في الأولى: فأخّرت الصلاة حتّى حاضت.

و من المعلوم أنّ مراده الصلاة التي تصلّيها بحسب طبعها في كلّ يوم، فيكون الكلام في قوّة أنّه إن دخل عليها الوقت طاهرة و مضى عليها الوقت بقدر صلاتها التي هي تصلّيها فحاضت قبل أن تصلّي فهل يجب عليها القضاء أو لا؟ فإذا أجاب عليه السّلام بأنّها تقضي إذا طهرت فمعنى هذا تقرير السائل في الشرطيّة التي أفادها كلامه، و إلّا فإن لم تكن الشرطيّة مرضيّة للإمام عليه السّلام لكان حقّ الجواب أن يقول: عليها

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 48 من أبواب الحيض، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 48 من أبواب الحيض، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 102

القضاء بمحض الطهارة بعد دخول الوقت، و إن فاجأها الحيض و لم يحصل لها فرصة للصلاة.

ألا ترى أنّه لو قال سائل: إن جاء زيد فهل يجب إكرامه؟ فقلت في جوابه:

نعم، فهذا تقرير

لكلّ من الجزاء و الشرط، لا لخصوص الجزاء و إن لم يكن معلّقا، بل ثابتا في جميع الأحوال، و إلّا كان حقّ الجواب أن يقول: لا اختصاص بحال المجي ء، بل الوجوب ثابت في غير هذه الحال أيضا، و من هنا يعرف كيفيّة تقريب الاستشهاد بالرواية الأخرى أيضا.

فعلى هذا المستفاد يتمّ ما يحكى عن المشهور، بل يدّعى عليه الإجماع من اعتبار مضيّ الوقت بمقدار جميع الشرائط الاختياريّة.

ثمّ الظاهر من المباني الثلاثة المتقدّمة أيضا على ما أفاده و قوّاه شيخنا الأستاذ دام ظلّه هو المبنى الأوّل، غاية الأمر أنّه يلزم أن يجب عليها لو علمت بالحال و أنّه سيفاجئها الحيض بحيث لا تبقى لها فرصة الصلاة مع مقدّماتها مع الإمكان أن تشرب دواء حتّى تؤخّر الحيض بمقدار الصلاة مع مقدّماتها، و لا بأس بالتزامه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 103

الفصل الثالث في أمارات الوقت

اشارة

لا يخفى أنّ المعيار في تشخيص الوقت هو العلم من أيّ سبب حصل، و هل يكفي غيره مع التمكّن منه و لو بغير الصبر و الانتظار حتّى يحصل، أو لا يكفي إلّا بعد تعذّره حتّى بالصبر، أو تفصيل بين صورة التمكّن بالانتظار و التعذّر بغيره فيكفي، و بين صورة التمكّن بغير الانتظار أيضا فلا يكفي؟

لا إشكال في صورة التعذّر المطلق حتّى بالانتظار مع كون الاحتياط الكلّي حرجيّا، كمن كان محبوسا و لم يكن له طريق إلى الاطّلاع على الوقت أصلا و كان اشتغاله في تمام المدّة بالصلاة حرجا عليه، فإنّه حينئذ يجري عليه حكم الانسداد، فإن قلنا بمقالة الشيخ الأجلّ المرتضى قدّس سرّه من التجزّي في الاحتياط كان عليه التجزّي إن أمكنه، و إن لم يمكنه ذلك انتقل لا محالة إلى مراتب الظنّ الأقوى منها، فالأقوى، من

أيّ سبب حصل.

إنّما الكلام في صورة تمكّنه من العلم، فنقول: تارة يكون متمكّنا من العلم بأوّل الوقت بالرجوع إلى العلامات المقرّرة له، و اخرى يتعذّر عليه العلم بأوّله، و لكنّه متمكّن من العلم بأصله بأن يصبر و يؤخّر الصلاة حتّى يحصل العلم، و الذي قيل أو يقال بحجّيته في القسم الأوّل أمور

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 104

منها: البيّنة

حسب ما يستفاد من دليل حجّيتها في الموارد الخاصّة حيث يستفاد من تتبّع المجموع أنّ الشارع جعلها في عرض العلم لا اختصاص لحجّيتها بباب دون باب.

مثل ما في رواية مسعدة بن صدقة الواردة في شبهة الحلّية و الحرمة من قوله عليه السّلام: «و الأشياء كلّها على ذلك حتّى تستبين أو يقوم بها البيّنة» «1» بعد البناء على أنّ المراد بها الشاهدان العدلان، لأنّه المتبادر منها في عرف المتشرّعة، كما في قوله عليه السّلام: «و إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان» «2» و قوله عليه السّلام: «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» «3».

مضافا إلى أنّ إرادة مطلق الحجّة المعتبرة منها كما وقع في قوله تعالى:

لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ «4»، يبعّدها مقابلتها بقوله:

تستبين، فإنّ المناسب حينئذ هو الاقتصار على قوله: حتّى يقوم بها البيّنة، لأنّ الحجّة شاملة للعلم و غيره، و العطف شاهد على المغايرة، فيتعيّن إرادة العدلين.

و مثل ما سمعته من باب القضاء و فصل الخصومات إلى غير ذلك من موارد الفقه من الطهارة و النجاسة و غيرها من الموارد التي من المسلّم عندهم اعتبار البيّنة فيها، بحيث يحصل العلم أو الاطمئنان للفقيه بملاحظتها بأنّ الشارع جعلها حجّة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب

به، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب القضاء، الباب 2 من أبواب كيفيّة الحكم و أحكام الدعوى، الحديث 1.

(3) راجع الوسائل: كتاب القضاء، الباب 3 من أبواب كيفيّة الحكم و أحكام الدعوى.

(4) الأنفال: 43.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 105

شرعيّة في جميع الأبواب، هذا.

و لكن لا يخفى أنّ غاية ما يستفاد من هذه الموارد إنّما هو الحجّية بمعنى عدم الاعتناء باحتمال تعمّدهما الكذب، فلو أخبرا بالوقت عن حسّ بالوقت أو بأمارته الحسّية كزيادة الظلّ في الزوال فهو و إن لم يستندا في أخبارهما إلى الحسّ و احتمل أنّه كان المستند لهما الحدس مثل الاطمئنان الحاصل لهما بالآلة المصنوعة لمعرفة الساعات و الدقائق، فالاعتماد حينئذ محلّ إشكال، لعدم إحراز الموضوع و هو الإخبار الحسّي، و ليس في اللفظ أيضا ظهور في كون مستند الخبر هو الحسّ.

و منها: إخبار العدل الواحد

و حجّيته بمعنى التعبّد به و لو لم يفد الظنّ، بل و لو ظنّ بالخلاف، كما هو الحال في حجّية البيّنة في غاية الإشكال، بل لم يعثر على دليل لها، و ما ورد في باب الاعتماد على إخبار الثقة في أخذ الأحكام و نقل الروايات فالظاهر منها الإيكال إلى الأمر الارتكازي العرفي، و ما هو المرتكز إنّما هو الاعتماد بقول الثقة من حيث حصول الوثوق الفعلي به، لا من حيث كون الشخص موثّقا، و لهذا نراهم يتمسّكون بالوثوق الحاصل من القرائن الخارجيّة غير موثّقية المخبر، مع كون المخبر شخصا ضعيفا أو مجهولا.

و الحاصل أنّ الظاهر رجوع هذا الدليل إلى الدليل الرابع المذكور في كلام شيخنا العلّامة المرتضى قدّس سرّه لحجّية خبر الواحد و هو استقرار سيرة العقلاء على الرجوع إلى خبر الواحد في أمورهم العاديّة، و من المعلوم أنّه لم يعلم بناؤهم

إلّا على الخبر الموثوق به، لا على خبر المخبر الموثوق به، و المجدي لاعتبار خبر الواحد الثقة فضلا عن العدل، بحيث لم يعتن في قباله بظنّ الخلاف فضلا عن احتماله المساوي أو المرجوح هو الثاني، و أمّا الأوّل فلا ربط به باعتبار خبر الثقة أو العدل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 106

و منها: أذان الثقة العارف بالوقت،

و حجّيته أيضا محلّ إشكال، فإنّ الظاهر من أخباره أيضا عدم التعبّد في اتّباعه، بل من باب أنّهم أمناء و مؤتمنون و أشدّ شي ء مواظبة على الوقت، و هذا يوجب الوثوق الفعلي، ففي الحقيقة الحجّة هو الوثوق، و لهذا صرّح في بعض الأخبار بعدم جواز الاعتماد ما لم يحصل العلم، و مع حصول الشكّ.

نعم إن استفيد منها التعبّد بأذان الثقة العارف بالوقت فالظاهر أنّ مناط الحجّية هو الحكاية الحاصلة من أذانه، فكونه عارفا بصيرا بالوقت يسدّ باب احتمال الخطأ على اعتقاده، و كونه موثّقا يسدّ باب احتمال الكذب في إخباره عن معتقده، و لا يفرق في هذا المناط بين أذانه أو إخباره، بل و فعله الكاشف عن دخول الوقت مثل صلاته، كما أنّه الحال في حجّية البيّنة، فلو رأينا عدلين اقتديا بشخص حكمنا بعدالة المقتدى لحكاية فعلهما عن تعديلهما إيّاه.

و لكن لا يخفى أنّه لا ملازمة حينئذ بين اعتبار قول الثقة العارف و بين اعتبار قول العدل الواحد، وجه ذلك أنّ الثقة عبارة عمّن يحصل الوثوق بإخباره لنوع الناس، و أمّا العدل فهو بحسب معناه الواقعي و إن كان عبارة عن صاحب الملكة الرادعة عن المعاصي و منها الكذب، و لكن بحسب الإثبات ربّما لا يكون أدنى مرتبة الظنّ حاصلا بوجود هذه الملكة في من يحكم بعدالته في الظاهر و ترتّب عليه أحكامها،

و ذلك للاكتفاء في إثباتها بحسن الظاهر، و هذا لا يلازم الوثوق بنفس الشخص، و الوثوق أمر وجداني لا يقبل التعبّد، فلا يمكن أن يقال: إنّه منزّل منزلة واجد الملكة واقعا في أحكامه و منها كونه موثّقا، و هذا واضح.

و لكنّ العمدة هو التأمّل في دلالة الأخبار على التعبّد بأذان الثقة بحيث كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 107

كالبيّنة متّبعا و إن لم يفد الظنّ، بل و إن ظنّ بالظنّ الغير المعتبر خلافه، فإنّه و إن كان ورود الأمر باتّباعه كذلك ممكنا و ليس كالعلم، إلّا أنّ الظاهر كونه كأوامر الإطاعة إرشاديّا، و ذلك لأنّه إذا ورد أمر في مقام كيفيّة الامتثال بطريقة يسلكها أهل العرف سواء كان ابتداء متعلّقا باتّباعها أو باتّباع جزئي معلّلا بتلك الكبرى فالإنسان لا يفهم منه التعبّد، بل الإحالة إلى ما هو المرتكز بين العقلاء من دون إطلاق للكلام لغير مورد ارتكازهم.

و بعبارة أخرى: الأخذ بالإطلاق فرع الكون بصدد التشريع و الجعل.

و أمّا إذا كان اللسان لسان الإرشاد و التنبيه فليس أمرا زائدا على المرتكز العقلائي، فلا بدّ من التأمّل في ذلك المرتكز بحسب بناء العقلاء، و مقدار سعته و ضيقه يعلم بالمراجعة إليهم.

و حينئذ نقول: قد ورد على لسان الشارع المقدّس إرجاع الناس إلى المؤذّنين بمثل قولهم عليهم السّلام: «صلّ بأذان هؤلاء، فإنّهم أشدّ شي ء مواظبة على الوقت» «1»، و في آخر: «المؤذّن مؤتمن» «2»، و في ثالث قال السائل: أخاف أن نصلّي الجمعة قبل أن تزول الشمس، «قال: إنّما ذلك على المؤذّنين» «3».

و لا يخفى أنّ سوق ذلك سوق كلام القائل في مقام إرجاعك إلى طبيب أنّه رجل عارف متدرّب في فنّه، و مقصوده إزالة الشكّ و

الخوف عنك، و بعد ملاحظة كون المؤذّنين في تلك الأزمنة أشخاصا مخصوصين منصوبين من قبل السلطان

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 108

مرتزقين منه بإزاء الأذان يعلم شدّة مواظبتهم على الوقت.

فمقصودهم عليهم السّلام في هذه الأخبار هو التنبيه على ذلك و إزالة الخوف و الشبهة عن نفس السامع، فليس في نفس هذه الأخبار تعبّد و إعمال تشريع زائد على ما في أيدي العقلاء من اتّباع قول الموثّقين.

فلا بدّ من ملاحظة أنّه هل بناؤهم فيه كبنائهم في بابي الإقرار و ظواهر الألفاظ يكون لغرض الاحتجاج في مقام المخاصمة، أو يكون لغرض إدراك الواقع و كشفه.

فإن كان من الأوّل كما في البابين المذكورين حيث ليس المقصود التوصّل بإقرار المقرّ إلى كشف واقع الدين المقرّ به أو التوصّل بالظاهر إلى إدراك واقع مراد المتكلّم، بل محض الاحتجاج و أخذ الحجّة على الخصم، فحينئذ لا بدّ من حجّيته، سواء حصل الظنّ منه أو لم يحصل، بل و لو ظنّ لأجل أمارة غير معتبرة بخلافه لا يسقط عن صلاحيّة الحجّية.

و أمّا إن كان من الثاني فالإنسان الطالب لإدراك واقع لا يقدم بمحض الشكّ، بل لا بدّ من تحصيل الانكشاف و لو بأدنى مرتبته.

و الإنصاف أنّا متى راجعنا الوجدان و تتبّعنا سلوك العقلاء مع أخبار الثقات في أمورهم المعاشيّة لا نراهم يعاملون معها معاملة الحجّية بالنحو الأوّل بأن كان مقصود من يرسل مال تجارته إلى البحر أو البرّ باتّباع الثقة أخذ الحجّة على ذلك الثقة

عند انكشاف كذبه في إخباره، بل نظرهم ممحّض إلى إدراك الواقع، و لازم ذلك أن يتوقّفوا لو لم يحصل لهم ظنّ من قول الثقة.

ثمّ هل يعتمدون على حصول الظنّ أيّ مرتبة بلغ، أو يقتصرون على الاطمئنان و الخروج عن تزلزل النفس؟ الظاهر بل المعلوم هو الثاني، فيرجع إلى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 109

الاطمئنان الآتي تحقيقه.

و منها: الاطمئنان،

فإنّه حجّة عند العقلاء من أيّ سبب حصل، و لو لا ذلك لزم اختلال عامّة الأمور المعاشيّة، لقلّة حصول العلم الحقيقي المانع عن النقيض تحقيقا.

و على هذا، فهذا الطريق العقلائي- حيث لم يردع عنه الشارع- حجّة في كلّ باب إلّا ما ورد فيه النصّ الخاصّ بالردع، كما في باب ثبوت النجاسة، حيث ورد قوله عليه السّلام: «حتّى ترى في منقاره دما» «1».

هذا كلّه هو الحال في ما إذا أمكن تحصيل العلم بأوّل الوقت بالمشاهدة و نحوها، و قد عرفت أنّه لم يقل دليل على حجّية مطلق الظنّ في حقّه، بل لم يقم دليل على حجّية الظنّ الخاصّ أيضا ممّا عدي البيّنة و الاطمئنان في هذا الحال.

و أمّا إذا تعذّر تحصيل العلم بأوّل الوقت إلّا بالانتظار فهل مطلق الظنّ حينئذ حجّة يجوز التعويل عليه مطلقا، أو ليس بحجّة مطلقا، أو يفصل بين ما إذا كان العذر المانع عن تحصيل العلم عامّا لجميع الناس كالغيم و نحوه، و ما إذا كان خاصّا كالعمى و الحبس، فحجّة في الأوّل دون الثاني؟ وجوه أقواها الأوّل، و يدلّ عليه جملة من الأخبار:

منها: موثّق سماعة: «سألته عن الصلاة بالليل و النهار إذا لم نر الشمس و القمر و لا النجوم؟ فقال عليه السّلام: اجتهد رأيك و تعمّد القبلة جهدك» «2».

و هذه الرواية و إن

ذكرها في الوسائل في بحث القبلة و استدلّ بها بعض

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 4 من أبواب الأسئار، الحديث 2 و 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب القبلة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 110

للاجتهاد فيها، و بعض آخر للأعمّ منها و من الوقت، إلّا أنّه استبعده شيخنا الأستاذ دام ظلّه و استظهر كونها مرتبطة بباب الوقت خاصّة من وجهين:

الأوّل: أنّ القبلة لا تشتبه في العمران التي هي المبتلى بها غالبا، فينحصر اشتباهها في القفار البعيدة عن العمران، فلو كان مراد السائل السؤال عن ذلك كان اللازم التقييد بالسفر، فإذا أطلق الكلام كان هذا قرينة على إرادته السؤال عن اشتباه الوقت، لأنّه الأمر الدائر الكثير الابتلاء في الحضر و السفر و العمران و القفار.

و الثاني: أنّ السائل بعد ما فرض انسداد جميع أمارات القبلة عليه و انقطاع يده عنها لا يبقى وجه لإرجاعه إلى الاجتهاد و إعمال الفكر و الرأي، فإنّ الفكر في أمر القبلة ينحصر مدركه في تلك الأمور التي فرض السائل اختفاؤها طرّا.

و هذا بخلاف ما إذا حملنا الكلام على اشتباه الوقت، فإنّ القبلة معلومة، فالإمام عليه السّلام نبّه السائل طريقا لم يتنبّه له و هو إعمال نظره في جهة القبلة و سمتها، فإنّ تلك الجهة محلّ رجاء وجدان شعاع الشمس بواسطة رقّة السحاب، فمن الممكن أن يكون حركة السحاب من الجنوب إلى الشمال، فإذن أقرب المواضع بالانجلاء طرف الجنوب دون الشمال و طرفي المشرق و المغرب، فالإمام نبّه السائل على هذا المعنى و أنّ مطلوبك مرجوّ الحصول في هذا السمت.

و أمّا وجه استفادة حجّية الظنّ فهو أنّه عليه السّلام لم يذكر شيئا سوى اجتهاد الرأي، و هو ليس

دائما موصلا إلى القطع، بل الغالب عدم حصول العلم و حصول أدنى درجة الظنّ أو بقاء الشكّ، فحيث لم يقيّده عليه السّلام بصورة حصول العلم أو الاطمئنان كان دليلا بإطلاقه على الاتّباع في صورة أدنى مرتبة الظنّ الذي هو أدنى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 111

مسمّى الاجتهاد و الرأي.

و حاصل الكلام أنّ معنى هذه الكلمة أعني: «اجتهاد رأيك»: اعمل الوسع في تحصيل الرأي لنفسك، و هو مطلق الاعتقاد الراجح، و لكنّ المستفاد من كلمة «الاجتهاد» أنّه لا يجوز التنزّل إلى الظنّ الضعيف إلّا بعد تعذّر القويّ.

و أمّا احتمال أنّ المقصود من هذا الكلام هو الاجتهاد لأجل تحصيل العلم، فكأنّه قال: اجتهد لعلّه يحصل لك العلم، فيه أنّ الظاهر من العبارة أنّ كلّما صدق عليه الرأي و الاعتقاد هو المرجع، و لا اختصاص له بخصوص فرده المانع عن النقيض.

نعم لو كانت العبارة بهذه الصورة: اجتهد في طلب الوقت، كان ظاهرا في ما ذكر، و أمّا إذا كان على ما وقع في الخبر فالظاهر منه إرجاع المخاطب إلى رأيه بإعمال الوسع و بذله، و لا يخفى أنّه ظاهر في حجّيته في أيّ مرتبة كان إذا لم يتمكّن من ما فوقها، كما أنّه لا فرق بين أسبابه.

و حينئذ فإذا كان السؤال عن اشتباه القبلة بواسطة اختفاء أماراته لا يناسبه الجواب، إذ المفروض أنّ السائل فرض صورة التحيّر و فقد كلّ أمارة و علامة يحصل منها العلم أو الظنّ، و مع ذلك إرجاعه إلى الاجتهاد غير صحيح.

و هذا بخلاف ما إذا كان عن اشتباه الوقت، فإنّه و إن كان مفروضه فقدان أماراته من الشمس و القمر و النجوم، إلّا أنّ الإمام عليه السّلام سدّ باب الاعتراض بقوله بعد

ذلك بلا فصل: «و تعمّد القبلة جهدك»، و معناه و اللّٰه يعلم أنّ هذا الجهد الذي أمرتك به في باب الوقت اعمله و اصرفه في سمت القبلة، فإنّ هناك مظنّة للعثور على أثر من الشمس في النهار و من النجوم في الليل، فإنّ جانب القبلة أقرب من سائر المواضع بظهور أثر الشمس و النجوم فيه، فإنّه يمكن أن يكون سير السحاب من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 112

تلك الناحية، فيكون عند أواخره و قرب انتهائه سحاب ذلك المحلّ رقيقا يمكن رؤية الشعاع من ورائه.

و أمّا إذا فرض اشتباه القبلة فلا يتميّز المشرق و المغرب و الجنوب و الشمال، فلو فرض رؤية شعاع من وراء السحاب في نقطة لا يفيد ذلك شيئا و لا يتشخّص به جانب القبلة.

هذا مع أنّ تقييد السائل الصلاة بالليل و النهار لا يخلو عن إشعار باختلاف الصلاتين في الجهة المشكوك فيها، فلو كان هو الوقت صحّ ذلك، و أمّا إذا كان هو القبلة فلا يناسب مثل هذا التعبير، لعدم الاختلاف في القبلة بين صلاتي الليل و النهار، نعم بين الليل و النهار اختلاف في أمارات القبلة، فكان المناسب على هذا التقدير أن يقول: سألته عن الصلاة إذا لم نر في النهار شمسا و لا في الليل قمرا و لا نجما.

و كيف كان فدلالة الموثّقة على حجّية مطلق الظنّ متدرّجا في مراتبه لعلّه غير قابل للإنكار بعد التأمّل و الإنصاف.

و منها: الأخبار الواردة في باب جواز الاعتماد على الظنّ بالغروب في إفطار الصوم إذا كان في السماء غيم يمنع المشاهدة، ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام في حديث أنّه قال لرجل ظنّ أنّ الشمس قد غابت فأفطر ثمّ أبصر

الشمس بعد ذلك، قال عليه السّلام: ليس عليه قضاء «1».

و في رواية الكناني قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل صام ثمّ ظنّ أنّ الشمس قد غابت و في السماء غيم فأفطر، ثمّ إنّ السحاب انجلى، فإذا الشمس

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصوم، الباب 51 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 113

لم تغب، فقال عليه السّلام: قد تمّ صومه و لا يقضيه «1». فإنّه لو لا حجّية الظنّ في حقّ المفطر و المفروض حجّية استصحاب بقاء النهار لولاها كان إفطاره عمديّا موجبا لفساد الصوم، فحيث حكموا عليهم السّلام بتماميّة الصوم و عدم القضاء كشف عن أنّه حجّة شرعيّة كالبيّنة.

و أمّا ارتباطها بما نحن فيه أعني: وقت الصلاة فلأجل اتّحاد وقتهما لقوله عليه السّلام: إذا غابت الشمس فقد حلّ الإفطار، و وجبت الصلاة، فإذا جعل الظنّ أمارة على دخول المغرب لأجل إفطار الصوم فمن البعيد كون هذه الحيثيّة مأخوذا.

نعم لو كان أصلا تعبّديا أمكن فيه التفكيك بين الجهتين و لم يكن خلافا للظاهر، و أمّا في الأمارة فهو خلاف الظاهر و إن كان ممكنا، و الحاصل أنّ الإنسان يفهم منه أنّه أمارة المغرب، و معلوم أنّ المغرب وقت للصلاة و الإفطار معا.

و من هنا يعلم وجه التوفيق بين روايتي عليّ بن جعفر عن أخيه عليهما السّلام الواردتين في صلاة الفجر اعتمادا على أذان المؤذّن، حيث حكم في إحداهما بعدم جواز الاعتماد إلّا مع العلم، و في الأخرى بكفاية الظنّ «2»، أمّا الأولى فقد عرفت مطابقتها لما قوّيناه سابقا، و أمّا الثانية فموردها صورة الإتيان بالصلاة قاطعا بالفجر، إلّا أنّه حصل الشكّ الساري بعد الإتيان، غير أنّه لمكان الأذان

ظنّ بالفجر بالظنّ الساري.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصوم، الباب 51 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 58 من أبواب المواقيت، الحديث 4، و الباب 3 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 114

ففي هذه الصورة المفروض انسداد باب العلم بأوّل الوقت، و عدم إمكان مراعاته، لفرض تحقّق الشكّ الساري بعد الصلاة، فالحكم بإجزاء الظنّ المذكور لعلّه من هذه الجهة، فيكون مقتضى الجمع بين الخبرين أنّه مع إمكان المراعاة و تحصيل العلم لا يجزي أذانهم حتّى يعلم، و مع عدم الإمكان يكفيه الظنّ الحاصل من أذانهم.

و استدلّ أيضا بما ذكر في الجواهر أنّه المرسل المشهور على ألسنة الفقهاء: المرء متعبّد بظنّه، و ذكره أيضا في باب الشكّ في ركعات الصلاة، و لكن ظاهر المرسل عموم العمل بالظنّ، و هو مناف لقوله تعالى إِنَّ الظَّنَّ لٰا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «1» و تخصيصه بباب الوقت أو باب الشكّ في الركعات أو كليهما مستلزم لتخصيص الأكثر.

هذا مع ضعف سنده بالإرسال، فالأولى ترك الاستدلال به، كما أنّ الأولى ترك الاستدلال بأخبار صياح الديك «2» الواردة في صورة اشتباه الوقت بواسطة الغيم و نحوه.

أمّا أوّلا: فلأنّه على تقدير استفادة الحكم التعبّدي منها لا يجوز التعدّي من موردها أعني: صياح الديك إلى مطلق الظنّ.

و أمّا ثانيا: فلأنّ استفادة الحكم التعبّدي في موردها أيضا محلّ إشكال، و ذلك لأنّ من المحتمل كونها إرشادا و إعلاما على طريق موجب للاطمئنان بالوقت، فإنّ الديك أصواتها ليست كسائر أصناف الحيوان بطريق الاختلاف،

______________________________

(1) يونس: 36.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب المواقيت.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 115

بل هي تصوّت بهيئة الاجتماع في وقت مخصوص

لا تتجاوزه باختلاف الفصول، و هو إلهام إلهي في هذا الحيوان، فمن المحتمل أنّه كان في زمان صدور هذه الأخبار في بلاد العراق هذا الزمان المخصوص مطابقا للزوال، و الإمام عليه السّلام كان أخبر عن هذا الواقع.

و لا يخفى أنّا أيضا إذا جرّبنا و رأينا في بلد عند صفاء الهواء مطابقة اجتماعها على التصويت مع الزوال كان عند الغيم أمارة اطمئنانيّة على الزوال، و لا يجوز بمجرّد ذلك الاكتفاء في كلّ زمان و في كلّ بلد باجتماع الديوك في التصويت في الحكم بالزوال حتّى في بلد العراق، و ذلك لاحتمال اختلاف البلدان- كما ادّعي تجربته- و الأزمان.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 116

مسألة في الحكم بالإجزاء عند انكشاف الخلاف و دخول الوقت في الأثناء

لو انكشف له فساد اعتقاد الوقت بعد الصلاة و قد دخل الوقت في أثنائها و لو قبل الجزء الأخير منها، فالمشهور حكموا بالإجزاء و الصحّة.

و الأصل في ذلك رواية إسماعيل بن رياح عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «إذا صلّيت و أنت ترى أنّك في وقت و لم يدخل الوقت فدخل الوقت و أنت في الصلاة فقد أجزأت عنك» «1». و ضعف الخبر بإسماعيل- لو كان- فهو منجبر بالعمل، حيث لا مستند لهم سواه.

و احتمال استنادهم إلى قاعدة أجزاء الأمر الظاهر كما ترى، مضافا إلى أنّه غير صحيح في صورة القطع، لأنّه من خيال الأمر، لا الأمر الظاهري.

هذا مضافا إلى أنّ الراوي عن إسماعيل هو ابن أبي عمير، و هذا من أمارات الوثوق، و على أيّ حال الظاهر استجماعه لشرائط الحجّية.

و أمّا الكلام في دلالة الخبر، فاعلم أنّ هنا صورا بعضها مقطوع الدخول في مدلول الخبر، و بعضها مشكوك، و بعضها مقطوع العدم، و ذلك لأنّ الدخول في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب

الصلاة، الباب 25 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 117

الصلاة تارة يكون بالقطع، و اخرى بالظنّ المعتبر، و ثالثة بالشكّ الأعمّ من الظنّ الغير المعتبر و غيره، و كذلك تبيّن الخلاف و دخول الوقت في الأثناء أيضا تارة يحرز بالقطع و اخرى بالظنّ المعتبر، و ثالثة يشكّ شكّا ساريا في الاعتقاد السابق.

أمّا صورة الإحراز القطعي في كلّ من الحالين فلا إشكال في مشموليّتها للخبر و محكوميّتها بالصحّة و الإجزاء.

و أمّا إذا ظنّ في الابتداء بالوقت بأمارة معتبرة ثمّ انكشف الخلاف فشموله محلّ إشكال ينشأ من ظهور كلمة «ترى» في قوله: و أنت ترى أنّك في وقت، في العلم، و لا أقلّ من الشكّ في شمولها للظنّ، و قد تقرّر في الأصول أنّ كلّ حكم أخذ في موضوعه العلم لا يكفي في ترتيبه الأمارة الظنّية، لأنّ دليل الحجّية إنّما يفيد بالنسبة إلى ترتيب آثار الواقع، لا في ما للعلم في ترتّبه مدخليّة.

نعم، إن كان مدخليّة العلم أيضا بعنوان أنّه أحد مصاديق الحجّة المعتبرة حتّى يكون الموضوع أو جزئه قيام الحجّة المعتبرة، يكفي حينئذ الأمارة الظنّية، لكونها حجّة معتبرة، لكن من أين لنا أنّ العلم في هذا الحكم أخذ موضوعا بهذا العنوان، لا بعنوان خصوصيّته و كونه مانعا عن النقيض، و ذلك لأنّ الحكم المرتّب عليه غير مناسب لشأن طريقيّته و كاشفيّته عن الواقع، بل يناسب جهة خصوصيّته، لأنّ شأن الطريق أن يكون كشف خلافه موجبا للإعادة، فإذا حكم عليه بالإجزاء ناسب عنوانه الخصوصي، و مع هذا الاحتمال لا يجوز الإسراء إلى غيره، لأنّ الحكم على خلاف القاعدة.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ «ترى» من مادّة الرأي، و هو مطلق الاعتقاد الشامل للظنّ، و

حينئذ فإمّا أن يقال بكونه في مقام الإطلاق، فيصير دليلا على حجّية مطلق الظنّ و لو في غير الغيم و نحوه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 118

أو يقال بأنّه ليس من هذه الجهة في مقام البيان، بل أحال الأمر من هذه الجهة إلى محلّه، فيكون دليلا على سريان الحكم في الظنون الخاصّة، و لكنّ الأوّل في غاية البعد كما لا يخفى، فإنّ المطلق مسوق لحكم آخر.

و أمّا الثاني فالإنصاف تماميّته، و أمّا ما ذكرنا من احتمال مدخليّة خصوصيّته بملاحظة كون هذا الحكم غير مناسب للطريقيّة، فيه أنّ هذا الحكم و إن كان كذلك، إلّا أنّ العلم في مقام تعيين الوقت لا إشكال في طريقيّته محضا، فكأنّه قال: إذا أحرزت الوقت بقواعده المقرّرة في محلّه لكيفيّة الإحراز و شروطه فكذا، و من المعلوم عموم الكلام حينئذ لما سوى القطع من الظنون الخاصّة.

و هذا بخلاف التعدّي إلى كلّ ظنّ، لأنّه فرع كون المتكلّم في مقام الإرجاع إلى الرأي و الاجتهاد في تشخيص الوقت، و ليس كذلك، بل هو موكول إلى محلّ آخر.

فكما لا يجوز التمسّك بإطلاق قوله: صلّيت، لما إذا صلّى بأيّ كيفيّة و لو بدون الطهارة، فكذا لا يمكن بإطلاق قوله: و أنت ترى أنّك في وقت. هذا كلّه بالنسبة إلى حال الشروع في الصلاة بإحراز الوقت.

و أمّا بالنسبة إلى دخول الوقت في أثناء الصلاة فحيث لم يؤخذ الإحراز هنا قيدا أصلا، بل المعتبر نفس واقع الدخول في البين فلا محالة لا بدّ من التعميم لصورة القطع و قيام الظنّ المعتبر على الدخول في البين من غير فرق بين حصولهما في أثناء الصلاة أو بعد الفراغ منها، بل و لو شكّ في الدخول في الأثناء بمعنى

أنّه لا يدري أنّ صلاته بأجمعها وقعت في الوقت أو وقع جزء منها فيه مع القطع بعدم وقوعها تماما قبله و قد كان دخل في صلاته محرزا للوقت بعلم أو علمي كان صلاته مجزية لا بهذا الخبر، بل به و دليل صحّة الصلاة في الوقت.

و لو احتمل وقوع صلاته تماما قبل الوقت بعد ما شرع فيها بإحراز الوقت

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 119

بنحو صحيح فإمّا أن يحصل له هذا الاحتمال في أثناء الصلاة أو بعد الفراغ منها، فإن حصل في الأثناء فلا يمكن الاجتزاء بهذه الصلاة، للشكّ في الفراغ بعد القطع بالاشتغال.

و دعوى أنّه لا يقطع بالاشتغال في شي ء من الآنات، إذ قبل الوقت لم يتوجّه إليه تكليف، و بعده يحتمل سقوطه بواسطة الإتيان بهذه الصلاة التي يحتمل دخول الوقت في أثنائها.

مدفوعة أوّلا بأنّ الأوامر المشروطة التي يقطع بحصول شرطها، كالمطلقة في اشتغال العهدة بها قبل حصول شرطها، كما قرّر ذلك في الأصول، و ثانيا بأنّ المعلّق عليه هنا حاصل، و التكليف المشروط يصير فعليّا، و اشتغال الذمّة به يكون حاصلا، غاية الأمر أنّ إتمام ما بيده على تقدير دخول الوقت في أثنائه يصير مسقطا و مفوّتا للمحلّ بالنسبة إلى التكليف، فالاشتغال قطعي، و الشكّ في حصول الفراغ.

و إن حصل له الشكّ المزبور بعد الفراغ و قد أتى بالصلاة من أوّلها إلى آخرها بإحراز الوقت فهذا له صورتان:

الاولى: أن يكون قاطعا باستمرار قطعه الذي التفت إلى فساد مدركه إلى آخر صلاته.

و الثانية: أن يحتمل تبدّله بالالتفات في أثناء الصلاة مع القطع بالوقت في ذلك الحال.

فالصورة الاولى يكون حكمها مبنيّا على شمول قاعدة الشكّ بعد الفراغ لمثل ما إذا احتمل صحّة العمل اتّفاقا لا

بذكره و التفاته، و هو محلّ إشكال بواسطة التعليل الوارد في باب الوضوء بقوله عليه السّلام: «هو حين يتوضّأ أذكر» «1» فإنّ فساد مدرك

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 120

القطع كان مغفولا عنه عنده حين الصلاة، و كذا لو انقدح له ما لم ينقدح في ذاك الحال، فأوجب شكّه و إن لم ينكشف فساد مدرك قطعه.

و أمّا الصورة الثانية فلا إشكال في جريان القاعدة فيها حتّى بعد البناء على التعليل المذكور.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّ المتبادر من قولهم عليهم السّلام: «كلّ شي ء شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو» «1» أن يكون هناك عمل مأمور به ذو أجزاء و شرائط، فاحتملنا مطابقة المأتيّ به له و عدم مطابقته سهوا، و أين هذا من مثل مقامنا، فإنّ الصلاة التي قد ورد المكلّف فيه بإحراز الوقت ثمّ دخل الوقت فيه إنّما هي محكومة بالإجزاء، و ليست من أفراد الصلاة المأمور بها بالأمر الأوّلي، و لا بالأمر الثانوي، و إنّما هو مجرّد حكم بالإجزاء، نظير ما يقوله شيخنا المرتضى قدّس سرّه في الناسي لجزء أو شرط من الصلاة، حيث إنّ قوله عليه السّلام: «لا تعاد إلخ» «2» لا يفيد في حقّه تكليفا و أمرا، و إنّما هو مجرّد حكم بكونه شيئا مفوّتا للمحلّ بالنسبة إلى المأمور به.

و الحاصل أنّه قد يكون العمل مأمورا به بالأمر الواقعي، و قد يكون مأمورا به بالأمر الظاهري، و قد لا يكون هذا و لا ذاك، بل صرف حكم وضعي بالإجزاء و سقوط الإعادة، و لهذا يتمشّى في حقّ الجاهل المركّب الذي يستمرّ جهله من أوّل صلاته إلى آخرها، و لو

كان أمرا كيف يمكن توجيهه إليه مع عدم التفاته إلى انطباق عنوانه على نفسه.

و الحاصل أنّ المدّعى هو الانصراف في الشي ء الواقع في قولهم: كلّ شي ء إلخ،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الركوع، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 121

لا أنّه من القدر المتيقّن في محلّ التخاطب حتّى يكون غير مانع عن الأخذ بالإطلاق، فعلى هذا يكون إجراء القاعدة في كلتا الصورتين المذكورتين محلّ إشكال.

لكنّ الإنصاف عدم تماميّة الانصراف المزبور، فإنّه و إن لم يكن أمر لا واقعي و لا ظاهري، و لكن لا إشكال في كون ظاهر الخبر هو إجزائه بعنوان الصلاة لا شي ء أجنبي مسقط لها، و على هذا فتجري فيه قاعدة الفراغ و التجاوز، لأنّه إذا كان صلاة يجري عليه جميع أحكامها، فيجب إتمامها و يجري في الشكّ في بعض أجزائه بعد المحلّ أو بعد الفراغ القاعدتان المذكورتان.

و يتفرّع على هذا أنّه لو شكّ في الأثناء في دخول الوقت يحصل له علم إجمالي بين وجوب إتمام ما بيده و وجوب صلاة أخرى مستأنفة، لكنّ الحقّ منع العلم المذكور، لعدم ثبوت وجوب الإتمام إلّا فيما إذا كان للمكلّف طريق عقلي أو نقلي إلى تطبيق ما بيده على العنوان المأمور به.

و أمّا إذا كان شاكّا في التطبيق و لا أصل يفيد إحراز القيد المشكوك فيه أو جواز الاكتفاء بالمشكوك في مرحلة الامتثال فلا نسلّم وجوب الإتمام حينئذ.

و الحاصل لا نسلّم كون وجوب الإتمام من أحكام الصلاة الواقعيّة، و حصول العلم الإجمالي متفرّع على ذلك، وجه عدم التسليم أنّ الدليل عليه منحصر بالإجماع و لم يثبت قيامه على أزيد

ممّا ذكرنا.

ثمّ إنّك عرفت أنّه لا بدّ من الفرق بين صورتي احتمال إحراز الوقت في الأثناء و عدمه بناء على التعليل و من عدم الفرق في الجريان بناء على إطلاق سائر أخبار القاعدتين.

فاعلم أنّه يمكن تأييد الإطلاق بما رواه ثقة الإسلام قدّس سرّه بإسناده عن الحسين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 122

ابن أبي العلاء قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال عليه السّلام:

حوّله من مكانه، و قال في الوضوء: تديره، فإن نسيت حتّى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة» «1».

وجه التأييد أنّه من المعلوم كون الأمر بالإدارة و التحويل لأجل المقدّميّة لإيصال الماء تحته، لا لتعبّد محض و لو مع القطع و الاطمئنان بالوصول بدون ذلك، بل هذه الصورة لا يحتاج إلى السؤال أيضا، و حيث إنّ الخاتم ليس لاصقا باليد لصوقا يورث القطع بعدم الوصول أيضا فلا محالة يحصل الشكّ مع ترك إدارته و تحويله عن مكانه في الوصول و عدمه.

لكن على تقدير الوصول فهو أمر حاصل اتّفاقا من غير التفات و ذكر للمكلّف إليه في أثناء العمل، و مع ذلك قد حكم عليه السّلام فيه بقوله: لا آمرك أن تعيد الصلاة.

فهذه الرواية كالنصّ في عدم اعتبار احتمال الذكر في أثناء العمل في إجزاء القاعدة، فهي يوجب وهنا في ظهور ذلك التعليل المتقدّم في العلّية، و يقرب كونه لمجرّد الحكمة أو تقريبا إلى الذهن في غالب الأفراد، مضافا إلى خلوّ سائر الأخبار مع تعدّدها عن ذكر هذا القيد، فيقوى بذلك جانب الإطلاق، و اللّٰه الهادي إلى الصواب.

و ملخّص الكلام في المسألة أنّ بعض صورها محكوم بالصحّة و الإجزاء بمقتضى الخبر، و هي صورة الدخول مع قيام

الطريق العقلائي على الوقت، سواء كان قطعا، أم أمارة معتبرة ثمّ انكشاف الخطأ و إحراز الدخول في الأثناء بالقطع أو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب الوضوء، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 123

القطعي، فهذا محكوم بالصحّة بنفس الخبر، و بعضها بالتلفيق منه و من دليل الصلاة، و هو ما إذا لم يقم على عدم الدخول في الابتداء علم و لا علمي، بل قامت عنده حين الشروع أمارة على الدخول معتقدا حجّيتها، ثمّ تبيّن له بعد الصلاة عدم حجّيتها و هو محتمل لكذبها في دخول الوقت و صدقها مع قيام العلم أو العلمي على أصل الوقت في الأثناء، و يمحّض الشكّ فيه في الابتداء، ففي هذه الصورة إن كان الوقت متحقّقا في الابتداء يشمله دليل الصلاة، و إن تحقّق في الأثناء يشمله خبر إسماعيل المتقدّم.

و هل يشمل الخبر الجهل الحكمي بالوقت، كأن اعتقد كون الاستتار وقتا للمغرب فصلّى عنده، ثمّ تبيّن له اعتقاد الخلاف بعد الفراغ؟ الظاهر العدم، لأنّ المتبادر من الخبر هو الجهل بالوقت المفروغ عنه كونه وقتا، لا مفهوم الوقت، كما أنّه لا يشمل الدخول بعنوان الرجاء لدخول الوقت ثمّ دخل في الأثناء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 124

مسألة في اشتراط الترتيب بين الظهرين و العشاءين و مسائل العدول
اشارة

لا إشكال في اشتراط صحّة كلّ من العصر و العشاء بترتّبهما على الظهر و المغرب، بحيث يكون الظهر بالنسبة إلى العصر و المغرب بالنسبة إلى العشاء مقدّمة وجوديّة و محقّقا لشرطهما الذي هو الترتيب، نظير الوضوء المحصّل للطهارة، و هذا المعنى يستفاد من قولهم عليهم السّلام في أخبار تحديد وقت الظهرين و العشاءين: إلّا أنّ هذه قبل هذه، بعد معلوميّة عدم اشتراط مطلوبيّة الظهر بقبليّته على العصر. و لذا لو فعل

الظهر دون العصر صحّ الظهر قطعا، فإنّ المستفاد حينئذ أنّ قبليّة الظهر شرط في العصر، كسائر الشرائط الشرعيّة من الطهارة و الستر و الاستقبال و غير ذلك.

و على هذا فمقتضى القاعدة الأوّلية أنّه لو أخلّ بالترتيب و لو عن سهو كان عليه الإعادة، و لكن مقتضى قوله: لا تعاد إلخ هو الحكم بعدمها لو وقع في الوقت المشترك، إذ المفقود حينئذ هو الترتيب، فيكون داخلا في المستثنى منه.

و أمّا إذا وقع في وقت الاختصاص بناء على القول به فلا بدّ من الإعادة، لكونه حينئذ من المستثنى أعني: سهو الوقت.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال بما قوّيناه من صلاحيّة الوقت ذاتا لكليهما، و إنّما منع من فعليّته مانع و يدّعى انصراف الوقت في قوله عليه السّلام: لا تعاد إلخ عن مثل هذا، فيكون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 125

داخلا في المستثنى منه أيضا، هذا مقتضى القاعدة.

و لكن في كلام بعض الأساطين قدّس سرّه في هذا المقام ما حاصله أنّ شرطيّة الترتيب ليس على حدّ سائر الشرائط التي اعتبرها الشارع في ماهيّة المأمور به، كالطهارة و الستر و غيرهما، بل هو شرط اعتباري ينتزع من تكليف نفسي مستقلّ آخر، نظير إباحة المكان، حيث ينتزع شرطيّتها للصلاة من التكليف النفسي التحريمي المتعلّق بالغصب، و شأن مثل هذا أنّه متى كان ذلك التكليف المستقلّ واجدا لشرائط التنجيز كانت الصلاة بدون ذلك الشرط فاسدة، و متى سقطت عن التنجيز و صار المكلّف معذورا في مخالفتها ارتفعت الشرطيّة.

ففي المقام يكون الحال بهذا المنوال، فصحّة صلاتي العصر و العشاء لو سها عن الترتيب و أتى بهما قبل الظهر و المغرب تكون مطابقة للقاعدة الأوّلية، لا من باب حديث لا تعاد.

و الذي أفاد في

تقريب هذا المرام أنّ الوقت صالح لكلتا الصلاتين من الزوال إلى الغروب بحسب الذات، من دون اختصاص إحداهما بقطعة منه، و حينئذ فإن كان الواجب في هذا الوقت الموسّع فعل الصلاتين بلا إيجاب شي ء آخر كان التكليف بهما من أوّل الوقت مطلقا و منجّزا، و كان هو مخيّرا في البدأة بأيّهما شاء، و لكن هنا واجب آخر و هو فعل الظهر مقدّما على العصر، و هذا الواجب يوجب سلب قدرة المكلّف عن العصر قبل إتيان الظهر، مع فرض كونه ممتثلا لتكليف: صلّ الظهر قبل العصر، فلهذا يتأخّر تنجيز التكليف بالعصر إلى الفراغ عن الظهر، فلو أتى بالعصر عمدا قبل الظهر كان باطلا، لعدم الأمر به حتّى على القول بصحّة الأمر الترتّبي في الضدّين.

وجه الفرق أنّ المضادّة أوجبت سلب القدرة عن الجمع، و إلّا لو فرض محالا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 126

جمع المكلّف بينهما لوقعا بصفة المطلوبيّة.

فلهذا يمكن تصحيح الأمر بالمهمّ منهما بنحو الترتّب على عصيان الأهمّ، بخلاف الحال في المقام، إذ ليس المانع صرف عدم القدرة على الجمع لأجل المضادّة بين الفعلين في الوجود، بل المانع كونه مأمورا بإيقاع الظهر قبل العصر، بحيث لو فرض محالا إمكان جمعهما لم يجب عليه، بل لم يكن مشروعا، هذا حال العمد.

و أمّا إذا نسي و سها فلا مانع من صحّة العصر، لصلاحيّة الوقت و كونها تامّة الأجزاء و الشرائط الشرعيّة بدون مانع من ناحية التكليف المستقلّ النفسي الآخر، أعني: صلّ الظهر قبل العصر، لكونه معذورا في مخالفته، هذا صورة ما استفاده هذا الحقير من كلماته الشريفة.

و قد استشكل عليه شيخنا الأستاذ دام ظلّه بأنّ المانع عن صحّة كلّ عبادة منحصر في أمرين لا ثالث لهما.

الأوّل: فقد

شرط أو جزء من شروطه و أجزائه التي اعتبرها الشارع فيها.

الثاني: اجتماعهما في الوجود مع فعل مبغوض محرّم على القول بامتناع الاجتماع و تقديم جانب النهي، فإنّ الوجود المبعّد لا يصلح أن يكون مقرّبا، و أمّا عدم الأمر في الواجبين المتزاحمين بالنسبة إلى غير الأهمّ منهما، فأوّلا قد ثبت في محلّه عدم حاجة العبادة إلى وجود الأمر، بل يكفي وجود الجهة، و ثانيا ثبت في محلّه أيضا إمكان تصحيح الأمر بنحو الترتّب، فالمانع عن صحّة العبادة بناء على هذا غير متصوّر إلّا في فقد الجزء و الشرط و في باب الاجتماع في الفرض المذكور.

إذا عرفت هذا فنقول: إن أراد من قوله طاب ثراه: إنّ هنا واجبا آخر و هو فعل الظهر مقدّما على العصر كونه بنحو وحدة المطلوب فاللازم سقوط الظهر لو قدّم العصر عمدا، لا عدم صحّة الأمر، غاية الأمر أنّه عصى بتفويته للظهر المقدّم الذي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 127

كان واجبا عليه، فما وجه حكمه ببطلان العصر و وجوب إيجاد الظهر ثمّ العصر؟

و إن أراد ذلك بنحو تعدّد المطلوب فكذلك، إلّا أنّه لا يلزم حينئذ سقوط الظهر عنه، لكنّ العصر يقع صحيحا، و لا نتصوّر معنى قوله: إنّ تنجيز التكليف بالعصر يتأخّر عن إتيان الظهر، فإنّ شرط الوجوب الذي هو الزوال بالنسبة إلى كلتا الصلاتين حسب مختاره قدّس سرّه قد تحقّق، و ليس مجرّد التكليف بإيقاع الظهر قبله إلّا كتكليفه بالوضوء قبله، و هذا لا يوجب تأخير الوجوب أو تنجيزه إلى ما بعد ذلك الفعل، بل هما معا منجّزان عليه من أوّل الزوال.

نعم لو قدّم العصر كان مفوّتا للواجب الذي هو قبليّة الظهر، و مجرّد هذا لا يوجب أدونيّته عن الواجبين

المتزاحمين، فإذا تصوّرنا الأمر بغير الأهمّ عند عصيان الأهمّ فلا مانع من الأمر بالعصر المقدّم على الظهر أيضا بهذا النحو، و على فرض اختيار القول بعدم صحّة الأمر بنحو الترتّب على خلاف التحقيق فلا أقلّ من كفاية الجهة و المحبوبيّة الذاتيّة في صحّة العبادة.

و بالجملة، ففساد العصر المقدّم ينحصر طريقه بأحد الأمرين، إمّا شرطيّة الترتيب في العصر شرعا كما استظهرناه، أو اختصاص الوقت بالظهر كما في أوّل الوقت، أمّا بعد اشتراك الوقت بينهما كما هو المفروض و كون الترتيب غير شرط في العصر شرعا و إنّما كان واجبا نفسيّا في عرض ذلك التكليف فلم نفهم لفساده وجها.

و كيف كان فلو اعتقد أنّه أتى بالظهر فأتى بالعصر قبل الظهر، و كذا لو اعتقد إتيان المغرب فأتى بالعشاء قبله فتذكّر في الأثناء عدل بنيّته إلى السابقة و أتمّها ظهرا أو مغربا إن لم يتجاوز محلّ العدول، ثمّ يأتي بعد بالعصر و العشاء، و هذا الحكم هو المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع، و الأصل فيه الأخبار المستفيضة التي منها صحيحة زرارة الطويلة المشتملة على الحكم في الظهرين و العشاءين، بل و غيرهما،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 128

إلّا أنّ

الكلام يقع في مواضع:
الأوّل: هل الحكم المذكور يعمّ وقت الاختصاص و الاشتراك، أو يختصّ بالثاني؟

الظاهر الثاني، و ذلك لعدم الإطلاق في شي ء منها على وجه يشمل الدخول في العصر سهوا في وقت اختصاص الظهر، و ذلك لأنّ في بعضها السؤال عن رجل أمّ قوما في العصر، و في آخر عن رجل دخل مع قوم و لم يصلّ هو الظهر و القوم يصلّون العصر، و لا يخفى عدم الإطلاق في هذين، و في ثالث عن رجل نسي صلاة حتّى دخل وقت صلاة أخرى، و هذا أيضا مثل السابقتين.

نعم في بعضها السؤال عن رجل

نسي أن يصلّي الاولى حتّى صلّى العصر، و لا يخفى عدم انصرافه- خصوصا بحسب ما هو المتعارف في تلك الأزمنة من تفريق الصلاتين- إلى وقوع البيان المذكور في أوّل الزوال، إلّا أن يشتبه عليه الوقت و تخيّله وقتا للعصر و الأذان إذا ناله، و هذا فرض نادر لا يشمله الإطلاق، أو يشكّ في شموله.

و يؤيّد عدم الإطلاق في صحيحة زرارة الطويلة أنّه قد جعل العدول من الحاضرة إلى مثلها في رديف العدول من الحاضرة إلى الفائتة، فكما أنّ الثاني مفروض بعد مضيّ وقت الإجزاء، فالظاهر أنّ الأوّل مفروض بعد مضيّ وقت الفضل.

و حينئذ فعلى القول بالاختصاص يكون محكوما بالبطلان إذا كان لم يدخل بعض منه في وقت الاشتراك.

نعم لو قلنا بالاشتراك من أوّل الوقت إلى آخره كان محكوما بالصحّة و وجوب العدول من باب تنقيح المناط، لا من باب الإطلاق، كما لو وقع قبل الوقت

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 129

بتخيّل الوقت و وقع بعضها في الوقت، و كما فيما إذا صلّى الظهر فاسدا فأتى بالعصر، فتبيّن له في أثنائه فساد الظهر، فإنّ هذا كلّه خارج عن المفاد اللفظي و يكون حكمه من باب تنقيح المناط.

الثاني: هل هذا الحكم مختصّ بالأثناء، أو يعمّ بعد الفراغ أيضا؟

قد صرّح بالتعميم في صحيحة زرارة المتقدم إليها الإشارة، و كذا ظاهر رواية الحلبي بملاحظة التعبير بصيغة المضيّ في قوله: نسي أن يصلّي الاولى حتّى صلّى العصر و إن أمكن حمله على إرادة أنّه دخل في صلاة العصر، لكن لا شبهة في ظهوره، إلّا أنّ المشهور قد أعرضوا عن العمل، و هذا موجب للوهن في جهة الصدور و إن لم يكن نفس الصدور قابلا للخدشة و معتبرا في أعلى درجة الاعتبار، بل كلّما ازداد السند قوّة يزداد بواسطة

الإعراض وهنا، و لو لا الإعراض المذكور كان العمل بهما قويّا.

و قد يتوهّم أنّه يخصّص بهما حينئذ قاعدة لا تعاد و نحوه ممّا يدلّ على سقوط الترتيب في حال السهو، حيث إنّ مقتضى ذلك وقوعه عصرا، فاعتبار الترتيب مع ذلك تخصيص فيه.

لكن فيه أنّ التخصيص إنّما يلزم لو حكم بالإعادة لأجل تدارك الترتيب الذي فات بواسطة النسيان، و أمّا إذا حكم بالصحّة و عدم الإعادة، لكن أمكن جبران الترتيب الفائت بجعل العصر الذي فعله ظهرا في نيّته فإذا أمر الشارع بهذا فليس تخصيصا في لا تعاد.

لكن لا يخفى أنّ استفادة الوجوب بالنسبة إلى ما بعد الفراغ محلّ إشكال، بل منع، و ذلك لانحصار دليله في الصحيحة الطويلة، و هي بواسطة اشتمالها على العدول من الحاضرة إلى الفائتة، و هو على ما تقرّر في محلّه ليس بواجب، محمولة على مطلق الرجحان، كما في: اغتسل للجمعة و الجنابة، فإنّه يعلم من الخارج بالاستحباب في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 130

بعض الفقرات، و هو ما أشير إليه، و بالوجوب في بعض آخر، و هو العدول من الحاضرة إلى الحاضرة في الأثناء.

و ذلك بواسطة رعاية الترتيب اللازم في تمام الأجزاء و حرمة القطع، فمتى جاز العدول وجب لأجل رعاية الترتيب في الأجزاء اللاحقة و عدم القطع.

و أمّا بعد الفراغ فيبقى على الشكّ، إذ المفروض محكوميّة دليل الترتيب لدليل سقوطه حال النسيان، و مقتضاه وقوع الصلاة عصرا صحيحا، فهذه الصحيحة تكون مجملة بالنسبة إلى هذا العصر الواقع صحيحا، فلا يفيد وجوب جعلها ظهرا.

لا يقال: هنا أيضا يمكن ضميمة ما ذكر من أنّه متى جاز العدول وجب لأجل مراعاة الترتيب.

لأنّا نقول: كلّا، فإنّ رعاية الترتيب هناك لأجل تصحيح الأجزاء اللاحقة

لتحقّق الذكر فيها، و المفروض هنا استيعاب النسيان لتمام الأجزاء، و مقتضى أدلّة رفع النسيان و دليل لا تعاد وقوع الصلاة بتمامها صحيحة بعنوان العصريّة.

نعم غاية ما ثبت من الصحيحة أنّ المكلّف متمكّن من جعلها بالنيّة ظهرا، ثمّ يفعل العصر مرتّبا، و مجرّد ذلك لا يفيد الوجوب، إذ بعد ما وقع العصر صحيحا فالأمر منوط باختيار المكلّف، إن شاء جعلها ظهرا، و إن شاء لم يجعلها.

بل نقول على فرض ظهور الصحيحة في الوجوب بعد الفراغ أيضا، غاية الأمر حصول العصيان لو ترك العدول لا الحكم بفساد العصر، و ذلك لأنّ المستفاد من قوله: انوها ظهرا أو اجعلها ظهرا أنّه قبل النيّة و الجعل عصر صحيح، ففي الأثناء المانع من جهة الإتمام موجود، و أمّا بعد الفراغ فهذا المانع أيضا مفقود.

و على كلّ حال فمقتضى الاحتياط في صورة التذكّر بعد الفراغ أن ينوي العدول ثمّ يأتي بأربع ركعات بقصد ما في الذمّة، نعم إن وقع بتمامه في وقت

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 131

الاختصاص فالاحتياط في العدول، ثمّ إتيان ظهر و عصر بعد ذلك.

الثالث: هل الترتيب بين الفوائت معتبر أو لا؟

ليس في أدلّة العدول ما يفيد العدول من الفائتة إلى مثلها حتّى يستفاد ذلك منه، نعم في صدر صحيحة زرارة الطويلة قال عليه السّلام: «إذا نسيت صلاة أو صلّيتها بغير وضوء و كان عليك قضاء صلوات فابدأ بأوّلهنّ، فأذّن لها و أقم ثمّ صلّها، ثمّ صلّ ما بعدها بإقامة إقامة لكلّ صلاة» «1».

و يمكن الخدشة في دلالتها، لأنّها مبنيّة على إرادة أوّلهنّ فوتا من قوله عليه السّلام:

فابدأ بأوّلهن، حتّى يكون الكلام مسوقا لإفادة حكمين، أحدهما الترتيب، و الآخر حكم الأذان و الإقامة، لكن من الممكن إرادة أوّلهن شروعا، و كان الكلام

توطئة لما بعده و متصدّيا لحكم واحد و هو كيفيّة الأذان و الإقامة للصلوات المقضيّة إذا أراد إتيانها في مجلس واحد.

الرابع: لا يخفى أنّ العدول في الأثناء أمر على خلاف القاعدة،

و إلّا فمقتضاه الحكم بالبطلان، لعدم اغتفار التقدّم بالنسبة إلى ما بعد التذكّر، لكونه عمديّا، فالحكم بصحّتها ظهرا بعد نيّة ما تقدّم للظهر على خلاف القاعدة يقتصر فيه على القدر المتيقّن، و هو ما إذا وقع تمام الصلاة في الوقت، و أمّا الواقعة بعضها فيه المحكومة بالإجزاء بمقتضى رواية إسماعيل بن رياح المتقدّمة، فإجراء هذا الحكم فيه محتاج إلى أحد أمرين: إمّا القول بأنّ المستفاد من تلك الرواية توسيع الوقت حقيقة، و إمّا القول بأنّه و إن لم يستفد منها التوسعة الحقيقيّة، لكن يستفاد منها تنزيل ما وقع في هذا الوقت منزلة الصلاة الحقيقيّة في جميع الخواصّ و الآثار، و الأوّل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 63 من أبواب المواقيت، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 132

مقطوع العدم، و الثاني غير معلوم، إذ المعلوم إنّما هو التنزيل بالنسبة إلى الإجزاء عن نفس صاحبة الوقت، و أمّا بالنسبة إلى جميع الآثار حتّى العدول منها إلى سابقتها فمحلّ التأمّل.

الخامس: قد سمعت أنّ العدول على خلاف القاعدة لا بدّ فيه من التماس الدليل.

فنقول: الذي قام عليه الدليل إنّما هو العدول من اللاحقة إلى السابقة الحاضرتين، و من المغرب إلى العصر لذلك اليوم، و من الغداة إلى العشاء لتلك الليلة، و أمّا من المغرب إلى الظهر أو إلى الغداة أو إلى العصر لغير ذلك اليوم، أو من الغداة إلى المغرب أو العصر أو الظهر أو الغداة أو العشاء للّيالي المتقدّمة فليس العدول في شي ء من هذه مفادا للدليل، و تنقيح المناط غير حاصل لنا، فالتعدّي إلى هذه المسائل لا وجه له.

نعم إن استفيد أنّ المناط مجرّد تذكّر صلاة سابقة على ما بيده و لو كانت غير متّصلة كان التعدّي حسنا، لكن من أين لنا علم ذلك؟ فلعلّ الشارع راعى في

المتّصل ما لم يراعه في المنفصلين.

و على هذا فلو شرع في المغرب فتذكّر أنّه نسي الظهرين معا فهذا خارج عن مورد النصّ، فإنّه في صورة نسيان العصر فقط، فالعدول إلى العصر غير مشمول للرواية من هذه الجهة.

مضافا إلى عدم حفظ الترتيب بين الظهرين في هذا الفرض لو عدل إلى العصر، فكيف يعدل إليه ثمّ يعدل منه إلى الظهر، فإنّ العدول من العصر إلى الظهر إنّما مورده ما إذا كان مشتغلا بعصر صحيح، و لم يصحّ العصر بالعدول إليه بالفرض حتّى يعدل منه إلى الظهر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 133

و أمّا العدول في هذا الفرض إلى الظهر ابتداء و بلا واسطة العدول إلى العصر فهو مبنيّ على تنقيح المناط من الرواية في العدول من المغرب إلى مطلق السابقة و لو المنفصلة، و قد عرفت الخدشة فيه، هذا مع تذكّره لنسيان الظهرين.

و أمّا لو تذكّر أوّلا لنسيان العصر دون الظهر، فعدل إليه بتخيّل كونه مورد الرواية ثمّ تذكّر أنّه لم يصلّ الظهر أيضا فعدل من العصر المعدول إليه إلى الظهر فصحّة هذا مبتنية على تنقيح المناط في مسألتين:

إحداهما: في العدول من المغرب إلى العصر، مع أنّ مورد الرواية صورة انحصار المنسيّ بالعصر، فيقال: إنّ المناط عدم لزوم الترتيب، و هو حاصل في هذا الفرض، إذ العصر غير مرتّب مع النسيان على الظهر.

و الثانية: في العدول من العصر المعدول إليه إلى الظهر مع أنّ مورد الرواية هو العصر الابتدائي بأن يقال: إنّ المناط هو العصر الصحيح، و لكن في كلا المناطين كلام، فيبقى المغرب في كلتا المسألتين صحيحة بحالها كما هو مقتضى القاعدة.

فعلم ممّا ذكرنا أنّ العدول من اللاحقة إلى سابقة السابقة سواء كان ابتداء أم بالواسطة

و هو المسمّى في لسان البعض بالترامي في العدول سواء كان مع التذكّر ابتداء أم في الأثناء محلّ إشكال، و المتيقّن هو العدول من الحاضرة إلى سابقتها المتّصلة الحاضرة، و من المغرب إلى عصر ذلك اليوم، و من الغداة إلى عشاء تلك الليلة.

و لو اشتغل بالمغرب فتذكّر أنّه نسي العصر فعدل إليه، ثمّ تبيّن أنّه صلّى العصر و لم يصلّ الظهر و بنينا في المسألة السابقة على العدول من اللاحقة إلى مطلق السابقة فهل يجب العدول حينئذ إلى الظهر أو لا؟

و محلّ الكلام تارة يفرض فيما إذا لم يصدر منه بعد العدول إلى العصر التخيّلي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 134

فعل أو قول من الأفعال و الأقوال الصلاتيّة، و اخرى يفرض فيما إذا صدر منه ذلك.

فإن كان الأوّل فلا كلام في أنّ نيّة جعل المغرب عصرا صارت لغوا، بمعنى أنّها لم تؤثّر في انجعاله عصرا و هو واضح، و لا في بطلانه مغربا، و ذلك لأنّ غاية الأمر أنّه نوى عدم المغربيّة في أثناء المغرب، و قد بان في محلّه أنّ نيّة القطع غير مضرّ بالصلاة، بخلاف الصوم، فإنّه هناك مجزّى على الزمان، فإذا خلى آن من النيّة أفسده، بخلاف الصلاة.

و حينئذ فالمغرب على ما كان لم يتغيّر بواسطة هذه النيّة عمّا هو عليه، فإذا صحّت و الفرض البناء على العدول إلى مطلق السابقة فيعدل في الفرض إلى الظهر، كما أنّه إن بنينا على العدم يتمّه مغربا.

و إن كان الثاني فإن كان المأتيّ به من غير الأركان فحال النيّة ما تقدّم، و أمّا ما أتى به بعنوان العصريّة فيعيده بعنوان الظهريّة بناء على العدول إلى مطلق السابقة، و بعنوان المغربيّة بناء على العدم، لأنّه

غير مبطل للصلاة، لأنّه إمّا ليس بزيادة، لأنّ الزيادة ما أتى به بقصد الجزئيّة لهذه الصلاة، فلو ركع بنيّة قتل العقرب لا تبطل صلاته، و إمّا أنّه زيادة سهويّة، و على كلّ حال لا يضرّ بالصلاة.

و إن كان من الأركان بنى على ما أشير إليه من أنّه هل يصدق الزيادة على نفس إتيان صورة الركوع مثلا و لو لا بقصد كونه جزءا لهذه الصلاة، أو لا بدّ في صدق الزيادة على القصد المزبور، فإن قلنا بالأوّل بطلت الصلاة للزيادة الركنيّة، و إن قلنا بالثاني فلا.

و أمّا العدول إلى الظهر أو العود إلى نيّة المغرب فهو مبنيّ على ما سبق، و قد عرفت أنّ الحقّ عدم العدول و العود إلى نيّة المغرب على حسب القاعدة الأوّلية.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 135

البحث الثاني في القبلة و فيها فصول:

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 137

[الفصل] الأوّل

اعلم أنّ الكلام في المقام يحتاج إلى تقديم مقدّمتين:
الاولى: أنّ الجسم متى ازداد بعدا ازداد محاذاة،

و يعلم ذلك بالحسّ، فإنّك إذا واجهت شخصا من شخصين متلاصقين بحيث اتّصل الخطّ من موقفك بذلك الشخص فلا شبهة في أنّك إذا بعدت منه في خطّك المستقيم من دون انحراف تجد نفسك في حدّ من البعد مواجها لكلا الشخصين، و إذا بعدت أزيد من ذلك رأيت نفسك مواجها لثلاثة، و إذا زدت على البعد واجهت أربعة، و هكذا كلّما زدت على البعد ازددت على المحاذاة، و أنت في كلّ ذلك تسير على خطّ مستقيم واصل بذلك الشخص الواحد.

الثانية: إذا أمر المولى عبده بمواجهة زيد مثلا

فلا شبهة في صدق الامتثال إذا واجهه بالنحو الذي ذكرنا و لو علم بعدم اتّصال الخطّ من موقفه إلى زيد، و هل ذلك من جهة التوسعة في مفهوم المقابلة و المواجهة عند العرف بحيث يكون صدقه على هذا الفرد بلا عناية تجوّز و رعاية علاقة، أو أنّه لأجل خطئهم في مقام التطبيق مع الضيق في المفهوم؟ الظاهر الأوّل.

و على كلّ تقدير الصدق عندهم حقيقي لا مسامحي تجوّزي حتّى لا يحكم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 138

بتحقّق الامتثال بسببه، و في مراجعة العرف كفاية في صدق ما ادّعيناه.

[في معنى الأخبار الدالّة على أنّ الكعبة قبلتنا]
اشارة

إذا عرفت ذلك فنقول: لو كنّا و الآية و الأخبار الدالّة على أنّ الكعبة قبلتنا لحملناها على هذا المعنى الذي ذكرنا، فإنّه متفاهم اللفظ عرفا، و هو الحال في عامّة الخطابات، لكنّ المشهور بين الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم أنّ الكعبة قبلة للمتمكّن منها، و جهتها لغير المتمكّن، و هذا يحتمل وجهين:

الأوّل: أنّ العين قبلة للمتمكّن

بمعنى اتّصال الخطّ و الجهة بالمعنى الذي ذكرنا لغيره، و قد عرفت أنّ مقتضى ما ذكرنا عدم الفرق بين المتمكّن و غيره في أنّ المعتبر صدق عنوان المقابلة و المواجهة و لو لم يتّصل الخطّ، بحيث لو علم بعدم الاتّصال و تمكّن من تحصيله لا يجب عليه تحصيله لحصول الامتثال و الإتيان بالمصداق الحقيقي العرفي للمأمور به بدونه، و ليس في مقام الامتثال متعهّدا بما سواه.

الثاني: أنّ الكعبة قبلة بالمعنى الذي ذكرنا للمتمكّن،

و الجهة العرفيّة لغيره، و لا يخفى أوسعيّة الجهة العرفيّة ممّا ذكرنا، ألا ترى أنّهم يتوجّهون في زيارتهم إلى جهة بلدة كربلاء المشرّفة و مع ذلك يكونون مختلفين في التوجّه بما يضرّ بصدق المقابلة بالمعنى الذي ذكرنا.

و ربما يؤيّد هذا الوجه ما ورد في بعض الأخبار بعد السؤال عن حدّ القبلة من قوله عليه السّلام: «ما بين المشرق و المغرب كلّه قبلة» «1».

و لكن فيه ما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى من عدم ظهور الخبر في كون ما بين المشرق و المغرب قبلة على وجه الإطلاق، و لو سلّم فلا يخفى أنّ التوسعة في الجهة العرفيّة لا يبلغ حدّ ما بين المشرق و المغرب، فلا يصلح هذا الخبر لتأييد ذلك الوجه،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب القبلة، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 139

مضافا إلى معارضته بأخبار تحويل الوجه نحو القبلة لو علم في أثناء الصلاة أنّه على غير القبلة في ما بين المشرق و المغرب.

و ربما يؤيّد أيضا بما في بعض الأخبار الأخر من تعيين القبلة للسائل بوضع الجدي على يمينه، و في طريق مكّة بين كتفيه، و لمحمّد بن مسلم بوضعه على قفاه.

و لا يخفى عدم انطباقه على ما ذكرنا، إذ ما ذكرنا يضرّ

به أدنى انحراف كما نشاهد بالنسبة إلى الأنجم، حيث ينحرف الإنسان عنها بكثير بمحض انحراف يسير، و في هذا الخبر لم يعيّن وضع الجدي في أيّ من نقاط المنكب و لا في أيّ من نقاط القفا و بين الكتفين، فيكون دالّا على التوسعة بأزيد ممّا ذكرنا، و لكنّه لا ينطبق أيضا على الجهة العرفيّة، لأوسعيّتها من هذا المقدار كما لا يخفى.

فالذي ينبغي أن يقال: إنّا لو كنّا و مقتضى الأدلّة الأوّلية الجاعلة للكعبة قبلة لحكمنا بما مرّ من المسامتة، بمعنى رؤية الإنسان مسامتا للكعبة المشرّفة لو كانت مرئيّة، كمسامتتنا للكواكب، و مقتضى هذا أنّه لو تمكّن المكلّف من تحصيل العلم به فهو المتعيّن في مرحلة الامتثال، و إلّا يتنزّل إلى ما دونه من الاحتياط بتكرار الصلاة بعدد النقاط المحتملة إن لم يكن متعذّرا أو متعسّرا، و إلّا يتنزّل إلى الاحتياط الجزئي، و مع عدم إمكانه أو حرجيّته إلى الصلاة الواحدة في إحدى النقاط المحتملة، لكن مع رعاية عدم لزوم المخالفة القطعيّة بأن يواظب بإتيان سائر صلواته لهذه النقطة التي صلّى صلاته الاولى نحوها، ضرورة أنّه لو صلّى الظهر مثلا إلى نقطة من تلك النقاط المحتملة و العصر إلى نقطة أخرى منها يحصل له العلم بمخالفته القبلة الواقعيّة في إحدى الصلاتين، هذا مقتضى القاعدة الأوّلية في مرحلة الامتثال بالنسبة إلى كلّ موضوع رتّب عليه الحكم.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ طريقة العرف في أوامرهم العرفيّة استقرّت على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 140

الاكتفاء بأوسع من ذلك في حقّ العاجز عن تحصيل تلك الجهة الواقعيّة، بمعنى أنّهم يوسّعون في مفهوم الاستقبال بالنسبة إلى العاجز بعد حكمهم بما ذكرنا بالنسبة إلى المتمكّن، فالعاجز يكون استقباله عبارة عن

وقوفه في نقطة يحتمل كونها أقصر الخطوط المتوازية مع الخطّ الواصل إلى الكعبة المشرّفة، فهذا عندهم امتثال قطعي لهذا العاجز لا أنّه امتثال احتمالي.

و لكن لا يخفى أنّه ليس مجرّد الاحتمال كافيا و لو وسعت دائرته تمام الجهات الأربع، بل له حدّ مضبوط عندهم ربما يكون مقدار شبر أو أنقص بيسير، و أمّا المتمكّن فحاله على خلاف هذا، فيطلبون منه تحصيل ذلك المعنى المتقدّم، فراجع العرف في أمرهم باستقبال كربلاء المشرّفة و استقبال كوكب الجدي فمصداقهما عندهم مختلف بالطريق الذي ذكرنا، هذا مقتضى القاعدة و لو لم يكن لنا خبر الإرجاع إلى الجدي.

و أمّا مع ملاحظته فيمكن استفادة الأوسع من هذا الذي ذكر بالنسبة إلى العاجز عن تحصيل النقطة الحقيقيّة المحاذية لأقصر الخطوط، و ذلك لخبر محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام «قال: سألته عن القبلة فقال عليه السّلام: ضع الجدي في قفاك و صلّه» «1».

و في مرسل الصدوق قال: «قال رجل للصادق عليه السّلام: إنّي أكون في السفر و لا أهتدي إلى القبلة بالليل؟ فقال عليه السّلام: أ تعرف الكوكب الذي يقال له: جدي؟

قلت: نعم، قال عليه السّلام: اجعله على يمينك، و إذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب القبلة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب القبلة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 141

فإنّه يستفاد من إطلاق الخبرين كفاية وضع الجدي في القفا و بين الكتفين بمسمّاه العرفي من دون أمر بالمداقّة فيه بأن يقف إنسان آخر بحذائه و يجعله في النقطة الحقيقيّة المتوسّطة في عنقه أو بين كتفيه، بل أوكله إلى نفس المكلّف، مع أنّ حالات الجدي أيضا مختلفة

و لم يعيّن حالة مخصوصة منها.

فنعلم من هذا اغتفار هذا المقدار من الاختلاف الناشئ من هذه الجهات و لو أورث العلم بالخروج عن الخطّ المحتمل الانطباق على أقصر الخطوط الذي قلنا إنّه قبلة عرفيّة لغير المتمكّن، و ذلك لإطلاق الرواية من هذه الحيثيّة.

و لكن لا يخفى أنّه يتوقّف استفادة هذا على تنزيل الخبر على بلد السائل أعني: الكوفة، و ذلك لأنّ من المعلوم أنّ قبلة الكوفة و ما والاها على ما ذكره العلماء قدّس أسرارهم يعرف بجعل الجدي خلف المنكب الأيمن بواسطة مقدار طول هذه البلدة و عرضها مع مكّة المشرّفة.

فعلى هذا الخبر يجوز التعدّي عن هذا المقدار بجعل الجدي على القفا، مع أنّ توسعة وضع الجدي في القفا بملاحظة اختلاف ضخامة الأعناق ربما يصل إلى مقدار شبر، فيجوز لنا التعدّي عن النقاط المحتملة إلى كلّ من طرفيها بمقدار شبر في سائر البلاد أيضا، مع أنّه يحصل لنا العلم بالخروج عن المحاذاة الحقيقيّة حينئذ.

لا يقال: فهذا ينافي مع ما اعترفت من اختصاص التوسعة المستفادة من الخبر لغير المتمكّن، لعدم الإطلاق له بالنسبة إلى المتمكّن.

لأنّا نقول: الذي نعترف به عدم إطلاقه بالنسبة إلى المتمكّن من العلم التفصيلي بالمحاذاة الحقيقيّة، و أمّا المتمكّن بنحو العلم الإجمالي بحيث يعلم كون الانحراف عن أطراف علمه انحرافا عن القبلة، و لكن لا يتميّز جهة الكعبة المشرّفة مفصّلا فهو داخل تحت الإطلاق.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 142

و الحاصل هذا المعنى المستفاد من الخبر لا معارض له في شي ء من الأخبار و لا من غيرها، إذ أوّلا ليس اللسان لسان الأماريّة حتّى يقال: لا يعقل جعل مثل هذا أمارة، بل لسان الإلحاق و التنزيل.

و أمّا الأدلّة الدالّة على أنّ الكعبة قبلتنا

فنحن نقول: هي قبلتنا، و لكن هذا الخبر يعلّمنا كيفيّة استقبالها، ألا ترى أنّه لو كان الأخبار الحاكية لأنّ ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه بلا معارض ممّا دلّ على لزوم تحويل الوجه إلى القبلة لمن التفت في أثناء صلاته أنّه منحرف عن القبلة في ما بين المشرق و المغرب، لكان القول بمفادها متعيّنا.

و حينئذ كانت القبلة الواقعيّة بالنسبة إلى العاجز هو ذلك المقدار، فهكذا الكلام بالنسبة إلى الخبرين المذكورين، فلا بدّ من الأخذ بمفادهما من التوسعة المذكورة، لسلامتهما عن المعارض.

لا يقال: إذا بنيت على خبر الجدي فلم لا تعمل بإطلاقه، فإنّ خصوص المورد لا يخصّص الوارد، و إلّا فكلّ سائل عن كلّ مسألة لا محالة يكون جاهلا، فيلزم على قولك اختصاص الجواب بالجاهلين.

لأنّا نقول: فرق بين السؤال في الأحكام و في الموضوعات، ففي الاولى لا يوجب جهل السائل تخصيص الجواب ما لم يكن في الكلام تقييد، و أمّا في الثانية فلا يمكن التعدّي عن الجاهل، إذ المفروض أنّه كان عالما في مسألتنا بأنّ القبلة هو الكعبة و أنّ استقبالها بحسب المفهوم ما ذا، و إنّما تمحّض شكّه في أنّه في أيّ نقطة تكون الكعبة حتّى يستقبلها، و هذا سؤال موضوعي، فإن أمكن تعيين النقطة الحقيقيّة و الاستقبال الحقيقي له كان هو المتعيّن، لكن لمّا لم يمكن ذلك قال عليه السّلام:

ضع الجدي في قفاك و صلّه، فكيف يمكن على هذا التعدّي إلى الرصدي الذي يمكنه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 143

العلم بالجهة الحقيقيّة؟

و الحاصل أنّه ليس مشتبها في القبلة بمفهومها العامّ حتّى يكون الجواب عامّا و لا في الاستقبال بمفهومه العامّ حتّى يكون كذلك، بل سؤاله ممحّض في الموضوع بعد تينك المقدّمتين، و

لا محالة يكون الجواب مقصورا حينئذ على غير العالم بالموضوع، و إلّا فالعالم بالموضوع لا عذر له في مخالفة استقبال الكعبة المشرّفة.

و هذا بخلاف الحال في إطلاقه بالنسبة إلى العالم تفصيلا بالانحراف مع الجهل تفصيلا بنقطة الاستقبال الحقيقي، فإنّه غير قابل للإنكار، فإنّه عليه السّلام عيّن هذا الدستور للجاهل المذكور، فله الأخذ بإطلاق الكلام حيثما ساقه، و قد عرفت أنّ الكلام مفيد بإطلاقه جواز الانحراف و لو كان معلوما تفصيليّا مع الجهل التفصيلي بنقطة الاستقبال.

هذا و لكنّ الإنصاف يقتضي خلاف ما قوّيناه من استفادة جواز الانحراف عن النقاط المحتملة كونها أقصر الخطوط من الخبر المزبور، لأنّك عرفت أنّها مبنيّة على حمل الخبر على بلد محمّد بن مسلم و هو كوفي، بعد العلم بمعرفته انحراف قبلة بلده عن نقطة الجنوب، و العلم بتساوي الناس و البلدان في الحكم، لكن للمنع عن المبنى المذكور مجال واسع، إذ لا شاهد عليه، إذ السائل إنّما سأل عن القبلة حين كونه مسافرا، فلعلّه كان سؤاله راجعا إلى سفر مخصوص و كان الجواب راجعا إلى تعيين قبلة مكان مسافرته، لا أنّه سأل عن قبلة بلده.

و حينئذ فغاية ما يستفاد من الخبر التوسعة في القبلة بمقدار الشبر، لأنّه لازم تعيينها بوضع الجدي على القفا كما يعلم بيانه من السابق، و هو مطابق لمقدار التوسعة في الجهة العرفيّة، فلا يستفاد الانحراف عن الجهة العرفيّة بناء على هذا، فتدبّر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 144

هذا حاصل الكلام في المقام، و أمّا تعيين نقاط البلدان فخارج عن شأن الفقيه، كما أنّ التكلّم في مرادات الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم من كلماتهم في هذا المقام شاغل عن الأهمّ، و لا بأس بالتكلّم في مقامين:

أحدهما: ما ورد به

الأخبار و على طبقه الأقوال من الفقهاء الأبرار من أنّ قبلة المسجد الكعبة المشرّفة، و قبلة الحرم المسجد الحرام، و قبلة خارج الحرم الحرم «1».

فنقول: بعد القطع بعدم إرادة ظاهر هذا المضمون من جواز استقبال الواقف خارج المسجد ممّا يلي جدرانه بحذاء بعض المسجد و لو كان خارجا عن محاذاة الكعبة المشرّفة بكثير، و كذا الخارج عن الحرم ممّا يلي جزءه الآخر، يمكن حملها على إفادة ما ذكرناه، و تقريبه إلى أذهان الناس من اتّساع الجهة الحقيقيّة كلّما ازداد البعد، فربما يصير جهة الكعبة مع المسجد واحدة، و ربما يكون جهتها مع الحرم كذلك، و ذلك بالنسبة إلى خارج المسجد، و إلّا فداخل المسجد ليس له إلّا جهة ضيّقة.

و ثانيهما: ما ورد به أيضا خبران و قال به بعض العلماء قدّس سرّهم من استحباب التياسر للعراقيين، و الأصل فيه خبر المفضّل بن عمر «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة و عن السبب فيه؟ فقال عليه السّلام: إنّ الحجر الأسود لمّا انزل به من الجنّة و وضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر، فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال و عن يساره ثمانية أميال كلّه اثنا عشر ميلا، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة، لقلّة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب القبلة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 145

أنصاب الحرم، و إذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عن حدّ القبلة» «1».

و قريب منه مرفوع عليّ بن محمّد، و الكلام هنا في أمرين:

الأوّل: في جواب ما أورده سلطان المحقّقين الخواجة نصير الدين الطوسي لمّا حضر مجلس درس المحقّق الأوّل أعلى

اللّٰه مقامهما و بيان دفعه.

و الثاني: في ما يستفاد من الخبرين.

أمّا الأوّل: فحاصل إيراده قدّس سرّه أنّ التياسر أمر إضافي يحتاج إلى مضاف إليه، فالجهة التي يضاف إليها التياسر و يكون التياسر عنها إلى غيرها لا يخلو إمّا أن تكون هي القبلة، فالتياسر عنها حرام، و إمّا أن يكون غيرها أعني: المتياسر إليها، فالتياسر واجب، فما معنى الحكم باستحبابه.

و أجاب عنه المحقّق على ما في روض الجنان بأنّ الانحراف عن القبلة للتوسّط فيها لاتّساعها من جانب اليسار، لأنّ أنصاب القبلة إلى يسار الكعبة أكثر، ثمّ صنّف رسالة في تحقيق الجواب و بعثها إليه فاستحسنها العلّامة الطوسي رحمه اللّٰه حين وقف عليها، و نقلها بتمامها في المهذّب البارع في شرح المختصر النافع.

و أنت خبير بطريق دفعه بعد ما مرّ من البيانات السابقة، فإنّ الجهة العرفيّة- التي هي قبلة البعيد- فيها اتّساع و اشتمال على نقاط كلّها محتملة الانطباق على نقطة الاستقبال الحقيقي، فمن الممكن أن يكون الشارع تعبّدنا بأنّ التمايل عن وسط هذه النقاط إلى جانب يسارها مستحبّ و إن كانت العلّة التي وردت في الخبر تناسب القول بكون القبلة للبعيد هي الحرم لا الكعبة، و لكن يمكن تصحيحها على القول الآخر أيضا بأن نقول: من الممكن كون صيرورة الأنصاب في جانب اليسار أكثر،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب القبلة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 146

علّة تعبّدية لهذا الحكم و إن لم نفهم مناسبته.

و أمّا ما يستفاد من الخبرين فلا يبعد أن يقال: إنّه لا يفهم منه و لو بملاحظة التعليل أزيد من استحباب التياسر عند إرادة الانحراف لا مطلقا حتّى بالنسبة إلى الاعتدال، فإنّه لا ينافي مع العلّة المذكورة أعني: كثرة

الأنصاب في جانب اليسار و قلّتها في اليمين، كما لا يخفى.

فالمناسب هو استحباب التياسر عند إرادة الانحراف بالنسبة إلى التيامن، ثمّ من المعلوم اختصاص الحكم بالعراق.

نعم ربما يمكن التعدّي إلى ما يقابلها من البلاد الواقعة بحذائها في جنوب الكعبة المشرّفة فيقال باستحباب التيامن لهم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 147

الفصل الثاني في أحكام المستقبل

اشارة

قد عرفت أنّ قبلة المتمكّن هو نقطة الاستقبال الحقيقي، و غير المتمكّن هو الجهة بمعنى قوس صغير بمقدار أربع أصابع تقريبا كان كلّ من طرفيه مقطوع الانحراف، و كلّ من نقاط وسطها محتمل الاستقبال بذلك المعنى، فالوقوف بحذاء كلّ من نقاط الوسط استقبال في حقّ النائي الغير المتمكّن حقيقة، لا من باب الموافقة الاحتماليّة، بل قد عرفت زيادة الترخيص من خبري الجدي.

و الكلام الآن في أنّه لو تعيّن عنده نقطة الاستقبال الحقيقي أو الجهة المذكورة علما أو بما هو كالعلم فلا كلام، و كذا كان كلّ من نقاط الجهة متساوية الاحتمال، و أمّا إذا تعذّر تحصيل العلم و أمكن الظنّ فهل يجب تحصيله و اتّباعه أو لا؟

و الكلام تارة مفروض في ما إذا أمكن تحصيله بالنسبة إلى نقطة من نقاط الجهة، و اخرى فيما إذا تردّدت الجهة المذكورة بين مواضع متباينة و أمكن تعيين الواقعيّة منها ظنّا.

أمّا الكلام في الصورة الأولى فمحصّله أنّه يمكن القول بوجوب تحصيله و اتّباعه من دون حاجة إلى دليل اعتبار، بل بنفس القاعدة الأوّليّة، و ذلك لأنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 148

يحصل الشكّ لنا في أنّه هل يحصل امتثال: صلّ إلى القبلة بالصلاة نحو النقطة الموهومة أو لا، بعد القطع بحصوله بالصلاة نحو النقطة المظنونة، و إذا دار الأمر بين الامتثال المشكوك و المقطوع فالعقل يعيّن الثاني.

في حجّية مطلق الظنّ عند تعذّر العلم الإجمالي

نعم لو قطع المكلّف بصدق الاستقبال العرفي مع هذا الظنّ أيضا كان مستريحا عن حكم العقل المذكور، و لكن أنّى لنا بهذا القطع، فالمتيقّن من الصدق المذكور صورة عدم وجوده كالعلم.

و الحاصل أنّه مع الشكّ في الصدق المذكور لا محيص عن الاشتغال، و على هذا يحصل الشكّ في إطلاق خبر الجدي

أيضا.

و أمّا الصورة الثانية أعني: اشتباه الجهة بين موضعين متباينين أو ثلاثة أو أربعة متقاطعة بزوايا قوائم مثلا و كان المظنون إحداها، فتارة نتكلّم على حسب القاعدة، و اخرى على حسب ما تقتضيه أدلّة الباب.

أمّا مقتضى القاعدة فهذا الظنّ ظنّ قائم بأحد أطراف العلم الإجمالي مع عدم الدليل على حجّيته، فلا محيص عن الاحتياط بتكرار الصلاة إلى كلّ من الجهات المحتملة، و هذا واضح.

و أمّا مقتضى أدلّة الباب فربما يقال بإطلاق قوله عليه السّلام: ما بين المشرق و المغرب قبلة، بالنسبة إلى هذا الفرض، فإنّه رواية صحيحة قد عمل بها العلماء رضوان اللّٰه عليهم، غاية الأمر قد وفّقوا بينها و بين روايات التحويل بحملها على الناسي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 149

فنقول: هذا تقييد منفصل، فالمتيقّن تقييده بالنسبة إلى العالم بالجهة العرفيّة تفصيلا، و أمّا من تردّدت عنده بين نقطتين متمايزتين ممّا بين المشرق و المغرب فالإطلاق لم يعلم تقييده بالنسبة إليه، فأيّ مانع من القول بكفاية الصلاة له إلى أيّة من نقاط هذا الحدّ.

و لكن فيه عدم الإطلاق، و ذلك لوروده عقيب قوله عليه السّلام: لا صلاة إلّا إلى القبلة، فمن المحتمل أنّه كان في البين قرينة متّصلة و خفيت علينا، أو أنّه كان في مقام جعل ما بين المشرق و المغرب هو القبلة المطلقة التي لا يصحّ الصلاة بدونها في حال من الحالات، فليس لها إطلاق.

و بعبارة أخرى: الرواية بصدد عدم الإعادة لمن انحرف بهذا القدر نسيانا، و الإعادة لمن انحرف بالزيادة عليه بأيّ نحو كان، و لا يدلّ على جواز هذا القدر ابتداء و من أوّل الشروع في الصلاة متعمّدا.

و قد يقال بحجّية الظنّ المطلق في هذا الفرض تمسّكا بموثّقة سماعة المتقدّمة

في باب المواقيت المشتملة على قوله عليه السّلام: اجتهد رأيك و تعمّد القبلة جهدك.

و لكنّك عرفت ما يوهن حملها على ما يشمل اشتباه القبلة، و يقرب اختصاصها باشتباه الوقت، فراجع.

و الأولى الاقتصار في المقام على التمسّك بصحيحة زرارة: «يجزي التحرّي أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة» «1».

و دلالتها كالصريحة في جواز الاجتزاء بالتحرّي و الاجتهاد في القبلة عند عدم التمكّن من العلم، و النسبة بينها و بين ما دلّ على الصلاة لأربع وجوه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب القبلة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 150

و إن كانت بالعموم من وجه، لكنّ الأمر دائر بين تقييد هذه بالفرد النادر و هو صورة عدم التمكّن إلّا من صلاة واحدة، مضافا إلى استبعاد سعة الوقت للتحرّي، دون الأربع صلوات، و بين تقييد تلك بصورة تعذّر التحرّي، و هذا أولى، كما لا يخفى.

و أمّا معارضتها بمرسلة خراش عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: «قلت: جعلت فداك، إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون: إذا أطبقت علينا السماء أو أظلمت فلم نعرف السماء، كنّا و أنتم سواء في الاجتهاد؟ فقال عليه السّلام: ليس كما يقولون، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه» «1». حيث يستظهر منها عدم الاجتهاد في القبلة و تعيّن الاحتياط.

فمدفوعة بعدم ارتباط المرسلة بهذا المقام، أعني: الاجتهاد في الموضوع، فإنّ المستفاد من قول المخالفين في مقام الاعتراض على الشيعة الطاعنين عليهم بالقياس و إعمال الرأي في أحكام اللّٰه أنّ مرادهم الاجتهاد في الحكم الشرعي في هذا الفرض.

فمقصودهم أنّا و أنتم سواء في الحاجة إلى إعمال الرأي و النظر في فهم حكم اللّٰه في هذه الحالة، فأجابه الإمام عليه السّلام بأنّا

في هذه الحالة أيضا لا نقيس و لا نجتهد، بل نعمل بمقتضى العلم الإجمالي و نحتاط بالصلاة لأربع وجوه، و إلّا فلو كان الغرض الاجتهاد في تشخيص الموضوع فأوّلا لم يكن وجه لاستشكال المخالفين، لعدم المشابهة بينه و بين الاجتهاد في الأحكام.

و ثانيا لم يكن وجه لتسليم الإمام عليه السّلام أنّه لو لا الاحتياط كان الإشكال

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القبلة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 151

واردا، بل كان حقّ الجواب عدم المناسبة بين الاجتهادين.

و يؤيّد ذلك أنّه فرض إطباق السماء و ظلمتها، و مع هذا يبعد وجود أمارة يستكشف بها القبلة، و يتعيّن كون المراد هو الاجتهاد و الاستحسان الظنّي في الحكم.

ثمّ بعد ما عرفت من حجّية الظنّ الاجتهادي لو قامت البيّنة على خلافه يمكن أن يقال بتقديم البيّنة بملاحظة قوله عليه السّلام: إذا لم يعلم أين وجه القبلة، فإنّ الظاهر من العلم هو بوجه الطريقيّة، فيقوم مقامه سائر الطرق، فيكون الظنّ الاجتهاديّ طريقا حيث لا طريق.

و الظاهر أنّ خبر العدل بل غيره إن أوجب الظنّ يعتمد عليه، و هو من باب العمل بالظنّ لا بالخبر، و هو واضح، كما أنّ الظاهر جواز اختيار طريقة الاحتياط و ترك الاجتهاد بعد ما تقرّر في محلّه من عدم اعتبار نيّة الوجه في العبادة، و جواز الاحتياط و إن استلزم التكرار، لكن حينئذ لا بدّ له من الإتيان بعدد يوجب الجزم بالصلاة في الجهة الواقعيّة، و لا يكفي الإتيان بأربع جوانب، فإنّه غير محصّل لذلك، فإنّ من المحتمل الانحراف بمقدار ثمن الدائرة، و هو غير مغتفر في الجهة العرفيّة، و لعلّه يكفي الإتيان بعشر صلوات في عشرة جوانب في تحصيل القطع

المزبور.

هذا كلّه مع اشتباه القبلة بين الجهات و تمكّن الاجتهاد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 152

في حكم المتحيّر في القبلة بين الجهات الأربع

و أمّا مع اشتباهها و تعذّره ففي بعض الأخبار الاكتفاء بالصلاة إلى جهة واحدة، و هي مرسلة ابن أبي عمير عن زرارة، «سألت أبا جعفر عليهما السّلام عن قبلة المتحيّر؟ قال عليه السّلام: يصلّي حيث يشاء» «1».

و صحيح زرارة و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السّلام: «يجزي المتحيّر أبدا أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة» «2».

بناء على أنّه غير الصحيح المتقدّم في التحرّي، فإنّه احتمل بعض كونهما واحدة و أنّ كلمة «التحرّي» صحّفت بالمتحيّر، مؤيّدا بعدم نقل التهذيب و الاستبصار هذه الرواية عن الفقيه مع استقرار دأبهما على نقل ما في الفقيه ممّا يعارض ما نقلاه من الرواية.

و ما في الصحيح المرويّ في الفقيه عن معاوية بن عمّار أنّه «سأل الصادق عليه السّلام عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا، فقال عليه السّلام له: قد مضت صلاته، و ما بين المشرق و المغرب قبلة» «3» و نزلت هذه الآية في المتحيّر وَ لِلّٰهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القبلة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القبلة، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القبلة، الحديث 1.

(4) البقرة: 115.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 153

بناء على كون التتمّة أعني قوله: و نزلت إلخ من قول الصادق عليه السّلام، و لكن يبعّده عدم الملاءمة بين أجزاء الكلام على هذا التقدير، إلّا أن يكون مستأنفا و غير مرتبط بسابقه، لكن

الظاهر كونه من كلام الصدوق رحمه اللّٰه.

و على كلّ حال فيعار هذه ما تقدّم في مرسلة خراش من قوله عليه السّلام:

فليصلّ لأربع وجوه مؤيّدا بمرسلتي الكافي و الفقيه.

قال في الأوّل: «و روي أنّ المتحيّر يصلّي إلى أربعة جوانب» «1».

و في الثاني: «روي في من لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أن يصلّي إلى أربعة جوانب» «2».

لكن من المحتمل إرادتهما مرسلة خراش المتقدّمة، فالعمدة التكلّم في وجه الجمع بينها و بين ما تقدّم.

فنقول: من المحتمل قريبا أن يكون نظر الإمام عليه السّلام في مرسلة خراش مقصورا على فرض فرضه السائل من فرض عدم نصّ في الكتاب و السنّة يبيّن الحكم مع اشتباه القبلة من كلّ الجهة، ففي هذا الفرض اعترض المخالف بأنّكم معاشر الشيعة أيضا ملجئون بالرجوع إلى الاستحسان و المصالح الظنّية، فأجاب عليه السّلام بأنّه في هذا الفرض أيضا لا تصل النوبة إلى العمل بذلك، بل المتعيّن هو العمل بالاحتياط و الصلاة إلى أربع جهات، فإنّه تحصيل للقبلة الواقعيّة المجعولة في هذا الحال التي هي أوسع من الجهة العرفيّة، و يكون بمقدار ثمن الدائرة، فإنّ الصلاة إلى أربع جهات متقاطعة محصّلة قطعيّة لهذه القبلة الواقعيّة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب القبلة، الحديث 4.

(2) المصدر، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 154

و على هذا فلا منافاة في هذه مع ما في تلك من كون الحكم في المتحيّر هو الصلاة إلى جهة واحدة.

و كيف كان، فعلى تقدير البناء على المرسلة و الحكم بتعيين الأربع فالظاهر أنّه ليس حكما بالاحتياط لتحصيل الجهة العرفيّة التي قلنا: إنّها قبلة واقعيّة للبعيد، و إلّا لزم المخالفة القطعيّة في صلاتين ادّيتا إلى جهات متخالفة، مع أنّه ليس هذا المقدار

محصّلا لها كما مرّ، بل الظاهر أنّه توسيع للقبلة بالنسبة إلى هذا الشخص بمقدار ثمن الدائرة، فيكون الأربع احتياطا في تحصيل هذا الموضوع.

و ينبغي التنبيه على فروع:

الأوّل: الظاهر المتبادر إلى الذهن من الوجوه الأربع هو الجهات المتقاطعة بخطّين منقسمين إلى أربع زوايا قوائم، فإنّ غيره غير محصّل للاحتياط المطلوب.

الثاني: إذا صلّى صلاة إلى وجوه أربعة، فهل له تبديل تلك الوجوه بما يخالفها لصلاة أخرى؟ الظاهر ذلك، لإطلاق الرواية، فلا يجب عليه الالتزام في الصلاة المتأخّرة بما اختاره في الصلاة الاولى، بل له التغيير في كلّ صلاة مع رعاية ما ذكرنا من تقاطع الخطّين بأربع زوايا قوائم.

الثالث: هل له أن يأتي بالظهر في طرف واحد، و بالعصر بعده إمّا في هذا الطرف، أو في ما يخالفه، ثمّ يأتي بظهر و عصر آخرين على خلاف الطرف الأوّل، و هكذا إلى أن يتمّ أربع صلوات للظهر و أربع للعصر، أو أنّه يجب عليه أن لا يشتغل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 155

بالعصر حتّى يأتي بأربع الظهر كملا؟

الظاهر التفصيل بين اتّحاد الجهة التي يأتي إليها الظهر و العصر، و بين اختلافها، فمع الاتّحاد لا مانع، لأنّه بعد الفراغ يقطع بإتيان ظهر و عصر مرتّبين مع وجدانهما للقبلة، و أمّا مع الاختلاف فيحتمل أن يكون الواجد للقبلة من العصر متقدّما على الواجد لها من الظهر، فلم يحصل الترتيب حينئذ، فلا بدّ من عدم الاكتفاء بهذه الكيفيّة، لئلّا يقع في الشكّ من جهة الترتيب.

و أمّا مع اتّحاد الجهتين في جميع الأدوار فالذي يتصوّر مانعا عدم إمكان الجزم بالنيّة في العصر المرتّب، بخلاف ما لو أخّر أربع العصر عن جميع أربع الظهر، فإنّه جازم بحيث الترتيب، و لكن قد تقرّر في

محلّه عدم لزوم الجزم في النيّة و جواز الاحتياط و إن استلزم تكرار العمل، و اللّٰه العاصم عن الزلل في القول و العمل.

بقي الكلام في أنّه هل لنا ظنّ مخصوص في تعيين القبلة غير البيّنة حتّى يكون عند تعارضه مع الأمارة الاجتهاديّة مقدّما عليها، كما قلنا في البيّنة، أو ليس؟

الظاهر الثاني، فكلّ ما يتوهّم كونه كذلك من كيفيّة وضع الجدي على حسب ميزان درجة البلد طولا و عرضا و غير ذلك من العلائم من قبلة بلاد المسلمين من محاريبها و قبورها، كلّ ذلك معتبرة من باب إفادة الظنّ الشخصي، فلو لم يفد الظنّ فلا اعتبار به، و ذلك لأنّه لم يقم دليل على اعتبار الجدي فضلا عن غيره في بلد مخصوص، كما عرفت التكلّم فيه.

و حينئذ فإن تعارض اجتهاد الشخص مع قبلة البلد فالمتّبع ما أفاد الظنّ منهما و إن تساويا، فإن كان اختلافهما لا يخرج عن الجهة العرفيّة دخل في من قبلته الجهة العرفيّة، لأنّه غير متمكّن، و إن كان فاحشا بحيث يخرج عن مقدارها، فالمتعيّن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 156

الاحتياط بتكرار الصلاة إلى كلّ من الجهتين بناء على ما أسلفنا من عدم استفادة العموم من قوله عليه السّلام: ما بين المشرق و المغرب قبلة، لأنّ المتيقّن من موارد صدوره أنّه القبلة المعتبرة في كلّ حال بحيث لا يغمض الشارع عنها في شي ء من الحالات، نظير الطهارة الحدثيّة، فلا يدلّ على أنّه في حال الاختيار يكون قبلة بحيث يجوز الدخول في الصلاة بهذه القبلة، مع كون المكلّف قادرا على الاحتياط، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 157

الفصل الثالث في المستقبل له

اشارة

اعلم أنّه لا إشكال في وجوب الاستقبال في الصلاة الواجبة الأصليّة حتّى صلاة

الجنازة من غير فرق بين السفر و الحضر مع التمكّن و الاختيار، و الفريضة الأصليّة التي صارت نفلا بالعرض كالمعادة حكمها حكم أصلها كما يأتي.

كما أنّه لا إشكال في اشتراطه في الأجزاء المنسيّة و الركعات الاحتياطيّة، بل و سجدتي السهو على ما يبيّن في محلّه إن شاء اللّٰه تعالى.

و لا إشكال أيضا في خروج النافلة بالأصل عن هذا الحكم أعني: شرطيّة الاستقبال في الجملة، حتّى لو صارت فرضا بالعرض كالنذر و أخويه، على ما يأتي تحقيقه.

إنّما الكلام الآن في مقامين:
الأوّل: هل الحكم في النافلة مختصّ بحال الركوب و المشي

و إن كانا في الحضر أو يعمّهما و حالة الاستقرار، فيجوز للإنسان صلاة النافلة إلى غير القبلة مختارا في الحضر و السفر في حال استقراره على الأرض.

و الثاني: هل الحكم مختصّ بغير التكبيرة
اشارة

و أمّا هي فيجب الاستقبال فيها أو يعمّها و سائر الأجزاء؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 158

قد يقال في كلا المقامين بالتعميم نظرا إلى إطلاق ما دلّ من النقل المستفيض على أنّ قوله تعالى فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ نزل في النافلة، فإنّه شامل لحالتي الاستقرار و غيره و التكبيرة و غيرها.

فإن قلت: إنّه لا إطلاق له بل المنساق منه أنّه نزل في النافلة لا الفريضة، و أمّا أنّ موضعه في النافلة ما ذا فليس بهذا الصدد حتّى يكون له إطلاق.

قلت: المتبادر من مقابلة الفريضة و النافلة و مناسبة النافلة لسهولة المئونة كون هذا الحكم المدلول عليه بالآية من خاصّته حيثيّة النفليّة في مقابل الفرضيّة.

و أمّا ورود التقييد في بعض الأخبار بحال الركوب و المشي أو بالاستقبال في حال التكبيرة فلا يوجب رفع اليد عن هذا الإطلاق بناء على ما ثبت في محلّه من عدم حمل المطلق على المقيّد في المندوبات، بل يحمل ذلك فيها على مراتب الفضل.

و تفصيل الكلام أنّه قد ورد في الأخبار الكثيرة جواز النافلة على الراحلة سفرا، بل و حضرا حسب التصريح في روايات حيث سأل في إحداها «عن الرجل يصلّي النوافل في الأمصار و هو على دابّته حيث ما توجّهت، فقال: لا بأس» «1».

و في الأخرى: «في الرجل يصلّي النافلة و هو على دابّته في الأمصار؟

قال عليه السّلام: لا بأس» «2».

و في الثالثة: «سألته عن صلاة النافلة في الحضر على ظهر الدابّة إذا خرجت قريبا من أبيات الكوفة أو كنت مستعجلا بالكوفة، فقال

عليه السّلام: إن كنت مستعجلا لا تقدر على النزول و تخوّفت فوت ذلك إن تركته و أنت راكب فنعم، و إلّا فإنّ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القبلة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القبلة، الحديث 10.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 159

صلاتك على الأرض أحبّ إليّ» «1».

فمقتضى هذه الروايات جواز النافلة على الدابّة و لو حضرا في حال الاختيار، و إن كان في حال النزول أفضل.

و أمّا في حال المشي سفرا أو حضرا فمقتضى بعض الأخبار الجواز فيه أيضا اختيارا، ففي بعضها: «كان- يعني أبا جعفر عليه السّلام- لا يرى بأسا بأنّ يصلّي الماشي و هو يمشي، و لكن لا يسوق الإبل» «2».

و في آخر: «سألته عن الرجل يصلّي و هو يمشي تطوّعا؟ قال: نعم» «3».

و قريب منها أخبار أخر، و لولاها لم يمكن التعدّي من حال الركوب إلى المشي، لاحتمال مدخليّة الركوب في الحكم باعتبار زيادة اطمئنان البدن فيه من حال المشي.

و أمّا جواز ترك الاستقبال في حال التكبيرة أيضا فمقتضى إطلاق كثير من الأخبار ذلك و خصوصا مع الاهتمام بشأن التكبيرة و كونها الجزء العمدة للصلاة، و خصوصا الخبر الحاكي لفعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله حين رجوعه صلّى اللّٰه عليه و آله من مكّة و جعله الكعبة خلف ظهره من أنّه صلّى اللّٰه عليه و آله صلّى إيماء على راحلة أينما توجّهت به «4»، مع عدم ذكر استقباله بالتكبيرة، فلو كان معتبرا لزم التعرّض له.

و الحاصل يلزم من إرادة المقيّد لبّا من هذه المطلقات الكثيرة نقض الغرض

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القبلة، الحديث 12.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16

من أبواب القبلة، الحديث 5.

(3) المصدر، الحديث 6.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القبلة، الحديث 20.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 160

غالبا، فيكون هذه قرينة على حمل ما ذكر فيه الاستقبال بالتكبيرة من الأخبار، و هو خبران على الأفضليّة.

هذا مضافا إلى التصريح بعدم لزوم الاستقبال في حال التكبيرة في رواية الحلبي بناء على زيادة ذكرها الكليني رحمه اللّٰه في الكافي، فإنّ فيها: «قلت: استقبل القبلة إذا أردت التكبير؟ قال عليه السّلام: لا، و لكن تكبّر حيثما كنت متوجّها، و كذلك فعل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله» «1».

بقي الكلام في أنّه هل يجوز النافلة في حال الاستقرار على الأرض أيضا

بغير القبلة أو يشترط فيها حينئذ الاستقبال؟ ظاهر رواية البزنطي عن الرضا صلوات اللّٰه عليه عدمه، «قال: سألته عن الرجل يلتفت في صلاته، هل يقطع ذلك صلاته؟

قال عليه السّلام: إذا كانت الفريضة و التفت إلى خلفه فقد قطع صلاته فيعيد ما صلّى و لا يعتدّ به، و إن كانت نافلة لم يقطع ذلك صلاته، و لكن لا يعود» «2».

و هو مقتضى ما دلّ على أنّ قوله تعالى فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ ليست بمنسوخة و أنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر، و لا يضرّ التقييد بحال السفر بعد ما عرفت من الإطلاق و التنصيص في الحضر، فيجب حمله على تعدّد المطلوب.

مع أنّه على فرض الإجمال لا عموم و إطلاق في البين يوجب الاشتراط في النافلة، إذ ما يتوهّم عمومه قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «3». و قوله في صحيحة زرارة: «لا صلاة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب القبلة، الحديث 8.

(2)؟؟؟.

(3) البقرة: 144.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 161

إلّا إلى القبلة» «1».

و لا

عموم لهما بعد ورود الخبر بأنّ الآية واردة في الفريضة، و هو خبر زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه قال عليه السّلام: «استقبل القبلة بوجهك و لا تقلّب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول لنبيّه صلّى اللّٰه عليه و آله في الفريضة فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ الحديث» «2».

لا يقال: إنّ من المقرّر أنّ المخصّص المنفصل إذا تردّد بين الأقلّ و الأكثر مفهوما فالمرجع عموم العامّ، و مقامنا من هذا القبيل، فمقتضى عموم الآية و الصحيحة اشتراط الاستقبال في الفريضة و النافلة في جميع الحالات، فلا بدّ في الخروج عنه من التماس دليل معتبر.

لأنّا نقول: نعم الأمر كما ذكرت في المخصّص المنفصل، و لكن المقام ليس منه، بل من المفسّر و الحاكم، و فيه لا نسلّم جواز الرجوع إلى عموم المحكوم بعد إجمال الحاكم.

فإذا ورد عموم: لا صلاة إلّا إلى القبلة، و عموم فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ ثمّ ورد تفسير الأوّل بالفريضة، و الثاني بالنافلة فلا يبقى لنا عموم مستقرّ الظهور وراء هذا المفسّر، فإن طرأ عليه الإجمال من حيث إطلاق الفريضة أو النافلة لبعض الأحوال فشككنا في شرطيّة الاستقبال فيهما في بعض الحالات و فرضنا إجمال المفسّر من هذه الجهة لا يمكننا رفع الشكّ بتوسّط شي ء من العمومين.

و الحاصل أنّه بعد فرض الإجمال لا محيص عن الرجوع إلى الأصل العملي

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب القبلة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب القبلة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 162

و هو فيما إذا تردّد الأمر بين الأقلّ و الأكثر في الواجبات أصالة البراءة

و قبح العقاب بلا بيان، و أمّا في المندوبات فيشكل ذلك بعدم عقاب حتّى يحكم برفعه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

إلّا أن يقال- كما حكاه شيخنا الأستاذ دام بقاه عن بعض السلف من أساتيده قدّست أسرارهم- بأنّه و إن لم يكن عقاب، لكن لا يخلو أيضا عن عتاب، و هو أيضا قبيح بدون البيان، أو يقال: نتمسّك بأصالة البراءة الشرعيّة بناء على شمول حديث الرفع للوضعيّات، فيحكم بتوسّطه بنفي شرطيّة القبلة، هذا.

و لكنّ المشهور أعرضوا عن الفتوى، حتّى حكي عن بعض أنّهم رموا القائل بعدم الاشتراط مع شذوذه و عدم معروفيّته بقوس واحد.

مضافا إلى أنّ إتيان النافلة بخلاف القبلة في حال الاستقرار يعدّ من المنكرات عند أهل الإسلام، فالاحتياط يقتضي الاجتناب.

ثمّ هل المراد بالنفل و الفرض الموضوعين للاشتراط و العدم في هذا المقام ما ذا؟

فيه خمسة احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد هو الذاتي منهما و إن تغيّر النفل عن النفليّة إلى الفرضيّة بالعرض كالنذر، و الفرض عن الفرضيّة إلى النفليّة كذلك كالصلاة المعادة.

الثاني: أن يكون هو الفعلي منهما، سواء كان نفلا بالذات أم فرضا كذلك.

الثالث: أن يكون المراد من النفل ما كان كذلك ذاتا و فعلا، و من الفرض ما كان كذلك ذاتا و فعلا، فيكون ما اختلف فيه الجهتان خارجا عن مدلول أدلّة الطرفين، و لا بدّ أن يعمل فيه على القواعد.

الرابع: أن يكون المراد بالنفل ما اتّصف بصفة النفليّة في الجملة، سواء كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 163

ذاتا فقط، أو فعلا فقط، أو منهما معا، فيكون الفرض عبارة عمّا اتّصف بالفرضيّة ذاتا و فعلا.

الخامس: عكس ذلك، أعني: أن يكون الفرض عبارة عمّا اتّصف بالفرضيّة بالأعمّ من الذاتيّة و الفعليّة أو كليهما، و النفل عبارة عمّا اتّصف بها ذاتا و فعلا، هذه أنحاء التصوّرات بحسب مقام

الثبوت.

و أمّا بحسب مقام الإثبات فقد يقال بعدم إمكان كون الوجوب الفعلي موضوعا للاشتراط، إذ اللازم منه كون الحكم مورثا لتقييد موضوعه، فالصلاة مع قطع النظر عن حكمها لا تقييد فيها، و إنّما يوجب تعلّق حكم الوجوب بها صيرورتها مقيّدة بالاستقبال، و هذا محال.

و أيضا يلزم أن يكون ناذر النافلة و لو لم يقيّدها بالاستقبال ملزما به، مع كونه غير ما التزمه، و وضوح أنّ أمر الوفاء بالنذر ليس بأزيد من الإلزام بما التزم.

و على هذا فالمحيص منحصر بأن يقال: إنّ المراد بالفرض هو الذاتي، و كذلك النفل، كما هو الاحتمال الأوّل.

و لكنّ الحقّ اندفاع كلا الأمرين.

أمّا إشكال عدم المعقوليّة فلأنّ الغير المعقول إنّما هو تأثير الحكم في موضوعه إمّا تقييدا و إمّا إطلاقا، و أمّا إذا لم يكن هناك تأثير، بل كان مجرّد أنّ الحكم الوجوبي لا يجتمع مع إطلاق موضوعه من حيث الاستقبال و كانا متنافيين بحيث دار الأمر بين صرف النظر عن الأمر رأسا أو الأمر و التقييد في الموضوع فلا محذور عقليّ أصلا، إذ المحذور ناش من الترتّب و الطوليّة، و لا ترتّب على هذا، بل الثابت مجرّد التلازم بين الحكم و التقييد و عدم إمكان الجمع بينه و بين الإطلاق.

و أمّا إشكال لزوم الالتزام بغير ما التزم فلأنّه أيضا إنّما يتوجّه لو قلنا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 164

باقتضاء النذر أزيد ممّا التزمه الناذر، و أمّا إذا قلنا بأنّ التقييد لم ينشأ من ناحية اقتضاء النذر، بل من جهة وجود المانع في الفرد الفاقد القيد بعد استواء نسبته من حيث الاقتضاء في جميع أفراد ما التزم فلا محذور.

مثلا لو نذر طبيعة الصوم من غير تقييدها بشي ء من أيام السنة

فهو من حيث النذر متساو النسبة إلى جميع الأيام، لكن حرمة صوم العيدين يمنع عن تأثير هذا المقتضى فيه الوجوب، فيتضيّق دائرة الوجوب قهرا بما عدا صوم العيدين.

و هكذا الكلام في ما نحن فيه لو قلنا بأنّ ظاهر الأدلّة اشتراط الاستقبال في الفرض الفعلي، فإنّا نقول: و إن كان الناذر لم يعلّق نذره إلّا بطبيعة الصلاة النافلة و معنى الأمر بالوفاء أيضا هو الإتيان بهذا، إلّا أنّه منع عن تأثير هذا المقتضي الوجوب في الفرد الفاقد للاستقبال مانع، فانحصر الوجوب قهرا بالفرد الآخر، أعني: الواجد للاستقبال.

و قد يقال باستظهار النفل الفعلي و الفرض كذلك، كما هو الاحتمال الثاني بمناسبة أنّ الوجوب يلائم مع التضييق و الاستحباب، و الطلب الندبي يلائمه التسهيل و قلّة المداقّة.

و فيه أنّه و إن كان الأمر كما ذكر، لكنّه لا يوجب ظهورا في اللفظ و هو المطلوب.

و الذي يقتضيه الإنصاف أن يقال بتبادر النفل الذاتي من النافلة، و الفرض كذلك من الفريضة.

و لعلّ السرّ أنّ النافلة المنذورة لا يرتفع بطروّ الأمر النذري ملاك ندبه، بل و لا ذات الطلب الندبي، بمعنى أنّه ينفكّ عنه الحدّ العدمي الذي هو فصل حدّ الاستحباب، و لكنّ المعنى الجامع بين وجود هذا الحدّ و عدمه و هو أصل الطلب باق،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 165

غاية الأمر أنّه مندكّ في الطلب الإيجابي.

و لا يخفى أنّ قوام عباديّته و الذي يكون داعيا للإنسان في حال عبادته إنّما هو ذات الأمر، لا هي مع هذا الحدّ العدمي، فعند النذر أيضا يكون ممتثلا لهذا الأمر و آتيا بالنافلة بمحرّكية أمرها، لا بمحرّكية أمر «ف بالنذر»، نعم الداعي له إلى هذا الإتيان بداعي أمر النافلة هو الأمر المذكور نظير

إتيان المستأجر بالصلوات الاستيجاريّة، حيث ليس عباديّته بالإتيان بداعي أمر «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»، بل بداعي الأمر الصلاتي، و الأمر المذكور داع على الداعي.

و بالجملة، المدّعى أنّ النافلة عبارة عن الفعل الذي تحقّق فيه ذات الأمر الندبي و إن انسلخ عنه حدّه، نعم الاستحباب المصطلح لا يطلق إلّا على واجد الحدّ.

و هكذا الكلام في الفريضة، فالمراد بها ما كان فيه ملاك الأمر الإيجابي و إن انسلخ عنه حدّ المنع عن النقيض، كما هو الحال فيما إذا أوجد العبد بعد الإتيان بفرد من الطبيعة المأمور بها قبل حصول الغرض الداعي إلى الأمر فردا آخر منها أوفق بذلك الغرض من الفرد الأوّل، كما لو أمره المولى بإحضار الماء ليرفع العطش فأحضر ماء، و لكنّه وجد ماء أصفى و أبرد من الأوّل قبل صرف المولى الماء الأوّل، فلو أحضره كان هذا تبديلا لامتثال الأمر الإيجابي بالفرد الأحسن، لا أنّه ممتثل للأمر الندبي، و هذا الذي يأتي به ثانيا مصداق للمأمور به بالأمر الندبي، نعم كان له الاكتفاء بالفرد الأوّل، و هذا معنى استحباب الثاني بالمعنى المصطلح و عدم وجوبه كذلك، و لكن المستحبّ هو امتثال الأمر الإيجابي بتبديل الامتثال الأوّل، لا إيجاد فرد ثان مع وقوع الفرد الأوّل امتثالا، بل هذا إبطال و إلغاء لكون الفرد الأوّل امتثالا و جعل هذا الثاني مكانه، و هذا و إن كان مستحبّا اصطلاحيّا، لكنّه داخل في مفهوم الفريضة عرفا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 166

و هذا بخلاف ما لو أتى بالفرد الثاني بعد سقوط الغرض الباعث على الأمر الأوّل، كما لو كان إتيانه الماء الثاني في المثال بعد رفع عطش المولى باستعمال الماء الأوّل لملاك آخر ندبي، فإنّه غير مشمول لمفهوم الفريضة.

و حينئذ

نقول: الفريضة المعادة جماعة من قبيل القسم الأوّل، حيث إنّ الإتيان بها لأجل استيفاء كمال في الفرد الثاني مفقود في الفرد الأوّل مع عدم سقوط الغرض الداعي إلى الأمر، فإنّه وصول العبد إلى درجات الجنّة الموكول إلى ما بعد الموت، فله تبديل الفرد الأوّل بالفرد الأكمل و هو مفاد قوله في بعض أخبار تلك المسألة: يختار اللّٰه أحبّهما إليه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 167

الفصل الرابع في الخلل الحاصل من حيث الاستقبال

اشارة

لو صلّى باجتهاد القبلة أو في ضيق الوقت أو في سعته و قلنا بأنّ المتحيّر مخيّر فتبيّن بعد الفراغ خطأه و أنّه صلّى إلى غير القبلة، فللمسألة صور:

الاولى: أن يتبيّن كونه في ما بين المشرق و المغرب و كان الوقت باقيا.

الثانية: هذه الصورة و كان الانكشاف بعد خروج الوقت.

الثالثة: أن يتبيّن كونه في نقطة المشرق أو المغرب مع بقاء الوقت.

و الرابعة: هذه الصورة مع خروجه.

الخامسة: أن ينكشف كونه متعدّيا عن نقطة المشرق أو المغرب إلى النقطة المقابلة للكعبة مع بقاء الوقت.

السادسة: هذه الصورة مع خروجه.

حكم الانحراف إلى ما بين المشرق و المغرب
اشارة

و محصّل الكلام في هذه الصور أنّه قد وردت عدّة أخبار بمضمون أنّ ما بين المشرق و المغرب قبلة لهذا المصلّي المخطئ و أنّ صلاته صحيحة ماضية لا إعادة لها،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 168

و بعضها كالصريح في نفي الإعادة في الوقت، فيعلم بالنسبة إلى خارجه أيضا، و هو صحيح معاوية بن عمّار أنّه سأل الصادق عليه السّلام «عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا، فقال عليه السّلام له: قد مضت صلاته، و ما بين المشرق و المغرب قبلة» «1».

و مثله صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام أنّه قال: «لا صلاة إلّا إلى القبلة، قال: قلت: أين حدّ القبلة؟ قال عليه السّلام: ما بين المشرق و المغرب قبلة كلّه، قال:

قلت: فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال عليه السّلام: يعيد» «2».

و لكن هنا أخبار كثيرة أخر بمضمون أنّه «إذا صلّيت فأنت على غير القبلة و استبان لك أنّك صلّيت و أنت على غير القبلة و أنت في وقت فأعد، و إن

فاتك الوقت فلا تعد» «3».

قال في الحدائق: لقائل أن يقول: إنّ بين أخبار الطرفين عموما و خصوصا من وجه، فكما أنّ هذه الأخبار عامّة بالنسبة إلى الصلاة، على غير القبلة، إلّا أنّها مفصّلة بالنسبة إلى الوقت و خارجه، و تلك الأخبار مطلقة بالنسبة إلى الوقت و خارجه و خاصّة بالنسبة إلى القبلة التي حصل فيها الانحراف و هي ما بين المشرق و المغرب، فكما يمكن ارتكاب التخصيص المذكور الذي بني عليه الاستدلال بالأخبار في الموضعين (و مقصوده الحكم بالصحّة في صورة الانحراف إلى ما بين المشرق و المغرب مطلقا و التفصيل بين الوقت و خارجه في صورة الانحراف بأزيد ممّا ذكر) كذلك يمكن تخصيص تلك الأخبار بالصلاة في خارج الوقت، كما فصّلته

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القبلة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب القبلة، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب القبلة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 169

هذه الأخبار و إبقائها على إطلاقها بالنسبة إلى القبلة فيقال بوجوب الإعادة في الوقت متى صلّى إلى غير القبلة بأيّ نحو كان و إن كان فيما بين المشرق و المغرب.

و لا يتمّ الاستدلال بتلك الروايات على ما ذكروه، و لا بدّ لترجيح الأوّل من دليل.

و ساق الكلام إلى أن قال: و هذا بحمد اللّٰه سبحانه ظاهر لامرية فيه، و بالجملة، فإنّي لا أعرف لهم دليلا على ما ذكروه زيادة على الإجماع المدّعى في تلك المسألة.

نعم قوله في صحيحة معاوية: «ثمّ ينظر بعد ما فرغ» «1» ربّما أشعر بكون ظهور الانحراف في الوقت بالحمل على البعديّة القريبة، كما هو المتبادر، هذا أقصى ما يمكن أن يقال في المقام، انتهى كلامه

رفع في الخلد أعلامه.

و أنت خبير بأنّ النسبة و إن كانت عموما من وجه، إلّا أنّ أخبار عدم الإعادة مع الانحراف إلى ما بين المشرق و المغرب أظهر بالنسبة إلى نفي الإعادة في الوقت من الأخبار الأخر المفصّلة من وجوه:

الأوّل: ما أشار هو قدّس سرّه إليه في آخر كلامه بقوله: نعم قوله في صحيحة معاوية إلخ، فإنّ تقييد هذا الكلام بما بعد الوقت بعيد في الغاية.

الثاني: أنّ لسان الأخبار الأول أنّ الصلاة صحيحة ماضية، و هو غير العفو عن القضاء مع وقوع الصلاة فاسدة، فلو كان المراد نفي القضاء خارج الوقت مع لزوم الإعادة في الوقت لما ناسب التعبير بمضيّ الصلاة.

الثالث: إنّ لسانها أنّ ما بين المشرق و المغرب قبلة، و هذا حاكم على تلك الأخبار و شارح للمراد بها، و أنّ غير القبلة فيها عبارة عن نفس المشرق و المغرب أو ما جاوزهما إلى جهة الاستدبار.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القبلة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 170

و بالجملة، لا أرى وجها لما ذكره قدّس سرّه، بل لا بدّ من حمل إطلاق كلام القدماء بوجوب الإعادة في الوقت أيضا على غير ما بين المشرق و المغرب، هذا كلّه في صورة الانحراف إلى ما بين المشرق و المغرب.

أمّا مع تبيّن الانحراف بأزيد من ذلك سواء كان على نفس إحدى النقطتين أو متجاوزا عنهما إلى الاستدبار فمقتضى إطلاق الأخبار المتقدّم إليها الإشارة هو التفصيل بين الانكشاف في الوقت فيجب الإعادة، و خارجه فلا يجب القضاء، و هذا بالنسبة إلى نفس نقطتي المشرق و المغرب ممّا لا إشكال فيه، بل الإجماع عليه دائر في ألسنة القوم.

إنّما الإشكال بالنسبة إلى الفرد الآخر، أعني: ما

إذا تجاوز الانحراف عن النقطتين، سواء وصل إلى حدّ الاستدبار أم لم يصل، فمقتضى الإطلاق المذكور جريان التفصيل فيه أيضا و هو المحكيّ عن جماعة.

و لكنّ المشهور على ما نقل قد أفتوا بوجوب الإعادة و القضاء في هذه الصورة، و ليس في البين ما يمكن أن يكون مستندا لهم سوى مرسلة النهاية قال: قد رويت رواية أنّ «من صلّى إلى استدبار القبلة ثمّ علم بعد خروج الوقت وجب عليه إعادة الصلاة» «1» ثمّ قال: و هذا هو الأحوط و عليه العمل، انتهى.

و لا يخفى صراحته، و لكنّ العمدة ضعفه بالإرسال، فإن علم أنّ المشهور استندوا إليه فهو، و إلّا فلا يصلح رفع اليد عن إطلاق الأدلّة المتقدّمة بسببه. و سوى خبر معمّر بن يحيى قال: «سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن رجل صلّى على غير القبلة، ثمّ تبيّنت القبلة و قد دخل وقت صلاة أخرى؟ قال عليه السّلام: يعيدها قبل أن يصلّي هذه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب القبلة، الحديث 10.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 171

التي قد دخل وقتها، إلّا أن يخاف فوت التي دخل وقتها» «1».

تقريب الاستدلال به أنّ النسبة و إن كانت هي التباين الكلّي، فإنّ كلّا من هذا الخبر و الأخبار المتقدّمة حاكم في موضوع الصلاة على غير القبلة بعد خروج الوقت أحدهما بالإعادة و الآخر بنفيها، إلّا أنّه لا بدّ من معاملة الخصوص المطلق مع هذا الخبر، و العموم كذلك مع تلك، و ذلك لأنّه بعد الإجماع المنعقد على حكم الصلاة على نفس المشرق أو المغرب و أنّه بعد الوقت لا إعادة فيها يجب إخراج هذا الفرد عن تحت هذا الخبر، فيبقى الباقي بعده ما كان

متعدّيا عن النقطتين، و هذا المضمون الثاني خاصّ بالنسبة إلى الأخبار المتقدّمة، فيتخصّص عمومها بهذا الخبر بصورة كون الانحراف إلى نفس المشرق أو المغرب.

و فيه ما تقرّر في الأصول في مبحث التعادل و التراجيح من أنّ الحقّ في مثل المقام عدم انقلاب النسبة بواسطة الإجماع على بعض الأفراد.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 171

تحقيق مسألة أصوليّة

و توضيح المقام أنّه ربما يقال بأنّ رتبة السند متقدّمة على الدلالة، ففي الرتبة المتقدّمة يكون دليل السند شاملا لكلا الخبرين بلا مزاحم، و في الرتبة الثانية لا تحيّر لنا، فإنّا لو فرضنا الخبرين مقطوعي السند حتّى كأنّا سمعناهما من لسان المعصوم عليه السّلام فلا إشكال أنّه كان المتعيّن تخصيص أحدهما بمورد الإجماع ثمّ تخصيص الآخر بما بقي بعد الإجماع من الأوّل، فمعيار التعارض أن يكون التحيّر باقيا بعد فرض الخبرين مقطوعي الصدور، و معيار عدمه أن لا يكون كذلك،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب القبلة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 172

فالمقام من قبيل الثاني، كما تقدّم.

و فيه أنّ دليل السند إنّما يشمل الخبرين إذا لم يلزم من شموله لهما محذور و خلاف قاعدة كما في العامّ و الخاصّ المطلقين، فإنّه ليس خارجا من ذات المتكلّمين في مقام ضرب القانون ذكر العامّ و الخاصّ منفصلين.

و هذا بخلاف ما إذا أراد إكرام العلماء العدول و عدم إكرام العلماء الفسّاق، فعبّر عن هذا المقصود بقوله: أكرم العلماء، ثمّ قال: لا تكرم العلماء، فدليل السند لا نسلّم سلامته عن المعارض حينئذ.

ألا ترى أنّه لو علمنا أنّه لو شمل الخبر دليل الحجّية لزم حمله على التقيّة، فليس دليل الحجّية شاملا له، و

كذلك لو عثرنا على مطلب في رسائل الشيخ الأجلّ المرتضى قدّس سرّه و كان في بادي النظر غير مناسب مع جلالة الشيخ نتأمّل لعلّه نصل إلى حقيقة مرامه، و أمّا إذا تأمّلنا و لم نصل احتملنا حينئذ عدم صحّة النسخة، و هكذا الكلام في المقام.

فإن قلت: بناء على هذا لا يكون الخبران من المتعارضين، لأنّهما عبارة عمّا كان مشمولا لدليل الحجّية.

قلت: و هذا أيضا كذلك، إذ كلّ منهما في حدّ ذاته مشمول له، و إنّما الإشكال نشأ بحسب مقام الفعليّة.

و الحاصل أنّ الخبرين معدودان من باب التعارض، لا من باب العامّ و الخاصّ، و توضيح المقام أزيد من هذا يطلب من محلّه، هذا.

و يمكن أن يقال في مقامنا بعدم الدلالة في خبر معمّر بن يحيى، و ذلك لأنّه وارد مورد حكم آخر، لأنّه مسوق لبيان ترتيب الفائتة من حيث القبلة على الحاضرة بعد الفراغ عن جهة الفوت فليس بصدد أنّه بم فات و كيف فات، فلا إطلاق له من هذه الحيثيّة حتّى يمكن الأخذ به.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 173

تنبيهان:
الأوّل: بعد البناء على الأخذ بالمرسلة فهل المراد بالاستدبار ما ذا؟

يمكن أن يقال بأنّه عبارة عن الانحراف المتعدّي عن نقطتي المشرق و المغرب و إن لم يصل إلى النقطة المقابلة للقبلة.

وجهه ما ذكر من الشرطيّتين في بعض أخبار الانحراف بين المشرق و المغرب من أنّه إن كان بين المشرق و المغرب فليحوّل وجهه، و إن كان على دبر القبلة فليقطع الصلاة، بناء على أنّ الظاهر منه عرفا كون الشرطيّة الثانية مفهوما للشرطيّة الأولى، فالمقصود من قوله: و إن كان إلى دبر القبلة أنّه إن لم يكن فيما بين المشرق و المغرب فبقضيّة وحدة السياق نقول في المرسلة أيضا: إنّ المراد هذا المعنى، لكن خصوص

المشرق و المغرب خرج بالإجماع و بقي الباقي.

هذا على تقدير تسليم هذا الظهور، و إن أنكرناه فلا يخفى أنّ حال الاستدبار عرفا على العكس من الاستقبال، فكلّ ما كان استقبالا عند العرف على ما مرّ تفصيله فعكسه استدبار، فيكون هذا المقدار خارجا عن تحت الإطلاقات الدالّة على عدم الإعادة خارج الوقت، و يبقى غيره و هو نفس المشرق و المغرب و الانحراف عنهما إلى جهة الاستدبار الغير البالغ إيّاه تحت تلك الإطلاقات.

الثاني: الظاهر بحسب إطلاق أخبار مسألة الانحراف فيما بين المشرق و المغرب عدم الفرق بين المجتهد و الناسي

للقبلة، إذ ليس فيها لفظ الاجتهاد إلّا في بعض أخبار الأعمى المذكور فيه إمامة الأعمى لغيره، ثمّ تبيّن الانحراف، فحكم بإعادته دونهم معلّلا بأنّهم قد تحرّوا، الذي لا بدّ بملاحظة الجمع من حمله على الانحراف بما بين المشرق و المغرب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 174

و المقصود من عدم تحرّي الأعمى دخوله في الصلاة بغير مبالاة و بلا تجسّس عن أمر القبلة أصلا، و بين تحرّي المأمومين كونهم معتمدين على فحص الإمام، و الحاصل أنّ المراد منه ما يقابل عدم المبالاة.

و أمّا الأخبار الدالّة على حكم الانحراف الزائد عمّا بين المشرق و المغرب ففي بعضها التصريح بالاجتهاد و هو قوله عليه السّلام في رواية سليمان بن خالد: و إن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده، لكن صحيحة عبد الرحمن و مكاتبة محمّد بن الحصين مطلقتان ليس فيهما قيد الاجتهاد، فيمكن استفادة حكم الناسي منهما.

اللّٰهمّ إلّا أن يستفاد العلّية من رواية سليمان بن خالد مع وحدة الحكم في جميع الأخبار، فإنّه إذا علّل حكم واحد في خبر واحد بعلّة فالأخبار الأخر المطلقة تصير مقيّدة بمورد تلك العلّة، نعم يمكن حكم آخر معلّلا بعلّة أخرى، لكنّ الظاهر وحدة الحكم في جميع الأخبار.

لكنّ الإنصاف عدم استظهار العلّية

من الرواية بملاحظة أنّ الاجتهاد لا موضوعيّة له، بل المقصود التوصّل به إلى الظنّ أو القطع، فإن كان الاجتهاد موضوعيّا و كان دائما موصلا إلى الظنّ أمكن أن يقال باستفادة العلّية و أنّ الحكم الظاهري هاهنا أفاد الإجزاء، فأين هو من النسيان الذي هو صرف المعذوريّة.

و لكنّه بعد القطع بأنّه قد ينفكّ الاجتهاد عن الظنّ إلى القطع و هو صرف المعذوريّة، و قد لا يحصل شي ء من الظنّ و القطع، و كذلك قد ينفكّ الظنّ عن الاجتهاد، و مع ذلك يكون حجّة نعلم بعدم الموضوعيّة له، و أنّ المراد كونه معذورا خارجا عن حدّ عدم المبالاة، و هذا المعنى متحقّق في مورد النسيان.

ثمّ هذا كلّه في الناسي، و أمّا الجاهل بالحكم بكلا قسميه فالظاهر عدم اندراجه في الأخبار.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 175

البحث الثالث في الستر و الساتر

اشارة

أعني مطلق لباس المصلّي و لو لم يكن ساترا لعورته، فإنّ هنا بحثا في ستر العورة الذي هو الشرط، و بحثا عن أمور يعتبر في اللباس إذا لبسها المصلّي حال الصلاة و لو ستر عورته بغيره، و فيه فصول:

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 177

[الفصل] الأوّل

اشارة

يجب على المختار ستر بشرة العورة في حال الصلاة فريضة كانت أم نافلة، كان الناظر المحترم موجودا أم لا.

و ليعلم أوّلا أنّ هذا الباب أعني: الستر الصلاتي غير باب الستر عن الناظر المحترم.

و الملاك في البابين غير متّحد، فإنّ المطلوب هناك هو الحفظ عن الناظر و التستّر عنه بأيّ أمر حصل و لو بالاختفاء عنه بظلمة أو بيت، أو الدخول في ماء أو وحل، و ليس الزائد عن ذلك واجبا.

و المطلوب في المقام هو عدم كون العورة أو تمام الأجزاء عاريا، و من المعلوم أنّ العريانيّة أمر لا يتفاوت فيه بين الظلمة و غيرها و الماء و غيره، و لا يحصل بوضع اليد على القضيب و الأنثيين مع حفظ الدبر بالأليتين أو بالتطلية بالطين، فإنّه يصدق العراء و عدم الستر معها أيضا.

و أيضا لا ملازمة بين ما يجب ستره في أحد المقامين مع ما يجب ستره في الآخر، فلو قلنا في ذاك الباب بأنّ ما يجب ستره في الرجل عبارة عن تمام ما بين الركبة و السرّة الذي هو ما يستر بالمئزر المأمور به في أخبار الحمّام فلا يوجب ذلك

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 178

القول بمثله في المقام، و لو فرض إطلاق العورة على هذا المقدار في ذاك المقام لا يوجب صرف إطلاق العورة هاهنا بعد أنّ لها منصرفا عرفيّا هو عبارة عن الدبر و القضيب و الأنثيين،

فيكون إطلاق العورة في ذاك الباب محمولا على ضرب من التوسّع أو التنزيل.

و كذا لو قلنا: إنّه يجب في ذاك الباب على المرأة ستر جميع بدنها حتّى الوجه و الكفّين و القدمين فلا يوجب ذلك القول به في المقام بعد ما كان المستفاد من أخبار المقام خلافه.

فنقول بصحّة صلاتها مكشوفة الوجه و الكفّين و القدمين و لو كانت بمحضر من الأجنبيّ، غاية الأمر أنّها أثمت من جهة الكشف المذكور، و لكن لا يضرّ ذلك بصحّة صلاتها كما هو الحال في الأمة لو لم تستر رأسها بمحضر الأجنبي في صلاتها، فإنّها آثمة مع صحّة صلاتها.

إذا عرفت ذلك فالكلام في المقام في ثلاثة أمور:

الأوّل: في مقدار العورة الواجب سترها في كلّ من الرجل و المرأة.

و الثاني: في تعميمه بالنسبة إلى جميع الأحوال أو تخصيصه ببعضها.

و بعبارة أخرى:

هل لنا دليل عامّ يشمل الحالات حتّى نحكم عند الشكّ بمقتضى عمومه بشرطيّة الستر كما كان لنا في باب الطهور و القبلة من قولهم عليهم السّلام: لا صلاة إلّا بطهور، و لا صلاة إلّا بالقبلة، أو ليس لنا هذا العموم، فلا بدّ من الرجوع في مورد الشكّ إلى الأصول و هو البراءة، لأنّه من باب الشكّ في القيد، و الحقّ فيه على ما قرّر في الأصول هو البراءة كالجزء.

و الثالث: في تحديد الستر الواجب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 179

في تحديد العورة
أمّا الأمر الأوّل أعني: مقدار العورة

فالظاهر أنّ العورة في الرجل هي السوأة و ما يستقبح ذكره و هو معهود معروف، لأنّه المتبادر من لفظ العورة المذكور في رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام: «قال: سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عريانا و حضرت الصلاة كيف يصلّي؟ قال عليه السّلام: إذا

أصاب حشيشا يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع و السجود» «1» الخبر.

و أمّا المرأة فالظاهر من الأخبار وجوب ستر تمام أجزاء بدنها إلّا الوجه و الكفّين و القدمين، و ذلك لأنّ المذكور في الأخبار في كيفيّة صلاتها أنّها تصلّي إمّا بثلاثة أثواب، الخمار «2» و الدرع «3» و الإزار «4»، أو بثوبين، الخمار و الدرع، أو بثوب واحد، الملحفة، و هي التي يشتمل على رأسها إلى القدم، و المتحقّق في جميع هذه الأنحاء الثلاثة هو استتار جميع البدن.

و أمّا استثناء الوجه و الكفّين و القدمين و إن لم يصرّح به في الأخبار المذكورة، لكن يعلم ذلك من غلبة ملازمة انكشاف هذه مع لبس هذه الأثواب، فإنّها غير ساترة لهذه الأجزاء بحسب الغالب، فلو كان سترها لازما لزم التنبيه عليه و عدم

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) چارقد.

(3) پيراهن.

(4) لنگ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 180

الاكتفاء بهذه الأثواب.

و الظاهر عدم الفرق في الكفّين بين الظاهر و الباطن، لاستوائهما في الغلبة المذكورة، و أمّا القدمان فالفرق بين ظاهرهما و باطنهما ظاهر، إذ حال القيام يكون باطنهما مستورا بالالتصاق بالأرض، و حال السجود بالثوب.

إن قلت: قد ذكر عدم كفاية التطلية بالطين في هذا المقام، و ما الفرق بين الالتصاق بالأرض و التطلية بالطين.

قلت: الفرق واضح، فإنّ العراء صادق مع الثاني، و غير صادق مع الأوّل، ألا ترى أنّه لو عمل قالبا للبدن من الطين الكثيف و لبسه يجتزي به قطعا، فكذا في المقام.

و الحاصل أنّه لا يستفاد الاستثناء في الباطن، و لكن لا يستفاد اشتراط الستر فيه أيضا، فيكون مشكوك الحال، و الأصل فيه البراءة، و لكن الاحتياط مراعاة الستر.

و لعلّه

إلى هذا يشير ما ذكره شيخنا المرتضى قدّس سرّه في حاشية نجاة العباد من الاحتياط في الباطن.

و أمّا الأمر الثاني

فاعلم أنّه ليس في مقامنا دليل دالّ على إطلاق الشرطيّة كما في بابي الطهور و القبلة حتّى نقول بمقتضاها في جميع الأحوال من الاختيار و غيره، و لا الالتفات و عدمه، فيقتصر في الخروج عن دائرة عموم الشرطيّة على مقدار دلالة المخرج، و على هذا فمتى حصل في حال من الحالات لنا شكّ في الشرطيّة كان المرجع هو البراءة على ما تقرّر في الأصول من كونها مرجعا حتّى في الشكّ في القيد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 181

حكم تكشّف العورة و الالتفات في الأثناء

فمن جملة الأحوال التي يشكّ فيها ما إذا انكشف العورة بغير اختياره إمّا لغفلة أو لنسيان أو لجهل بالحال أو لقهر قاهر كالريح و نحوه، نعم في بعض هذه الصور و هو ما إذا كان الانكشاف لغفلة و كان التنبّه بعد الفراغ من الصلاة لا شبهة في الصحّة، لرواية عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل صلّى و فرجه خارج لا يعلم به، هل عليه إعادة أو ما حاله؟ قال عليه السّلام: لا إعادة عليه و قد تمّت صلاته» «1».

و أمّا بقيّة الصور أعني: جميع صور التنبّه في الأثناء و صورة النسيان و التذكّر بعد الفراغ فنحن نشكّ في أصل تحقّق الشرطيّة فيها، لعدم عموم حاكم بها، فالمرجع أصالة البراءة بناء على إمكان تخصيص الجاهل و الناسي بالخطاب كما حقّق في محلّه.

و قد يقال بالصحّة و عدم البطلان في الجميع أيضا، و لو استفدنا الإطلاق من الأدلّة أيضا بواسطة حديث الرفع و لا تعاد، و لكن فيه أنّه بالنسبة إلى النسيان و الغفلة المستمرّين إلى ما بعد الفراغ حسن، و أمّا المرتفعان في الأثناء منهما فيشكل التمسّك بهما لرفع الشرطيّة، إذ المرفوع إنّما

هو الشرطيّة بالنسبة إلى حال ثبوت الغفلة و النسيان.

و أمّا الآن الذي تبدّلا فيه بالتنبّه و الالتفات فغير مشمول لهما، و يكفي في البطلان هذا الآن، بل نقول: بناء على عدم استفادة الإطلاق أيضا فلا شكّ بالنسبة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 27 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 182

إلى هذا الآن، لأنّه آن الالتفات و الاختيار و العمد، و قد كان مكشوفا، فعلى كلا التقديرين لا محيص عن البطلان في الأثناء.

و كذا الحال في الانكشاف القهري الحاصل بالريح، فإنّ الآن البعد المتّصل بالآن الأوّل كشف حاصل في حال الالتفات و الاختيار.

فإن قلت: بل يمكن التمسّك للصحّة و عدم البطلان بحديث الرفع، لكونه ممّا اضطرّ إليه، لأنّه في هذا الآن العقلي غير قادر على الستر، فهو مضطرّ إلى الكشف في هذه الصلاة الشخصيّة.

قلت: نعم، و لكن بالنسبة إلى حقيقة الصلاة لا اضطرار له، و المعيار هو الاضطرار بالنسبة إليها، فله ترك هذا الفرد المضطرّ فيه و اختيار فرد آخر لا اضطرار فيه.

فإن قلت: المعيار ملاحظة الفرد لا الكلّي كما هو الحال في ما لا يعلمون و النسيان و نحوهما.

قلت: نعم و لكنّ المدّعى أنّ الاضطرار إلى الكشف في الفرد لا يسمّى اضطرارا إليه عرفا، إلّا إذا استوعب جميع أفراد الطبيعة، نعم لو حصل ذلك في ضيق الوقت جاز له الاكتفاء بهذه الصلاة من باب أهميّة الوقت من حفظ شرطيّة الستر.

فإن قلت: لا دليل على اشتراط الستر في الأكوان الصلاتيّة، و إنّما المعتبر هو في أفعالها و أقوالها.

قلت: الظاهر من الدليل هو الاعتبار في المصلّي، و لا شكّ أنّه في حال السكون مصلّ.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا الإشكال في صحّة الصلاة

في جميع صور الكشف في حال الالتفات و الاختيار في الأثناء بعد المسبوقيّة بالنسيان و الغفلة و القهر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 183

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إنّه حسب الفرض ليس لنا إطلاق دالّ على الشرطيّة المطلقة الشاملة لجميع الأحوال، و إنّما المتيقّن من قوله عليه السّلام: إذا أصاب حشيشا يستر به عورته إلخ حال الالتفات، لكن إذا عرضنا هذا الكلام على العرف لا يفهم منه هذا الآن العقلي المتوسّط بين مبادرته و الستر، فإنّه ما دام غافلا لم يكن مخاطبا بالستر، و متى التفت بادر بلا مهلة إلى تحصيل الساتر و أوجده فورا عرفيّا فقد خرج عن عهدة الخطاب الشرعي المتوجّه إليه في هذا الحال.

و الحاصل فرق بين قولنا: الستر شرط للصلاة، الظاهر منه الاستيعاب لجميع الأحوال و الآنات و منها هذا الآن، فلا محيص عن البطلان، و بين قولنا: لا بدّ أن لا يقع منك كشف مسبوق بالقدرة و الاختيار، و في هذا الفرض الذي ذكرنا تحقّق هذا المعنى، إذ لم يتحقّق منه كشف مسبوق بالاختيار، و إن تحقّق كشف في حال الاختيار، لكن لا بالاستناد إليه، بل إلى النسيان أو الغفلة أو القهر السابقة.

نعم لو تخلّل زمان نافى الفور العرفي، أو احتاج تحصيل الساتر إلى إيجاد مناف للصلاة فهو مطلب آخر، و أمّا إذا حصل بدون تراخ و بلا مناف فلا نسلّم أنّه خالف تكليف: أيّها الملتفت استر عورتك في صلاتك. مع أنّه ليس لنا تكليف بهذه الصورة، بل الأخبار غير متعرّضة للعموم و الإطلاق، لكونها مسوقة لبيان حكم آخر مثل التفرقة بين المرأة و الرجل في أنّ الاولى تحتاج إلى ثياب ساتر لجميع جسدها دون الثاني، و حينئذ يكون مورد الكلام

خاليا عن الدليل، و لو فرض احتياج تحصيل الستر إلى زمان معتدّ به، و لكن قبل الاشتغال بشي ء من أفعال الصلاة، فيكون من باب الدوران بين المطلق و المقيّد، و المرجع فيه البراءة.

بل يمكن أن يقال: على تقدير وجود الإطلاق في المقام أيضا يمكن التمسّك للصحّة بحديث لا تعاد، بدعوى أنّه كما يشمل الإخلال السهوي، كذلك يشمل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 184

الإخلال الواقع في حال التنبّه، لكن بالاستناد إلى السهو السابق، فإنّ الآن الأوّل من آنات الالتفات ليس عدم الستر فيه مسبّبا عن العمد و الاختيار و إن كان مختارا فيه، بل مسبّب عن السهو السابق، و الحديث شامل لهذا القسم من الخلل أيضا.

و الحاصل: أنّا ندّعي أوّلا: أنّه ليس لنا في أخبار الباب ما يستفاد منه إطلاق شرطيّة الستر للصلاة، بل غاية ما يستفاد منها شرطيّته في الجملة، فلا يشمل مثل هذا التمكّن و الالتفات الحاصلين في الآن الأوّل المسبوق بالغفلة أو النسيان أو قهر القاهر، فلو كان مكشوفا في هذا الآن و لكن بادر في تحصيل الستر بما لا ينافي الفور العرفي بل و لو نافاه و لكن لم يبلغ حدّ الفصل الطويل الماحي لصورة الصلاة كانت صلاته صحيحة، بعضها بدليل اغتفار السهو و الغفلة و القهر، و بعضها بسقوط شرطيّة الستر بأصل البراءة، و بعضها بإيجاد الشرط في حال التمكّن و الالتفات.

و ثانيا: على فرض التسليم و وجود الإطلاق المذكور يكون الآن المذكور مشمولا لحديث لا تعاد، و هو حاكم على الإطلاق المذكور، فإنّ الحديث لم يذكر فيه اسم السهو، فمقتضى إطلاق لفظه شمول جميع صور الإخلال و لو ما كان عن عمد، فضلا عن غيره، و من غير فرق

بين الإخلال من الابتداء أم في الأثناء.

لكن سلّمنا خروج العمد إمّا لعدم المعقوليّة، و إمّا لعدم الانصراف إليه، و كذا سلّمنا خروج الاضطرار الابتدائي فلا يشرع بسببه الدخول في الصلاة المضطرّ إلى ترك شرطها أو جزئها، و أمّا بالنسبة إلى الاضطرار الطارئ في أثناء الصلاة الشخصيّة فلا داعي إلى تخصيص عمومه.

و الفرق بين هذا و سابقه أنّه على التقدير السابق يكون الحكم بالصحّة من جهة الاستناد إلى أصالة البراءة عن اعتبار قيد الستر بالنسبة إلى هذا الحال المتخلّل بين أوّل الالتفات و بين حصول الستر، و على هذا التقدير يكون من جهة الاستناد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 185

إلى الحديث الشريف، لكن على كلّ حال لا بدّ أن لا يشتغل بشي ء من أفعال الصلاة، لأنّ اشتراط الستر فيها معلوم، و تحصيله أيضا ممكن بالصبر إلى حصوله، إذ كلّ ما هو شرط في أحوال الصلاة فهو شرط في أفعالها.

و من هنا تبيّن الحال في الأمة المعتقة في أثناء الصلاة لو بادرت إلى الستر بمحض حصول الانعتاق، فإنّ الأمة قد استثنتها الأخبار بالنسبة إلى ستر رأسها عن حكم المرأة فأجازت كشف رأسها في الصلاة، و حينئذ فلو كانت في أوّل الصلاة أمة و طرأتها الحرّية في أثناء الصلاة فصحّة هذه الصلاة لو بادرت إلى ستر رأسها بلا فعل مناف مبنيّ على إحدى المقدّمتين اللتين أشرنا إليهما، فإن سلّمنا إحداهما فالصلاة صحيحة، و إن منعناهما فباطلة كما هو واضح، فإنّه و إن كان هنا آن واحد تحقّق فيه الحرّية مع الانكشاف، إلّا أنّه لا ينافي مع صدق أنّها ما دامت مكشوفة الرأس كانت أمة مغتفرا عنها ذلك، و متى صارت حرّة صارت مستورة الرأس.

فرع: قد عرفت استثناء الأمة عن حكم الستر المعلّق على المرأة،

فهل المبعّضة مع

قطع النظر عن الدليل الخاصّ ما حكمها من حيث وجوب ستر رأسها و عدمه؟

الحقّ هو الوجوب، لأنّها ليست بمصداق للأمة، فإنّها عبارة عمّن كانت مملوكة بتمامها، فإذا خرجت عن صدق الأمة دخلت تحت إطلاق المرأة التي قد علّق حكم الستر عليها في الأخبار، إذ ليس الحكم دائرا مدار عنوان الحرّة حتّى يقال:

إنّ المبعّضة خارجة عن العنوانين فيحكم فيها بالبراءة.

و ذلك لأنّ العام و إن كان يصير معنونا بعد ورود الخاصّ، لكن بعدم ذلك الخاصّ، لا بضدّه الوجودي، فيصير العنوان في عامنا هو المرأة التي ليست مملوكة بتمام أجزائها، و هذا لا شبهة في انطباقه على المبعّضة، لا المرأة الحرّة، و هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 186

و أمّا الأمر الثالث: أعني: تحديد الستر الواجب

فاعلم أنّ هنا مرتبة من الستر نقطع بمصداقيّته لهذا المفهوم بقول مطلق، و هو ما إذا كان البدن مستورا بساتر ضخيم لا يمكن رؤية ما وراءه و لو بتوسّط الدقّة و شعاع الشمس و نحو ذلك، و في مقابلتها العريانيّة بلا ساتر أصلا، فالقسم الأوّل نقطع فيه بصحّة الصلاة، و الثاني نقطع فيه بالفساد، و بينهما مراتب متدرّجة في الوضوح و الخفاء.

إحداها: أن يكون على البدن ساتر كان بشكل البدن و قالبا له و لطيفا و ملصقا بالبدن، بحيث لا يحكي لا لونه و لا شبحه و لو بالدقّة أو في الشعاع، و لكنّه يحكي جميع كيفيّاته من القطر و الانحناء و الاستقامة و الانجذاب و جميع الخصوصيّات.

و هذا لا إشكال في أنّ المرئيّ ليس إلّا قطر المجموع، لا قطر البدن و إن كان ربما يقال: إنّ قطر البدن مرئي، لكنّه من باب المسامحة، نعم قطرة معلوم بعد استثناء مقدار الساتر، فيعلم

مثلا أنّه شبر إلّا شعيرة، فيحتسب الشعيرة لأجل الساتر، و لكنّه غير كونه محسوسا مرئيّا برؤية العين.

فالظاهر عدم الإشكال في هذه الصورة بعد ما كان اللون و سائر المميّزات أيضا مستورا كما هو الفرض، كما أنّه يكتفى بمثل ذلك في باب النظر أيضا، نعم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 187

الظاهر حرمته من جهة عنوان آخر و هو كونه مهيّجا للشهوة.

الثانية: أن يكون الساتر حاكيا للشبح أعني: ما لا يتميّز إلّا بعوارضه العامّة المشتركة بين الحيوان و الجماد، أو المشتركة بين أصناف الحيوان، أو المشتركة بين أفراد الصنف الواحد منه بدون تميّز للعوارض الشخصيّة، و لو كان هناك قرينة خارجيّة تدلّ على تلك العوارض الشخصيّة بحيث علمنا بأنّه الشخص الكذائي، فليس هذا داخلا في رؤية الشخص، بل المرئي هو الشبح، و المعلوم إنّما هو الشخص بجميع معيّناته المشخّصة.

و الحاصل: أنّه فرق بين رؤيته بلونه و كمّه و كيفه المخصوص به، إلى غير ذلك من خواصّه، و بين العلم بذلك من القرينة الخارجيّة و انحصار المرئي في السواد الغير المتحرّك المردّد بين الجماد و الحيوان، أو المتحرّك الغير المعلوم استقامة قامته المردّد بين الإنسان و غيره، أو المعلوم استقامته لكن مردّدا بين أفراد الإنسان.

و بالجملة، فهذا على قسمين:

الأوّل: أن يكون حكايته لهذا المعنى محتاجة إلى مئونة و علاج مثل القرب و المداقّة و المحاذاة للشعاع، فهذا القسم أيضا الظاهر تحقّق الستر الصلاتي و كذلك النظري به.

و الثاني: أن لا يكون محتاجة إلى شي ء من ذلك.

و الثالثة: أن يكون الساتر كالشبكة المشتملة على الفرج الصغار مثل ما يسمّى في زماننا (تور) بحيث يحكي نقش لون البشرة و قطرها، و هذا القسم لا إشكال في عدم كونه سترا

في شي ء من البابين، إنّما الإشكال في ما تقدّمه و دعوى أنّه ليس لنا في باب الصلاة إطلاق.

و ما ورد في صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة من قوله عليه السّلام: يستر به عورته

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 188

وارد مورد حكم آخر، فالمعلوم اعتبار ستر ما، و أمّا كيفيّته فلا، فيرجع إلى أصل البراءة، فإنّ هذه المرتبة بالإضافة إلى العريانيّة الصرفة ستر، و بالإضافة إلى الستر التامّ كشف.

فلا يعلم هل اعتبره الشارع سترا صلاتيا أو لا، فالأصل البراءة من اعتبار أزيد منه مشكلة جدّا، و خصوصا مع ملاحظة التقييد الوارد في بعض الأخبار لكفاية القميص الواحد للرجل و قوله عليه السّلام: إذا كان كثيفا «1»، و قوله في بعض آخر:

لا تصلّ فيما شفّ أو وصف، و في نسخة أو «صفّ» «2» و في ثالثة: أو سف بواو واحدة مع السين المهملة، فإنّ شفّ على ما صرّح به أهل اللغة بمعنى رقّ، فهذا القسم يصدق عليه أنّه رقيق و غير كثيف، فالاجتناب إن لم يكن أقوى فلا أقلّ من كونه أحوط.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 22 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 21 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 189

الفصل الثاني في الساتر يعتبر فيه أمور:

الأوّل: الطهارة،

بل هي شرط في جميع لباس المصلّي و إن لم يكن ساترا.

و تفصيل الكلام في هذا الشرط موكول إلى كتاب الطهارة.

الثاني: الإباحة،

اشارة

و ليعلم أوّلا أنّ الستر المعتبر في الصلاة ليس عبادة حتّى ينافي كونه منهيّا عنه للتقرّب بسببه، و لهذا لو وقع بلا قصد قربة و على وجه الغفلة كفى قطعا، فالحال في الساتر المغصوب حال اللباس الغير الساتر كالقلنسوة و القباء و الرداء إذا كان مغصوبا، فيحتاج إضراره بالصلاة إلى حصول الاتّحاد بين التصرّف فيه و بين الأكوان الصلاتيّة، نظير الصلاة في المكان المغصوب، فإن سلّمنا الاتّحاد أوجب البطلان سواء في الساتر أم في غيره، و إن منعناه فلا بطلان، بلا فرق بينهما أيضا.

و بالجملة، لا يحدث بسبب الأمر بتحصيل الساتر للصلاة مزيّة للساتر في هذا الباب على غيره، بل الملاك فيهما هو الاتّحاد المذكور و عدمه.

و حينئذ نقول

المتصوّر في لبس اللباس المغصوب من الوجوه المحرّمة و التصرّفات المبغوضة للمالك أمور:
اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 190

الأوّل: مجرّد الاستيلاء المالكي عليه

بقطع يد مالكه عنه من دون تصرّف زائد على الاستيلاء المذكور، و بعبارة أخرى: تحصيل المعنى الذي لو لا العلم بالحال لو أحرزناه حكمنا بمالكيّة صاحبه و عبّرنا عنه باليد الدالّة على الملك، فإنّه معنى غير ملازم للتصرّفات، فإنّه عبارة عن الاستيلاء، و الاستيلاء على المال و قطع يد الغير عنه أمر غير ملازم مع التصرّف من المستولي في المستولي عليه، كما هو واضح.

و الثاني: الزيادة عليه باستعماله في اللبس،

فإنّه تصرّف زائد على نفس الاستيلاء و قهر المالك و سلب اختياره، فيكون محرّما آخر غيره، لكنّه من المعلوم عدم اتّحاده مع شي ء من الأكوان الصلاتيّة، بل المحقّق صرف المقارنة بمعنى أنّه راكع و قائم و ساجد في حال اللبس المحرّم و مقارنا معه من دون اتّحاد بينهما في الوجود أصلا، إذ لا يصحّ حمل مفهوم اللبس على شي ء من هذه الأكوان و الأفعال، فلا يقال: الركوع لبس أو القيام أو السجود، و هذا أيضا واضح.

الثالث: الزيادة عليه بتحريك الثوب المغصوب بعد لبسه

بالحركات البدنيّة في حالة القيام و الركوع و السجود و إحداث الهيئات الخاصّة فيه بعد ما لم يكن، و هذه لا شكّ في كونها تصرّفات أخر وراء الاستيلاء و وراء اللبس، فإنّ إحداث الهيئة الركوعي في الثوب بعد كونه بهيئة الاستقامة و كذا سائر الهيئات و تحريكه بالتحريكات الخاصّة الحاصلة بتبع حركات البدن تصرّفات في الثوب، و هي غير الاستعمال اللبسي، و تكون متّحدة مع الأفعال الصلاتيّة، فإنّ عين تحطيط الظهر الذي هو جزء للصلاة تحريك للثوب و إحداث للهيئة فيه.

و لكنّ الذي يختلج بالبال أنّ مثل هذه التصرّفات و إن كان أهل العرف يراها تصرّفا قطعا و هل هو إلّا مثل جعل المال في الفينة و نقله إلى مكان آخر، فإنّه نقل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 191

بالتبع، و مع ذلك يكون تصرّفا عرفا، و لكنّهم لا يهتمّون و لا يعتدون بوجود هذه التصرّفات، بل وجودها و عدمها سيّان في نظرهم، لعدم التفاوت في غرضهم بين كون ثوبهم بهيئة الاستقامة أو بهيئة الانحطاط الركوعي أو السجودي.

نعم إلّا إذا كان ذلك مظنّة حدوث نقص و فساد في الثوب، و أمّا إذا لم يحدث تفاوت فيه من ناحية الهيئة

الجديدة، أو كانت هي أنفع و أصرف بحاله من القديمة فلا يبالون و لا يتغيّر حالهم بحدوثه، بحيث لو سئلوا عن هذه التصرّفات بعد الفراغ عن مقطوعيّة يدهم و الكون تحت يد الغاصب لما انقدح في أنفسهم المنع عنه.

و إذن فلا يمكن أن يقال: إنّ اللابس اللباس المغصوب أبدا مشتغل بثلاثة محرّمات: الأوّل: نفس الاستيلاء و إثبات اليد المالكي عليه، و الثاني: التصرّف فيه باللبس، و الثالث: التصرّف فيه بعد اللبس بهذه التحريكات أو السكونات الحاصلة له بتبع البدن، أو استقلالا إذا كان بالوصف الذي ذكرنا من عدم تفاوت بين وجوده و عدمه في نظر عامّة الملّاك.

نعم لو كان التحريك المذكور مظنّة للخطر في اللباس مثل جعل طرف القباء وعاء لشي ء أو استعماله في إثارة الريح أو الركوع في الثوب الضيّق بحيث كان مظنّة للانخراق فهذه يكون محطّا للنظر و مهتمّا بشأنه للمالكين و يمكن تعدّد الحرام بسببها.

و أمّا أمثال ما ذكرناه من المشي في حال لبس اللباس مثلا إلى مسافة يسيرة بحيث لا يحدث فيه شي ء أصلا و نحوه فلا يكون محطّا لنظرهم، و ليس مالك بين المالكين غير راض بوقوع أمثال ذلك في ماله حتّى يقال: قد وقع في ماله مبغوض آخر له وراء كونه ملبوسا للغاصب، و هو أنّه قام فيه أو ركع أو سجد، و اللباس المذكور قد تحرّك و تغيّر هيئته بتبع ذلك، فقد حدث له مبغوض ثانوي وراء أصل الملبوسيّة، فإنّه يمكن القطع بخلاف ذلك و أنّ المبغوض المالكي لا يتعدّد بسبب ذلك.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 192

فتحقّق ممّا ذكرنا أنّ ما يكون مبغوضا للمالك من التصرّف في الثوب المغصوب و هو لبسه غير متّحد مع الأكوان الصلاتيّة،

بل بينهما بون بعيد و مغايرة فاحشة، فأين الركوع و السجود و القيام من اللبس، و إن كان اللبس متحقّقا حينها، و ما كان متّحدا معها و هو التحريكات و تغيير الهيئات في الثوب بتبع الحالات و الأفعال الصلاتيّة غير مبغوض مالكي، فلا يكون مبغوضا شرعيّا أيضا، لكون المبغوضيّة الشرعيّة تابعة للمبغوضيّة المالكيّة في هذا الباب، كما هو واضح.

و الحاصل: أنّا نقول بأنّ هذه التحريكات تصرّف في نظر العرف، و لكن نقول: الرضى بها حاصل لكلّ أحد لا على وجه الإطلاق حتّى يستلزم الرضى بأصل اللبس أيضا، بل في تقدير تحقّق اللبس، فلا ينافي مع مبغوضيّة اللبس الذي هو التقدير.

فإن قلت: ما الفرق بين هذه التحريكات و بين الأفعال الصلاتيّة في الدار المغصوبة، فإنّا نقول: أيّ عاقل لو سئل عنه: إنّك على فرض كون الغاصب في دارك تبغض صلاته فيه بالنسبة إلى مكثه غير مشتغل بالصلاة؟ قال: نعم أبغض ذلك.

قلت: هذا مبنيّ على تصوّر الترتّب في الموضوع الواحد بعد الفراغ عن تسليمه في الموضوعين كالصلاة و الإزالة، بأن يقال: إنّه منهيّ أوّلا عن الغصب بحقيقته السارية التي منها هذه الحركات التي هي عين الأفعال الصلاتيّة، و على فرض عصيانه هذا النهي، مأمور باختيار فعل الصلاة من بين سائر أنحاء الكون الغصبي، و هو ربما يكون محلّ منع و إن كان مسلّما في باب الضدّين الذين أحدهما أهمّ.

فإن قلت: مرجع ما ذكرت إلى حصول الرضى بهذه التحريكات لعدم كونها وجها من وجوه الانتفاع و لا معرضا لحصول الضرر أو الاندراس في الثوب،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 193

و بعبارة أخرى: لقلّتها و سقوطها عن النظر، و هذا موجود في الحبّة من الحنطة، فلا بدّ أن نقول

بعدم حرمة أكلها من مال الغير بدون الإذن منه.

قلت: المناط حصول القطع للمكلّف بالرضى الباطني للمالك، و أنّى لنا بهذا القطع في حبّة الحنطة ما لم يأذن هو في الأكل.

و أمّا في المقام فالمدّعى حصول القطع لكلّ أحد بأنّ واحدا من العقلاء ليس إذا عرض عليه هذا المعنى انقدح له مبغوضان، أحدهما اللبس، و الآخر التحريك المذكور، و ليس التحريك من شئون و أطوار اللبس حتّى يقال: إنّه لمّا كان اللبس فردا للغصب و الغصب بشؤونه و مراتبه حرام بحيث يسري الحرمة إلى جميع خصوصيّاته و أطواره، فيكون اللبس أيضا بما له من الشئون ساريا فيه الحرمة، و من شئونه هذه التحريكات، إذ قد عرفت أنّ التحريك للثوب من مكان القيام إلى مكان الركوع و هكذا من كلّ نقطة إلى غيرها، و من كلّ هيئة إلى خلافها ليس فردا للّبس بحيث صحّ إطلاق مفهوم اللبس عليه.

فلا يقال: هذا التحريك من مكان القيام إلى مكان الركوع لبس للثوب، فلم يبق إلّا أنّها منفكّة عنه في الوجود و إن كانا متقارنين في الزمان، و إذا لوحظت هذه الكيفيّات مستقلّة فلا يوجد عاقل تجدّد له همّ و غصّة من قبلها فوق الهمّ و الغصّة الحاصلين من قبل اللبس.

ألا ترى أنّا لو رأينا شخصين كلّ منهما غصب عدّة دراهم موضوعة على الأرض بهيئة خاصّة، و لكن أحدهما لم يزد على أن حال بين المالك و دراهمه من دون نقلها عن محلّها و تغييرها عن هيئتها، و الآخر زاد على ذلك برفعها من الأرض إلى كيسه و تفريقها عن الهيئة الأوّليّة، فهل يكون همّ قلب المالك الثاني بسبب هذه الزيادة زائدا على المالك الأوّل، فتارة يهتمّ لأجل محروميّته عن دراهمه،

و اخرى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 194

يحزن لأجل تفريق هيئتها و كونها على الأرض و تبدّلها إلى مكان آخر، لا نجد من أنفسنا انقداح الثاني في نفس عاقل و إن كان لو فرض التصريح من المالك بعدم الرضى فلا محالة يتعدّد الحرام، و لا محيص عن بطلان الصلاة حينئذ.

فإن قلت: سلّمنا أنّ هذه الكيفيّات ليست بشؤون للّبس، و لكن نقول: القيام في اللباس و الركوع و السجود ليس إلّا كالقيام و الركوع و السجود في الفضاء المغصوب، فكما أنّ الثاني حرام بلا شكّ فكذلك الأوّل، فإنّا نضع مكان الفضاء المملوك للغير، الثوب المحفوف بالبدن، كاحتفاف الفضاء به المملوك للغير، فكما أنّ الحركة القياميّة و الركوعيّة و السجوديّة في الفضاء ممنوع و غصب محرّم، فكذلك في الثوب المذكور بلا فرق في البين أصلا.

قلت: الفرق أنّ كون المكلّف في الفضاء المملوك للغير بجميع أنحائه و بطبيعته السارية التي منها القيام فيه، و منها الركوع و السجود فيه محرّم، فيقال له: لم تقوم في هذا المكان، أو لم تركع فيه، أو لم تضع جبهتك على هذه الأرض، و بالجملة، يقع كلّ فرد من أفراد الكون بخصوصيّته الخاصّة تحت النهي المالكي، فكذلك يقع تحت النهي الشرعي.

و أمّا اللابس للباس الغير الكائن في المكان المباح فلا يقال له: لم تقوم أو تقعد؟ أو لم تركع أو تسجد؟ بل يقال: لم تلبس هذا اللباس و تجعله على بدنك؟

فليس الاعتراض متوجّها إلى قيامه و قعوده و ركوعه و سجوده و سائر أكوانه، بل متوجّه إلى اللبس الذي هو مغاير لها مفهوما و وجودا و إن قارنها زمانا.

و الحاصل: لا يعدّ من أفراد التصرّف في اللباس عرفا أنحاء أكوان اللابس فيه

من القيام و القعود و غيرهما و إن كانت معدودة كذلك في المكان. و الفارق العرف، فإذن لا يتوجّه إليها النهي المالكي، فكذلك الشرعي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 195

فإن قلت: الذي صرّحت به في طيّ العبارات اتّحاد تحريك الثوب مع الأفعال الصلاتيّة، إلّا أنّه غير متعلّق للنهي، و لقائل أن يمنع الاتّحاد، فإنّ تحريك الثوب غير تحريك البدن وجودا كتحرّكهما و إن كانا متقارنين زمانا.

قلت: نعم، و لكن غايته أنّه من باب علّة الحرام، فإنّ تحريك الثوب تابع و معلول لتحريك البدن، و قد قرّر في محلّه سراية البغض من الحرام إلى علّته، فإذا كان تحريك البدن حراما فإنّه كالإلقاء فيما إذا كان الإحراق حراما، فكيف يكون عبادة.

فالعمدة ما ذكرنا في وجه التفصّي من منع كونه محرّما آخر وراء اللبس ما لم يكن معرضا لفساد أو اندراس أو استيفاء لمنفعة جديدة.

ثمّ إنّه قد حكي من بعض الأساطين أنّه تفصّى عن بطلان الصلاة في المكان المغصوب بطريق آخر يكون على فرض صحّته جاريا في المقام، و هو أنّ الاجتماع و الاتّحاد إنّما يلزم إذا جعلنا الأجزاء الصلاتيّة عبارة عن نفس الأفعال و الحركات الصادرة من المصلّي من القيام و الركوع و غيرهما.

و أمّا إذا قلنا بأنّها ليست بأجزاء للصلاة و إنّما الأجزاء هي الهيئات المتحصّلة من تلك الحركات عقيبها أعني: الهيئة الحاصلة للقائم و للراكع و غيرهما، و هذه الهيئات ليست من مقولة الفعل حتّى يكون تصرّفا في المكان أو اللباس.

نعم مقدّماتها كذلك، و لكن حيث إنّ المقدّمة المحرّمة إذا لم تكن منحصرة كما فيما نحن فيه لا يمنع من وقوع ذيها عبادة، كما يصحّ الحجّ بركوب الدابّة المغصوبة، فلا مانع من الصحّة في المقام

أيضا، هذا ما حكي عنه قدّس سرّه.

و أورد عليه شيخنا الأستاذ أطال اللّٰه بقاءه بوجهين:

الأوّل: منع كون جزء الصلاة هذه الهيئات، و ذلك لأنّ الأمر و الإرادة في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 196

الآمر سنخها سنخ إرادة الفاعل، فكما أنّها أبدا إنّما يتعلّق بتحريك العضلات سمت ما هو فعل صادر عنها، لا إلى ما هو أجنبيّ عن مقولة الفعل بها، فكذلك الإرادة الآمريّة، غاية الأمر أنّ لها هذا التأثير في عضلات العبد، و الاولى له ذلك في عضلات نفس المريد.

و أمّا كيفيّة الاقتضاء و التأثير فيهما واحد، أعني: تحريك الفاعل سمت الفعل، و لو صحّ أن يقال: أطلب منك هذا البياض فهو من باب التوسّع في العبارة، و إلّا ففي الحقيقة و اللبّ لم يتعلّق الطلب إلّا بالتبييض.

و هكذا في المقام أيضا لا يتعلّق الأمر إلّا بإيجاد الهيئات و هو عين الأفعال الصادرة و ما هو المعنى المصدري، فيعود المحذور.

و هكذا الكلام في باب الطهارة الحدثيّة، فإنّها أيضا ليست بنفسها مأمورا بها، بل المأمور به إيجادها و تحصيلها الذي هو نفس الغسلتين و المسحتين، و الفرق بين تعلّق الأمر بنفس الغسلتين و المسحتين و بين تعلّقه بإيجاد الطهارة أنّه على الأوّل لو شكّ في جزء أو قيد كان المرجع هو البراءة، و على الثاني كان المرجع هو الاشتغال، لأنّ إيجاد الطهارة أمر مبيّن معلوم مفهوما، و قد علم اشتغال الذمّة به، و الشكّ في تحقّقه و وجوده خارجا، و هو مورد الاشتغال، و أمّا على الأوّل فالشكّ في المفهوم الذي أمر به وسعته و ضيقه، و أنّه المقيّد أو المطلق أو التامّ، أو الناقص.

و حاصل المقام أنّ النتيجة المتولّدة من الفعل الاختياري و إن

كان مقدورا بمعنى أنّ لك الولاية على وجودها و عدمها، إلّا أنّ مجرّد ذلك لا يكفي في المتعلّقيّة للإرادة، بل إرادتك إنّما تتعلّق بما هو فعل لك بالمعنى المصدري، فكذا الأمر الذي هو أيضا متّحد السنخ مع إرادتك، غاية الأمر أنّه إرادة مولاك الفعل من جوارحك.

و الوجه الثاني: سلّمنا صحّة تعلّق الأمر و إن لم يصحّ تعلّق إرادة الفاعل،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 197

لكن هذه النتيجة لا اختيار فيها بعد حصول الاختيار في مقدّمتها.

و بعبارة أخرى: هذه المقدّمة ليست كركوب الدابّة المغصوبة في طريق الحجّ مع عدم الانحصار، فإنّ هناك للمكلّف اختيار آخر بعد تماميّة الركوب بصرفه في عمل الحجّ، و لهذا يحصل له الحسن الفاعلي الذي هو أحد ركني العبادة بواسطة هذا الاختيار الثانوي الذي نشأ من مبدأ حسن، فإنّ قوام المقرّبيّة و العبادية بشيئين:

أحدهما: ترتّب الثمرة المطلوبة للمولى على العمل، و الآخر: كون الداعي للفاعل إلى العمل أيضا داعيا راجعا إلى المولى و رعاية جانبه و حفظ مقامه، لا ناشئا عن الشهوة فضلا عن المعصية أو العناد و البغض للمولى، فهذان الأمران في مثال الحجّ يحصلان كلاهما بعد الركوب.

و أمّا في هذا المقام فليس للعبد اختيار آخر و قدرة اخرى يصرفه للمولى حتّى يحصل له الحسن الفاعلي الذي هو القدر المشترك بين الانقياد و العبادة، نعم قد تحقّق عقيب اختياره الأوّل الذي فرض نشوه عن محض تمرّده على المولى و عصيانه و اتّباعه لشهوته نتيجة مطلوبة للمولى قهرا و بلا اختيار آخر في حصولها.

و إن شئت توضيح المقام بالمثال فافرض أنّ صبغ ثوب بالحمرة مطلوب للمولى و يثيب من أوجده طلبا لمرضاته، ثمّ إنّ العبد قتل ابن المولى و صبغ الثوب بهذا

العمل المبغوض، فهل ترى أنّه يحصل له بواسطة هذا الصبغ الحاصل من إراقة دم الابن أجر و ثواب عند المولى مقرونا مع عتابه و عقابه على إراقة دم مهجة قلبه؟

كلّا و حاشا.

فإن قلت: لو فرضنا المقدّمة فعلا مباحا في حدّ نفسه فلا إشكال في حصول القرب بواسطة ترتّب مسبّبه عليه إذا أتى به بقصد ترتّب ذلك المسبّب، فكما صار المباح واسطة لعباديّة المسبّب و مقرّبيّته، فكذلك لا مانع في المقام أن يكون هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 198

العمل المبغوض محصّلا لعباديّة المسبّب من جهة تسبّبه إليه، و مبغوضا من الجهة الراجعة إلى ذاته.

قلت: ليس جهة إعطاء عنوان العباديّة في المقدّمة المباحة صرف التسبّب، بل من جهة أنّ الفاعل إذا أراد بالفعل المباح تحصيل تلك الجهة المطلوبة حصل له الحسن الفاعلي، فإذا انضمّ إلى حصول تلك الجهة تحقّقت العبادة.

و أمّا في المقام فلم يبعثه إلى الفعل إلّا الشيطان و لم يزده هذا العمل إلّا بعدا عن ساحة المولى، فكيف يحصل له الحسن الفاعلي، نعم يأتي الكلام في أنّه هل يحصل له القرب بصرف ترتّب تلك الجهة الحسنة المطلوبة.

و لكنّك قد عرفت أنّ تلك الجهة بمجرّدها ما لم تنضمّ إلى سعي فاعلي و حركة جوارحي لم يتحقّق بها العبادة، و إلّا فصحّ قصد العباديّة بطيران الغراب الذي علم بوقوعه خارجا و كونه مطلوبا للمولى، بل لا بدّ من إعمال وسع و إتعاب بدن من العبد في سبيله، و السعي المتحقّق منه في المقام حسب الفرض لم يوجب له إلّا البعد، فبقي الحسن الفاعلي بلا محصّل، و بدونه لا تتمّ العبادة.

اختصاص البطلان بصورة فعليّة النهي

ثمّ إنّه على فرض القول بكون المقام من صغريات مسألة اجتماع الأمر و النهي فلا

إشكال في اختصاص البطلان بصورة فعليّة النهي و تنجّزه، فلو كان المكلّف معذورا فيه إمّا للجهل بأصل النهي قصورا أو بموضوعه أو للنسيان في أحدهما فلا مانع من تحقّق العبادة و لو على مذهب القائل بامتناع اجتماع الأمر و النهي.

و تفصيل هذا المطلب و إن كان يطلب من الأصول، إلّا أنّه لا مانع من الإشارة إليه هنا على سبيل الإجمال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 199

فنقول: العذر تارة شرعي، و الأخرى عقلي، أمّا الأوّل فكما في مورد ثبوت اليد المحكوم شرعا بكون المال ملكا لذيها، فأخذ الثوب إمّا بإذنه أو بالشراء أو الاستئجار منه، فإنّه مرخّص شرعا في الاستعمال لهذا الثوب، لكنّه بحسب الواقع باق على حرمة الاستعمال، و لو فرض أنّه لا يسمّى غصبا، لأنّه تصرّف عدواني، و هو ملازم مع العصيان و فعليّة النهي نقول: على فرض التسليم لا ندور مدار اسم الغصب، بل المعيار وجود النهي الواقعي، و هو متحقّق، فالمدّعى أنّ هذا التحريم بوجوده الواقعي غير مناف مع ورود الأمر، كيف و هو قد اجتمع مع الترخيص، و التضادّ مشترك بينه و بين الوجوب.

فإن قلت: هو إنّما يكون في موضوع الشكّ في التحريم، فبينهما الترتّب و الطوليّة، نقول نحن أيضا: نفرض محلّ الأمر الصلاتي هذا الموضوع، و لا يقال: إنّه خروج عن المطلب، فإنّ كلامنا في اجتماع الأمر و النهي، و هذا من باب اجتماع الحكمين الظاهري و الواقعي.

قلت: إن أردت أنّه حكم ظاهري بمعنى أنّ له انكشاف الخلاف فلا كذلك، لأنّه لا كشف خلاف في هذا الأمر، لأنّ الحركة الخارجيّة لا نقصان فيها من حيث الأجزاء و الشرائط المعتبرة في الصلاة، و إنّما المانع من قبيل الأمر، و هو في

هذا الموضوع أعني: الشكّ لا مانع له، فمع فرض وجود المقتضي يحصل العلّة التامّة للثبوت، و الأوامر الظاهريّة التي لها كشف الخلاف إنّما ذلك بواسطة خلوّها عن المصلحة الذاتيّة في المتعلّقات، فلا يصلح للمقرّبيّة و العباديّة، هذا في صورة العذر الشرعي.

و أمّا مع العذر العقلي كالنسيان حيث إنّ العقل يعذر الناسي، لا أنّ له رخصة شرعيّة في الارتكاب فأوّلا نقول بإمكان إثبات الأمر في هذا الموضوع أعني:

من كان معذورا من الحرام الواقعي بالنسيان أو نحوه بقاعدة الترتّب التي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 200

حقّق في الأصول في التوفيق بين الحكم الواقعي و الظاهري، و لا يلزم تخصيص عنوان الناسي، إذ الخطاب شامل له في ضمن عنوان عامّ و هو جامع المكلّف في قوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ و إنّما خرج عنه بالتخصيص العقلي حسب الفرض من اختيار القول بامتناع اجتماع الأمر و النهي صورة عدم العذر عن الحرام الواقعي، و أمّا مع العذر بنحو الترتّب فلا مانع منه.

و ثانيا نقول: لا نحتاج في العبادة إلى وجود الأمر، بل يكفي موافقة الغرض المطلوب للمولى، بحيث لو لا المانع في أمره لأمر به، إذا المفروض أنّ الفعل الخارجي جامع الشرائط و الأجزاء الشرعيّة، و لهذا لو كان توصّليّا لوفى بالغرض بلا إشكال.

و إنّما الكلام تمامه في تصحيح الشرط القلبي و هو نيّة القربة و حصول القرب للفاعل بواسطة الفعل، و هو أمر يرجع في تشخيص مصاديقه إلى العرف و العقلاء، و نحن لا نشكّ في أنّ العرف و العقلاء حاكمون في مثل المقام ممّا كان المأتيّ به ذا وجهين بأحدهما محصّل لنتيجة سيّئة، و بالآخر لنتيجة محبوبة مرغوبة، و فرضنا أنّه لم يؤثّر وجهه الأوّل في تحطيط

منزلة العبد عند المولى و لا أحدث تفاوت حال له في ساحته، لكونه غافلا عن هذا الوجه، و إنّما دعاه إلى الفعل وجهه الثاني في أنّ هذا القصد يوجب قربه، بمعنى أنّ هذا الفاعل إذا لوحظ مع التارك ليسا بمرتبة واحدة عند العقل، لا بمعنى استحقاق الأوّل على المولى شيئا، كلّا و العبد و ما في يده لمولاه، بل بمعنى أنّه لو أراد المولى تفضّلا و أنعاما فلو قدّم الثاني على الأوّل في جعله موردا لإنعامه و إكرامه كان قبيحا، فإذا تحقّق الحسن الفاعلي و الفعلي فلا محالة يتحقّق القرب بالمعنى المذكور عند العقل، و لا وجه لعدم حصول الحسن الفاعلي بعد أنّ الجهة المقبحة ساقطة عن تأثيرها في تقبيح العبد و تحطيط درجته، كما أنّ الحسن الفعلي محلّ الوفاق بين المجوّز و المانع في مبحث اجتماع الأمر و النهي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 201

اعتبار الذكاة في الجلود و نحوها

الثالث: من شروط الساتر بل مطلق لباس المصلّي أن يكون مذكّى،

اشارة

فلا تصحّ في الميتة إذا كان ممّا تحلّه الحياة مثل الجلد من أجزاء ذي النفس، و التقييد بكونه من أجزاء ذي النفس لم يرد في الأخبار تصريحا، و إنّما يكون القول به من أحد وجوه:

الأوّل: أنّه ورد التقييد في بعض أخبار النهي عن الصلاة في جلد الميتة بقوله عليه السّلام «و لو دبغ سبعين مرّة» «1» و هو يوجب ظهور الموضوع في الجلود التي تقبل الدباغة، و كلّ ما ليس له نفس لا يقبلها و إن كان بعض ما له النفس كالفأرة و الطيور أيضا كذلك، لكنّ المقصود عدم تعرّض الأخبار إلّا لما يقبلها، و لا ينافي معلوميّة الحكم في ما له النفس من الخارج.

و الثاني: أنّ التقييد المذكور ظاهر في أنّه ورد للردّ

على العامّة القائلين بأنّ الدباغة ذكاة للجلد و موجب لطهارته، و إذن فيصير في قوّة اشتراط الطهارة في اللباس و أنّ جلد الميتة وجه عدم جواز الصلاة فيه نجاسته و عدم حصول الطهارة له بالدبغ كما هو مذهب العامّة، و حينئذ فمن المعلوم أنّ النجاسة خاصّة بميتة ذي النفس.

و الثالث: أنّ الأخبار المطلقة الناهية عن الصلاة في الميتة و إن أمكن جعلها عنوانا مستقلّا بلا إرجاع إلى حيث النجاسة، كما ورد النهي عن الصلاة في أجزاء غير المأكول، إلّا أنّه إذا كان الميتة ممّا ارتكزت نجاستها في الأذهان، فربما أمكن أن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 202

يقال بانصراف النهي عن الصلاة فيه إلى تقرير نجاسته و إمضاء ما ارتكز في الأذهان العرفيّة.

هذا كلّه مضافا إلى ما يدّعى من أنّ من المعلوم من سيرة المسلمين عدم الاجتناب عن ميتة ما لا نفس له مثل ميتة الذباب و الجعل و الخنفساء و الجراد و نحو ذلك.

و كيف كان فلو شكّ في جلد أنّه من المذكّى أو الميتة فلا إشكال في أنّ مقتضى الأصل هو الحكم بالثاني، لأنّ الموت أمر عدمي و هو عبارة عن عدم حصول التذكية المعتبرة شرعا في حلّ الحيوان عند إزهاق روحه.

و لكن هذا بالنسبة إلى ما إذا كان الحيوان الذي أخذ الجلد منه مشكوك الحال ممّا لا إشكال فيه، سواء جعلنا التذكية عبارة عن نفس الأفعال الخارجيّة من فري الأوداج الأربعة مع إسلام الذابح و استقباله و تسميته و كون الآلة حديدا و نحو ذلك، أم جعلناها عبارة عن الأمر البسيط المتولّد من هذه الأفعال، إذ على التقديرين نقول: لم يكن

هذا المعنى الحادث متحقّقا في هذا الحيوان، و الآن أيضا كما كان، فيثبت له جميع أحكام غير المذكّى.

و إنّما الكلام بالنسبة إلى ما إذا لم يكن لنا في الخارج حيوان شككنا في حاله و أنّه مذكّى أو ميتة، كما لو رأينا حيوانا مخصوصا مذبوحا بالشروط المقرّرة، و حيوانا معيّنا آخر غير مرعي فيه تلك الشروط، فشككنا في الجلد أنّه أخذ من أيّهما، فإنّه ليس لنا أن نشير إلى الحيوان الذي منه أخذ هذا الجلد، و نقول: نشكّ في كونه مذكّى أو ميتة، فالأصل عدم تذكيته، لأنّا حسب الفرض نقطع في هذا المعيّن بالتذكية، و في ذاك المعيّن بعدمها، و لا ثالث يحتمل كون الجلد منه، فلا معنى لقولنا:

إنّا نشكّ في الحيوان المأخوذ منه هذا الجلد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 203

الإشكال في أصالة عدم التذكية
اشارة

نعم هذا لا إشكال فيه لو جعلنا التذكية عبارة عن الأفعال المخصوصة أعني:

إمرار السكّين و الذبح بالشروط المقرّرة، فإنّ مورد التذكية على هذا هو الحيوان دون الجلد، فإنّ الجلد لا يصحّ أن يقال: فري أوداجه، أو ذبح، و إنّما محلّ ذلك هو الحيوان، و قد فرضنا عدم الشكّ فيه، فما هو محلّ الذبح و الفري أعني الحيوان لا شكّ فيه حتّى يستصحب، و ما يكون مشكوكا أعني: الجلد ليس محلّا للفري و الذبح حتّى يستصحب عدمها فيه، فلا معنى للاستصحاب المذكور.

و إنّما الكلام كلّه في هذا الفرض لو قلنا بأنّ التذكية عبارة عن الأمر البسيط المتحصّل من تلك الأفعال، فإنّه حينئذ يسري إلى جميع أجزاء الحيوان، فيصحّ أن يقال: هذا الجلد ذكيّ، أعني: حصل له الحالة المخصوصة المعنويّة بواسطة ذبح حيوانه بالشروط المقرّرة.

فهل يصحّ على هذا المبنى إجراء أصالة العدم في المثال الذي تقدّم

بأن يقال: لم نعلم بحصول هذه الحالة بعد وقوع الذبح على أحد الحيوانين المعيّنين في هذا الجلد الشخصي، بعد ما علمنا بعدم حصولها قبله، فالأصل بقاؤه على ما كان، أو لا يصحّ؟ الذي قوّاه شيخنا الأستاذ دام ظلّه في بحث الأصول و أكّده في هذا المقام في بحثه الشريف هو الثاني، لوجوه ثلاثة لعلّ مرجعها إلى واحد.

الأوّل: أنّ المورد شبهة مصداقيّة لنقض اليقين بالشكّ، لاحتمال كونه نقضا باليقين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 204

تصوير الشبهة المصداقيّة لنقض اليقين بالشكّ

توضيح ذلك يحتاج إلى مقدّمة و هي أنّه لو فرضنا إناءين من الماء مقطوعي النجاسة ثمّ قطعنا بطهارة أحدهما المعيّن بنزول الغيث مثلا أو الاتّصال بالكرّ أو الجاري مع المزج، ثمّ رأينا قطرة قطرت على لباسنا و نقطع بأنّها من الإناءين المذكورين و لكن نشكّ في أنّها من أيّهما فلا شكّ أنّ هذه القطرة يحتمل كونها من القطرات التي نحن نقطع فعلا بكونها طاهرة قطعا تفصيليّا، فإنّ الإناء المعيّن الذي وقع الغيث فيه نشير إلى جميع قطراته بالإشارة التفصيليّة و نحكم عليها حكما جزميّا بالطهارة، فمع وصف احتمال كون هذه القطرة الواقعة على اللباس من تلك القطرات الموصوفة بالمقطوعيّة التفصيليّة الفعليّة بالطهارة كيف يصحّ لنا أن نقول: هذه القطرة كانت نجسة في السابق قطعا، و الآن نشكّ في حصول الطهارة لها، فلا يصحّ لنا نقض ذلك اليقين بالنجاسة السابقة إلّا باليقين بالطهارة، و ليس لنا في هذه القطرة يقين بالطهارة، فإنّ الحكم بعدم اليقين بالطهارة فيها لا يصحّ، لأنّه من المحتمل أنّه مورد قطعنا الفعلي التفصيلي و إشارتنا التفصيليّة إلى جميع قطرات ذلك الإناء بالحكم بالطهارة.

فإن قلت: يلزم عليك عدم جريان استصحاب الطهارة الحدثيّة لمن تيقّن بالوضوء و شكّ في أنّه

بال، و لكن نقطع بأنّه لو بال لكان في حال العلم و الالتفات، فإنّه حينئذ يجري فيه ما ذكرت حرفا بحرف، لأنّه يحتمل أنّ يقين الطهارة انتقض في حقّه بيقين الحدث، فكيف يحكم جزما بأنّ معاملة الحدث فعلا نقض لليقين بالشكّ، مع أنّه يحتمل تخلّل اليقين في البين.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 205

قلت: الاعتبار بالحال الفعليّة، و القطع في ما ذكر من المثال ليس بفعلي، بل الحال الموجودة فعلا هو الشكّ، ليس إلّا.

نعم له قطع حاصل على تقدير، أعني: أنّه لو كان قد بال كان محدثا، و القطع المعتبر في نقض اليقين السابق هو القطع الفعلي، و إلّا فكلّ شكّ يرجع لا محالة إلى القطع التقديري، و كذلك يحتمل أنّه في السابق حصل له القطع بالحدث تفصيلا في حال بوله، و لكنّ القطع السابق على فرض مقطوعيّته لا يضرّ، فضلا عن كونه محتملا كما هو المفروض في المثال، بل المعيار هو القطع في الحال الغير المتبدّل فعلا بالخلاف.

و هذا بخلاف الحال في مقامنا، فإنّ القطع التفصيلي حاصل حالا، لا في الماضي، و على وجه الفعليّة و التنجيز لا التعليق و التقدير، فإنّا الآن نحكم حكما جزميّا على جميع قطرات الإناء الواقع فيه المطر بطريق الاستيعاب بالطهارة التفصيليّة بحيث ننظر إلى جميع أشخاص قطراته و نحكم بأنّ هذه طاهرة و هذه كذلك، و هذه كذلك إلى آخرها، و هذه القطرة الساقطة على اللباس يحتمل كونها من أحد موارد هذه الأحكام التفصيليّة الموجودة الفعليّة في نفسنا، فكيف يصحّ لنا أن نقول: لم ينتقض في هذه القطرة قطعنا بالنجاسة بالقطع بالطهارة، بل نحن شاكّون في طهارتها بعد ما كنّا قاطعين بالنجاسة.

فإن قلت: النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات، فإذا

كان انطباق تلك الصور المقطوعة التفصيليّة الجزئيّة على هذه القطرة مشكوكا فالحاصل فيها هو الشكّ و إن كان الصورة المحتملة الانطباق مقطوعة.

قلت: لا ندّعى عدم حصول الشكّ في هذه القطرة، كيف و هذه الدعوى مصادمة للضرورة و البداهة، بل نقول: تلك الصورة مقطوعة بالقطع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 206

التفصيلي الشخصي الخارج عن حدّ الانطباق على الكثيرين و الكلّية، و قد فرضنا أنّ غاية «لا تنقض» عبارة عن العلم المتعلّق بالصور الشخصيّة الغير القابلة للصدق على الكثيرين، دون العلم الإجمالي المتعلّق بالصورة الكلّية أو الفرد المنتشر.

و في هذا المقام القطع تعلّق بصورة شخصيّة تفصيليّة خاصّة غير قابلة للصدق على الكثيرين، و ليست بفرد منتشر أيضا، بل هو معيّن بالإشارة التعيينيّة، و بالجملة، لا نقض فيه أصلا عن اليقين الذي جعل غاية في الدليل للاستصحاب، فمع احتمال انطباق هذا القطع على هذا الفرد يكون شبهة مصداقيّة للاستصحاب لا محالة.

إذا عرفت ذلك فنقول في المقام: نحن نقطع تفصيلا بالتذكية في تمام أجزاء الحيوان المعيّن الخارجي بحيث نشير إلى جزء جزء منه و نحكم بحصول الذكاة فيه، فإذا احتملنا أنّ هذا اللباس المتّخذ من الجلد كان من جلد هذا الحيوان كان موردا لما تقدّم من كون نقض اليقين بعدم التذكية في هذا الجزء بمعاملة التذكية مردّدا بين كونه نقضا بيقين التذكية أو لا، فإذا سقط أصالة عدم التذكية كانت قاعدة الطهارة محكّمة.

و يؤيّد ما ذكرنا ما ورد من الأخبار المطلقة الحاكمة في موارد الشكّ في التذكية و العدم بجواز الاستعمال حتّى يعلم العدم، و لا داعي إلى حملها على مورد وجود السوق أو نحوه من أمارات وجود التذكية.

و لا ينافيه ما ورد من عدم جواز الاستعمال في

ما يؤخذ من يد الكافر، و كذلك ما ورد في ذيل موثّقة ابن بكير الواردة في عدم جواز الصلاة في أجزاء غير المأكول، حيث اشترط في جواز الصلاة في المأكول العلم بأنّه ذكيّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 207

قد ذكّاه الذبح.

وجه عدم المنافاة أنّ المطلقات محمولة على ما إذا كان في البين حيوان قد علمنا بتذكيته تفصيلا و احتملنا كون الجلد المصنوع ثوبا من ذلك الحيوان، كما هو الغالب في من هو ساكن في بلد الإسلام، لكن كان ابتلاؤهم في تلك الأزمنة بمعاشرة من يستحلّ جلد الميتة بالدباغة.

و الحاصل: أنّ الجلود الخارجيّة منقسمة عنده في الخارج بين ثلاث طوائف:

إحداها: ما قام العلم أو العلمي على حصول التذكية الشرعيّة فيه.

و الثانية: ما قام العلم أو العلمي على عدمها فيه.

و الثالثة: ما يكون مشكوك الحال، فهذا الثوب المشتري من السوق يحتمل كونه مأخوذا من الطائفة الاولى، و قد قلنا بعدم جريان أصالة عدم التذكية في هذا الفرض.

و أمّا ما دلّ على البأس بالصلاة في المأخوذ من يد الكافر فمن المحتمل أن يكون مورد السؤال ما إذا كان عمل صناعة الجلد و ذبح الحيوان كليهما راجعا إلى الكفّار، و كان من المحتمل أن يكون في خدمة الكفّار و أكرتهم مسلم و هو باشر ذبح الحيوان الذي يكون جلده في يده، و من المعلوم أنّ أصالة عدم التذكية حينئذ جارية، إذ غايته أن يكون موردا للعلم الإجمالي، و الذي ذكرنا إضراره بجريان الأصل هو التفصيلي، و المفروض انتفائه في الحيوانات التي تصير مذبوحة تحت يد الكافر، بل هي إمّا مشكوكة بدويّة، أو معلومة بالعلم الإجمالي، و على كلّ حال يكون موردا للأصل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 208

طهارة الجلود المجلوبة من الإفرنج

و من هنا يعلم أنّ المصنوعات الجلديّة المجلوبة من الإفرنج في زماننا هذا ليس الحال فيها بهذا المنوال بعد فرض القطع بأنّه يجلب من بلاد الإسلام جلود ذكيّة إلى تلك البلاد.

نعم نقطع بوجود الجلود الغير الذكيّة في بلاد الإفرنج أيضا، فالمصنوعات غير معلومة أنّها من تلك المقطوعات التفصيليّة كونها مذكّاة، أو من تلك الأخرى المقطوعة الخلاف.

هذا مضافا إلى محمل آخر لهذا الخبر سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى ذكره.

و أمّا الموثّقة فهي متعرّضة لأصل اشتراط الذكاة واقعا، لا لحكم الشكّ كما سيأتي أيضا إن شاء اللّٰه تعالى.

الوجه الثاني: أنّه لا يحرز في المقام اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين، لاحتمال انقطاعه عنه بتخلّل زمان القطع، بخلاف الحالة السابقة، فلو رجعنا قهقرى يحتمل ورودنا عند انتهاء أزمنة الشكّ في زمان القطع التفصيلي المحفوظ فعلا، الغير المتبدّل بالشكّ الساري أو الإجمال الساري بخلاف الحالة السابقة، و يتّضح حال هذا الوجه أيضا بالتأمّل في البيانات السابقة.

الوجه الثالث: أنّ المعتبر في الاستصحاب هو الشكّ في البقاء و احتمال الارتفاع بعد القطع بالثبوت في السابق، و النهي راجع إلى النقض العملي في مورد يحتمل عدم الانتقاض التكويني للحالة السابقة بخلافها، و هذا ممّا لا شبهة فيه، و هذا المعنى متحقّق في مورد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين و طهارة الآخر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 209

و الشكّ في التعيين بعد القطع بنجاسة كليهما مثلا، فإنّ كلّا من الشخصين بصورته التفصيليّة، يتحقّق فيه ذاك الملاك، أعني: القطع بثبوت النجاسة في السابق، ثمّ الشكّ في البقاء و الارتفاع و الانتقاض و العدم في اللاحق و إن كان لأجل احتمال انطباق الصورة الكلّية المعلومة الحال أو الفرد المنتشر كذلك عليه.

و كذلك موجود في استصحاب

القسم الثاني من استصحاب الكلّي، فإنّه ليس لنا قطع مطلق بالارتفاع و قطع مطلق بالبقاء، بل القطع بالارتفاع ثابت على تقدير، و كذا القطع بالبقاء، و هذا معناه الشكّ في البقاء و الارتفاع الفعليّين.

فالذي لا يتحقّق فيه الملاك المذكور هو ما إذا حصل القطع الفعلي، لا التقديري بصورة شخصيّة كان حملها على المشكوك من قبيل حمل هو هو و حمل هذا زيد، الذي مفاده العينيّة الصرفة، لا من قبيل حمل الكلّي على الفرد أو الفرد المنتشر على المعيّن، فإنّ بينهما تغايرا حقيقيّا مع الاتّحاد في الوجود.

و أمّا في مثل هذا زيد، فالمغايرة بصرف الاعتبار مع الاتّحاد الحقيقي، فإذا فرضنا صورتين حالهما بالنسبة إلى المشكوك على فرض انطباق كلّ حال حمل هذا على زيد و كنّا قاطعين بالارتفاع في إحداهما و بالبقاء في الأخرى فصرف الشكّ في الانطباق و عدم العلم بأنّ هذا الشبح المرئيّ مثلا في الظلمة هل هو زيد المقطوع فيه بقاء العدالة أو العمرو المقطوع فيه انتقاضها بالفسق لا يوجب صدق عنوان الشكّ في الانتقاض بالنسبة إلى هذا المرئيّ في الظلمة حتّى يصحّ أن يقال: إنّا كنّا قاطعين في هذا الشخص المرئي بالعدالة في اليوم السابق، و نشكّ الآن في بقائها و ارتفاعها، بل الصادق أنّ لنا مقطوعا تفصيليّا قطعنا فيه بالارتفاع، و مقطوعا كذلك قطعنا فيه بالبقاء.

و هذا الشخص لا نعلم أنّه الأوّل أو الثاني، فالشكّ متعلّق بأنّه الباقي قطعا أو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 210

المرتفع كذلك، و هو غير الشكّ في البقاء و الارتفاع في الشخص، فإنّ هذا الرجل لو ارتفعت الظلمة عن الهواء تبيّن أنّه بشخصه و نفسه معلوم البقاء، أو بشخصه و نفسه معلوم الارتفاع، لا بصورة

كلّية أو جزئيّة مردّدة، فالشكّ في البقاء و الارتفاع لا يصدق.

نعم مطلق الشكّ صادق، و لهذا نقول في مثال القطرة المتقاطرة من أحد الإناءين التي مثّلنا بها سابقا بجريان أصالة الطهارة فيه، و كذلك فيما نحن فيه، أعني الجلد المحتمل الانتزاع من الحيوان المعيّن المقطوع التذكية أو الحيوان المشخّص المقطوع عدمها بجريان أصالة الطهارة و حلّية الاستعمالات مثل اللبس و نحو ذلك، و إن كنّا نتوقّف في الصلاة و البيع لو قلنا بأنّ للميتة عنوانا استقلاليّا مع قطع النظر عن النجاسة في المانعيّة عن الصلاة و البيع، فلا بدّ في الجلد المذكور من التفرقة بين الصلاة و الشراء ممّا يرتبط انعقاده و صحّته وضعا بالتذكية و بين الاستعمالات التي أنيطت بالطهارة، أو كان المتحقّق فيها صرف الحرمة التكليفيّة، فالمرجع فيها أصالة الطهارة و الحلّية.

و وجه جريان هذين الأصلين مع كونهما مغيّين بالعلم بالخلاف كالاستصحاب ما عرفت من أنّ المانع من جريان الاستصحاب عدم تحقّق صدق الشكّ في الانتقاض و البقاء الذي هو المعتبر فيه في المقام، و أمّا في الأصلين فالمعتبر مطلق الشكّ و هو موجود بالبديهة، فإنّه إذا شككنا أنّه هل هو الشخص الذي هو مقطوعنا من جهة الارتفاع أو الشخص الذي هو مقطوعنا من حيث البقاء، فلا محالة كان هذا الشبح حاله الفعليّة هو الشكّ في الطهارة و النجاسة و التذكية و الموت و إن كان لا يصدق فيه الشكّ في انتقاض الحالة السابقة القطعيّة، لما ذكرنا من أنّ عنوان الشكّ في البقاء و الانتقاض غير عنوان الشكّ في أنّه معلوم الانتقاض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 211

أو معلوم البقاء.

و من هنا يعرف الجواب عن الإشكال الذي ربما يورد في المقام و

هو أنّ العلم التفصيلي قد كان، و فعلا قد فات و تبدّل بالإجمال بواسطة الظلمة أو نحو ذلك، و غاية الاستصحاب هو العلم التفصيلي لا الإجمالي.

فإنّ الجواب أنّ التفصيل محفوظ في النفس من دون تبدّل أو تغيّر فيه أصلا، فإنّ نفس صورة الزيد الذي كان رفيقنا و جليسنا مثلا معلوم العدالة حدوثا و بقاء الآن بدون حدوث شكّ أو إجمال فيه، و كذلك صورة العمر و المعلوم المعيّن معلوم الارتفاع كذلك، و الإجمال الطارئ إنّما طرأ على معلومنا، فلا نعلم أنّ معلومنا التفصيلي ارتفاعا منطبق على هذا، أو معلومنا التفصيلي بقاء، لا أنّ الإجمال طار على الواقع مع قطع النظر عن تعلّق العلم التفصيلي به بأن لم نعلم أنّ العادل المرتفع عدالته هل هو زيد أو عمرو بعد أن علمنا تفصيلا أنّه زيد، فإنّه قد تغيّر العلم التفصيلي حينئذ بالإجمال، و كان الإجمال ساريا إلى السابق.

و أمّا في مفروضنا فالمعلوم التفصيلي على حاله بدون تغيّر و سريان إجمال إليه، و الإجمال تعلّق بوصف كونه معلوما تفصيليّا لنا.

و الحاصل: الظاهر عدم الإشكال في عدم جريان أصالة التذكية و استصحاب الطهارة أو النجاسة أو العدالة أو غير ذلك في الأمثلة المذكورة و ما شابهها، و قد علمت أنّه حينئذ يرجع إلى الأصول الأخر لو كان، مثل أصالة الطهارة و أصالة الحلّية على حسب الأثر المناسب في كلّ مقام.

نعم يبقى الكلام في أنّه هل يستفاد من الأخبار الواردة في حكم الجلود و اللحوم المشتبه انتزاعها من المذكّى أو الميتة حكم مفروض البحث و لو بإطلاقها أو عمومها حتّى يقال بمضمونها و يحكم بأنّه و إن كان الأصل هو الطهارة و حلّية اللبس

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 212

و الاستعمال، إلّا أنّ الشارع لم يجز لنا إعمال هذين الأصلين في خصوص هذا المقام، أو أنّه لا مساس للأخبار المذكورة بمقامنا و لا يوجب رفع اليد عن الأصول المذكورة؟

الذي قوّاه شيخنا الأستاذ دام ظلّه في مجلس درسه الشريف هو الثاني، و توضيح الحال يحتاج إلى شرح الكلام في الأخبار المذكورة.

فنقول و باللّه المستعان و عليه التكلان و المستغاث بأولياء الرحمن عليهم صلوات اللّٰه الملك المنّان: إنّ الأخبار بين طوائف:

الاولى: موثّقة ابن بكير الواردة في اشتراط كون لباس المصلّي من غير جزء حرام اللحم، قال فيه تفريعا على هذا: «فإن كان ممّا يؤكل لحمه و الصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شي ء منه جائز، إذا علمت أنّه ذكيّ و قد ذكّاه الذبح» «1» الخبر.

وجه عدم مساسه بمقامنا أنّه ليس متعرّضا لحكم حال الشكّ، بل للحكم الواقعي، و التعبير بالعلم للتأكيد في إحراز الواقع، فالعلم هنا طريقي محض.

و الثانية: عدّة أخبار دالّة في المشتبه بين المذكّى و الميتة بجواز اللبس و الصلاة فيه و الأكل من دون إشارة إلى أمارة من سوق المسلمين أو أرض الإسلام أو يد المسلم، مثل ما ورد في الصلاة في السيف و فيه الكيمخت، فسأل عنه فقال:

جلود دوابّ منه ما يكون ذكيّا و منه ما يكون ميتة، فقال عليه السّلام: ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه «2»، و بمضمونه أخبار أخر.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 55 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 213

و منها: الخبر الوارد في السفرة المطروحة في الطريق يكثر لحمها و خبزها و جبنها

و بيضها و فيها سكّين، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «يقوّم ما فيها، ثمّ يؤكل، لأنّه يفسد، و ليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل له: يا أمير المؤمنين، لا يدرى سفرة مسلم أم سفرة مجوسيّ، فقال عليه السّلام: هم في سعة حتّى يعلموا» «1».

فإنّه ليس فيه أنّ الطريق كان طريق الإسلام، مضافا إلى أنّه عليه السّلام لم يسند الحكم إليه، بل إلى ما ذكره من قوله عليه السّلام: هم في سعة إلخ، و هذه الطائفة مساعدة لما ذكرنا فضلا من أن تكون مضرّة.

و الثالثة: عدّة أخبار حكمت بعدم البأس في الصلاة في الجلود المشتبهة المشتراة من السوق أو من يد المسلم أو من أرض الإسلام، و هذه أيضا لا يضرّنا، لأنّه إن كان الحكم بواسطة أماريّة هذه فيكون الأصل و لو موافقا محكوما لها، و إن كان لأجل الأصل الذي قرّرنا فنعم الوفاق و الدلالة على المطلب.

و الرابعة: ما دلّ على أنّ الجلود المشتبهة المأخوذة من يد معلوم الكفر أو مجهول الحال إذا لم يكن الغالب في البلد المسلمين غير جائزة الاستعمال في الصلاة، و هذه الطائفة هي العمدة في المقام، و يتوهّم منها الإضرار بالمطلب.

و تقريبه أنّ من المعلوم أنّ يد الكافر ليست أمارة على عدم التذكية، فليس الحكم بعدم جواز اللبس في الصلاة إلّا من جهة عدم وجود الأمارة على التذكية، فيعلم منه أنّ الأصل عند الشكّ في التذكية و العدم مطلقا و لو كان ممّا يحتمل كونه منتزعا من مقطوع التذكية على وجه التفصيل هو عدم التذكية حتّى يعلم التذكية.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصيد و الذبائح، الباب 38 من أبواب الذبائح، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 214

و

أجاب عنه شيخنا الأستاذ دام ظلّه بأنّه بعد ملاحظة الأخبار المطلقة على الجواز من غير تقييد بيد المسلم أو سوقه أو أرض الإسلام يدور الأمر بين تقييد تلك المطلقات بصورة وجود تلك الأمارات حتّى يحفظ ظهور الخبرين في البأس التحريمي، و بين رفع اليد عن ظهوره في التحريم و حمله على التنزيه حتّى يحفظ تلك الإطلاقات، و الثاني أقرب لوجهين:

أحدهما: أنّ حمل النهي و البأس المستفاد من مفهوم قوله عليه السّلام: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس، على النهي التنزيهي في خصوص الاستعمال الصلاتي ممّا يقربه الخبر الوارد في الثوب المشتري من السوق، لا يعلم لمن كان، هل يصلح الصلاة فيه؟ «قال عليه السّلام: إن كان اشتراه من مسلم فليصلّ فيه، و إن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله» «1»، فإنّ النهي عن الصلاة في الثوب المشتري من النصراني حتّى يغسله لا محالة محمول على التنزيه بعد مسلّميّة عدم كون يده أمارة على النجاسة، بل المحقّق عدم كونه كيد البائع المسلم أمارة على الطهارة، فإنّ استعمال ذي اليد المسلم دليل الطهارة، بخلاف الكافر، و معلوم أنّ الأصل في المشكوك هو الطهارة، و مع ذلك حكم بعدم الصلاة حتّى يغسله، فليس هذا إلّا لأجل الاهتمام بأمر الصلاة و مطلوبيّة الاحتياط لها.

و حينئذ فمن المحتمل قريبا أن يكون الحال في الخبر الوارد المفصّل في الجلود المشتبهة بين المأخوذة من المسلم و الكافر بهذا المنوال، بأن يكون احتياطا استحبابيّا رعاية لحال الصلاة، كما روي عن مولانا عليّ بن الحسين عليه السّلام أنّه كان لبس الفراء العراقي في غير حال الصلاة و كان ينزعه حال الصلاة، فإنّه معلوم أنّه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 50 من

أبواب النجاسات، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 215

للاستحباب، و إلّا لم يلبسه عليه السّلام في غير الصلاة أيضا.

الثاني: أنّه لم يعلم في خبر من أخبار المقام وقوع السؤال عن الشراء، مع أنّ شراء الميتة أيضا كالصلاة فيها غير جائز، بل السائل فرض جواز شراء المشتبه مفروغا عنه و جعل السؤال ممحّضا في الصلاة فيه، و لم يعترض الإمام عليه السّلام أيضا بأنّه إذا كنت شاكّا فلم شريته، فيعلم أنّ هذا السؤال لأجل الاهتمام بشأن الصلاة بعد الفراغ عن الجواز في غيرها، و إنّما كان الشكّ في الجواز في الصلاة، فوقع الجواب في عدّة أخبار بالجواز، و ورد في بعض آخر بالمنع، فالمنع المذكور أيضا محمول على الكراهة بقرينة ما ذكرنا.

ثمّ نقول: سلّمنا أنّ المنع تحريمي و ليس بكراهي و ليس ما ذكرنا من الأمرين صالحا لرفع اليد عن الظاهر، فغاية الأمر إثبات المنع في خصوص الاستعمال الصلاتي مع بقاء الجواز في سائر الاستعمالات المنوطة بالطهارة المتحقّق فيها صرف التكليف بواسطة أصالتي الطهارة و الحلّية.

و الحاصل: لو كانت أصالة عدم التذكية في المورد الذي محلّ بحثنا جارية كانت هذه الأصول محكومة لها، و أمّا بعد الخدشة في جريانها بما تقدّم فغاية ما يستفاد من السير في الأخبار هو المنع في خصوص الصلاة.

فإن قلت: ما يمنعك عن الجمع الذي ارتضاه المشهور من حمل أخبار الجواز على صورة وجود إحدى الأمارات من السوق أو أرض الإسلام أو يد المسلم كما هو الغالب، فإنّ الخارج عن هذا هو المأخوذ من الكافر المعلوم عدم سبقه بيد المسلم، أو من مجهول الحال في سوق الكفّار أو أرضهم، و لا يخفى أنّه فرض نادر و لا سيّما مع وجود الشاهد

على هذا الحمل في كلتا الطائفتين، فإنّ أكثر أخبار الجواز قد ذكر فيها لفظ السوق المنصرف إلى سوق المسلمين، أو التقييد بصنعة أرض

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 216

الإسلام، و ما بقي منها و إن كان مطلقا، و لكنّها أيضا قابلة لهذا الحمل بواسطة شيوع وجود تلك الأمارات، كما أنّ خبري المنع عن المأخوذ عن الكافر ظاهران في صورة الانفكاك عن الأمارتين الأخريين، و خصوصا مع أنّ النسبة عموم و خصوص مطلقان، و مقتضى القاعدة هو تقديم الخاصّ و تخصيص العامّ به.

و على هذا فلا بدّ من القول بما أفتى به المشهور من الحكم بعدم التذكية في غير مورد وجود الأمارات، سواء كان من قبيل ما ذكرت من المثال أو من غيره، و ذلك لإطلاق خبري المنع في المأخوذ من الكافر و شموله لكلا الفرضين، و إطلاق الخاصّ يؤخذ به و يرفع به اليد عن إطلاق العامّ أو عمومه.

قلت: المانع من هذا الجمع أمران:

الأوّل: أنّه لم يذكر في خبر من تلك الأخبار المشتملة على لفظة السوق مع كثرتها أنّه سوق المسلمين، بل الظاهر أنّ ذكره من باب أنّه محلّ الابتلاء غالبا بالبيع و الشراء، لا أنّ للسائل و المجيب نظرا و عناية إليه.

و على هذا فمساق هذه الأخبار أيضا مساق ما لم يذكر فيه هذه اللفظة مع الخلوّ عن القيدين الآخرين، بحيث يصلح عدّها من جملة المطلقات الدالّة على الجواز، و لعلّ الداعي للمشهور على ما ذهبوا إليه من حملها على أماريّة السوق استحكام أصالة عدم التذكية و قوّتها في أنظارهم- رضوان اللّٰه عليهم- بحيث لم يصلح عندهم تخصيص فيها و رفع اليد عن مفادها إلّا بقيام الأمارة على التذكية، و إلّا فبدون أمارة

عليها لا يرفع اليد عنها، فهذا ألجأهم إلى ما ذهبوا إليه من حمل هذه الأخبار على الأماريّة.

و المانع الثاني: أنّ لسان هذه الأخبار آب عن بيان الأماريّة للسوق، فإنّ لسان جعل الأمارة لا يناسبه المغيّائيّة بالعلم بأن يقال: اعمل به حتّى يعلم الخلاف،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 217

فإنّ العلم معناه الطريق، و هذا بالفرض فرد حقيقي للطريق، فالمناسب أن يقال:

لا سبيل لك إلى الشكّ مع الأمر الفلاني، بل لا بدّ من إلقاء احتمال كذبه، و التعبير في هذه الأخبار كما يعلم بمراجعتها إنّما هو بعدم لزوم الفحص و مراجعة الطريق و أنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم و الدين أوسع من ذلك كما في بعضها، و بأنّه ما دام الشكّ و عدم العلم بكونه ميتة لا بأس بالاستعمال كما في بعضها الآخر، و هذا كما ترى يناسب جعل الأصل.

و على هذا نقول: و إن كانت النسبة بين هذه و بين الخبرين عموما و خصوصا مطلقا، لكنّ التخصيص فرع إحراز قوّة الظهور في جانب هيئة الخاصّ على الظهور في مادّة العامّ، و نحن إذا رأينا من الشارع أنّه راعى جانب الصلاة في الثوب الغير الجلد المأخوذ من الكافر بأن لا يصلّى فيه إلّا بعد غسله، و فهمنا منه أنّه حكم استحبابي ينفتح لنا باب هذا الاحتمال في خبري المنع في الجلود المأخوذة من الكافر و أنّه و إن كان لا بأس تحريمي في الصلاة لأنّ المشكوك لا بأس به، إلّا أنّ الفضل في الاجتناب عنه في صورة أخذه من يد الكافر، إلّا إذا كان في أرض الإسلام، بحيث كان ذلك أمارة على أنّه إنّما وقع في يده من يد المسلم، فيرتفع هذا المنع.

و إذا وازنّا هذا

الحمل في هيئة الخبرين اللذين هما خاصّان في مقامنا مع حمل الأخبار الأخر على بيان أماريّة السوق و اليد و الأرض مع عدم ذكر الإسلام في أخبار السوق و مع جعل المعيار فيها هو العلم و الشكّ، كان الحمل الأوّل عند الإنصاف أقرب من الثاني.

و على هذا فلا بدّ من الأخذ بمفاد تلك الأخبار و القول بأنّ الشارع جعل الأصل في باب التذكية و عدمها هو البناء على التذكية حتّى يعلم العدم، سواء كان المورد من قبيل المثال الذي فرضنا الذي قلنا بعدم جريان أصالة عدم التذكية فيه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 218

ذاتا، أم من غيره ممّا يجري فيه ذلك الأصل، فإنّه و إن كان النسبة بين هذه الأخبار و أخبار الاستصحاب عموما و خصوصا من وجه، لشمول هذه الأخبار، لما ذكرنا من المثال، و شمول تلك لغير الجلود، إلّا أنّ هذه الأخبار أظهر من تلك، بواسطة أضقيّة دائرة عمومها و أوسعيّة عموم تلك.

ثمّ إنّ في بعض الأخبار تعليق الجواز بضمان البائع الذكاة للمشتري، فإن كان المراد منه هو العهدة التي تعهّدها بفعله و يده إذا كان مسلما، فلا مزيّة فيه على أخبار اليد التي عرفت الحال فيها و أنّه لأجل مراعاة الصلاة بالاحتياط الاستحبابي، و إن كان أزيد منه- أعني الاشتراط في ضمن العقد- فلا محيص من حمله على الاستحباب أيضا، فإنّه لو كان اليد أمارة فواضح، كما قاله المشهور، و كذا على ما قلنا من أنّ الأصل هو البناء على التذكية.

و أمّا إن لم نقل بذاك و لا بهذا، بل قلنا بجريان أصالة عدم التذكية فلا معنى لتجويز البيع للشي ء الذي قام الاستصحاب على كونه ميتة باشتراط كونه مذكّى، فهذا قرينة

على أنّ المراد منه أيضا ما ذكرنا من الرعاية الاستحبابيّة لأجل الصلاة و إن كان الارتكاب بدونه أيضا جائزا، أمّا للأمارة على طريقة المشهور، و إمّا لوجود الأصل على طريقتنا، هذا و لكنّ الذي لا يتجرّأ الفقيه من الإفتاء مخالفة المشهور رضوان اللّٰه عليهم.

تتميم: لا يذهب عليك أنّا لا ننكر أماريّة يد المسلم و سوق المسلمين

و صنعة أرض الإسلام على التذكية بواسطة بعض الأخبار الظاهرة في ذلك كقوله عليه السّلام: «إذا رأيتم يصلّون (يعني البائعين) فيه فلا تسألوا عنه» «1»، و قوله عليه السّلام: «و فيما صنع في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 219

أرض الإسلام» «1»، و أمّا اعتبار سوق المسلمين فيدلّ عليه بعض الأخبار المذكور في الوسائل في بعض أبواب الصيد و الذباحة، فراجعه «2».

بل المقصود أنّها لا ينافي مع كون الأصل عند الشكّ هو التذكية، كما مرّ بيانه، و هل المستفاد من الأخبار أماريّة الثلاثة في عرض واحد، أو أنّ اليد أمارة التذكية و الأخريين أمارتان على اليد؟ الظاهر هو الثاني، فإنّه لا يفهم الإنسان من الأخبار أنّ مجرّد وجود المسلمين و غلبتهم في السوق له مدخليّة في الحكم بتذكية المأخوذ من يد معلوم الكفر مع الشكّ في تذكيته، بل الظاهر أنّ غلبة المسلمين أمارة على تشخيص حال الشخص المشكوك الحال، و هكذا صنعة بلاد الإسلام، فإذا صار شي ء من مختصّات أرض الإسلام مثل ما يسمّى بالفارسيّة (پوستين) فنحن إذا وجدناه في أقصى بلاد الإفرنج لا بدّ أن نحكم بأنّه مذكّى و أنّه مجلوب من بلاد الإسلام إلى هناك.

الرابع: من شروط الساتر بل و مطلق اللباس أن لا يكون من أجزاء ما لا يؤكل لحمه،

اشارة

و الأصل في ذلك موثّقة ابن بكير، «قال: سأل زرارة أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الصلاة في الثعالب و الفنك و السنجاب و غيره من الوبر، فأخرج كتابا زعم أنّه إملاء رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: إنّ الصلاة في وبر كلّ شي ء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شي ء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتّى

تصلّى في غيره ممّا أحلّ اللّٰه أكله» «3» الخبر.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(2) راجع الوسائل: كتاب الصيد و الذبائح، الباب 29 من أبواب الذبائح.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 220

و الراوي أعني: ابن بكير و إن كان ضعيفا على ما صرّح به بعض العلماء رضوان اللّٰه عليهم، و متن الخبر أيضا لا يخلو من بعض المناقشات مثل إطلاق الزعم الظاهر في الاعتقاد المخالف للواقع، و مثل قوله: فالصلاة في وبره و شعره إلخ، فإنّه لا يناسب التركيب النحوي، إلّا أنّ العلماء رضوان اللّٰه عليهم تلقّوا هذا الخبر بالقبول، و بذلك ينجبر الوهن الوارد عليه من هذه الجهات، هذا هو الكلام في السند.

و أمّا الدلالة فلا كلام فيها من حيث الذات، و أمّا من حيث المعارض فاعلم أنّ هنا أخبارا دالّة على الجواز إمّا بطريق الإطلاق الشامل لجميع الاستعمالات التي منها الصلاة فيه، مثل قوله في رواية عليّ بن يقطين: «لا بأس بذلك» عقيب السؤال عن لباس الفراء و السمور و الفنك و الثعالب و جميع الجلود «1».

و إمّا بطريق التخصيص بخصوص الصلاة، مثل قوله عليه السّلام في صحيحة الحلبي:

«لا بأس بالصلاة فيه» عقيب السؤال عن الفراء و السمّور و السنجاب و الثعالب و أشباهه «2».

و إمّا بطريق التخصيص، لكن مع المنع في خصوص ما كان صيّادا أو ذا ناب و مخلب، بل و بعض هذا القسم يكون شارحا و مبيّنا لمورد نهي الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و أنّ نهيه صلّى اللّٰه عليه و آله متعلّق بالصلاة في خصوص ذي الناب و المخلب.

أمّا الطائفة الأولى: فيمكن جمعها

مع الموثّقة بتقييد هذه الطائفة باللبس الغير الصلاتي، لكون النسبة هو الإطلاق و التقييد.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 221

و أمّا الثانية: فلا محيص عن حملها على التقيّة، و ذلك لتجويزه الصلاة في السمّور و الثعالب، و هما من قسم السباع، و قد أطبقت كلمتهم- على ما قيل- على المنع فيها.

فينحصر المعارض في الطائفة الثالثة، فقد يقال: إنّ النسبة بين هذه الطائفة و بين الموثّقة هو التباين، بملاحظة ذكر السنجاب بالخصوص في الموثّقة، فيكون العموم بالنسبة إليه نصّا غير قابل للتخصيص، لكونه من تخصيص المورد المستبشع، و لو لا ذكر السنجاب في الموثّقة أمكن أن يقال بتخصيصها بواسطة هذه الطائفة بخصوص الغير المأكول الذي كان ذا ناب و مخلب.

لكن ما ذكر يمنع من هذا الجمع و يجعلهما من قبيل الخاصّين المتعارضين، كما أنّه لا مساغ للجمع بالكراهة في غير ذي الناب، لإباء الموثّقة عن الحمل على الكراهة و كمال ظهورها في بطلان الصلاة كما لا يخفى.

فينحصر الأمر في الرجوع إلى المرجّحات السنديّة، و هي مع الموثّقة لمخالفتها الجمهور و موافقة معارضها معهم، لكون مذهبهم على ما قيل هو الجواز، هذا ما قد يقال.

و لكن استشكل فيه شيخنا الأستاذ العلّامة دام ظلّه على ما نقل لي «1» أوّلا:

______________________________

(1) فإنّي ما حضرت مجلس بحثه من أوّل الشرط الرابع إلى قولنا: و ينبغي التنبيه على أمور، و قد كتبت ما هنا من تقرير بعض حضّار بحثه من الفضلاء كثّر اللّٰه أمثالهم، و كان سبب عدم حضوري انتقالي إلى بلدة عراق (أراك) بواسطة قضيّة وفاة والدتي العلويّة

طاب ثراها، و قد أحرق فوتها قلبي أيّ إحراق، و كان تأريخ وفاتها ليلة السادس من شهر الصفر من السنة التاسعة و الأربعين بعد الثلاثمائة و الألف 1349، ألتمس من القارئ الدعاء بالمغفرة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 222

بإمكان دعوى كون النسبة هي العموم و الخصوص و لو كان مصبّ السؤال الذي ورد العموم في جوابه هو الخاصّ، و ذلك لأنّ نظر المتكلّم بالعامّ قد يكون في العامّ متوجّها إلى ذكر حكم ذلك المورد الخاصّ، فالعموم مذكور تطفّلا لذكر ذلك الخاصّ، ففي هذه الصورة لا يصحّ استثناء هذا المورد عن العموم.

و قد لا يكون متوجّها إلى ذكر حكم المورد الخاصّ، و إنّما نظر كلّ من السامع و المتكلّم ممحّض إلى فهم حكم القاعدة، و ذكر بعض الجزئيّات ليس لأجل العناية بها بخصوصها، بل لأجل المثال لذلك الكلّي المنطبق عليها، فكأنّه وقع السؤال من أوّل الأمر في الكلّي و أنّ حكمه ما ذا، ففي هذه الصورة لا نتحاشى عن معاملة العموم و الخصوص، فيجوز استثناء بعض ما ذكر مثالا في السؤال لذلك الكلّي المسئول عنه عن عموم الجواب بواسطة دليل خاصّ منفصل.

و على هذا فلو كنّا و الأخبار لكان الجمع المقبول تقديم الطائفة الثالثة على الموثّقة و إخراج ما لم يكن صيّادا من عموم الموثّقة، و لكنّ العمدة إعراض المشهور عن الفتوى بمضمون هذه الطائفة، فيوجب ذلك وهنا فيها من حيث ذاتها بحيث يسقط عن درجة الحجّية الذاتيّة، فلا يصلح لمعارضة الموثّقة.

نعم بعض الأخبار الأخر الوارد في السنجاب بالجواز بدون ذكر التعليل لا مانع من تقديمه على الموثّقة، كما ورد في الخزّ و غيره على ما يأتي تفصيل الكلام في كلّ واحد في محلّه إن شاء

اللّٰه تعالى.

و ثانيا: سلّمنا عدم إمكان معاملة العموم و الخصوص، و لكن الرجوع إلى المرجّحات أيضا ممنوع، و ذلك من جهة أنّ مورد التعارض أعني: غير ذي الناب و المخلب ليس بتمامه قابلا للطرح، بل بالنسبة إلى غير السنجاب منه، فإنّ السنجاب حسب الأخبار الأخر الخاصّة به يكون الجواز فيه حكما واقعيّا، فالطرح السندي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 223

أو الحمل على التقيّة لا يتأتّيان بالنسبة إلى جميع أفراد مدلول المعارض، بل إلى بعضها، و التفكيك خلاف منصرف الأخبار العلاجيّة، فإنّ منصرفها ما إذا كان الأمر دائرا بين رفع اليد، إمّا عن تمام مدلول هذا الخبر، و إمّا عن تمام مدلول ذلك، كما ذكر ذلك في وجه خروج العامّين من وجه عن منصرفها، فلا محيص عن الرجوع بعد اليأس عن الجمع الدلالي إلى الأصول العمليّة لو لم يكن هناك عامّ فوق، و إلّا فالمرجع بعد تعارض الخاصّين هو ذلك العامّ، و المقام من هذا القبيل، فإنّه بعد معاملة الخاصّين بين الموثّقة و الطائفة يكون مرجعنا الأخبار العامّة المانعة عن الصلاة في جزء غير المأكول اللحم من غير تعرّض لذكر أفراده، فلا يصل النوبة إلى الأصل العملي المقرّر في الأصول في أمثال المقام من البراءة على ما حقّق في محلّه.

و ينبغي التنبيه على أمور:
الأوّل: هل الممنوع خصوص لبس جزء الغير المأكول، أو يعمّه

و مصاحبته مع المصلّي لا بعنوان اللباس بأيّ نحو كان و لو مثل شعرة ملقاة على ثوبه، أو مثل جزء موضوع في وعاء موضوع في كيس المصلّي، أو يعمّه و خصوص المصاحبة الشبيهة باللبس، مثل ما لو التفّ الثوب بشعر غير المأكول بحيث صار كالجزء منه، أو تلطّخ الثوب ببوله أو روثه؟ وجوه.

للأوّل منها أنّ ظهور كلمة «في» في الظرفيّة الحقيقيّة يمكن الأخذ به بالنسبة

إلى الجلد و أمثاله، و إنّما لا يمكن بالنسبة إلى الروث و نحوه، و لا يصار إلى المجاز إلّا بقدر الضرورة.

و للثاني أنّ عطف الروث و نحوه قرينة على إرادة المعيّة و المصاحبة المطلقة من الكلمة، فإنّه لم تتكرّر «في» في الموضعين حتّى يقال باختلاف المراد حسبهما، فيلزم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 224

استعمال اللفظة الواحدة في المعنيين لو أريد خصوص كلّ من الحقيقي و المجازي منها، فلا محيص عن استعمالها في الجامع، لكونه أقرب إلى الحقيقي بعد تعذّره.

و للثالث أنّ اللفظة لم يستعمل في معنيين بالنسبة إلى موردين، بل استعملت في الجامع، و هو مفهوم المصاحبة و المعيّة، و لكن هذا المفهوم بإضافته إلى كلّ مورد ينصرف إلى معنى خاصّ، نظيره أن يقال: اضرب هذا العقرب و هذا الثور، فإنّ المنصرف من ضرب العقرب قتله، و من ضرب الثور إيلامه. و هكذا في المقام إذا أضيف المصاحبة إلى الجلد ينصرف إلى اللبس أو ما يكون شبيها به، و إذا أضيفت إلى البول و الروث ينصرف إلى المصاحبة المطلقة و لو مثل القطرة.

هذا ما يقال من الوجوه في هذا المقام.

لكن قال شيخنا الأستاذ العلّامة دام ظلّه بأنّها مبنيّة على كون لبس المصلّي من الظرفيّة الحقيقيّة للصلاة، و كان استعمال «في» في قولنا: صلّيت في ثوب من الاستعمال في المعنى الحقيقي، و لمانع أن يمنع ذلك و يقول بأنّه فرق بين ظرفيّة اللباس للشخص المصلّي و بين ظرفيّته لفعل الصلاة، و المتحقّق في المقام إنّما هو الأوّل دون الثاني، فإنّ معظم أجزائها القراءة و الأذكار، و هي غير مظروفة للّباس، و مفاد العبارة إنّما هو الظرفيّة للفعل لا الفاعل، كما هو الظاهر من أمثالها كقولك:

ضربت زيدا في الدار، حيث ليس معناه كون الضارب في الدار و لو كان ظرف الضرب خارجها.

و على هذا فلا محيص عن التجاوز عن المعنى الحقيقي هنا حتّى في اللباس و إرادة مطلق المصاحبة، و حينئذ فلا فرق بين الملبوسيّة و المحموليّة، فمساق قوله عليه السّلام: لا تصلّ في جلد غير المأكول مساق قول القائل: صلّيت في السيف أو في السكّين، في أنّ اللازم في كليهما إخراج الكلمة عمّا وضعت له و استعمالها في مطلق المصاحبة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 225

نعم بعض أفراد المصاحبة محلّ للشكّ كالموضوع في الكيس.

و ربما يستدلّ على الجواز في المحمول بالأخبار الناهية عن الصلاة في الثوب الذي يلي جلود الثعالب، حيث إنّه لا وجه للمنع إلّا التصاق شعرات من الجلود بذلك الثوب.

و برواية إبراهيم بن محمّد الهمداني قال: «كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر و الشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة و لا ضرورة؟ فكتب: لا يجوز الصلاة فيه» «1».

لكنّ الروايات الاولى يحتمل أن يكون المراد بما يلي الجلود، الثوب الملصق بها بحيث صارا متّحدين كالظهارة و البطانة.

و أمّا الثانية فالإنصاف تماميّة الاستدلال بها من حيث الدلالة، و أمّا السند فهي مشتملة على عمرو بن يزيد و هو مجهول.

الثاني: هل الممنوع في جانب الملبوس يعمّ ما يتمّ به الصلاة

لكونه ساترا و غيره لعدم الساتريّة، أو يختصّ بالأوّل، فلا بأس بمثل القلنسوة و التكّة و الجورب المتّخذات من أجزاء ما لا يؤكل لحمه؟

مقتضى صحيحة محمّد بن عبد الجبّار «قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله:

هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه، أو تكّة حرير محض، أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب عليه السّلام: لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض، و إن كان الوبر

ذكيّا حلّت الصلاة فيه إن شاء اللّٰه تعالى» «2» هو الثاني.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 226

لا يقال: من المحتمل كون الجواز مخصوصا بحالة التقيّة، و ليس لنا التمسّك بالإطلاق مع هذا الاحتمال، أ ترى أنّه يجوز الأخذ بإطلاق كلام المفتي إذا رآه مقلّده يفتي أحدا بصلاة القصر عقيب سؤاله عن كيفيّة صلاته و هو عالم بحاله من السفر و الحضر و الرائي جاهل، فهل يجوز أن يعمّم الحكم بالنسبة إلى المسافر و الحاضر مع كونه محتملا لكون السائل مسافرا؟ و ليس هذا من باب الحمل على تقيّة المتكلّم حتّى يكون على خلاف الأصل، بل من باب تقيّة السامع، و ليس هو على خلافه، لكون الحكم حينئذ واقعيّا له في هذا الحال.

لأنّا نقول: فرق بين المثال و ما نحن فيه، فإنّه في المثال سأل عن حكم شخص نفسه، و نحن نحتمل أنّه كان مسافرا و المفتي عالم بحاله، و لو كان سائلا عن كيفيّة الصلاة بلا إضافة إلى نفسه كان قال: هل يصلّى الظهر- مثلا- قصرا أو تماما؟

فأجابه بالقصر كان مثل ما نحن فيه، و الأخذ بالإطلاق حينئذ مع تماميّة مقدّماته صحيح و لو احتملنا كونه مسافرا، لأنّ الفرض أنّه سأل عن حقيقة الصلاة بالنسبة إلى جميع المكلّفين، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّه قال: هل يصلّى في قلنسوة إلخ، و لم يقل: هل أصلّي، بل لو كان اللام في قوله عليه السّلام: و إن كان الوبر إلخ للعهد لم يجتمع مع تقيّة السامع أصلا، لأنّ المفروض تجويزه له في خصوص

التكّة مع ارتكاز المنع في الساتر.

اللّٰهمّ إلّا أن يكون اللام للجنس، كما هو الأصل فيه.

لكن بإزاء هذه الصحيحة رواية عليّ بن مهزيار «قال: كتب إليه إبراهيم بن عقبة: عندنا جوارب و تكك يعمل من وبر الأرانب، فهل يجوز الصلاة في وبر الأرانب من غير ضرورة و لا تقيّة؟ فكتب عليه السّلام: لا يجوز الصلاة فيها» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 227

و النسبة بينهما الإطلاق و التقييد، فمقتضى القاعدة تقييد الاولى بحال التقيّة، كما كان هو الغالب للسائلين في تلك الأزمنة، و كان هذا هو السرّ في إطلاق الكلام، و لمّا خصّ السائل في هذا الخبر سؤاله بغير حال التقيّة صرّح الإمام عليه السّلام بالمنع.

و من هنا يظهر عدم جواز التمسّك برواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه، مثل التكّة الإبريسم و القلنسوة و الخفّ و الزنّار يكون في السراويل و يصلّى فيه» «1».

تقريب التمسّك أنّ النسبة بين هذه الرواية و روايات المنع عن الصلاة في الحرير و في الميتة و في النجس و في غير المأكول و إن كانت عموما من وجه كما هو واضح، و لكن لهذه الرواية حكومة عليها، لأنّها ناظرة إليها، إذ موضوع الكلام ليس الثوب الغير الساتر الذي ليس فيه شي ء من هذه الموانع، بل من المعلوم أنّ المراد ما كان منه مشتملا على واحد منها أو أزيد، فكأنّه قال: كلّ ما كان مانعا في اللباس لو لا جهة قلّته و عدم ساتريّته فهو مع القلّة و عدم الساتريّة ليس بمانع، و هذا المضمون

حاكم على جميع أدلّة المنع كما هو واضح.

وجه عدم الجواز أنّه لا يصحّ هذا الكلام بالنسبة إلى رواية عليّ بن مهزيار المتقدّمة، لورودها بالخصوص في ما لا يتمّ به الصلاة، و النسبة بينهما العموم و الخصوص المطلقان، كما أنّ الحال كذلك بالنسبة إلى الميتة أيضا، لقوله عليه السّلام في الميتة: «لا تصلّ في شي ء منه و لا شسع» و قد تقدّم في صحيحة محمّد بن عبد الجبّار منع الصلاة في تكّة حرير محض، و النسبة بينهما التباين، فنرجع بعد التساقط إلى عمومات المنع عن الحرير، فينحصر مورد جواز التمسّك بهذه الرواية في النجس، فيخرج عن محلّ الكلام.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 228

الثالث: قد عرفت استفادة العموم في حرمة الصلاة في جزء غير المأكول،
اشارة

فاعلم أنّه استثني عن هذا العموم الخزّ الخالص عن وبر الأرانب و الثعالب و سائر ما لا يؤكل لحمه، و قد استفاضت النصوص بجواز الصلاة فيه من أراد الاطّلاع فليراجع الوسائل، و لكنّ الكلام في المقامين:

استثناء الخزّ الخالص
الأوّل: هل الجواز مخصوص بالوبر الخالص عن الجلد،

كما لو كان الثوب منسوجا من وبره، و منه عمامة الخزّ، أو يعمّه و الجلد؟ و الظاهر عدم الإشكال بحسب الروايات في التعميم للجلد، و يدلّ عليه رواية ابن أبي يعفور «قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من الخزّازين، و ساق الحديث إلى أن قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: فإنّ اللّٰه تعالى أحلّه و جعل ذكاته موته، كما أحلّ الحيتان و جعل ذكاتها موتها» «1» فإنّ اعتبار التذكية إنّما هو للجلد، و إلّا فالوبر ممّا لا تحلّه الحياة، و لا حاجة فيه إلى التذكية.

المقام الثاني: في أنّه هل الموجود في أيدي التجّار في زماننا ممّا يسمّونه خزّا يجوز الصلاة فيه أو لا؟

و منشأ الإشكال أنّا نحتمل أن يكون لفظة «الخزّ» مستعملة في زمان الأئمّة عليهم السّلام في معنى، ثمّ هجر عن ذلك المعنى و استعمل في المعنى الآخر.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 229

و الذي يدفع هذا الاحتمال إنّما هو أصالة عدم النقل، و نحن لا نجزم ببناء العقلاء على هذا الأصل حتّى في مثل المقام ممّا يكون المعنى مشخّصا في الزمان اللاحق و مشكوكا في السابق، و القدر المتيقّن من بنائهم هو ما إذا كان المعنى مشخّصا في السابق و مشكوكا في اللاحق.

ثمّ لو فرض العلم باتّحاد المعنى في الزمانين أو ببناء العقلاء على العمل بالأصل المذكور في المقام، يمكن الإشكال في هذا الخزّ الموجود بأيدينا أيضا من جهة احتمال أن يكون له أصناف برّي و بحري، إلى غير ذلك، و كان المتعارف في زمن صدور الخطاب قسما خاصّا من أصنافه، و كان اللفظ في الخطابات إشارة إلى ذلك القسم، و لم يصرّح بالقيد من باب عدم الحاجة، لعدم ابتلاء المخاطب بغيره.

نعم

لو كان الظاهر من تعلّق الحكم بعنوان كونه موضوعا بعنوانه، لا عبرة إلى الخارج، صحّ التمسّك بالإطلاق لكلّ ما صدق عليه العنوان و لو لم يكن متعارفا في زمن الخطاب كما لو استفيد ذلك من مناسبة الحكم و الموضوع، و أمّا لو لم يدلّ قرينة على ذلك و احتمل أنّه جي ء بالمفهوم للإشارة إلى مصاديقه الخارجيّة، فلا ينفع الإطلاق حينئذ لدفع القيد المحتمل، و حينئذ فيجب الرجوع إلى عموم أدلّة المنع عن الصلاة في جزء غير المأكول.

اللّٰهمّ إلّا أن يقال: إذا احتملنا أن يكون الخارج قسما واحدا و كان هو هذا الذي بأيدينا، بل نحتمل أن لا يكون له غير هذا القسم من الزمان الأوّل إلى الحال، يصير هذا الموجود بأيدينا من الشبهة المصداقيّة لعمومات المنع، و المرجع حينئذ يكون إلى الأصل العملي، و سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى أنّه البراءة و جواز اللبس في الصلاة.

نعم لو قطع بأنّ المتعارف قسم و الموجود بأيدينا قسم آخر دخل في الشبهة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 230

المفهوميّة التي يكون المرجع فيها العموم، فيرجع في ما زاد على القدر المتيقّن إلى عمومات المنع، لكن أنّى لنا بهذا القطع في هذا الجزء الموجود بأيدينا و الموجود في الزمان السابق.

فإن قلت: نعم لا نقطع بالمغايرة، و لكن بعد القطع بأنّ هنا قسما من الخزّ باقيا تحت العموم و إن كنّا لا يمكننا تشخيصه، يحصل لنا علم إجمالي، فلا يجوز لنا في شي ء من الجلود المسمّاة بالخزّ الصلاة، لكونها أطرافا للعلم بالمنع.

قلت أوّلا: أنّى لنا بهذا القطع، و نحن نحتمل أن لا يكون للخزّ إلّا قسم واحد، و هو هذا الذي بأيدينا من أوّل الزمان إلى هذه الغاية، و على

فرضه فليست سائر الأطراف محلا لابتلائنا، فلا مانع من إجراء الأصل الشرعي في الطرف الواقع محلّا للابتلاء.

في استثناء السنجاب

الرابع: و من المستثنيات السنجاب،

و الأخبار باستثنائه كثيرة، و ليس في جانب المنع إلّا الرضوي المعلوم حاله، و ما في العلل لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم الغير المعلوم كونه رواية، بل من المحتمل أنّه فتوى نفسه، و إلّا الموثّقة المتقدّمة بملاحظة اشتمال السؤال على ذكر السنجاب، فيكون عموم الجواب بالنسبة إليه نصّا، فيعارض تلك الأخبار المجوّزة.

و لكن تقدّم الكلام في إصلاح هذه المعارضة و أنّ النسبة عموم و خصوص مطلق، لأنّ السنجاب إنّما ذكر من باب المثال، لا لعناية بنفسه، فيقبل التخصيص،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 231

و ليس من تخصيص المورد.

ثمّ بعد البناء على استثنائه عن عموم المنع يجري فيه أيضا الكلام المتقدّم في الخزّ من الجهتين المتقدّمتين، فلا حاجة إلى الإطالة.

ثمّ إنّه ذكر المحقّق قدّس سرّه أنّ في الخزّ المغشوش بوبر الأرانب و الثعالب روايتين أصحّهما المنع، و لكن لم نعثر على رواية الجواز في المغشوش بوبر الثعالب، نعم عثرنا على الجواز في المغشوش بوبر الأرانب، و كذا على المنع فيه و في المغشوش بوبر الثعالب، و كذا على الجواز و المنع في نفس الأرانب و الثعالب.

و لكن يبعد أن يكون مراده بذلك رواية الجواز في نفس الثعالب، حيث إنّها بإطلاقها شاملة لحالة خلطه بالخزّ، لأنّ الظاهر منه وجود الرواية بهذا العنوان، أعني: المغشوش بوبر الثعالب.

و كيف كان فالمتّبع هو رواية المنع، لأنّ رواية الجواز قد أعرض عنها الأصحاب و لم يعلم العامل بها غير الصدوق، و هذا يوجب الوهن فيها، فيكون رواية المنع سليمة عن المزاحم.

و مثل ذلك الكلام في الأرانب و الثعالب، فإنّ فيهما روايتين أيضا،

و الأصحّ المنع، لعين ما ذكر من كون رواية الجواز معرضا عنها عند الأصحاب، و بذلك يسقط عن درجة الاعتبار و عن مقاومة رواية المنع.

حكم الصلاة في اللباس المشكوك

الخامس: لو شكّ في الملبوس أنّه من جنس المأكول أو غيره،
اشارة

فهل مقتضى الأصل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 232

العقلي فيه البراءة و جواز الصلاة فيه، أو الاحتياط؟

لا بدّ لتوضيح الحكم من تقديم مقدّمات:
الاولى: أنّه متى اعتبر في المأمور به أمر مبيّن المفهوم سواء كان وجوديّا أم عدميّا

فلا بدّ في مقام الامتثال من إحرازه إمّا بطريق القطع أو بمقتضى الأصل، فلو شكّ في تحقّقه و لا أصل يحرز به فلا شكّ أنّ مقتضى حكم العقل هو الاحتياط، و مجرّد كونه أمرا عدميّا لا يجدي في رفع الاحتياط شيئا و إن كان فيه كلام يأتي بيانه مع دفعه.

نعم هذا بعد الفراغ عن تقييد المأمور به بذلك الشي ء، و أمّا لو كان الشكّ في التقييد بني على النزاع في الأقلّ و الأكثر الارتباطيين، فمن قال هناك بالبراءة يقول هنا بها، و مجرّد كون الشبهة موضوعيّة لا يجدي في رفع البراءة شيئا كما برهن في محلّه من أنّ معلوميّة الكبرى بدون الصغرى لا ينجّز على العبد شيئا، فالعمدة في مقامنا تحقيق أنّ الشكّ الحادث في الموضوع هل هو من قبيل الشكّ في حصول المقيّد حتّى يكون حكم العقل فيه الاحتياط، أو في التقييد حتّى يكون هو البراءة.

و لعلّ نظر شيخنا المرتضى قدّس سرّه حيث اختار الاحتياط في المسألة إلى كون الشكّ من قبيل الأوّل، و إلّا فيبعد منه قدّس سرّه أنّه مع تسليم كونه من الثاني يذهب إلى الاحتياط مع ذهابه في شبهة الأقلّ و الأكثر إلى البراءة إذا كانت حكميّة و لمحض الفرق بين الشبهة الحكميّة و الموضوعيّة، بل يمكن القطع بخلافه.

المقدّمة الثانية: تقييد الصلاة بعدم كونها واقعة في غير المأكول يتصوّر بحسب مقام الثبوت على أنحاء:
الأوّل: أن يكون الشارع اعتبر في حقيقة الوبر إذا كان المصلّي مستصحبا له قيدا،

و هو عدم كونه من غير المأكول، فالأوبار كلّها من المأكول أم من غيره وقعت

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 233

تحت ملاحظة الشارع، غاية الأمر أنّ القسم الأوّل منها واجد القيد، و القسم الثاني فاقده، فإذا عرف المصلّي أنّ الثوب المشكوك من وبر الحيوان يحكم بأنّ الشارع اعتبر فيه قيدا قطعا، و يشكّ في تحقّقه، فلا محيص عن الاحتياط، إذ لا

أصل يحرز به ذلك القيد.

نعم كان المصلّي سابقا غير لابس لغير المأكول و لو في زمان عرائه، و لكن استصحاب ذلك لا ينفع بحال هذا الثوب، فإنّه مثبت.

و لا يخفى أنّ تصويري اعتبار صرف الوجود و الوجود الساري آتيان في هذا القسم أيضا، و يترتّب عليهما أيضا أنّه على تقدير صرف الوجود بأن كان الشرط على تقدير لبس الحيواني أن لا يكون صرف وجود غير المأكول يكون شبهة الموضوعيّة محكومة بالاشتغال، و على تقدير الوجود الساري بأن كان الشرط على التقدير المذكور عدم كونه من الأرنب و من كذا و كذا يكون شبهته الموضوعيّة محكومة بالبراءة، نعم هذا في اشتراط العدم، و أمّا اشتراط الوجود فليس حكم شبهته المذكورة إلّا الاحتياط، و اللّٰه العالم.

الثاني: أن يكون الشارع إنّما اعتبر خصوص القسم الثاني من الأوبار و لم يلحظ الأوّل منها أصلا،

و اعتبر في الصلاة عدم ذلك القسم، فالصلاة مقيّدة بكونها غير واقعة في أوبار الغير المأكول، و لكنّ العدم المعتبر كان نقيضا لصرف الوجود، أعني أن لا يكون مع المصلّي صرف الوجود من قسم غير المأكول، و من المعلوم أنّه لا يحرز ذلك أعني: عدم استصحابه صرف الوجود إلّا بعد القطع بعدم جميع الأفراد، فمع الشكّ في فرديّة شي ء لصرف الوجود و كان مع المصلّي لا يحصل القطع بحصول المقيّد، و الأصل أيضا مثبت بالنسبة إلى اتّصاف الصلاة بالأمر العدمي، فلا محيص أيضا عن الاحتياط.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 234

الثالث: أن لا يكون الملحوظ حقيقة الوبر،

بل خصوص وبر غير المأكول، و لكن لم يكن العدم المعتبر قيدا نقيضا لصرف وجود وبر غير المأكول، بل نقيضا لوجود كلّ واحد واحد من أفراده استقلالا، بحيث يرجع إلى تقييدات مستقلّة بعدد الأفراد.

و تظهر ثمرة الوجهين فيما إذا اضطرّ إلى لبس غير المأكول في الصلاة، فإنّه على تقدير اعتبار صرف الوجود لا مانع من لبس الزائد على مقدار ما يضطرّ إليه، لأنّ الصرف لا يتحفّظ من لبسه بواسطة التحفّظ عن ذلك المقدار الزائد، بخلاف صورة اعتبار الوجود الساري، فإنّه لا بدّ من التحفّظ على مقدار الضرورة، لأنّ الزائد مانع مستقلّ.

و بالجملة، فعلى هذا التقدير لو شكّ في وبر خارجي أنّه من غير المأكول كان الشكّ في التقييد الزائد، لأنّه يشكّ في أنّه علاوة على التقييدات الواردة بعدم الأوبار المعلومة، هل ورد تقييد آخر بعدم هذا الوبر أيضا أو لا. و قد عرفت أنّ كون الشبهة موضوعيّة لا يثمر في البراءة إذا كان حكم سنخ الشكّ إذا كان في الحكم الكلّي هو البراءة.

و بعبارة أخرى: لهذا الشكّ حيثيّتان، و شي ء منهما لا يقتضي إلّا

البراءة، إحداهما: حيثيّة كونه شكّا في الأقلّ و الأكثر، و قد فرغنا عن كونها مقتضية للبراءة، و الأخرى: حيثيّة كونه شكّا موضوعيّا لا حكميّا، و هذه أيضا قد فرغنا عن عدم اقتضائها إلّا البراءة، فكيف يقتضي اجتماع هاتين الحيثيّتين الاحتياط؟

المقدّمة الثالثة: إنّ ما ذكرنا في حكم العقل في كلّ من الشقوق الثلاثة لا خلاف فيه بين الأساطين

إلّا ما ذكر في الشقّ الوسط، فإنّ ما ذكر من الاشتغال فيه مختار شيخنا الأستاذ العلّامة دام ظلّه، خلافا لما ذهب إليه أستاذه الجليل السيّد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 235

محمّد الأصفهاني قدّس اللّٰه تربته الزكيّة، حيث ذهب قدّس سرّه إلى البراءة مستدلّا بأنّ النهي عن صرف وجود الطبيعة نفسيّا كان ذلك النهي أم غيريّا لمّا يكون بلحاظ الخارج فلا محالة يرجع إلى النهي عمّا ينطبق عليه هذا المفهوم.

و بعبارة أخرى: إذا كان العدم المناقض لصرف الوجود مطلوبا كان معناه مطلوبيّة مجموع الأعدام المضافة إلى أفراد تلك الطبيعة، فإذا شكّ في فرد أنّه مصداق لها أو لا حصل الشكّ في أنّ عدمه جزء لذلك المجموع المركّب من الأعدام حتّى يكون المطلوب مركّبا من عدم كذا و كذا و كذا، و من عدم هذا المشكوك، أو أنّه مركّب من خصوص تلك الأعدام المعلومة، و هذا هو الترديد بين الأقلّ و الأكثر، غاية الأمر ليست الشبهة مفهوميّة، بل موضوعيّة ناشئة من اشتباه الأمور الخارجيّة، فلا فرق بين اعتبار الطبيعة في جانب النهي بنحو صرف الوجود، أو بنحو كلّ وجود في أنّ حكم العقل في شبهته الموضوعيّة هو البراءة.

و لكن استشكل على هذا المدّعى شيخنا الأستاذ العلّامة ببيان: أنّا نقطع بأنّ عنوان بقاء العدم الأزلي للطبيعة على حاله و عدم انقلابه إلى صرف الوجود ليس عبرة صرفة و إشارة محضة بحيث لا خصوصيّة و موضوعيّة لنفسه في

مقام الحبّ و الطلب أصلا، نظير «هؤلاء» بل للطالب عناية بهذا العنوان، و حينئذ فيقع ذمّة العبد مشغولة بهذا العنوان، و هو مفهوم مبيّن لا إجمال فيه، فلا ينحلّ إلى متيقّن و مشكوك و إن كان ما ينطبق عليه منحلّا إلى ذلك، لكنّ المعيار و المتّبع هو محطّ التكليف، لا شي ء آخر هو منطبق عليه و متّحد معه، فلا محيص عن الاشتغال.

و هذا بخلاف اعتبار الطبيعة بنحو الوجود الساري في كلّ فرد، فإنّه ينحلّ التكليف إلى تكاليف عديدة بعدد الأفراد معلّقة على صدق عنوان العامّ عليها، فكأنّه قيل: هذا إن كان خمرا فلا تشربه، و هذا كذلك و هذا كذلك، و هكذا، فإذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 236

شكّ في خمريّة واحد من الإناءات الخارجيّة فلا محالة يقع الشكّ في التكليف المعلّق عليه في هذا الفرد.

و هذا بخلاف اعتبار صرف الوجود، فإنّه إذا ابتلينا بعدّة إناءات أو إناء واحد و علمنا خمريّتها و كان هناك إناء آخر نشكّ في خمريّته فقد تنجّز في حقّنا خطاب:

أمسك عن صرف الوجود، و لا بدّ من القطع بالفراغ، و هو لا يحصل إلّا بما يقطع بتطبيق العدم المناقض للصرف عليه، و هذا القطع لا يحصل إلّا مع التجنّب عن جميع الإناءات حتّى ذلك الإناء الآخر المشكوك، و اللّٰه العالم.

المقدّمة الرابعة: إنّ الظاهر من النواهي المتعلّقة بالطبائع القابلة للتكرّر في الخارج سواء النفسيّة منها أم الغيريّة

كونها متعلّقة بوجودها الساري مع كلّ فرد، ألا ترى أنّ واحدا من أهل العرف إذا نهى واحدا آخر منهم مثلا عن إيقاع طبيعة الحركة لا يفهمون منه أنّه طالب لبقاء السكون و عدم انخراق سلسلته الاتّصاليّة، بحيث لو انحرق فات المطلوب، فلو تحرّك من بعده بألف حركة ما نقض منه مطلوبا و ما أوجد له مبغوضا، بل يفهمون منه

أنّه يتنفّر عن هذه الطبيعة بمراتبها، بحيث كلّما ازدادت الطبيعة وجودا ازداد المتكلّم تنفّرا، فلو اضطرّ المنهيّ إلى ارتكاب فرد واحد ما ساغ له التعدّي إلى فرد آخر، بل و لو اختار في مقام رفع الاضطرار الفرد الكبير مع إمكان اختيار الأصغر ما ساغ له ذلك.

وجهه أنّهم يفهمون أنّ عرض البغض و النهي ينبسط على الطبيعة في الخارج نحو انبساط آثاره الطبيعيّة اللازمة لوجودها، مثل حرارة النار، فكما أنّ النار الأعظم أعظم حرارة من الأصغر، فكذلك هنا الخمر الأزيد أشدّ مبغوضيّة و نهيا من الخمر الأقلّ و لو فرض كون شربهما في زمان واحد و دفعة واحدة، فإنّه و إن كان لا يتعدّد المعصية على أيّ حال، بل هي معصية واحدة لنهي واحد في كلّ من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 237

الصورتين، إلّا أنّ المعصية في شرب الخمر الأزيد أشدّ و أغلظ منها في شرب الأقلّ، فإذا كان هذا هو المنصرف المتفاهم عند أهل العرف في نواهيهم كان هو المتّبع في النواهي الشرعيّة، و قد عرفت أنّ حكم العقل حينئذ في الشبهة الموضوعيّة هو البراءة.

الخامسة: إنّ الظاهر من الموثّقة التي هي الأصل في الباب هل هو الشرطيّة التقديريّة
اشارة

أعني: أنّه يشترط على تقدير لبس الحيواني كونه من المأكول، أو عدم كونه صرف وجود غير المأكول، أو الشرطيّة المطلقة، أعني: أنّه يشترط مطلقا عدم وقوع الصلاة في جزء غير المأكول؟

فاعلم أنّ هنا ثلاثة احتمالات:
الأوّل: أن يكون وجود غير المأكول مانعا و وجود المأكول شرطا،

و كانت العبارة صدرا و ذيلا مفيدة لمطلبين، الصدر للمانعيّة المطلقة، و الذيل للشرطيّة في تقدير لبس الحيواني، فكأنّه قيل: يعتبر في الصلاة أمران، الأوّل أن لا يقع في شي ء من أجزاء غير المأكول، و الثاني أنّه يعتبر على تقدير لبس الحيواني أن يقع في المأكول، و هذا بعيد عن مساق العبارة، إذ العارف بأسلوب الكلام يظهر له أنّه ما سيق هذا الكلام إلّا لإفادة مطلب واحد و أنّ الذيل يكون تفريعا على الصدر.

و الثاني: أن يكون العبارة- بعد عدم قابليّتها للحمل على إفادة مطلبين

و المفروض أنّ الصدر مفيد لشرطيّة العدم و الذيل لشرطيّة الوجود- محمولة على إفادة الشرطيّة التقديريّة للعدم بأن كان مفروض الكلام لابس الحيواني، ففي هذا المفروض يقال: يعتبر أن لا يكون هذا الحيواني صرف الوجود من غير المأكول، فيتّحد الصدر مضمونا مع التفريع، أعني: قوله عليه السّلام: لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ اللّٰه أكله، فإنّ اشتراط هذا النحو من العدم أعني عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 238

النقيض لصرف الوجود في تقدير لبس الحيواني مساوق مع اشتراط الوجود على التقدير المزبور.

فيكون كلمة «من» في قوله عليه السّلام: ممّا أحلّ اللّٰه أكله باقية على ظاهرها من كونها بيانيّة بواسطة انحصار أفراد الغير، أعني: غير صرف الوجود في ما أحلّ اللّٰه أكله.

الثالث: أن يكون العبارة بعد عدم القابليّة المذكورة مسوقة لبيان الشرطيّة المطلقة،

و يؤيّده أنّه كلام النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله بغير سابقة سؤال، و إنّما ذكره الإمام عليه السّلام في جواب من سأل عن حكم اللابس لغير المأكول على وجه الاستشهاد، فلم يفرض فيه لبس الحيواني، فظهوره في الشرطيّة المطلقة أقوى ممّا إذا وقع عقيب السؤال و إن كان مع الوقوع عقيبه أيضا ظاهرا، و على هذا يتصرّف في الذيل بجعل قوله عليه السّلام: في غيره ممّا أحلّ اللّٰه أكله، من باب ذكر المثال، لا من باب التفسير لغيره، فكأنّه قيل: حتّى يصلّى في غير ما لا يؤكل من قبيل ما أحلّ اللّٰه أكله و إن كان ليس منحصرا به، فإنّ من أحد أفراده لباس القطن و الكتّان.

و حاصل ما ذكرنا أنّه بعد القطع بعدم إرادة المطلبين كما هو الوجه الأوّل و القطع بعدم شرطيّة وجود المأكول بنحو الإطلاق، ضرورة صحّة الصلاة في القطن و الكتّان، ينحصر الأمر في

احتمالين يختلف نتيجتهما في الشبهة الموضوعيّة.

الأوّل: رفع اليد عن ظاهر الصدر من الشرطيّة المطلقة و حمله على التقديريّة و على شرطيّة عدم صرف الوجود، لأنّه الذي يصحّ التعبير مكانه باشتراط لبس المأكول، و إلّا فاشتراط عدم الوجود الساري ليس تامّ التطابق مع اشتراط المأكوليّة، فإنّ التعبير الثاني يفيد في الشبهة الموضوعيّة الاحتياط، بخلاف اعتبار عدم الوجود الساري، و ظاهر العبارة أنّ المقام بحيث يصلح فيه التعبير بقولنا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 239

لا يقبل اللّٰه الصلاة حتّى يصلّى في ما يحلّ أكله، و هو ينحصر في شرطيّة عدم صرف الوجود.

الثاني: رفع اليد عن ظاهر الذيل في كون «من» في قوله: ممّا أحلّ اللّٰه أكله مفسّرا و مبيّنا لقوله: «غيره» و جعله ذكرا للمثال، نحو قولنا: من قبيل كذا، و إبقاء الصدر على ظاهره من الشرطيّة المطلقة.

فإن كان الصدر في الشرطيّة المطلقة أظهر من الذيل في التفسيريّة و البيانيّة تعيّن الثاني، فيكون الشبهة الموضوعيّة محكوما بالبراءة.

و إن كان الأمر بالعكس تعيّن الأوّل و تكون الشبهة الموضوعيّة محكومة بالاحتياط.

و إن فرض الإجمال و تساوي ظهوريهما كانت الشبهة المذكورة أيضا محكومة بالبراءة كما لا يخفى وجهه، و الظاهر من هذه الوجوه هو الأوّل أعني: أظهريّة الصدر.

إذا عرفت هذه المقدّمات علمت أنّ الأقوى في المسألة هو البراءة،

لانحلال التكليف إلى المتيقّن و المشكوك و كون الشبهة في التكليف بدويّة، غاية الأمر مع كونها موضوعيّة، و ذلك لاستظهار المانعيّة من الصدر و استظهار كون النهي عن الوجود الساري و منحلّا إلى نواهي بعدد أفراد المتعلّق.

نعم قد عرفت أنّه بناء على توجّه النهي إلى صرف الوجود يكون الأقوى في الأصل العقلي هو الاشتغال، لرجوع الشكّ إلى مقام التطبيق بعد معلوميّة التكليف ثبوتا بحدوده بلا إجمال فيه مفهوما، و لا شكّ

أنّ الحكم حينئذ ليس إلّا الاشتغال عقلا.

بل قد يقال: إنّه لا يمكن التشبّث حينئذ بذيل الأصل الشرعي أيضا من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 240

قبيل: كلّ شي ء حلال، بناء على تعميمه للوضعيّات، و كذا قوله: رفع ما لا يعلمون، فإنّه ليس البناء في مقامات الشكّ في تطبيق المأمور به مع تبيّن مفهومه، كما في صورة الشكّ في الطهارة التي اعتبرت في الصلاة مع عدم الحالة السابقة على جواز الاكتفاء بالمصداق المشكوك اعتمادا على أصالة الحلّ و حديث الرفع بإجرائهما في المصداق المشكوك، فالتمسّك بالحديثين مبنيّ على استظهار التعلّق بالوجود الساري، و قد عرفت أنّ مقتضى الأصل العقلي معه أيضا هو الجواز، هذا ما يقال.

و لكنّ الحقّ خلافه و صحّة التمسّك بكلا الحديثين بناء على عمومهما للوضعيّات، أمّا حديث: كلّ شي ء حلال إلخ، فلأنّه على المبنى المذكور يدلّ بعمومه على حلّية الصلاة في اللباس المشكوك، و هذا أصل حكمي و ليس بموضوعي حتّى يرد عليه الإشكال بأنّه من حيث إثبات التقييد قاصر، نعم يكون موضوعيّا بالنسبة إلى هذا الأثر إذا أجريناه في حيوان شكّ في أنّه مأكول أو لا، و لا إشكال في عدم كونه مثبتا أيضا، و أمّا إذا أجريناه في اللباس بالتقريب المذكور فهو أصل حكمي و هذا واضح.

نعم هنا إشكال من جهة احتمال عدم شمول إطلاق الحديث للحلّية الوضعيّة و إن كان قد أطلق في عدّة مواضع من الأخبار في خصوص الوضعيّة لقيام القرينة، لكن لا يوجب ذلك اندراجها تحت الإطلاق.

و لعلّ هذا هو السرّ في عدم تمسّكهم رضوان اللّٰه عليهم بهذا الحديث في موارد الشكّ في مصداق صرف الوجود المأمور به، مثل ما لو شكّ في ماء الوضوء أنّه مطلق أو

مضاف.

و يمكن أن يكون الوجه في عدم تمسّكهم اختصاص الحديث بناء على العموم للوضعيّات بما إذا دار الأمر بين الحلّية الوضعيّة و الحرمة كذلك، فلا يشمل ما إذا دار

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 241

بين الحلّية الوضعيّة و عدمها بعدم الموضوع، و موارد الشكّ في وجود الشرط أو وجود الموضوع من هذا القبيل، فإنّ الإطلاق أمّا محقّق الموضوع، و إمّا من قبيل الشرط، و على كلّ حال فعدم الصحّة في المضاف ليس لأجل نهي منع شرعي.

و الحاصل أنّه يمكن دعوى اختصاص الحديث بموارد الشكّ في المانع، إذ يحتمل فيها المنع الوضعي، دون موارد الشكّ في الشرط.

و أمّا حديث الرفع فلا إشكال في جريانه في المقام بعد البناء على عمومه للوضعيّات و كون المقام من باب مانعيّة الوجود، لا شرطيّة العدم، فإنّه يقال:

إنّ صرف الوجود المانع مشكوك التحقّق في صلاتنا، فيكون مرفوعا برفع أثره الذي هو المانعيّة، و ليس اشتراط العدم إلّا انتزاعا من مانعيّة الوجود لا أصليّا، فلا يستشكل بأنّه لا يثبت بهذا العدم الذي هو الشرط.

و أمّا وجه عدم الاستشهاد بهذا الحديث في موارد الشكّ في وجود الشرط فلأجل أنّ مقتضى التمسّك بالحديث رفع الوجود المشكوك برفع أثره، و هو تأثيره في صحّة الصلاة، و مقتضى ذلك بطلان الصلاة، و هو خلاف الامتنان، و حيث إنّ مساق الحديث مساق الامتنان فاللازم الالتزام بعدم شموله لموارد الشكّ في وجود الشرط، و هذا بخلاف موارد الشكّ في وجود المانع، فإنّ المرفوع تأثيره في البطلان و هو أثر امتناني، فلا مانع من شمول الحديث إيّاه، هذا هو الكلام في أصالة الحلّ و حديث الرفع.

و أمّا الاستصحاب فمع تماميّة أركانه و عدم كونه مثبتا لا إشكال في

جواز الاكتفاء به حتّى لو كان الشكّ في المحصّل و في مقام تطبيق المأمور به كما هو واضح، لكنّ العمدة في المقام إثبات عدم كونه مثبتا.

فنقول: لا إشكال في أنّا لو استفدنا من الموثّقة أنّ اشتراط العدم أخذ في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 242

المصلّى أو في اللباس و كانت الحالة السابقة فيهما هو الاتّصاف لا نتوقّف في صحّة جريان الاستصحاب و جواز الاكتفاء بالصلاة مع المشكوك.

فيقال: إنّ المصلّي كان قبل تلبّس هذا المشكوك غير لابس لغير المأكول، و الآن كما كان، أو أنّ اللباس كان غير مشتمل على جزء غير المأكول إذا شكّ في شعرة واقعة عليه مثلا، لا في جنس نفسه، و الآن كما كان.

و لكن هذا خلاف ظاهر الدليل، لما تقدّم من أنّ قوله عليه السّلام: الصلاة في وبر ما لا يؤكل فاسدة، مساقه مساق قول القائل: الضرب في الدار ممنوع، فكما يتبادر من الثاني أنّ قيد «في الدار» متعلّق بالضرب لا بالضارب فلو ضرب أحدا و كان المضروب خارج الدار و الضارب داخلها بأن يرمي حجارة إليه، لم يصدق أنّه ضرب في الدار، فكذلك المتبادر من العبارة الأولى أيضا أنّ القيد قيد للصلاة، فيعتبر فيها عدم وقوعها في جزء ما لا يؤكل، لا عدم كون المصلّي لابسا لما لا يؤكل، أو عدم كون لباسه مشتملا عليه.

و حينئذ نقول: استصحاب عدم لبس ما لا يؤكل إلى حال الصلاة لا يثبت به اتّصاف الصلاة بكونها غير واقعة في ما لا يؤكل إلّا على الأصل المثبت.

و قد تقرّر صحّة الاستصحاب المذكور بتقريب أنّ المستفاد من الموثّقة كون لبس ما لا يؤكل مانعا، لا أنّ عدمه شرط حتّى يتفحّص عن أنّه شرط الفعل أو

الفاعل أو اللباس.

و الفرق بين هذين أنّ المانع ما لا مدخليّة لوجوده و لا لعدمه في اقتضاء المقتضي، بل إنّما أثره تخريب أثر المقتضي بإيجاد الأثر المضادّ لأثره، بخلاف الشرط، فإنّه عبارة عن وجود أو عدم كان اقتضاء المقتضي بدونه ناقصا، فعلى هذا لا مدخليّة لعدم المانع في صحّة الصلاة، و إنّما أثر وجوده إبطالها، فعدمه معتبر عقلا لئلّا يبطل الصلاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 243

فلا مانع إذن من استصحاب عدم المانع إلى حال الصلاة و إن كان لا يثبت بهذا الاستصحاب تقيّد الصلاة و اتّصافها بهذا العدم المقارن إلّا على الأصل المثبت، لكن لا ضير فيه، لعدم الحاجة إلى إثبات هذا الاتّصاف، لعدم أخذ الصلاة متّصفة بهذا العدم مأمورا بها.

هذا محصّل ما يستفاد من كلام بعض الأساطين «1» في صلاته، و نقله الأستاذ العلّامة عن بعض سادة الأساطين «2»، و قال دام ظلّه: الحدس القويّ إنّهما أخذاه عن سيّد الأساتيد العظام الميرزا الشيرازي قدّس اللّٰه تربتهم الزكيّة.

لكن ناقش هو دام ظلّه في هذا الكلام بأنّا لا نعقل كون المأمور به مطلقا و غير مقيّد بوجود شي ء و لا بعدمه أصلا، و مع ذلك لو أتى به مع هذا الشي ء كان باطلا و غير مجز، فالبطلان و عدم الإجزاء لا محالة يتوقّف على دخالة عدمه في المأمور به إمّا بنحو التركيب و إمّا بنحو التقييد، و حيث إنّ الأوّل في مقامنا مقطوع الخلاف حيث إنّ الصلاة غير مركّبة إلّا من الأجزاء الوجوديّة من الأفعال و الأقوال التي أوّلها التكبير و آخرها التسليم، يتعيّن الثاني.

و أمّا ما ذكر في تقريب عدم التقييد به في المأمور به ففيه أنّ الأمر كذلك في مقام التأثير في الآثار

الخارجيّة مثل إحراق النار، فإنّه ليس عدم الماء دخيلا في جزء المقتضي للإحراق، بل المقتضي هو النار ليس إلّا، إلّا أنّ الماء له أثر مضادّ، فيمانع النار في تأثيرها، و التعبير بأنّ عدم الماء له مدخليّة في الإحراق من باب المسامحة.

______________________________

(1) هو المرحوم العلّامة الحاج آقا رضا الهمداني قدّس سرّه.

(2) هو المرحوم العلّامة الحاج السيّد إسماعيل الصدر الأصفهاني قدّس سرّه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 244

و أمّا في مقام الأمر فحيث إنّ الآمر لا يأمر إلّا بالموضوع المؤثّر النافع فلا محالة لا بدّ أن يخصّ متعلّق أمره بصورة عدم المانع، فيقول مثلا عند طلب الإحراق: ألق على هذا المحلّ نارا غير مصادم بالماء، فلو أتى بالنار المصادم بالماء لم يأت بالمأمور به، للإخلال بقيده العدمي.

فحال الأمر حال الحكم، فكما أنّ الحكم الجزمي بالنافعيّة ليس إلّا مرتّبا على الموضوع مقيّدا بعدم المانع، كذلك الأمر يتعلّق بعين ما تعلّق به النسبة الحكميّة الجزميّة التي محمولها النفع.

و الحاصل أنّا سلّمنا استفادة المانعيّة لما لا يؤكل في الصلاة، لا أنّ عدمه شرط، فالتعبير بشرطيّة العدم انتزاع من مانعيّة الوجود، كما أنّ التعبير بمانعيّة العدم عند شرطيّة الوجود كذلك، لكن عدم ورود التقييد في المأمور به من قبل المانع لا نعقله، فإنّ مقام الأمر غير مقام التأثير.

و حينئذ نقول: بعد ما ثبت أنّ للعدم مدخليّة في المأمور به بنحو التقييد فإن اعتبر العدم في محلّ مفروغ الوجود قيدا للفعل المأمور به صحّ استصحابه بالبيان المتقدّم، لأنّ من أثر اتّصاف المحلّ المذكور بالعدم المذكور شرعا صحّة الفعل المضاف إلى ذلك المحلّ و إجزائه عن المأمور به.

و أمّا إذا اعتبر قيدا في الفعل ابتداء و بلا واسطة محلّ مفروغ عنه فاستصحاب العدم

إلى حال العمل غير واف بإثبات تقيّد العمل به، إذ لا يثبت به أنّ هذا المشكوك الذي وقع فيه الصلاة ما حاله.

و بعبارة أخرى: أنحاء دخل عدم استصحاب غير المأكول منحصرة في ثلاثة:

الأوّل: أن يكون المأمور به الصلاة في حال عدم كون المصلّي لابسا لغير المأكول.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 245

و الثاني: أن يكون هو الصلاة في حال عدم كون اللباس ممّا لا يؤكل.

و الثالث: أن يكون هو الصلاة في حال عدم وقوعها في ما لا يؤكل.

و المجدي فيه الاستصحاب هو القسمان الأوّلان، و قد عرفت عدم استظهارهما من أدلّة الباب، و الأخير و إن كان مستظهرا منها، لكن لا يجدي فيه الاستصحاب، فإنّ استصحاب عدم لبس ما لا يؤكل إلى حال الصلاة لا يثبت عدم وقوع الصلاة في ما لا يؤكل.

و قد تقرّر الاستصحاب بوجه آخر حكى الأستاذ العلّامة دام ظلّه الاعتماد عليه من بعض الأساطين «1» قدّست أسرارهم، و هو أن يقال: إنّ الصلاة قبل التلبّس بهذا المشكوك كانت غير واقعة في ما لا يؤكل، و نشكّ بعده في بقائها على هذه الصفة العدميّة، فمقتضى الاستصحاب بقاؤها عليها.

و قد يستشكل عليه بأنّه من الاستصحاب التعليقي في الموضوع، و هو في ما إذا كان الموضوع للأثر الشرعي هو المعلّق بصورة التعليق، كما في الصوم الغير المضرّ على تقدير وجوده- فإنّه بهذه الصورة وقع متعلّقا للإيجاب- جار بلا إشكال.

و أمّا في ما إذا كان الموضوع أمرا فعليّا لا تعليق فيه فأردنا استصحابه بنحو التعليق على أمر آخر ثمّ إثبات فعليّته بإحراز المعلّق عليه فهذا غير جائز، لأنّه من الأصول المثبتة، و مقامنا من هذا القبيل، فإنّ الصلاة المقيّدة بلا تعليق على الوجود وقعت متعلّقة

للإيجاب.

و قد يجاب عن هذا الإشكال أوّلا بأنّه ليس من قبيل التعليق، بل المستصحب قضيّة فعليّة لا تعليق فيها، و إن كان الحكم على الموضوع بلحاظ

______________________________

(1) هو المرحوم المحقّق المدقّق العلّامة الميرزا محمّد تقي الشيرازي أعلى اللّٰه مقامه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 246

الوجود كما هو الحال في عامّة القضايا المشتملة على الحكم على الماهيّات مثل قولنا:

عقد البالغ صحيح، أو إقرار العاقل البالغ نافذ فإنّ الحكم و إن كان بعناية الوجود الخارجي، إلّا أنّ القضيّة لا تندرج بذلك في سلك التعليقيّة.

ألا ترى أنّ الماهيّة الواقعة متعلّقة للأمر ليست باعتبار المفهوم الصرف، بل مع إشراب الوجود الخارجي، لكن ليس بنحو التقدير و التعليق، و إلّا يلزم طلب الفعل على تقدير الوجود.

فنقول في مقامنا أيضا: إنّ ماهيّة الصلاة الصادرة من هذا الشخص كانت قبل هذا الزمان صلاة غير واقعة في ما لا يؤكل، و الآن أيضا باقية على ما كانت.

و ثانيا: سلّمنا رجوع المقام إلى التعليق لبّا و إن كانت القضيّة بصورة الفعليّة، لكن نقول: الحقّ عدم مثبتيّة الاستصحاب التعليقي في الموضوع و لو في ما أخذ موضوعا للأثر بنحو الوجود الفعلي.

و توضيح ذلك يتوقّف على مقدّمة و هي: إنّ القضيّة التعليقيّة لا إشكال في اشتمالها على النسبة الحكميّة الجزميّة، ضرورة عدم تحقّق القضيّة بدونها، فهل هذه النسبة متعلّقة بمجموع القضيّة، فيكون مجموع أجزائها تحت النسبة الجزميّة، فالنسبة مطلقة لا تعليق فيها، أو بخصوص الجملة الجزائيّة، فموضوعها موضوع الجزاء و محمولها محموله، فالتعليق قيد لنفس النسبة و الجزم لا للمجزوم به، أو متعلّقة بثبوت الملازمة بين الشرط و الجزاء حتّى يكون موضوعها الملازمة و محمولها الثبوت.

لا إشكال في بطلان الأوّل، فإنّ الجزم المطلق بالأمر المعلّق مستلزم

للجزم بحصول المعلّق عليه، لأنّ الجزم بالمقيّد جزم بالقيد لا محالة، و معلوم أنّ القضيّة التعليقيّة صادقة مع الجزم بعدم المعلّق عليه.

كما لا إشكال أيضا في بطلان الأخير، فإنّ قولنا: الملازمة ثابتة، قضيّة حمليّة،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 247

و موضوعها و محمولها مغايران مع قضيّتنا الشرطيّة، فإنّهما غير مذكورين في الشرط و لا في الجزاء، نعم هذه القضيّة ملازمة مع تلك صدقا و كذبا، لكن العينيّة في غاية المنع، فتعيّن الوسط، و هو أن يكون النسبة واقعة بين موضوع الجزاء و محمولة.

فالنسبة على هذا قسمان: نسبة مطلقة و هي واضحة، و نسبة معلّقة و معنى تعليقها أنّه متى لاحظ الإنسان وجود المعلّق عليه في الخارج يرى تحقّق المعلّق و يجزم بثبوته، لا إذا لم يلاحظ.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا قطعنا بأنّ هذا الماء كان في السابق بحيث لو صبّ عليه مقدار ربع منّ كان كرّا، و الآن شككنا في أنّه باق على ما كان أو نقص منه شي ء، فلا يكفيه ربع المنّ للبلوغ إلى حدّ الكرّ، فلا إشكال في أنّ القطع في السابق حسب ما تقرّر في المقدّمة تعلّق بوجود الكرّيّة الغير المعلّقة، غاية الأمر أنّ القطع بها كان معلّقا، فإذا تبدّل هذا القطع المعلّق بالشكّ كذلك و جاء حكم الشارع و تعبّده بمقتضى الاستصحاب بالبناء على بقاء المشكوك كان هذا التعبّد و الحكم الشرعي بوجود الكرّية في مكان قطعنا السابق، فكما كان هو معلّقا، يكون هذا أيضا كذلك، و إثبات فعليّة الحكم المعلّق بفعليّة المعلّق عليه يكون من الآثار العقليّة للأعمّ من الحكمين، نظير وجوب الامتثال.

و أمّا المحكوم به بحكم الاستصحاب فليس الموضوع التعليقي حتّى يستشكل فيه بالمثبتيّة على ما تقدّم، بل هو

الموضوع الفعلي.

نعم يمكن الاستشكال في هذا الاستصحاب من جهة دعوى انصراف أخباره عن اليقين التقديري و تبادر الفعلي منها، كما يقال: إنّ دليل حلّية البيع منصرفة إلى البيوع الفعليّة دون التقديريّة، و أمّا الاستصحابات التعليقيّة في الأحكام فوجه جريانها أنّ اليقين في موردها فعلي، و التعليق إنّما هو في متعلّق القطع، فإنّ الحكم التعليقي قسم من الحكم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 248

[خاتمة:] إجزاء الصلاة في المشكوك بعد تبيّن الخلاف

خاتمة: هل الصلاة في المشكوك محكومة بالإجزاء و عدم الإعادة بعد تبيّن الخلاف أو لا؟ توضيح الحال يحتاج إلى مقدّمة.

فاعلم أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الحكم الظاهري تارة يؤخذ على وجه الإطلاق، مثل قولنا: المشكوك المسبوق بالحالة السابقة حكمه البقاء، فإنّه أعمّ من أن يكون المشكوك هو الموضوع مثل مشكوك الخمريّة مع سبق الحلّية، و أن يكون هو الحكم، و اخرى يؤخذ مقيّدا بالحكم، مثل قولنا: مشكوك الحلّية محكوم بالحلّية.

فالقسم الثاني سواء في الشبهة الحكميّة أم الموضوعيّة لا يعقل أن يصير مقيّدا للحكم المخالف له المرتّب على الواقع لا بعنوان الشكّ، و لا محيص عن كونه حكما ظاهريّا و ترخيصا مجعولا في مرحلة المعذوريّة عنه لأجل التسهيل، لا في عرضه و معنونا لموضوعه و مخصّصا له بغير صورة الشكّ، فإنّ تقييد الحكم بالعلم بنفسه محال و لو في الشبهة الموضوعيّة، لاستلزامه الدور.

و أمّا القسم الأوّل الذي هو مفاد الاستصحاب و حديث رفع ما لا يعلمون ففي الشبهة الحكميّة الكلام فيه هو الكلام في ما سبق حرفا بحرف، و أمّا في الشبهة الموضوعيّة فيمكن جعله مقيّدا للحكم الواقعي بحيث صارت المانعيّة الواقعيّة في مقامنا مثلا مختصّة بما كان من جلود الأرنب معلوما كونها كذلك، و أمّا المشكوك فخارج عن المانعيّة واقعا.

و يمكن حمله

على الحكم الظاهري، فإنّ المشكوك و إن كان هو الموضوع،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 249

إلّا أنّ الحكم عليه كان بلحاظ مشكوكيّة الحكم لا بلحاظ نفسه مع قطع النظر عن تعلّق حكم به.

و الفرق بين هذا و بين كون المشكوك هو الحكم الجزئي المتحقّق في مورد الشبهة الجزئيّة يكون في موضوع القضيّة، حيث إنّها هنا هو الشكّ في العنوان و الشكّ في الحكم ملحوظ غاية و غرضا، فلا يدخل في عمومه الشكّ في العناوين التي لا ارتباط لها بالحكم، مثل الشكّ في أنّ هذا المرئي شجرة أو منارة.

و بالجملة، فالغرض و إن كان مضيّقا للدائرة لبّا، لكن لا دخالة له في موضوع القضيّة و هذا واضح، و هناك هو الشكّ في الحكم، و كما أنّ جعل الموضوع هو الشكّ في الحكم يوجب كون الحكم عليه حكما ظاهريّا في الرتبة المتأخّرة عن الواقعي الأوّلي، كذلك جعله الشكّ في الموضوع بغرض مشكوكيّة الحكم و بلحاظها يكون موجبا لذلك، و هذا بخلاف جعله الشكّ في الموضوع صرفا بدون لحاظ الحكم أصلا، فإنّه حكم واقعيّ.

إذا عرفت هذا فنقول: إذا صلّى في اللباس المشكوك ثمّ تبيّن أنّه من غير المأكول يحكم بالإجزاء بناء على جعل الموضوع هو الشكّ في الموضوع الصرف، و بعدمه على قاعدة الحكم الظاهري بناء على جعله الشكّ في الموضوع بملاحظة انتهائه إلى الشكّ في الحكم، نعم لو بنينا على شمول «لا تعاد» لما عدا السهو و النسيان من موارد وجود العذر و الترخيص الشرعي كان الحكم هو الإجزاء على الثاني أيضا.

و لا يتوهّم أنّه بناء على الأوّل يلزم استعمال اللفظ في المعنيين، حيث إنّه بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة يلزم جعل الحكم الظاهري، و بالنسبة إلى الموضوعيّة

جعل الواقعي.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 250

لأنّا نقول: أمّا في حديث لا تنقض فالمفاد هو الإبقاء العلمي للمشكوك اللاحق المعلوم في السابق، و هذا معنى واحد إذا لوحظ بالنسبة إلى ما يخالفه في الشبهة الحكميّة يكون حكما عذريّا ظاهريّا، و في الموضوعيّة يكون تضييقا لدائرة موضوع ذلك الحكم بخصوص المعلوم، لكن بلسان الحكومة.

و أمّا في حديث الرفع فالمفاد رفع المشكوك برفع أثره، فإن كان حكما فأثره العقوبة، و إن كان موضوعا فأثره الحكم المرتّب عليه لا بلحاظ الشكّ، و بالجملة لا إشكال في إمكانه.

إنّما الكلام في مقام الاستظهار، و ربما يقال باستظهار كون الحكم في طرف الموضوع أيضا ظاهريّا و غير مغيّر للواقع بملاحظة كونه كذلك في جانب الشبهة الحكميّة و وحدة السياق.

الخامس: من شروط الساتر،

بل و مطلق اللباس أن لا يكون ذهبا للرجال، و الأصل في ذلك موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث قال عليه السّلام:

«لا يلبس الرجل الذهب و لا يصلّي فيه، لأنّه من لباس أهل الجنّة» «1».

و رواية موسى بن أكيل النميري عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «في الحديد أنّه حلية أهل النار، و الذهب أنّه حلية أهل الجنّة، و جعل اللّٰه الذهب في الدينار زينة النساء فحرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه» «2» الحديث.

و في خبر الجعفي قال: «سمعت أبا جعفر عليهما السّلام يقول: ليس على النساء أذان،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 4.

(2) المصدر، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 251

إلى أن قال: و يجوز للمرأة لبس الحرير و الديباج «1» في غير صلاة و إحرام، و حرم ذلك على الرجال، إلّا في الجهاد، و يجوز أن تتختّم بالذهب

و تصلّي فيه، و حرام ذلك على الرجال إلّا في الجهاد» «2».

و في رواية حنّان بن سدير عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: سمعته يقول: «قال النبيّ صلّى اللّٰه عليهما و آلهما: إيّاك أن تتختّم بالذهب، فإنّه حليتك في الجنّة» «3» الخبر.

و في رواية اخرى أنّه صلّى اللّٰه عليه و آله قال: «لا تختم بالذهب، فإنّه زينتك في الآخرة» «4».

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المستفاد من مجموع هذه الأخبار بقرينيّة بعضها لبعض أنّ هنا أمرين متعلّقين بموضوع واحد: الحرمة النفسيّة، و المانعيّة للصلاة، فموضوعهما شي ء واحد و أنّ هذا الشي ء الواحد المتعلّق لهذين الأمرين عبارة عن التزيّن بالذهب، فالتزيّن سواء صدق معه اللبس كما في الخاتم و السوار و الخلخال و القلادة و القلنسوة و نحو ذلك ممّا يصدق عليه اللبس مع دخالته في جمال اللابس أم لم يصدق كالسنّ من الذهب و نحوه، يكون محرّما نفسيّا على الرجال و مانعا عن الصلاة، كما أنّه لو صدق اللبس بدون التزيّن كما في البطانة من الذهب بدون الظهارة و ما يسمّى في الفارسيّة ب (عرقچين) فليس بحرام و لا بمانع.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 251

______________________________

(1) هو من الثياب المتّخذة من الإبريسم سداه و لحمته، فارسي معرّب، مجمع البحرين.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 11.

(4) المصدر، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 252

وجه ذلك أنّ قوله عليه السّلام في رواية ابن أكيل النميري: «الذهب حلية أهل الجنّة و جعل اللّٰه الذهب في الدنيا زينة النساء فحرّم على الرجال لبسه

و الصلاة فيه» يدلّ بقرينة الصدر على أنّ المراد باللبس هو عنوان التزيّن، لأنّه جعل علّة تحريم اللبس على الرجال في الدنيا اختصاص التزيّن به بأهل الجنّة و بالنساء في الدنيا، و المناسب للتفريع على هذا الانحصار و الحصر هو أن يكون التزيّن في الدنيا للرجال محرّما، و أمّا لو كان اللبس بعنوانه محرّما و لو فارق الزينة كان التفريع بلا مناسبة و من باب التعبّد المحض، و هو خلاف المتفاهم العرفي من الكلام.

و أمّا سرّ التعبير باللبس لا بالتزيّن فهو أنّ غالب أفراد التزيّن هو اللبس، بحيث لا نجد موردا يصدق فيه التزيّن بدون اللبس غير مثال السنّ من الذهب، و على هذا فلو لبس الخاتم لكن ستره بساتر، بل أو صبغه بلون آخر، خصوصا لو كان قبيحا فلا بأس به، فإنّ الزينة غير متحقّقة و إن تحقّق اللبس، كما أنّ الصلاة أيضا لا مانع عنها.

و أمّا احتمال أن يكون المحرّم عنوانان: الزينة و اللبس، أمّا الأوّل فلاقتضاء الحصر المستفاد من الصدر، و أمّا الثاني فلأجل حفظ ظهور كلمة اللبس في الموضوعيّة، ففيه ما مرّ من عدم التناسب و كونه خلاف الظاهر.

فإن قلت: لا يمكن هذا المعنى بالنسبة إلى كلمة الصلاة فيه، فهي باقية على موضوعيّتها، و ليس المراد مجرّد المثال، إذ الصلاة ليست من أفراد الزينة، بخلاف اللبس، فهذا قرينة على خصوصيّة عنوان اللبس كعنوان الصلاة.

قلت: لا يخفى أنّ الصلاة و إن كانت ليست من أفراد الزينة، و لكنّ الزينة فيها مطلوبة، لقوله تعالى خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فعطف الصلاة أيضا يمكن جعله شاهدا على إرادة الزينة من اللبس، فمحصّل المراد- و اللّٰه العالم- أنّ هذه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 253

الزينة مبغوضة للشارع بالنسبة إلى الرجال في الدنيا و نهى عن الصلاة فيها.

و بالجملة، استفادة هذا المعنى من الحديث و كذلك من قوله: «يا عليّ، لا تختّم بالذهب فإنّه زينتك في الآخرة» ممّا لا ريب فيه ظاهرا.

نعم يرد عليه أنّ اللازم ممّا ذكرنا كون اللبس المفارق عن الزينة مثل الثوب الواقع تحت ثوب آخر غير محرّم و غير ممنوع للصلاة، و هو خلاف الإجماع ظاهرا، لكن إن تمّ الإجماع كان هو دليلا مستقلّا و المقصود عدم الاستفادة من الأخبار.

ثمّ لو فرضنا عنوانيّة اللبس فلا دليل في خصوص الزينة على ممنوعيّتها للصلاة عند مفارقتها عن اللبس، إذ النهي الوارد في الأخبار عن الصلاة إنّما وقع عقيب ذكر اللبس، فلا يشمل الزينة، و من المعلوم أنّ النهي التحريمي للزينة لا يفسد الصلاة.

فإن قلت: قوله عليه السّلام: محرّم على الرجال لبسه و الصلاة فيه، يفيد العموم، فإنّ ضمير «فيه» مثل ضمير «لبسه» راجعان إلى الذهب لا إلى الذهب الملبوس، و إذا حملنا كلمة «في» على المصاحبة القرينة بالظرفيّة يشمل اللباس و غيره من أفراد الزينة.

قلت: بيننا و بينك العرف، و أنت إذا راجعتهم تراهم يحكمون بوحدة موضوع النهيين، و هذه إحدى الدعويين اللتين ادّعيناهما في أوّل المبحث، فإن استفيد من نهي اللبس مبغوضيّة مطلق الزينة يستفاد من نهي الصلاة ممنوعيّة مطلق الزينة في الصلاة، و إن حملناه على عنوان اللبس دلّ نهي الصلاة أيضا على ممنوعيّة اللبس، فيبقى الزينة بلا دليل على ممنوعيّتها في الصلاة، و قد عرفت استفادة مبغوضيّة مطلق الزينة من الروايتين، فإذا استفدنا ذلك من الروايتين تحمل عليهما سائر الأخبار المطلقة، لاتّحاد الجميع في المضمون و المفاد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 254

و قد تحقّق

ممّا ذكرنا عدم الفرق بين الساتر و غيره، فإنّ غالب الأفراد من الزينة غير ساتر، فالتخصيص بالساتر مستلزم للإخراج الغالب عن الإطلاق.

و العجب ممّن فصّل مستدلّا للجواز في ما لا يتمّ به الصلاة بأنّ النهي ليس عن فعل من أفعال الصلاة و لا عن شرط من شروطها.

فإنّ هذا الوجه لو سلّم كان جاريا في ما يتمّ أيضا، فإنّ النهي وقع عن اللبس و هو غير متّحد مع شي ء من الأفعال أو الأقوال الصلاتيّة، و هذا بخلاف النهي في الثوب المغصوب، فإنّه عن مطلق التصرّف، فيتّحد مع الأفعال و إن خدشنا فيه أيضا في ما تقدّم.

و الحاصل أنّا إن أغمضنا عن النهي الوارد عن خصوص الصلاة في الذهب و أردنا إثبات الفساد بمجرّد النهي النفسي عن اللبس لأشكل الحال، بل كان ممنوعا أشدّ المنع في كلّ من الساتر و غيره.

و أمّا مع ملاحظته فلا حاجة لنا إلى هذا التشبّث، و لا فرق حينئذ بحسب إطلاق الدليل بين الساتر و غيره، و ذلك لما عرفت من استظهار وحدة الموضوع في النهيين أعني: النهي عن اللبس و النهي عن الصلاة، و قد استظهرنا رجوع الأوّل إلى محرّميّة عنوان التزيّن، و هو يحصل غالبا بما ليس بساتر، فإنّه لم يعهد إلى الآن من أحد لبس سراويل أو قباء أو رداء أو عمامة من ذهب، و إنّما المتداول في اللباس جعلها معلّمة بالذهب بخياطة ما يسمّى بالفارسيّة ب «گلابتون» عليه.

ثمّ هل النهي عن الصلاة أريد به التحريم التكليفي، فيكون الوضع مستفادا بالتبع لكونه نهيا في العبادة و هو موجب للفساد، أو الوضعي، فمفاده الأوّلي فساد الصلاة فيه؟ و يظهر الثمر في صورة المعذوريّة لغفلة أو نسيان، فإنّه لو قلنا بالأوّل

فلا فساد، لأنّ النهي في العبادة إنّما يوجب فسادها من جهة التنجيز، فمع عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 255

التنجيز لا مانع عن الصحّة، لفرض تماميّة الصلاة بحسب الأجزاء و الشرائط، فلا مانع فيه عن التقرّب مع سقوط الجهة المبعّدة عن التأثير، الظاهر هو الأوّل، فإنّ النهي عن الصلاة وقع عقيب النهي عن اللبس و معطوفا عليه، و مقتضى وحدة السياق كونه في الثاني للتكليف، كما يكون كذلك بالنسبة إلى الأوّل.

ثمّ إنّه يتفرّع على ما ذكرنا من أنّ الموضوع المحرّم و المفسد هو عنوان التزيّن بالذهب أنّ مثل جعل نعل السيف و قائمته ذهبا لا مانع منه، إذ لا يحصل بسببه جمال لصاحبه، و إنّما هو علامة على كثرة تموّله، مثل تحلية سرج الدابّة أو جعل الذهب في جدار البيت، حيث إنّهما علائم على تموّل صاحبها، لا موجبات لجمال و بهاء له، و معيار الزينة المحرّمة أن يحصل للشخص بسببه بهاء و جمال و حسن منظر، و نعل السيف الذي غالبا يخطّ الأرض و يلاصق التراب ليس من شأنه ذلك، و يشهد لما ذكرنا بعض الأخبار الدالّ على عدم البأس بتحلية السيف و المصاحف، نعم شراك السيف ربما يعدّ حلية للحامل.

كما لا مانع من شدّ الأسنان بالذهب لعدم حصول الزينة بسببه، كما يشهد به بعض الأخبار أيضا. فلا بدّ من التفرقة بين الموارد، و الغرض الإشارة.

و يتفرّع أيضا عدم جواز التزيّن بالمموّه بالذهب و الملحّم به، فإنّ عنوان التزيّن بالذهب صادق، و هو المعيار، لا أنّه كون اللباس ذهبا حتّى يقال: إنّ المموّه لا يصدق عليه أنّه لباس من ذهب، بل من حديد و صفر، بخلاف الحال في باب الآنية، فإنّ المموّه و المذهّب

و المفضّض لا بأس بها هناك، لأنّ العنوان المحرّم هو الآنية المصوغة من الذهب و الفضّة، و هو غير صادق في ما ذكر.

و يتفرّع على ما ذكرنا من كون النهي عن الصلاة بقرينة وقوعه عقيب النهي عن اللبس نهيا تكليفيّا و هو يوجب فساد العبادة بواسطة مانعيّته عن التقرّب مع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 256

جامعيّة العبادة للشرائط و الأجزاء، أنّه لو فرض ارتفاع الحرمة النفسيّة عن الزينة و صيرورتها مباحة في حال من الأحوال كحال الحرب أو الاضطرار، فلا إشكال في صحّة الصلاة.

و لا يرد الإشكال بأنّ غاية ما دلّ عليه الدليل رفع الحرمة النفسيّة، و أمّا المانعيّة للصلاة فيمكن بقاؤها بحالها.

وجه عدم الورود أنّ الفساد هنا جاء من قبل تحريم الصلاة فيه، و تحريم الصلاة فيه جاء من قبل اختصاص التزيّن به بالنساء بحكم ظاهر كلمة «الفاء» الدالّة على تفريع تحريم اللبس و تحريم الصلاة على الاختصاص المزبور، فإذا ارتفع الاختصاص المزبور في حال من الأحوال و صارت زينة مشتركة ارتفع التحريمان بارتفاع علّتهما، فلا مانع عن الصلاة، نعم يمكن بقاء التحريم الصلاتي و إن ارتفع اللبسي، و لكنّه خلاف الظاهر من تفريعيّتهما على الاختصاص المزبور، هذا.

السادس: من شروط الساتر، بل مطلق اللباس أن لا يكون حريرا محضا للرجال،
اشارة

و الأصل فيه الأخبار المستفيضة من أهل البيت عليهم السّلام، ففي صحيح إسماعيل بن سعد الأحوص «قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام: هل يصلّي الرجل في ثوب إبريسم؟ قال عليه السّلام: لا» «1».

و مثله رواية أبي الحارث «قال: سألت الرضا عليه السّلام: هل يصلّي الرجل في ثوب إبريسم؟ قال عليه السّلام: لا» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث

7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 257

و موثّقة عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث «قال: و عن الثوب يكون علمه ديباجا؟ قال عليه السّلام: لا يصلّى فيه» «1».

و أمّا رواية إسماعيل بن بزيع «قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الصلاة في الثوب الديباج؟ فقال عليه السّلام: ما لم يكن فيه التماثيل فلا بأس» «2» فأمّا محمول على حال الحرب أو الضرورة أو الممزوج بغير الحرير بشهادة الأخبار المفصّلة.

و بالجملة، لا إشكال في فساد الصلاة في المحض منه للرجال في غير حال الحرب و الاضطرار، كما لا إشكال في تحريم لبسه على الرجال نفسا في حال الصلاة و غيرها غير حالتي الحرب و الضرورة، لدلالة الأخبار المستفيضة على النهي عن اللباس الحرير أو عن لبسه.

إنّما الكلام و الخلاف في ما لا تتمّ فيه الصلاة وحده، لصغره، مثل التكّة و الجورب و القلنسوة إذا كانت من حرير محض، فهل يجوز الصلاة في أمثال ذلك أو لا؟ قولان: منشؤهما اختلاف الأخبار.

ففي صحيحة محمّد بن عبد الجبّار «قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السّلام أسأله هل يصلّى في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج؟ فكتب عليه السّلام: لا تحلّ الصلاة في حرير محض» «3».

و في صحيحة أخرى له «قال: كتبت إلى أبي محمّد صلوات اللّٰه عليه أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو تكّة حرير محض أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب عليه السّلام: لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض، و إن كان الوبر ذكيّا حلّت

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 8.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث

10.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 258

الصلاة فيه إن شاء اللّٰه» «1».

و بإزائهما خبر الحلبي المتلقّى بالقبول بين الأصحاب في باب النجاسات في العفو عمّا لا يتمّ الصلاة فيه «عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه، مثل التكّة الإبريسم و القلنسوة و الخفّ و الزنّار يكون في السراويل و يصلّى فيه» «2».

و لا يخفى أنّ نسبة هذا الخبر إلى كلّ من عمومات المنع عن الصلاة في النجس، أو في الحرير، أو فيما لا يؤكل، أو في الذهب، أو في الميتة و إن كانت عموما من وجه، لكن لهذا الخبر لسان الحكومة، لوضوح أنّه ليس المراد بقوله عليه السّلام: كلّ ما لا يجوز الصلاة فيه وحده، كلّ ما هو أقلّ من الساتر و لو لم يكن فيه مانع، لعدم توهّم منع عن الصلاة، بل المراد هو ما كان كذلك من جنس أحد الموانع الصلاتيّة، فإذن يكون له نظر الشارحيّة إلى العمومات المثبتة لتلك الموانع، لكن هذا حاله مع العمومات.

و أمّا لو ورد بإزائه خاصّ كما في باب الميتة من قوله عليه السّلام: لا تصلّ في شي ء منه و لا شسع، فلا محيص عن التخصيص في عموم الخبر، فلو لم يكن مشتملا على مثال التكّة الإبريسم لقلنا بمثل ذلك في المقام أيضا، أعني بتخصيص عمومه بالصحيحين، لكونهما خاصّين بالنسبة إليه بملاحظة المورد و إن كان الجواب عامّا، بل لعلّ ذلك كان موجبا لأن يستكشف سوق العموم المذكور في خصوص باب النجاسات، و لكنّ الذي أصعب الأمر اشتماله على المثال المذكور، فصارت النسبة بينه و بين

الصحيحين هو التباين، فلا بدّ من التوفيق بينهما.

و قد يقال بحمل الصحيحين على الكراهة، إذ استعمال النهي فيها شائع في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 259

الأخبار، و حمل الخبر على نفي البأس التحريمي الملائم مع ثبوت الكراهة، و هذا في حدّ ذاته و إن كان حسنا، لكنّه لا يتمشّى في المقام بملاحظة أنّ الجواب في الصحيحين وقع بالكبرى الكلّية أعني قوله: لا تحلّ الصلاة في حرير محض، أو في الحرير المحض، و مع هذه الكلّية غير قابل للحمل على الكراهة، و أمّا الحمل على مطلق المرجوحيّة فلا يخلو عن البرودة.

و قد يقال بحمل الصحيحين على التقيّة، و فيه أنّا لو كنّا و الصحيحة الثانية من الصحيحتين كان هذا الحمل في غاية الوجاهة، فإنّ ذيلها و هو قوله عليه السّلام: و إن كان الوبر ذكيّا حلّت الصلاة فيه إن شاء اللّٰه يلوح عليه أمارة التقيّة، و ذلك لعدم اعتبار الذكاة في الوبر و سائر ما لا تحلّه الحياة، و قد اعتبره في وبر الأرانب، و احتمال أن يراد من الوبر خصوص ما لصق بأصوله شي ء من الجلد بعيد، فيقرب كون صدوره للتقيّة، فإذا جرى ذلك في الذيل يسقط الصدر أيضا عن الاعتبار من حيث جهة الصدور، و لكنّ العمدة عدم الانحصار بهذه الصحيحة و خلوّ الأخرى عن هذه التتمّة.

كما أنّ مخالفة خبر الحلبي مع العامّة معلومة، لأنّ المفروض فيه مانعيّة الحرير للصلاة، و الحال أنّ مذهبهم على ما قيل على صحّة الصلاة و حرمة اللبس تكليفا، فلا يمكن حملها أيضا على التقيّة.

و قد

يقال بترجيح الصحيحين بموافقة العمومات الدالّة على تحريم اللبس تكليفا ببيان: أنّها و إن كانت ليست متعرّضة للنهي عن الصلاة في مطلق الحرير، بل للنهي عن لبسه و هو غير مفيد بحالنا، إذ غاية الأمر تحريم اللبس بتلك العمومات، لكن لا ينافي مع صحّة الصلاة، فلا شهادة فيها على صحّة شي ء من طرفي التعارض في مسألة صحّة الصلاة و بطلانها.

لكن نقول: إنّ المستفاد من قوله عليه السّلام في خبر الحلبي: «كلّ ما لا تتمّ الصلاة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 260

فيه وحده لا بأس بالصلاة فيه» هو أنّ لبس اللباس المذكور جائز في حال الصلاة، بحيث لو كنّا و هذا الخبر جعلناه مخصّصا لعمومات تحريم لبس الحرير، نظيره ما إذا نهى المولى عن التصرّف في دار الغير بغير رضاه مطلقا، ثمّ قال: لا بأس بالصلاة في الدار المغصوبة، فإنّا و إن جوّزنا اجتماع الأمر و النهي و لذلك احتملنا أن تكون الصلاة المذكورة مشتملة على الإطاعة و المعصية من جهتين، لكنّ القول المذكور يسدّ باب هذا الاحتمال و يرفع البأس عن التصرّف الصلاتي في دار الغير، و يجعل أهل العرف هذا الكلام تخصيصا في قوله: لا تغصب، و إن كان مفاد لا بأس في مقابل النهي الوضعي، لا التحريمي، لكن مع ذلك فرق بين هذا التعبير عن الوضع و بين التعبير بقولنا: صحيحة، فإنّهم لا يجعلون الثاني تخصيصا للنهي عن الغصب، بخلاف التعبير بقولنا: لا بأس و إن كان في مقام تأدية رفع البأس الوضعي، و المرجع في هذا الباب هو العرف فراجعهم.

إذن فنقول: هذا الخبر بحسب هذا المستفاد ينافيه عمومات النهي عن لبس الحرير، و يكفي هذا في كونها مرجّحة للصحيحين، هذا ما

يقال.

و فيه أنّ مصبّ الترجيح السندي بمعنى الأخذ بأحد السندين و طرح الآخر إنّما هو في ما إذا وقع التكاذب و التعارض بين تمام مفاد أحدهما و بين تمام مفاد الآخر، و أمّا لو كان التكاذب في بعض المفاد مع التوافق أو عدم التعارض في البعض الآخر فليس ذلك مصبّا للترجيح المذكور.

و بهذه العلّة نقول في العامّين من وجه بعدم الرجوع في مادّة التعارض إلى المرجّحات السنديّة، فإنّ التقطيع في السند مع وحدته لا يجوز بالنسبة إلى فقرأت أخباره، و مقامنا من هذا القبيل، فإنّ قوله عليه السّلام في الصحيحين: لا تحلّ الصلاة إلخ قضيّة كلّية و إن وردت في الجواب عن القضيّة الشخصيّة، و تعارضها مع خبر الحلبي إنّما هو بالنسبة إلى بعض مصاديق عمومه و هو مورد السؤال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 261

و كذلك خبر الحلبي مشتمل على عموم و هو قوله: كلّ ما لا يجوز إلخ، و على أمثلة، و تعارضه مع الصحيحين إنّما هو بالنسبة إلى بعض مصاديق ذلك العموم، و هو واحد من تلك الأمثلة.

و من هنا يظهر وجه آخر لبطلان حمل أحد الطرفين على التقيّة علاوة على ما تقدّم آنفا، فإنّ تقطيع السند الواحد بحسب الفقرات المشتمل هو عليها غير جائز، لا في مقام الصدور و لا في مقام جهته، بل إمّا نقول بأنّ هذا السند بتماميّته مطروح أو مخدوش الجهة، و إمّا نقول بتماميّته مأخوذ صادر لبيان الواقع، و أمّا الأخذ به بالنسبة إلى البعض و الطرح له بالنسبة إلى آخر فلا يستفاد من الأخبار العلاجيّة على ما تقرّر في محلّه، لا في مقام الصدور و لا في مقام الجهة.

نعم يمكن التقطيع بين فقرأت السند الواحد بالنسبة

إلى تقيّة السائل، لأنّه أيضا حكم واقعي له في تلك الحال، فلا يقدح في الأصل الجهتي، و أمّا تقيّة المتكلّم فلا.

ثمّ مقتضى ما ذكرنا من بطلان جميع الوجوه المتقدّمة هو الحكم بالإجمال في كلّ من الطرفين و الرجوع إلى أصالة جواز الصلاة في ما ذكر و إن كان مقتضى عمومات حرمة اللبس و إطلاقاته حرمة لبسه تكليفا، لكن لا ينافي ذلك صحّة الصلاة فيه بمقتضى الأصل.

جواز لبس الحرير في الضرورة و الحرب

خاتمة: يستثنى من حرمة لبس الحرير المحض للرجال حال الضرورة إلى لبسه لأجل دفع البرد و نحوه و حال الحرب، أمّا الدليل على الأوّل فعموم قوله عليه السّلام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 262

«رفع ما اضطرّوا إليه» «1»، و قوله عليه السّلام: «ما غلب اللّٰه على العباد فهو أولى بالعذر» «2»، و قوله عليه السّلام: «ما من شي ء إلّا و قد أحلّه اللّٰه عند الضرورة» «3».

لكن ليعلم أنّ الضرورة تارة يستوعب جميع أجزاء الوقت بحيث لو نزعه في دقيقة لتضرّر، و هذا لا إشكال فيه لا من حيث ارتفاع الحرمة النفسيّة و لا الغيريّة، إذا الأمر دائر من جهة الثانية بين ترك الصلاة رأسا، أو مع غير الحرير متضرّرا، أو مع الحرير بلا تضرّر، و من المعلوم تعيّن الأخير.

و اخرى، لا يكون كذلك، بحيث لا ضرورة بالنسبة إلى دقيقة واحدة أو دقيقتين أو ثلاث مثلا، و في هذه الصورة أيضا إن لزم من التكليف بالنزع حرج فلا إشكال.

و أمّا إن لم يلزم، كما لو كان اللباس المذكور فوق لباسه و أمكنه نزعه بلا حرج، في هذه الدقيقة أو الدقيقتين أو الثلاث مثلا، فهل يحكم في هذا المقدار أيضا بارتفاع الحرمة النفسيّة أو لا؟ و على تقدير الارتفاع فما

حال الصلاة معه.

أمّا الحرمة النفسيّة فالذي قوّاه شيخنا الأستاذ دام ظلّه العالي إنّها مرتفعة للصدق العرفي لعنوان الاضطرار بالنسبة إليه بدون الإضافة إلى الزمان الخاصّ و إن كان لا يصدق معها، و ذلك كما في صدق عنوان إقامة عشرة أيّام في البلد، حيث لا يضرّ بصدقها خروجه إلى حدّ الترخّص لحاجة ثمّ عوده سريعا، و لعلّ السرّ أنّ

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الجهاد، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب قضاء الصلوات، الحديث 13.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 6 و 7، و فيه: و قد أحلّه لمن اضطرّ إليه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 263

الإقامة في البلد لا ينفكّ بحسب الغالب عن مثل هذا الخروج.

و كذلك التداوي لمرض أو دفع برد و غيرهما من أفراد الضرورة في مقامنا لا ينفكّ غالبا عن التمكّن من النزع و لو بمقدار صلاة ثمّ اللبس، فأوجب ذلك صدق عنوان المضطرّ بقول مطلق عليه حتّى في تلك الحال، و ليس الصدق تجوّزا عرفيّا، بل من باب الحقيقة العرفيّة.

و أمّا الحرمة الغيريّة فيشكل الحكم بارتفاعها، و ذلك لعدم صدق عنوان الاضطرار إلى ترك الصلاة الجامعة للشرائط بعد فرض تمكّنه من فرد واحد منها، فلا يبقى لحكومة حديث الرفع على دليل المانعيّة للصلاة وجه و إن كان حاكما بالنسبة إلى دليل الحرمة النفسيّة.

و من هنا يسري الإشكال إلى حال الحرب أيضا، فإنّه و إن قامت الأدلّة الخاصّة باستثنائها عن الحرمة النفسيّة، و من الواضح عدم انحصارها بحال الاشتغال بالمحاربة، لصدقه بالنسبة إلى حال الفراغ، مثل أوّل الليل مع التمكّن من لباس آخر، و لكن لو أراد الصلاة في تلك الحال

التي يتمكّن من نزعه و لبس غيره فلا دليل يدلّ على جواز ذلك، و إطلاق أدلّة الخاصّة بالنسبة إلى حال الصلاة إنّما ينفع لرفع الحرمة النفسيّة الذاتيّة و إثبات الحلّية كذلك، و يجتمع هذا مع المانعيّة.

لا يقال: كيف يجتمع و الحال أنّه في آخر الوقت يصير اللبس حراما، لكونه مفوّتا للصلاة، فحليّته مطلقا حتّى بالنسبة إلى ذلك الجزء لمن لم يصلّ دليل على عدم المانعيّة.

لأنّا نقول: غاية مفاد الأدلّة المذكورة إثبات الحلّية الذاتيّة مثل حلّية الغنم، و هي تجتمع مع الحرمة العرضيّة، كما تجتمع مع الوجوب العرضي مثل توقّف واجب عليه، و الحاصل ليس لدليل الحلّية إطلاق بالنسبة إلى هذه العناوين العرضيّة أعني

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 264

المفوّتية للواجب أو المقدّميّة له، و هذا واضح.

و لكن يمكن أن يقال في كلا المقامين بصحّة الصلاة من جهة دعوى أنّ ارتكاز الحرمة النفسيّة للبس الحرير يوجب انصراف النهي عن الصلاة معه إلى الحرمة النفسيّة، و ذلك للمناسبة بين المعنيين، أعني: تحريم لباس عند المولى و مبغوضيّة لبسه في حضوره.

و إن أبيت عن الانصراف فلا أقلّ من أنّه يوجب الإجمال، فلا دليل على إثبات المانعيّة المطلقة و لو في غير مورد الحرمة النفسيّة، و الأصل يقتضي عدمها.

و إذن فيكون النهي في هذا المقام أيضا من النهي في العبادة، و من المعلوم أنّه متى ارتفع النهي فلا فساد، كما أنّه لا فساد أيضا مع سقوط النهي عن التنجيز بواسطة الشبهة الموضوعيّة و لو قلنا بالاشتغال في الدوران بين الأقلّ و الأكثر، فمن يقول بالاشتغال في ذلك المقام قائل بالبراءة في مقامنا كما هو واضح.

و قد يتوهّم أنّ من جوّزنا له لبس الحرير في صلاته فغاية هذا التجويز

رفع مانعيّته، و أمّا تقييد الساتر الذي هو شرط للصلاة بكونه غير حرير فلا دليل على سقوطه، فلا بدّ من عدم الاقتصار على لبس الحرير في الصلاة، بل لا بدّ من إضافة لباس آخر من غير الحرير كان قابلا للساتريّة، قضيّة لحقّ الساتر.

و فيه أنّ الأدلّة المانعة عن الصلاة في الحرير يكون في عرض أدلّة اعتبار الساتر، و ليست ناظرة إليها، فكما أنّ الثانية يثبت للصلاة شرطا و هو الساتر، فهي يثبت لها مانعا و هو وجود اللباس الحرير، من غير فرق بين الساتر و غيره، و على هذا فليس من حديث تقييد الساتر بعدم كونه حريرا عين و لا أثر في الأدلّة.

هذا تمام الكلام في ما يتعلّق بشروط الساتر، و بقي هنا بعض المباحث حذفناها للاشتغال بالأهمّ، و اللّٰه تعالى هو الموفّق و الهادي إلى الصواب في كلّ باب.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 265

الفصل الثالث في بيان مسائل متعلّقة بالستر و الساتر

الاولى لا إشكال في باب الستر عن الناظر المحترم في تحقّقه بمطلق الساتر

من غير مدخليّة لجنس خاصّ، فيكفي و لو لم يكن من جنس الملبوسات من القطن و الكتّان و الجلود و نحوها كالحشيش و التطيّن بالطين، بل، وضع اليدين.

و أمّا في باب الصلاة فهل يعتبر في الساتر علاوة على الأمور الستّة المتقدّمة كونه من جنس الملبوسات، فلا يكفي اختيارا مثل الحشيش و الطين.

نعم لا فرق في جنس الملبوس بين كونه بالهيئة المتعارفة في الملبوس أو بغيرها، أو لا يعتبر شي ء آخر، فيكفي أمثال ما ذكر في حال الاختيار أيضا؟

وجهان.

و ربما يتمسّك للأوّل بأخبار الإزار و القميص و الدرع و الملحفة الظاهرة في اعتبار الجامع بين هذه الأشياء و هو مطلق الملبوس، مضافا إلى صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق

متاعه فبقي عريانا و حضرت الصلاة، كيف يصلّي؟ قال عليه السّلام: إن أصاب حشيشا يستر به

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 266

عورته أتمّ صلاته بالركوع و السجود، و إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم» «1» فإنّه يمكن دعوى ظهورها في ترتيب التستّر بالحشيش على فقدان جنس الملبوس، فلا يكون في عرضه.

و للثاني بالأصل بعد منع ورود تلك الأخبار في مقام البيان من هذه الجهة أعني: تعيين الجنس، بل هي وردت في مقام بيان أنّ الثوب الواحد إذا كان كثيفا يغني عن المتعدّد، و الحاصل أنّها في مقام اعتبار أن لا يكون حاكيا عمّا وراءه، و ليس في مقام بيان الزائد عن ذلك، كما يعلم بمراجعتها، فالعناوين المذكورة فيها أريد بها المثال لا الخصوصيّة، فالتمسّك بها لاعتبار جنسها ممّا لا وجه له.

و أمّا الصحيحة فإن كان الترتيب المذكور مذكورا في كلام الإمام عليه السّلام كان ظهوره في ما ذكر مسلّم، و لكن ليس كذلك، بل السائل فرض الفقدان فأجابه الإمام عليه السّلام بالتستّر بالحشيش، و استفادة الترتيب من مثله محلّ منع.

و ذهب بعض المشايخ رحمه اللّٰه تبعا لصاحب الجواهر طاب ثراهما إلى التفصيل بين الحشيش و نحوه و بين الطين و سائر اللطوخات مثل الحنّاء، فجعل الأوّل في عرض اللباس اختيارا، و أمّا الثاني فلا يجب للصلاة حتّى حال الاضطرار و إن قلنا بوجوبه من باب الستر عن النظر، مستدلّا في الأوّل بما تقدّم، و في الثاني بصدق العريانيّة عرفا مع التطلية بالطين و الحنّاء و أمثالهما، فلا يصدق عليه الستر المعتبر في الصلاة و إن قلنا بكفايته في باب النظر من جهة أنّ المطلوب في ذلك الباب أعمّ من

الستر، بل هو الاختفاء عن أعين الناظرين و لو بالذهاب في مكان مظلم أو بعيد، أو دخول بيت أو نحو ذلك ممّا يجتمع مع صدق العريانيّة المضرّ في باب الصلاة، فإنّ المطلوب

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 267

فيه هو المستوريّة المقابلة بالعريانيّة.

هذا مضافا إلى أنّه يلزم من كونه من الستر المعتبر في الصلاة حمل الأخبار الواردة في كيفيّة صلاة العاري جماعة و فرادى على الفرد النادر، إذ قلّما يتّفق عدم تمكّن العاري من تطلية الطين و لو بمزج فضالة طهوره في مقدار من التراب، هذا محصّل ما يوجد من كلماته الشريفة، أعلى اللّٰه مقامه.

قال شيخنا الأستاذ أدام اللّٰه تعالى علينا تعالى بركات أنفاسه القدسيّة: أمّا ما ذكره في الشقّ الأول من تفصيله من عدم نهوض الأخبار على اعتبار الخصوصيّة في حال الاختيار فواضح، لكن لا دلالة فيها على العموم و الإطلاق بالنسبة إلى كلّ ما يتحقّق به الستر عرفا، و هو أيضا واضح، فيصير أصل الستر مسلّما و خصوصيّة كونه من جنس اللباس مشكوكا، و بناء على ما هو الحقّ في الدوران بين الأقلّ و الأكثر من البراءة يكون احتمال الخصوصيّة مدفوعا بالأصل.

و بالجملة، ما ذكره في الشقّ الأوّل من التمسّك بالأصل وجيه لا غبار عليه.

و أمّا ما ذكره في الشقّ الثاني من الفرق بين الستر المعتبر في باب النظر و المعتبر منه هاهنا، فالمراد به هناك أعمّ ممّا هو المراد هنا، ففيه أنّ الظاهر بل المتعيّن وحدة المراد بالستر المطلوب في البابين، و هو فيهما عبارة عمّا يقابله العراء و العريانيّة، و لكنّ الفرق بين المقامين أنّه في مقام الستر عن النظر

هذا المعنى مطلوبيّته مشروطة بأمور منها: وجود الناظر، و منها: كونه ناظرا، و منها: عدم الحائل في البين من ظلمة أو ماء كدر أو جدار أو بعد مفرط و نحو ذلك، فبانتفاء كلّ من هذه الأمور ينتفي مطلوبيّة الستر، لا أنّ الستر واجب و حاصل، بل منتف بانتفاء موضوعه.

و أمّا هنا فهذا المعنى أيضا مطلوب بمطلوبيّة مطلقة بلا شرط، بحيث لا يفرق

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 268

فيها بين وجود الناظر و عدمه و كونه مبصرا أو أعمى، و وجود الحائل و عدمه، فيكون الستر واجبا على الإطلاق، و على هذا فكلّ ما يكون سترا في باب النظر فهو ستر في هذا الباب أيضا، و الفرق إنّما هو في كيفيّة الوجوب.

إذا عرفت هذا فنقول: إن أراد قدّس سرّه من الطين الذي منع منه في باب الصلاة هو المقدار اليسير الذي يشاهد معه الحجم و إن لم ير اللون فهذا ليس سترا عرفا في شي ء من البابين.

ألا ترى أنّ من طلى عورته بالحنّاء لا يعدّ عرفا إلّا عاري العورة لا مستورها، غاية الأمر يقولون أنّه لوّن عورته لا أنّه سترها، و إن أريد منه ما كان مانعا عن رؤية الحجم أيضا بأن كان كثيرا بحيث كانت العورة مدفونة فيه، فهذا كاف في كلا البابين، فلا وجه للتفرقة بين البابين في شي ء من القسمين.

و أمّا ما ذكره قدّس سرّه من لزوم حمل الأخبار الواردة في صلاة العاري إمّا منفردا و إمّا جماعة على الفرد النادر فهو عجيب، لأنّ المحذور إنّما هو حمل القضيّة المطلقة على فردها النادر، و أمّا انعقاد موضوعها من الابتداء في الفرد النادر بحيث كانت مسوقة لبيان حال الفرد النادر فليس هذا من

المحذور أصلا، و هذه الأخبار من هذا القبيل، فإنّها واردة في حكم العاري، أعني: من فقد جنس ما يستتر به الذي منه الطين و الحنّاء حسب الفرض بتمام أفراده، و وقوع هذا الاتّفاق في الخارج و إن كان نادرا، لكن لا يمنع ندرته من صحّة عقد قضيّته لبيان حكمه.

ألا ترى أنّ الحشيش أيضا ممّا لم ينبّه به في هذه الأخبار مع كونه ممّا يستتر به باعترافه قدّس سرّه، فليس هو إلّا من جهة ما ذكرنا من أنّ فرض السائل صورة فقدان كلّ ما هو ساتر مطلقا و أنّه في هذه الصورة هل الصلاة ساقطة عنه أو ثابتة، و على الثاني فما كيفيّتها.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 269

الثانية لو لم يجد ساترا يستر به عورته ففيه أقوال:
اشارة

تعيّن الصلاة عاريا قائما واضعا يديه على عورته، و تعيّنها جالسا، و التفصيل بين الأمن عن المطّلع فيقوم، و عدمه فيجلس، و المنشأ اختلاف الأخبار.

فممّا يدلّ على تعيّن القيام صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عريانا و حضرت الصلاة كيف يصلّي؟ قال عليه السّلام: إن أصاب حشيشا يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع و السجود، و إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم» «1».

و ممّا يدلّ على تعيّن الجلوس صحيحة زرارة أو حسنته «قال: قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: رجل خرج من سفينة عريانا أو سلب ثيابه و لم يجد شيئا يصلّي فيه؟ فقال عليه السّلام: يصلّي إيماء، و إن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها، و إن كان رجلا وضع يده على سوأته، ثمّ يجلسان فيومئان إيماء و لا يسجدان و لا يركعان، فيبدو ما خلفهما تكون صلاتهما إيماء

برءوسهما» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 270

و ممّا يدلّ على التفصيل ما رواه الشيخ بطريق صحيح عن ابن مسكان عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «في الرجل يخرج عريانا فتدركه الصلاة، قال عليه السّلام: يصلّي عريانا قائما إن لم يره أحد، فإن رآه أحد صلّى جالسا» «1».

و ما رواه البرقي في المحاسن عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمّد بن أبي حمزة عن عبد اللّٰه بن مسكان «عن أبي جعفر عليهما السّلام في رجل عريان ليس معه ثوب؟

قال عليه السّلام: إذا كان حيث لا يراه أحد فليصلّ قائما» «2».

و المشهور على ما حكي عنهم ذهبوا إلى التفصيل بين الأمن عن المطّلع المحترم و عدمه، و استفادة هذا من الأخبار المذكورة يبتني:

أوّلا: على حمل الطائفتين المطلقتين على الطائفة المفصّلة كما هو ديدنهم من حمل المطلق على المقيّد، بل يظهر من بعض كلمات شيخنا المرتضى الأنصاري قدّس سرّه أنّه من باب الورود لتقوّم ظهور المطلق بعدم البيان و لو منفصلا، فالمقيّد و لو كان منفصلا يكون واردا على المطلق، لكونه بيانا.

و ثانيا: على حمل قوله عليه السّلام: إن لم يره، و قوله: إن رآه، على شأنيّة ذلك و معرضيته حتّى ينطبق على تفصيلهم بين الأمن و عدمه، و لو حملناهما على ظاهرهما من الرؤية و عدمها الفعليين لا ينطبق، إذ يحصل حينئذ للمكلّف ثلاث حالات:

العلم بالرؤية حالا أو استقبالا، أعني بأنّه سيجي ء الرائي في أثناء الصلاة، و العلم بعدمه، و الشكّ بينهما، فيتعيّن في الأخير أن يصلّي صلاتين إحداهما قائما

و الأخرى جالسا قضيّة للعلم الإجمالي.

و أمّا على ما ذكروه فليس له إلّا حالتان، فإنّه مع العلم بالعدم مأمون، و مع

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 271

عدمه سواء علم الوجود أو شكّ فليس بمأمون، فيتعيّن عليه القيام في الأوّل و الجلوس في الثاني.

و ربما يوجّه الروايات على وجه ينطبق على هذا التفصيل بأنّ المقصود لمّا كان حفظ الفرج عن النظر، و الحفظ لا يصدق مع الكشف في مورد المعرضية للنظر فيناسب أن يكون المراد بقوله: رآه و لم يره، شأنيّة ذلك.

و لكن فيه أنّ الحفظ لا يدور مدار الجلوس، لتحقّقه مع القيام، لأنّ القبل مستور باليدين و الدبر بالأليتين، و المفروض إيماءه للركوع و السجود، فيبقى كونه لمحض التعبّد و الرعاية لجهة الصلاة.

ثمّ هذا كلّه مع تسليم أصل المبنى من حمل المطلقات الواردة في مقام البيان على المقيّد الوارد منفصلا عنها بمدّة إمّا قبلا أو بعدا، و هو محلّ إشكال و إن اشتهر بينهم، فإنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة و إن كان ممكنا لمصلحة، إلّا أنّه أمر بعيد لا يصار إليه في غير الضرورة، و هذا بخلاف التصرّف في الهيئة مع حفظ مادّة المطلقات على إطلاقها بأن يقال: إنّ المراد بأوامر القيام و كذا أوامر الجلوس بيان أحد فردي الواجب المخيّر، و المراد بالأخبار المفصّلة بين ما لو رآه أحد و ما لم يره بيان أفضل الفردين بحسب الحالين المذكورين، فإنّه و إن كان تصرّفا في هيئة كلّ من المطلقات و الأخبار المفصّلة، و لكنّه في البعد لا يصل بحدّ تقييد

المطلقات مادّة و الالتزام بأنّه أخفى القيد على السائل المبتلى بالعمل، لا سيّما مثل الصلاة المبتلى بها في كلّ يوم و ليلة خمس مرّات مع كونه موجبا لصدور خلاف الواقع منه كثيرا، فإنّ الإنصاف أنّ هذا في غاية البعد، و لا أقلّ من الإجمال، و المرجع في مقام العمل هو الاحتياط باختيار القيام مع العلم بعدم الناظر فعلا و عدم مجيئه في الأثناء أيضا، و اختيار القعود مع العلم بوجوده في أحدهما، و التكرار مرّة قياما و اخرى جلوسا مع الشكّ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 272

فروع ينبغي التنبيه عليها
الأوّل: لا إشكال نصّا و فتوى في أنّه مع الجلوس و الانفراد يومئ للركوع و السجود،

و أمّا في حال القيام فقد اختلف الفتاوى، ففي بعضها اختيار الإيماء، و هو المنسوب إلى الأكثر.

و في آخر اختيار الركوع و السجود كما في حال الاختيار، و به أفتى في نجاة العباد، و قوّاه في الجواهر، و لكن الموجود في صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة التصريح بالإيماء قائما، فإنّ قوله عليه السّلام في ذيلها: أومأ و هو قائم، مع مقابلته بقوله عليه السّلام في الصدر: أتمّ صلاته بالركوع و السجود، صريح في ما ذكر، و ليس له معارض.

و اعتمد في الجواهر على ما حكي عنه على أنّ الستر الصلاتي في حقّ الساتر قد الغي و بقي في حقّه الستر عن النظر، و هو لا يكون إلّا مع عدم الأمن، و لهذا أوجب عليه الشارع في حاله ترك الركوع و السجود و رضي بدلهما بالإيماء، و أمّا في حال الأمن فلا موجب لترك الركوع و السجود، لا من جهة الصلاة و لا من جهة الحفظ عن الناظر.

و فيه- بعد الغضّ عمّا ذكره من عدم الستر الصلاتي في حقّه، إذ قد عرفت من البيانات السابقة تحقّقه باليدين و الأليتين

في هذا الباب كما في باب الستر عن النظر- أنّ ما ذكره قدّس سرّه تامّ لو لا النصّ الخاصّ الوارد بتعيّن الإيماء من غير معارض له مكافئ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 273

الثاني: هل الإيماء بالرأس أو بالعين؟

الظاهر الأوّل، فإنّه مضافا إلى التصريح به في رواية زرارة المتقدّمة يكون هو المنصرف من الإطلاق، فإنّ المتعارف عند أهل العرف في تعظيماتهم العرفيّة إذا تعذّر تحطيط الظهر هو الإيماء بالرأس عوضه، نعم لو تعذّر هو أيضا أومؤوا بالعين، فهذه مناسبة عرفيّة موجبة لانصراف هذا الفرد من المطلق الوارد في مقام البدليّة عن الركوع و السجود، و لعلّ أخفضيّة الإيماء للسجود عن الإيماء للركوع أيضا من هذا القبيل.

مضافا إلى التصريح بها في خبر أبي البختري المرويّ عن قرب الإسناد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال عليه السّلام: «من غرق ثيابه فلا ينبغي له أن يصلّي حتّى يخاف ذهاب الوقت يبتغي ثيابا، فإن لم يجد صلّى عريانا جالسا يومئ إيماء يجعل سجوده أخفض من ركوعه» «1».

الثالث: هل يجب عليه الانحناء بالمقدار الممكن بحيث لا يبدو ما خلفه أو لا؟

ظاهر إطلاق الأخبار المكتفية بالإيماء عن الركوع و السجود الثاني، و لكن مال بعضهم إلى الأوّل تمسّكا بالاستصحاب و قاعدة الميسور.

و فيه أوّلا: أنّ الانحناء و الهويّ ليس واجبا إلّا مقدّمة للهيئة الخاصّة الركوعيّة أو السجوديّة، فإذا فرض عدم وجوب تلك الهيئة فلا معنى للتمسّك بالاستصحاب

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 52 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 274

أو القاعدة لإثبات وجوب المقدّمة.

و ثانيا: سلّمنا أنّه أيضا معتبر جزء للصلاة، لكن التمسّك بالاستصحاب و القاعدة إنّما يصحّ لو لم يكن في مقابلهما إطلاق النصّ الخاصّ الدالّ على الاكتفاء بالإيماء و عدم وجوب الزائد عليه، و قد عرفت وجوده.

الرابع: هل يجب على من تكليفه الصلاة قائما موميا أن يجلس في حال الإيماء لسجوده ثمّ يومئ له،

أو يكفيه الإيماء له قائما كما يومئ للركوع كذلك؟ ظاهر إطلاق الصحيحة المتقدّمة هو الثاني، و ينسب إلى بعض الأصحاب قدّس سرّهم الأوّل.

فإن كان مستنده قاعدة الميسور ففيه:

أوّلا: أنّه كان مقدّمة لحصول الهيئة السجوديّة، فإذا سقطت سقطت مقدّمتها.

و ثانيا: لا مجال لها مع إطلاق الصحيحة.

و إن كان لرواية زرارة حيث قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: رجل خرج من سفينة عريانا أو سلب ثيابه و لم يجد شيئا يصلّي فيه؟ فقال عليه السّلام: يصلّي إيماء، و إن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها، و إن كان رجلا وضع يده على سوأته، ثمّ يجلسان فيومئان إيماء، و لا يسجدان و لا يركعان فيبدو ما خلفهما، تكون صلاتهما إيماء برءوسهما» «1».

بتقريب أنّ قوله عليه السّلام: ثمّ يجلسان فيومان إيماء، يكون المراد به الجلوس مقدّمة للإيماء لا الجلوس للقراءة، بقرينة حكمه عليه السّلام بجعل المرأة يدها على فرجها،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 275

و

الرجل يده على سوأته، فإنّه شاهد على صلاتهما قائمين، إذ الجالس يكون عورته مستورة بأليتيه و بالأرض، فلا يحتاج إلى وضع اليد.

ففيه: أنّه من الممكن أنّ هذا الحكم ليس من جهة الصلاة، بل من جهة الحفظ عن الناظر، لفرض عدم الأمن منه، فيكون المراد بالجلوس الجلوس للقراءة و عدم ذكر التكبيرة و القراءة، لوضوحهما، و التعرّض للإيماء لاحتياجه إلى الذكر و كونه خصيصة هذه الصلاة، فاقتصر على ذكر المختصّات و هي الجلوس و الإيماء، و اكتفى عن المشتركات بوضوحها.

و بالجملة، لا ظهور للرواية في ما ذكره، فيبقى إطلاق الصحيحة السابقة لدفع الاحتمال المذكور محكّما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 276

الثالثة لو وجد الساتر في أثناء العمل

فإمّا أن يكون الوقت ضيّقا بحيث لا يدرك الصلاة مع الستر و لو ركعة لو رفع اليد عن هذه الصلاة، و إمّا أنّه لو تركه يدرك الصلاة كلّها في الوقت، و إمّا أنّه على فرض الترك مدرك منها ركعة.

أمّا القسم الأوّل، فلا إشكال في المضيّ، غاية الأمر لو تمكّن من الستر بلا فعل مناف يبادر إلى تحصيله، و إن توقّف على الفعل المنافي أتمّ الصلاة عاريا.

و أمّا القسم الثاني، فقد يفرق بين ما إذا تمكّن من الستر في هذه الصلاة بدون مناف، فيبادر إليه و تصحّ صلاته، و ما إذا توقّف على المنافي فيجب الاستئناف.

و قد يستشكل فيه بأنّ موضوع الصلاة عاريا لا يخلو إمّا أن يكون هو الغير المتمكّن في مجموع الوقت فيلزم الحكم بالفساد في كليهما، لانكشاف عدم الأمر، بل اللازم ذلك حتّى لو تمكّن منه بعد الفراغ في بعض من الوقت يسع الصلاة، و إمّا أن يكون هو الغير المتمكّن الفعلي، فاللازم الصحّة في كليهما.

أمّا في الأوّل فلأنّ الأجزاء السابقة أتي بها

في حال العجز، و الأجزاء اللاحقة يأتي بها مستورا، و أمّا الآن المتوسّط الذي يشتغل فيه بالستر فهو عاجز عن الستر بالنسبة إليه أيضا، فيكون ساقطا، و أمّا في الثاني فصحّة الأجزاء السابقة لمكان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 277

العجز، و أمّا الأجزاء اللاحقة فهو غير متمكّن من الستر فيها، لاستلزامه إيجاد المبطل.

و الإنصاف أنّه توهّم باطل، فإنّ التمكّن و العجز إنّما يعتبران بالإضافة إلى حقيقة الصلاة، لا بالإضافة إلى خصوص الأجزاء الشخصيّة من الصلاة الشخصيّة.

و على هذا فلا بدّ من القول بالبطلان في كلتا المسألتين، أمّا في الثانية فالأجزاء السابقة و إن كانت صحيحة لمكان العجز الثابت فيها عن حقيقة الصلاة التامّة بالستر، و لكن بعد وجدان الساتر ارتفع العجز و تبدّل بالقدرة، فيصدق أنّه قادر على تلك الحقيقة.

نعم لا يصدق بالنسبة إلى شخص هذه الصلاة و أجزائها الباقية، لكن أجزاءها الباقية ليست بمصداق للصلاة، فيخرج عن موضوع الخطاب بالصلاة عاريا، و يدخل في موضوع الخطاب بالصلاة مع الساتر.

و من هنا يظهر الحال في المسألة الأولى، فإنّه و إن كان لا مانع من قبل الأجزاء السابقة المأتيّة في حال العراء، لسقوط الستر حالها، و لا من قبل الأجزاء اللاحقة، لتحقّق الستر حينها، و لكنّ الإشكال كلّه من جهة عرائه في الأثناء حينما يشتغل بالستر، فإنّه كون من أكوان الصلاة و يعتبر فيها الستر كالطهارة و الاستقبال، إذ ليس شرطا لخصوص الأفعال و الأذكار، و المفروض أنّه قادر على حقيقة الصلاة مع الستر في هذا الآن، و لا نعني بقدرته تمكّنه من إيقاع الصلاة مع الستر في هذه الآن، بل بمعنى أنّه ليس الحائل بينه و بينها سوى قدرته، و متى تحقّق للمكلّف هذه

الحالة لا يصحّ منه الصلاة عاريا.

ألا ترى أنّ العاري الذي يتوقّف ستره على مضيّ خمس دقائق للمشي إلى منزله و أخذ الثوب من محلّه و لبسه لا يصحّ منه الصلاة في هذه الخمس الدقائق، لأنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 278

قادر، إذ الحائل بينه و بين الستر ليس إلّا المقدّمة المقدورة.

و بالجملة، بعد ما كان الستر شرطا لجميع حالات الصلاة حتّى حال عدم اشتغاله بالفعل أو القول، و المفروض صدق القدرة عليه في هذا الآن بالإضافة إلى حقيقة الصلاة، كان اللازم إخلاله بالستر مع كونه معتبرا في حقّه، فاللازم البطلان في كلتا المسألتين.

فإن قلت: ما الفرق بين هذا الفرض و بين ما إذا كان عاجزا عن الساتر، و بعد ما صلّى ركعتين مثلا عاريا كساه أحد بغير اختياره، فوجد الساتر في أوّل آنات التفاته للركعتين الباقيتين، فإنّه و إن لم يكن لشي ء من دليلي الاشتراط و الإسقاط إطلاق بالنسبة إلى هذه الصورة، إلّا أنّه يمكن استفادة حكمها ببركة مجموع الدليلين.

و حينئذ فمثله يقال في مقامنا، أعني: أنّه في الأجزاء السابقة و الآن المتخلّل فاقد الساتر، لكنّه معفوّ، و في الأجزاء اللاحقة واجد الساتر، و لكنّه مستور.

قلت: الفرق واضح، فإنّ الشخص المذكور غير متمكّن من الساتر في جميع آنات الأجزاء السابقة، و متى تمكّن كان مستورا، و أمّا في المقام ففي الآن المتوسّط متمكّن و غير مستور، و قد فرضنا أنّا استفدنا من جمع الدليلين أنّ المتمكّن يشترط في صلاته الستر، و معنى تمكّنه لحقيقة الساتر أنّه ليس الواسطة إلّا قدرته، كما في الكون على السطح، لا أنّه يقدر على إيجاده في هذا الآن، و القدرة و العجز مضافان في الأدلّة إلى حقيقة الصلاة، دون

الصلاة الشخصيّة، فلا ينفع صدق عدم القدرة بالنسبة إلى هذا الكون الشخصي من هذه الصلاة الشخصيّة بعد صدق كونه قادرا على الستر بالإضافة إلى حقيقة الصلاة.

لكن هذا كلّه بحسب القاعدة الأوّلية مع قطع النظر عمّا يقتضيه القاعدة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 279

الثانوية المجعولة في خصوص باب الصلاة بقوله عليه السّلام: لا تعاد الصلاة إلخ، و أمّا بحسب مفاده فظاهر أنّه ناظر إلى الصلاة الشخصيّة، فيمكن أن يقال: إنّه و إن كان غير مستور في هذا الآن، و لكنّه ليس عن اختياره، و مثله مشمول للحديث.

فإن قلت: نحن نتكلّم قبل مضيّ هذا الآن، لوضوح أنّ الحديث بعد ما سلّمنا شموله للأثناء كما لو نسي الحمد و تذكّر في الركوع فإنّه يمكن الحكم باستفادة حكمة من الحديث، لكن نقول باختصاصه بالنسبة إلى ما مضى، فلا يشمل الأجزاء الحاضرة و لا المستقبلة، فكيف يمكن الحكم بسقوط الستر لأجل هذا الآن الذي لم يمض بعد.

و القول بأنّا نصبر حتّى يمضي ثمّ يجري عليه القاعدة، فيه ما لا يخفى، فإنّه يوجب جواز الدخول في الصلاة لو اتّفق له الساتر في أوّل الصلاة، فيجوز الشروع في تكبيرة الإحرام مع المبادرة إلى الستر.

و بالجملة، لا إشكال في أنّه لا بدّ في إجراء دليل لا تعاد من وجود صلاة أو أجزاء صلاة ماضية و اتّفق خلل غير اختياريّ حتّى يحكم بمقتضاها بعدم الإعادة لما مضى، و هنا لم يمض الآن المذكور، فلا يجري فيه القاعدة.

قلت: نعم يعتبر في إجرائها مضيّ الصلاة أو بعض من أجزائها، فلا نلتزم في المثال الذي ذكرت بإجرائها، و لكن في المقام نقول: يثبت حكومة الحديث على دليل اعتبار الستر بالنسبة إلى هذا الآن ببركة إجرائها في

الأجزاء الماضية ممّا سوى هذا الآن، فنقول: تلك الأجزاء دارت أمرها بين أن يرفع اليد عنها، لعدم إمكان التصاقها بما بقي بواسطة تخلّل هذا الآن، و بين أن لا يرفع عنها اليد و ينتفع بها للصلاة.

فقضيّة القاعدة هو الثاني، و لازمة أن لا يكون من قبل هذا الآن المتخلّل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 280

خلل كما هو واضح، و ليس مفاد القاعدة هو إثبات الصحّة للأجزاء السابقة من حيث نفسها و باعتبار الأثر التعليقي الثابت لأجزاء المركّب، أعني أنّه لو انضمّ إليه الباقي بما يعتبر فيه من الشرائط كان تامّا، كما أنّ هذا مفاد أصالة الصحّة، بل المفاد هو الصحّة الفعليّة، و حيث إنّ القاعدة دليل اجتهادي يكون مثبتها حجّة، و ليس كالأصل حتّى لا يعتنى بمثبته، فاللازم من الصحّة الفعليّة للأجزاء المتقدّمة هو الحكم بعدم اعتبار الستر لهذا الآن المتخلّل.

لا يقال: ما الفرق بين المقام و بين ما إذا نسي القراءة ثمّ تعمّد ترك سجدة واحدة، فإنّه إنّما ينفع القاعدة للحكم بالصحّة من جهة الترك السهوي للقراءة، فلا ينافيه الحكم بالبطلان من جهة الترك العمدي، ففي المقام أيضا الحكم بالصحّة لأجل الأجزاء السابقة لا ينافيه الحكم بالبطلان من جهة هذا الآن المتخلّل المفقود فيه الستر المفروض شرطيّته من الأدلّة الأوّلية.

لأنّا نقول: الفرق واضح، فإنّه في المقام تحقّق فقدان الستر في هذا الآن من غير قبل المكلّف، و الحديث ناظر إلى مثل هذه الأشياء، و هذا بخلاف ما إذا تعمّد ترك الجزء، فهذا خلل وارد على الأجزاء السابقة من قبله، و لا تعرّض للحديث لإثبات الصحّة من حيث هذه الأمور كما هو واضح.

فإن قلت: فعلى هذا يلزم عليك القول بالصحّة في صورة استلزام الستر

في الأثناء إلى فعل المنافي، فإنّ العجز عن الستر ثابت بالنسبة إلى هذه الصلاة الشخصيّة، بمعنى أنّه لا يتمكّن من حفظ سترها بلا طروّ بطلان عليها، و قد فرضتم أنّ الرواية متكفّلة للحكم بالصحّة في أمثال ذلك بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ثمّ ينكشف ببركته إسقاط الشرطيّة بحكومة الحديث بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة.

قلت: الفرق أنّ ترك الستر في هذا الفرض مستند إلى اختياره، غاية الأمر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 281

لأجل المحافظة على عدم ورود البطلان على صلاته.

و الحاصل: فرق بين عدم الستر الذي اختاره المكلّف باختياره و عمده من باب اختيار أخفّ المحذورين و هو المتحقّق في هذا الفرض الذي ذكر في السؤال، و بين عدم الستر الذي لا دخل لاختيار المكلّف في حصوله أصلا، و هو المتحقّق في الفرض المتقدّم، فإذا أجرينا القاعدة في الثاني لا يلزمنا إجراؤها في الأوّل، لمكان الفرق الواضح بينهما.

فتحصّل من مجموع ما ذكرنا أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية هو الحكم بالبطلان في أمثال الفرع المذكور، كما لو انكشفت العورة في الأثناء بواسطة الريح، ثمّ بادر إلى الستر، و كذلك أمثاله، و الالتزام بالبطلان فيها بعيد، و أمّا لو أخذنا بمقتضى الحديث كما ذكرنا ينحلّ الإشكال عن عامّة تلك الفروع، فاغتنم ذلك و استقم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 282

الرابعة اعلم أنّه قد روى شيخ الطائفة قدّس اللّٰه نفسه الزكيّة

بإسناده عن محمّد ابن أحمد بن يحيى، عن أيّوب بن نوح، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: العاري الذي ليس له ثوب إذا وجد حفيرة دخلها و يسجد فيها و يركع» «1».

و قد عرفت الروايات الواردة في باب كيفيّة صلاة العاري، فإنّها بين ما اشتمل على القيام، لكن موميا للركوع و السجود، و بين ما اشتمل

على الجلوس موميا، و بين المفصّل بين ما إذا يراه أحد فالجلوس، و بين ما إذا لم يره فالقيام، و المشهور حملوها على الأمن و عدمه، و حملوا الإطلاقين على هذا التفصيل.

و لكنّا قلنا بأنّ الظاهر هو التخيير بين الأمرين في الحالين، لكنّ القيام أفضل مع الأمن و الجلوس كذلك مع عدمه، فهذه الرواية ربما يقال: إنّه معارض معها، فإنّه إن حملناها على أنّ دخول الحفرة يوجب حصول الأمن لزم طرح

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 283

صحيحة عليّ بن جعفر الحاكمة بالإيماء، مع أنّ الفرض حملها على صورة الأمن، كما أنّه لو أخذ بتلك الصحيحة لزم طرح هذه الرواية الحاكمة بالركوع و السجود، و السند فيها أيضا معتبر و إن كان مرسلا، كما يشهد به ملاحظة جلالة أيّوب بن نوح.

و الذي تفصّى به شيخنا الأستاذ دام علاه في رفع هذا الإشكال أن يقال بتنزيل تلك الروايات على صورتي عدم وجود الناظر و وجوده، و كما أنّ الحفظ عن الناظر تارة بعدم وجوده، كذلك يكون اخرى بدخول الحفيرة، كما أنّه قد يكون بالظلمة أو الدخول في الماء أو الوحل، فالحفظ الذي يتحقّق بمثل هذه الأمور قدّمه الشارع على الحفظ الذي يكون من جهة عدم وجود موضوع الناظر، بمعنى أنّه و إن كان هذه الأمور ليست سترا صلاتيّا في حال الاختيار، لكنّ الشارع جعلها سترا كذلك في حال الاضطرار جمعا بين التحفّظ عن الناظر و بين التحفّظ على أفعال الصلاة من القيام و الركوع و السجود، فتقديم جانب الحفظ عن الناظر على رعاية هذه الأفعال إنّما يراه الشارع في صورة عدم التمكّن من ذلك، فحينئذ

يفصل بين الجلوس و القيام إن كان الرائي موجودا و إن لم يكن.

و بالجملة فليس هذا الأمن الحاصل من الدخول في الحفيرة الضيّقة داخلا في موضوع تلك الأخبار الحاكمة بالصلاة قائما موميا، لأنّ موضوعها الأمن الخاصّ، و هو الحاصل من عدم رؤية أحد، أعني عدم وجود الناظر، و خصوصا إذا أخذنا بمضمون قوله عليه السّلام: إذا كان حيث لا يراه أحد إلخ. أعني: كون المكان ذا استعداد و شأنيّة لعدم عبور أحد هناك.

فهذا وجه جمع بين تلك الأخبار و بين هذا الخبر، مضافا إلى إمكان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 284

الاستئناس له بقوله عليه السّلام في صحيحة عليّ بن جعفر: و إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم، فإنّه يمكن القول باندراج الحفيرة و نحوها في عموم كلمة «شيئا» لا أن يكون المراد به خصوص الثوب و الورق و الحشيش و أمثالها.

ثمّ إن استفيد أنّ ذكر الحفيرة من باب المثال يتعدّى إلى الفسطاط الضيّق و إلى البيت الضيّق، و كلّ ما كان شبيها بها في إمكان التستّر مع إتيان الأفعال الصلاتية كاملة، و إن لم يستفد فلا أقلّ من القول بذلك في خصوص الحفيرة.

و على كلّ حال فيتحقّق لنا ساتر اضطراري لا ينتقل مع وجوده إلى حكم صلاة العاري، و قد أفتى بذلك جمع من الأصحاب رضوان اللّٰه تعالى عليهم كما يعلم ذلك بمراجعة مفتاح الكرامة، و لا بأس به مع قوّة السند و وجود العامل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 285

الخامسة تشرع الجماعة للعراة بواسطة الدليل الخاصّ الوارد في خصوص العراة،

و لا يعارضه ما في ذيل خبر أبي البختري من قوله عليه السّلام: «فإن كانوا جماعة تباعدوا في المجالس ثمّ صلّوا كذلك فرادى» «1».

فإنّه يمكن الجمع بأنّ هذه

الخصوصيّة المستنكرة أوجبت نقصان فضل الجماعة، و النهي يكون للإرشاد إلى ذلك، أو على وجه المولويّة بتفصيل قرّر في النهي الوارد في العبادات المكروهة، و مع وجود هذا الجمع لا وجه للطرح أو الحمل على التقيّة.

و أمّا كيفيّة جماعتهم فالذي صرّحت به موثّقة إسحاق بن عمّار- «قال:

قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: قوم قطع عليهم الطريق و أخذت ثيابهم، فبقوا عراة و حضرت الصلاة، كيف يصنعون؟ فقال عليه السّلام: يتقدّمهم إمامهم فيجلس و يجلسون خلفه، فيومئ إيماء بالركوع و السجود و هم يركعون و يسجدون على وجوههم» «2»-

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 52 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 51 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 286

امتياز هذه الصلاة عن الفرادى بأنّ المأمومين يتعيّن عليهم الإتيان بالركوع و السجود، و الإمام يتعيّن عليه الإيماء بدلهما، و ليس كما في الفرادى من كون التكليف في حالي القيام و الجلوس هو الإيماء.

و بالجملة، هذه الرواية خاصّة بالنسبة إلى كلّ من روايتي القيام موميا و الجلوس كذلك، فإنّه متقيّدة بالجماعة، و هما مطلقان، كما هو الحال بالنسبة إلى عموم العلّة المنصوصة في رواية الجلوس للنهي عن السجود و الركوع بقوله عليه السّلام:

و لا يسجدان و لا يركعان فيبدو ما خلفهما.

فهذه الرواية من حيث الدلالة صريحة و غير معارضة بما ذكر، لأجل خصوصيّته و عموم معارضه، و من حيث السند ليس فيه إلّا عبيد اللّٰه بن جبلّة الواقفي و إسحاق بن عمّار الفطحي، و قد وثّقهما أهل الرجال، و بنينا في الأصول على حجّية أخبار الثقات و إن كانوا خارجين عن المذهب الحقّ.

نعم يبقى معارضتها مع ما دلّ على أنّ

العاري مع عدم الأمن من المطّلع يصلّي قائما، فإنّ النسبة بينه و بينها عموم و خصوص من وجه، فيتعارضان في مورد التصادق، أعني: العاري المصلّي جماعة مع عدم الأمن، فمقتضى الموثّقة أنّه يجلس، سواء كان إماما أم مأموما، و مقتضى ذلك الدليل أنّه يقوم كذلك.

لكن يمكن أن يقال: إنّ الموثّقة ليس لها إطلاق بالنسبة إلى حال عدم الأمن، و أنّ المفروض فيها أنّه ليس في البين غير الإمام و المأمومين، فحكمت في هذا الموضوع بتقدّم الإمام و جلوسهم جميعا و إيماء الإمام دون من خلفه، حتّى أنّه يمكن أن يقال: إنّها ليست بناظرة إلى حال تعدّد الصفوف أيضا، فلا يستفاد منها بالنسبة إلى حال عدم الأمن نفي و لا إثبات، فينحصر معارضها في ما دلّ على تعيّن الإيماء في حال الصلاة جلوسا، و قد عرفت كونها خاصّة بالنسبة إليه مطلقا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 287

السادسة هل يجوز للعاري البدار إلى الصلاة بمحض دخول الوقت

و لو علم بانقطاع العذر في أثنائه، فضلا عمّا لو شكّ أو ظنّ، أو لا يجوز له إلّا مع اليأس عن زوال العذر إلى آخر الوقت، أو يفصّل بين من علم بالانقطاع فيجب عليه الصبر، و بين غيره فيجوز له البدار؟

مبنى الوجه الثاني أنّ اشتراط الستر لم يعلم سقوطه إلّا بالنسبة إلى من استوعب عذره مجموع الوقت، فغيره مشمول لدليل الشرطيّة، فلو صلّى عاريا ثمّ وجد الساتر و لو في آخر الوقت يجب عليه الإعادة، و هذا الوجه مدفوع بإطلاق أدلّة صلاة العاري خصوصا مع قوله فيها: «و حضرت الصلاة» الظاهر في حضور وقتها بدخول أوّله.

و مبنى الأخير دعوى انصراف أدلّة العاري إلى غير من علم بوجدان الساتر إلى آخر الوقت، و لكنّه يشمل الشاكّ و الظانّ و العالم

بالعدم.

و الحقّ هو الوجه الأوّل، لإطلاق أدلّة العاري بحسب المادّة و إن كان يشكّ في إطلاقها بحسب الهيئة في بعض الموارد، و نقطع بعدمه كذلك في بعض آخر.

و تفصيل ذلك أنّه إذا شرع في الصلاة ثمّ وجد فإمّا أن يكون الوجدان بعد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 288

الفراغ، أو في أثناء الصلاة، و في الأخير قد يحتاج لبسه إلى المنافي، و قد لا يحتاج، و على كلّ منهما إمّا يكون في سعة الوقت أو ضيقه، بحيث لو رفع اليد لا يدرك إلّا ركعة واحدة مع الساتر.

ففي الصورة الاولى أعني: ما إذا وجده بعد الفراغ لا إشكال في أنّه مشمول لإطلاق الهيئة أيضا مع يأسه عن الوجدان إلى آخر الوقت، بل و مع رجائه له، و أمّا مع علمه بالوجدان في آخره، فإطلاق الهيئة و إن سلّمنا كونه مشكوكا، لكنّا نتمسّك بإطلاق المادّة.

كما سيتّضح وجهه عند التمسّك به مع القطع بعدم إطلاق المادّة في الصورة الثانية، أعني ما إذا وجده في الأثناء بجميع أقسامها، فإنّا نفهم من الأدلّة المذكورة أنّ هذه القطعة الماضية في حال عدم وجدان الساتر عاريا لم يشترط فيها الساتر و إن كانت هيئة الأمر بالصلاة عاريا الواقعة في الأدلّة غير شاملة له، لأنّها متوجّهة إلى الصلاة التامّة، و لكن بإطلاق المادّة يستكشف أنّه لا فرق في سقوط شرطيّة الستر بين العاري من أوّل الصلاة إلى آخره، و بين العاري إلى وسطه.

ثمّ إن أمكن ضمّ القطعة الباقية من الصلاة إلى الماضية بقاعدة شرعيّة أو عقليّة حكم بصحّة الصلاة بإطلاق المادّتين، فالأوّل أعني: إمكان الضمّ بالقاعدة الشرعيّة كما إذا كان التستّر غير محتاج إلى المنافي و إن كان في السعة، فإنّه قد مرّ

جريان قاعدة لا تعاد في حقّه.

الثاني، أعني: إمكان الضمّ بالقاعدة العقليّة، كما إذا كان التستّر محتاجا إلى المنافي، و لكن دار الأمر بين تفويت الوقت الاختياري و تبديله بالاضطراري أعني إدراك الركعة مع تحصيل الساتر، و بين تفويت الساتر مع إدراك الوقت الاختياري أعني: الأربع ركعات قبل آخر الوقت، فإنّه إن أمكن إحراز أهميّة الوقت الاختياري من الستر تعيّن إتمام الصلاة عاريا، كما أنّه في صورة العكس يتعيّن القطع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 289

و الإعادة متستّرا، و إن لم يحرز شي ء من الأمرين- كما لعلّه الظاهر- كان المكلّف بالخيار، لأنّه من المتزاحمين، حيث إنّ مطلوبيّة كلّ من الأمرين في حدّ ذاته لو لا المزاحمة بالآخر محرز بإطلاق مادّة دليله، و لا يعلم الأهميّة، فيكون مخيّرا في امتثال أيّهما شاء بحكم العقل.

و بالجملة، ففي هاتين الصورتين تكون الصلاة ملفّقة من قطعة يستفاد حكمها من إطلاق مادّة دليل العاري، و من قطعة يستفاد حكمها من لا تعاد بضميمة إطلاق مادّة دليل الستر، أو من إطلاق مادّة دليل الوقت بضميمة عدم إحراز الأهمّية أو إحراز أهمّية الوقت.

فيكون المقام نظير الصلاة الواقعة في السفينة بعضها في الحضر قبل العبور عن محلّ الترخّص، و بعضها في السفر بعد عبوره، كما إذا عبر عنه عند وصوله إلى التشهّد في الركعة الثانية، فإنّ هذه الصلاة غير مشمولة لشي ء من إطلاق هيئة الخطابين، أعني: خطاب الحاضر بأربع ركعات، و خطاب المسافر بركعتين، و لكنّه يعلم حكمها بإطلاق مادّتيهما.

و كذا الصلاة الواقعة عند آخر الوقت في ما إذا بقي منه بمقدار نصف ركعة مثلا، ثمّ وقعت تتمّتها بعد انقضاء الوقت، فإنّها أيضا غير مشمولة لشي ء من إطلاق هيئة خطاب المؤدّي بالصلاة في

الوقت و لو ركعة، و خطاب القاضي بالصلاة في خارج الوقت، و لكنّه يعلم حكمها من إطلاق المادّتين، و هكذا الحال في مقامنا.

و إن لم يمكن ضمّ البقيّة، كما إذا كان في السعة مع احتياج التستّر إلى فعل المنافي فحينئذ لا محيص عن البطلان، لعدم إمكان التتميم بشي ء من القواعد الشرعيّة أو العقليّة، و إلّا فلا محذور من قبل القطعة المتقدّمة، فيعلم من إطلاق مادّة صلاة العاري أنّها ساقطة الشرط لمكان العراء و إن كان الهيئة لا يمكن شمولها، إذ لا يصدر الأمر من العالم بالعواقب، مع أنّه يعلم بأنّه لا بدّ من رفع اليد قبل الإتمام.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 290

السابعة لو اضطرّ إلى لبس ما يمنع عن الصلاة
اشارة

فيه فللمسألة صورتان:

الاولى: أن يكون المضطرّ إليه جنسا واحدا، كما لو اضطرّ إلى لبس النجس أو المغصوب، أو ما لا يؤكل أو نحو ذلك، سواء كان الموجود منه فردين أو أكثر أو فردا واحدا، و لا إشكال في هذه الصورة في دفع اضطراره بلبسه و جواز صلاته فيه، فإنّ الصلاة لا تترك بحال، و المفروض أنّه خائف على نفسه لو نزعه.

الثانية: أن يكون من الجنس المتعدّد، كأن يكون يخاف على نفسه من التلف لو كان عاريا و كان لباسه منحصرا في فردين أحدهما نجس و الآخر مغصوب، و هذه أيضا لها صورتان:

الاولى: أن يكون في كلّ من الطرفين جهة المنع واحدة.

و الثانية: أن يكون في أحدهما واحدة و في الآخر متعدّدة، و في الصورة الأولى تارة يكون جهة المنع في كلّ منهما ممحّضة في الوضع، كأن يدور الأمر بين لبس النجس أو لبس ما لا يؤكل، و اخرى يكون في كلّ منهما ممحّضة في الحرمة النفسيّة كأن يدور بين المغصوب و بين

زيّ الرجال للنساء أو بالعكس، و ثالثة يكون في أحدهما ممحّضة في الوضع، و في الآخر في الحرمة النفسيّة، كأن يدور بين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 291

المغصوب و النجس.

و في الثانية تارة يكون ذو الجهة الواحدة ذا منع وضعي فقط، كما إذا دار الأمر بين الحرير و النجس، و اخرى يكون ذا منع نفسي كذلك، كما لو دار بين الحرير و المغصوب، ففي كلا قسمي الصورة الثانية الثاني أعني: ما إذا كان أحدهما ذا جهة واحدة و الآخر ذا جهتين قد يقال بتعيّن اختيار ذي الجهة الواحدة، سواء كان المنع فيه وضعيّا أم نفسيّا.

أمّا الأوّل فلأنّه لا محيص له عن إتيان الصلاة المقرونة بالمانع، و الفرق أنّه في أحدهما يبتلى بالمبغوض النفسي أيضا، و في الآخر يستريح من ذلك، فيتعيّن تركه، اللّٰهمّ إلّا أن أحرز من الخارج أهميّة جانب المنع الوضعي في ذلك الطرف المتّحد الجهة، بحيث يقوي على كلتا جهتي الطرف الآخر.

و أمّا الثاني فلأنّه لا محيص له عن ارتكاب المبغوض النفسي، و يبقى أنّه لو لبس أحدهما فقد أتى بالصلاة التامّة، و لو لبس الآخر فقد أخلّ بها.

لا يقال: بل معه أيضا أخلّ بها بناء على المنع من اجتماع الأمر و النهي.

لأنّا نقول: إنّما تخلّ لو كان المنع فعليّا حيث إنّ المنع هنا عقلي، و القدر الذي يحكم بمانعيّته العقل هو النهي الفعلي الموجب لاستحقاق العقوبة، فلو فرض سقوط النهي عن درجة الفعليّة بواسطة التزاحم فلا مانع عن المقرّبية في نفس ذوات الأفعال الصلاتية.

فتحقّق أنّ الأمر يدور بين ترك الصلاة التامّة مع الابتلاء بالمبغوض الذاتي للمولى، و بين إتيان المبغوض الذاتي بدون ابتلاء بترك الصلاة التامّة فلا اضطرار بالنسبة إلى ترك

الصلاة التامّة.

نعم لو فرض العلم من الخارج بأهمّية المنع النفسي في الطرف المتّحد الجهة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 292

بحيث يرجّح على كلتا جهتي ذلك الطرف الآخر كان المتعيّن دفع الاضطرار بالطرف الآخر، هذا مع تعدّد جهة المنع في أحدهما و وحدته في الآخر، كما هو الصورة الثالثة.

و لو كانت في كلّ منهما جهة واحدة كما هو الصورة الأولى بأقسامه الثلاثة المتقدّمة فالحكم دائر مدار إحراز الأهمّية، فإن أحرزت فهو، و إلّا يتخيّر، هذا ما ربما يقال في حكم هاتين الصورتين.

و الصواب أن يقال: لا أثر للوحدة و التعدّد في نظر العقل، إذ ربّ واحد لا يقاومه عشرة، و كذا لا أثر للاختلاف من حيث الوضع و التكليف، فإنّ الوضع أيضا ينتهي إلى المطلوب النفسي، أعني المركّب الصلاتي المشتمل على جميع ما يعتبر فيه جزءا و قيدا، وجوديّا و عدميّا، فالأمر يدور بين فوت هذا المطلوب النفسي الذي يكون مبغوضا نفسيّا و بين مبغوض نفسي آخر و هو التصرّف الغصبي مثلا.

و إن شئت توضيح الحال على وجه الكلّية في جميع صور الدوران بين المطلوبين النفسيين للمولى فاعلم أنّه لا إشكال في ما إذا كان المطلوب في أحدهما بحسب المادّة مقيّدة بغير حال الإلجاء و الاضطرار بحيث كان الدليل منوّعا للمكلّف إلى المختار و الملجإ، كالدليل المنوّع إلى المسافر و الحاضر و كان الآخر مطلقا بحسبها، فإنّه حينئذ و إن كان الإلجاء ابتداء لم يتحقّق إلّا بالنسبة إلى الجامع أعني أحد الأمرين دون شخص أحدهما بحيث يتمكّن من دفعه بأيّهما شاء، و لكنّه بعد ملاحظة النهي المطلق المولويّ الموجود في هذه الحالة في أحدهما حسب إطلاق المادّة يصير مقطوع اليد عن هذا الطرف، و هذا

مع ضميمة اضطراره إلى ارتكاب أحدهما يحقّق إلجائه إلى ذاك الطرف الآخر، و قد فرضنا أنّه في موضوع الملجإ ليس في ذاك الطرف مبغوضيّة أصلا، فينحصر بحكم العقل بعد هذه الملاحظة دفع

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 293

اضطراره بهذا الطرف، لسلامته عن تفويت غرض المولى، بخلاف العكس.

كما أنّه لو كان الحال في كلّ من الطرفين من حيث إطلاق المادّة و تقييدها على نسق واحد فهنا يدور الأمر مدار إحراز الأهميّة و عدمه.

و لكن لا بدّ هنا من دفع توهّم ربما يتوهّم في المقام و هو أنّه بعد ورود حديث رفع ما اضطرّوا إليه في الشريعة، و هو عامّ للوضعيّات و النفسيّات، فلا يبقى لنا إطلاق مادّة في شي ء من المطلوبات الشرعيّة، بل كلّها متقيّدة و متنوّعة حسب تنوّع المكلّف إلى المسافر و الحاضر.

و لكن هذا التوهّم مدفوع بأنّ اللازم ممّا ذكر من التنوّع الالتزام بما لم يلتزموا به، و هو أنّه لا شكّ و لا شبهة في أنّه لو أكره الظالم صاحب الدار على بيع الدار و أوعده على تركه بكلمة فحش في الملإ كان حكم الإكراه جاريا على بيعه الصادر حينئذ منه لحفظ عرضه، و هكذا الحال في سائر المباحات التي لها آثار وضعيّة كالصلح و الإجارة و غيرها.

و هذا بخلاف الحال في المحرّمات و الواجبات، فلو أكرهه على ارتكاب شرب الخمر أو إتيان الزنا و أوعده على تركه بكلمة فحش في الملإ لما جاز له ذلك، و هذا بخلاف ما إذا أوعده على الترك بإراقة دمه.

و حينئذ فالذي يظهر من ملاحظة هذا التسلّم أنّ الشارع لاحظ في جميع الموارد قاعدة المزاحمة بين الأغراض الواقعيّة مع الأغراض الناشئة من قبل عناوين الإكراه و

الاضطرار، لا أنّه قيّد مطلوباته الذاتيّة الواقعيّة بعدم هذه العناوين و ليس له إعراض من تلك في صورة وجود أحدهما.

فانقدح أنّه لا ينثلم من قبل حديث الرفع إطلاق مادّة المطلوبات الشرعيّة.

و لا يتوهّم أنّ هذا يوجب التقييد في الحديث و رفع اليد عن إطلاق الإكراه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 294

و الاضطرار، لإمكان أن يقال: إنّه تخصّص لا تخصيص.

ألا ترى أنّه لو أكرهه قاهر على شرب الخمر و أوعده على الترك بكلمة فحش و أكرهه قاهر آخر أقوى على ترك الشرب و أوعده على الفعل بعذاب النار فهو عرفا غير مكره على الفعل، بل مضطرّ و مكره على الترك.

ثمّ في قبال التوهّم المذكور توهّم آخر في خصوص باب الصلاة بالنسبة إلى ما عدا مطلق الطهور من شرائطها و موانعها، فيتوهّم أنّ المكلّف متنوّع إلى المختار و الملجإ، فالشرطيّة و المانعيّة الواقعيّتان مخصوصتان بالأوّل دون الثاني، فمتى دار أمر العبد بين التصرّف الغصبي و بين فقدان صلاته لواحد من شروطها أو وجدانها لواحد من موانعها فهذا من صغريات القاعدة التي أشرنا إليها في أوّل الكلام من تعيّن دفع اضطراره باختيار الصلاة الفاقدة للشرط أو المقرونة بالمانع، لإطلاق المادّة في جانب الغصب و تقييدها بعدم الإلجاء في جانب الصلاة التامّة.

و لكنّ الحقّ خلاف هذا التوهّم أيضا، و ذلك لأنّ التكليف و إن كان منوّعا حسب الحالتين، إلّا أنّه ليس من قبيل التنوّع إلى المسافر و الحاضر بحيث جاز للمكلّف تحصيل أحد العنوانين شاء في حقّ نفسه، كما هو الحال في المسافر و الحاضر، بل ليس له هنا تحصيل الاضطرار اختيارا، كأن يذهب إلى مكان يضطرّ بدخوله إلى الصلاة الناقصة.

فيعلم من هذا أنّ الصلاة الناقصة ليست موازية

مع التامّة في المصلحة، بل أنقص، و ما به التفاوت أيضا يكون بحدّ لزوم الاستيفاء.

فانقدح أنّ المادّة من كلا الطرفين أعني: من طرف الصلاة التامّة و من قبل المبغوض النفسي الآخر كالغصب و نحوه مطلقة لا مجال للتقييد بالإلجاء و الاضطرار في شي ء منهما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 295

دوران الأمر بين ما له البدل و ما ليس له البدل

إذا عرفت ذلك فنقول: لو أحرز الأهمية من أحد الجانبين فاللازم دفع الاضطرار بالطرف الآخر، و لو لم يعلم أمكن أن يقال بلزوم دفعه باختيار الصلاة الناقصة، فإنّ الأمر دائر بين أحد مبغوضين ذاتيّين للمولى، أحدهما يكون له بدل على تقدير الارتكاب ينجبر به قلب المولى في الجملة، و الآخر ليس له بدل كذلك.

توضيح المقام أنّه لا إشكال مع مساواة المبغوضين في درجة المبغوضيّة عند المولى في كون المتعيّن اختيار مخالفة ما كان له بدل، كما أنّه لا شبهة مع كون مقدار التفاضل بين البدل و المبدل أشدّ اهتماما عند المولى من عدم وقوع المبغوض الآخر في تعيّن اختيار ما ليس له البدل.

إنّما الكلام مع اشتباه الحال و عدم معلوميّة أحد من الأمرين، فالذي رجّحه الأستاذ دام ظلّه أنّه يتعيّن حينئذ اختيار ما له البدل، لأنّ عدم البدل بالنسبة إلى الطرف الآخر مرجّح في حدّ ذاته لو لا أهمّية الآخر، و المرجّح إذا كان في أحد المتزاحمين معلوما بعنوانه و لم يعلم في الجانب الآخر كذلك و إن كان محتملا بنحو الإجمال كان كافيا في الترجيح.

ألا ترى أنّه لو علم في أحد الغريقين أنّه عالم و لم يعلم حال الآخر و أنّه جاهل أو عالم أو أعلم، فالعقل يحكم بتعيّن إنقاذ معلوم العالميّة؟

فمقامنا أيضا من هذا القبيل، فإنّ عدم وجود البدل للمبغوض في مقابل وجوده

للمبغوض الآخر بنفسه لو لا الأهمّية في الجانب الآخر مرجّح ذاتي، فإذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 296

صار معلوما في أحد الجانبين يحكم العقل بلزوم مراعاته، و لا ينفع احتمال الأهميّة في الجانب الآخر.

و حينئذ فنقول: إذا قال الشارع: لا تغصب، و لم يجعل له على تقدير الإلجاء بفعله بدلا، و قال أيضا: لا تصلّ في النجس، لكن قال: عند الإلجاء يكون تكليفك الصلاة في النجس و تقوم هي مقام الصلاة في الطاهر، و دار أمر المكلّف بين أن يرتكب الغصب و يدرك الصلاة مع طهارة الثوب و بين أن يجتنب الغصب و ترك الصلاة مع طهارة الثوب و لكن يأتي بها في الثوب النجس، فالعقل يكشف كشفا قطعيّا بأنّ المولى جعل في حقّه البدل، أعني أنّه يمنعه من ارتكاب الغصب حتّى يصير ملجأ إلى الصلاة في النجس، فيصير البدل في حقّه مجعولا بدليله بعد هذا المنع.

و من هنا تبيّن الحال في مسألة انحصار ماء الوضوء في المغصوب، فإنّ الأمر دائر بين ترك الصلاة مع الطهارة المائيّة، و بين إتيان الغصب، و لمّا علم من الخارج أهمّية الأوّل عند الشارع استكشفنا كشفا قطعيّا بأنّ الشارع يمنعه من ارتكابه، و بعد هذا المنع يندرج المكلّف في موضوع فاقد الماء.

و ينقدح ممّا ذكرنا أيضا حال فرع آخر، و هو ما إذا لم يضطرّ إلى اللبس، و تمكّن من كونه عاريا، و لكنّه اضطرّ إليه من جهة الصلاة و كان اللباس منحصرا في ما يمنع عن الصلاة فيه، فإنّه إن كان المنع في هذا اللباس تكليفيّا تعيّن الصلاة عاريا بالبيان المتقدّم، فإنّ مبغوضيّة الغصب لا بدل لها، و مبغوضيّة ترك الصلاة متستّرا يكون لها بدل، فيستكشف العقل

كشفا قطعيّا عن أنّ المولى جعل في حقّ هذا المكلّف الذي دار أمره بين هذين المحذورين بدلا، بمعنى أنّه منعه عن ارتكاب الغصب حتّى يصير ملجأ إلى الصلاة بلا لباس و عاريا، فيكون داخلا في موضوع من لم يصب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 297

شيئا يستر به عورته فيشمله حكمه.

و إن كان المنع فيه وضعيّا صرفا فالأمر دائر بين الصلاة مع المانع، و بين الصلاة بلا ستر و عاريا، و كلّ منهما ارتكبه المكلّف يكون موافقة لتكليف بدلي، فإنّ الصلاة مع المانع بدل للصلاة بدونه، و الصلاة عاريا بدل للصلاة متستّرا، فلا ترجيح في البين، و معلوم أنّ الشارع لم يرض في حقّه بترك الصلاة رأسا، فيستكشف من ذلك كشفا قطعيّا أنّه جعل في حقّه أحد الأمرين، إمّا الصلاة بلا شرط، و إمّا مع المانع.

و لو اشتبه المحرّم التكليفي بالمحلّل كذلك كالمغصوب بالمباح و لم يكن لباس آخر فهل المتعيّن عليه الصلاة عاريا للمحافظة على عدم الوقوع في المخالفة الاحتماليّة للنهي عن الغصب، أو الصلاة في أحد الثوبين لتحصيل الموافقة الاحتماليّة لكلّ من النهي المذكور و الأمر بالصلاة مع التستّر؟

و الفرق بين هذا و السابق أنّ الدوران هناك كان واقعا بين واقع التكليفين في مرحلة الامتثال، و أمّا هنا فلا مزاحمة و دوران بين الواقعين، و لكن جهل المكلّف بالموضوعين تفصيلا أوجب عدم إمكان جمعه بين الموافقة القطعيّة لكليهما، و بعبارة أخرى الدوران هنا إنّما هو في المقدّمة العلميّة لكلّ من التكليفين، فلا يمكن الإتيان بمقدّمتيهما معا.

فهل يوجب ما ذكرنا في صورة الدوران بين نفس الواقعين من ترجيح ما ليس له البدل في هذه الصورة أيضا ترجيح جانبه، فيترك في المثال جميع الأطراف حفظا

لعدم الوقوع في مخالفته و يصلّي عاريا، لاستكشاف جعل البدل في حقّه شرعا، أو أنّ الأمر هنا ليس على ذلك المنوال، بل العقل لا يرى فرقا بين صلاته في أحد الثوبين حتّى يكون قد أحرز موافقة أحد التكليفين قطعا و موافقة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 298

الآخر احتمالا، لأنّه إن كان الثوب الذي صلّى فيه مباحا واقعا فقد وافق كليهما، و إن كان مغصوبا واقعا فقد وافق أمر الصلاة و خالف نهي الغصب، و بين أن يترك كلا اللباسين و يصلّي عريانا حتّى يكون قد أحرز الموافقة لأحدهما قطعا و المخالفة للآخر كذلك، و لا يرى ترجيحا للثاني حتّى يوجب استكشافه كشفا قطعيّا عن أنّ المولى جعل البدل في حقّه، و ما دام لم يستكشف ذلك فلا ينفع الصلاة عاريا، لأنّ جعلها بيد الشارع دون العقل كما هو واضح.

ففي المسائل المتقدّمة كان الترجيح الذي حكم به العقل طريقا قطعيّا لاستكشافه من جعل البدل الشرعي، و أمّا هنا فحيث لا ترجيح، و بالفرض أنّ المكلّف غير ملجأ إلى العريانيّة، لأنّه واجد الثوب، غاية الأمر لا يعرفه، فلا دليل على تبدّل تكليفه إلى الصلاة عريانا، بل يختار أحد الثوبين و يصلّي فيه و يترك الآخر، هذا من غير فرق بين سعة الوقت و ضيقه.

و أمّا لو اشتبه المحرّم الوضعي الصرف بالمحلّل كذلك، كما لو انحصر اللباس في ثوبين أحدهما من المأكول و الآخر من غيره و اشتبها فلا إشكال في وسعة الوقت في أنّه واجد الثوب الصحيح و قادر على الصلاة فيه أيضا بالتكرار، فيتعيّن عليه ذلك.

إنّما الكلام في صورة الضيق إلّا عن صلاة واحدة فهنا أيضا يجري الكلام في المسألة المتقدّمة، فإنّه إن صلّى في

أحد الثوبين احتمل أنّه أتى بالصلاة التامّة بجميع قيوده و إن احتمل أنّه قد أخلّ ببعضها أيضا، و لكن إن ترك كليهما و أتى بالصلاة عريانا، فإنّه قد خالف الصلاة التامّة قطعا، فلا وجه لاستكشاف تبدّل التكليف في حقّه مع كونه واجدا للثوب الصحيح، غاية الأمر أنّه جاهله، فالمتعيّن أن يصلّي في أحدهما، لا عاريا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 299

و قد تبيّن ممّا ذكرنا حال ما لو اشتبه المحرّم التكليفي و الوضعي كليهما بالمحلّل كذلك كاشتباه الحرير بما ليس حرير، فإنّ حاله حال اشتباه المغصوب بغيره.

و لو كان المشكوك مشكوكا بالشبهة البدويّة و لم يكن لباس آخر غيره ففيه أيضا هذه الأقسام الثلاثة أعني أنّه تارة يكون المشكوك هو الحرمة الصرفة و اخرى الوضع الصرف و ثالثة التكليف و الوضع.

فإن كان الأوّل ارتفع محذور حرمته بأصالة البراءة، فيرتفع محذور مانعيّته الوضعيّة أيضا بطريق القطع، لأنّه تابع لتنجيز الحرمة التكليفيّة، لا للحرمة الواقعيّة و إن لم يكن منجّزة.

و إن كان الثاني بني على الأصل في كلّي مشكوك المانعيّة بالشبهة الموضوعيّة، فإن قلنا فيه بالبراءة فيجوز الصلاة فيه، بل تجب، و إن قلنا بالاشتغال فسيجي ء الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالى.

و إن كان الثالث فإن كان المانعيّة الوضعيّة في عرض الحرمة التكليفيّة كان الحكم فيه على المبنيين المشار إليهما، لأنّه مشكوك المانعيّة بالشبهة الموضوعيّة.

و إن كانت في طولها و لكنّها تابعة لواقعها، لا لها بوصف الفعليّة و التنجّز جازت الصلاة فيه على كلا المبنيين المذكورين بواسطة إحراز الحلّية الظاهريّة الشرعيّة فيه بأصالة الحلّ، فيخرج عن الحرام تعبّدا، و المفروض أنّ المانعيّة كانت من آثار حرمته، فلا مانع من جهة الحرمة التكليفيّة و لا الوضعيّة.

و إن كانت

في طولها و تابعة لها بوصف الفعليّة و التنجّز جازت الصلاة أيضا على كليهما، بل وجبت، لكنّ الفرق أنّ ارتفاع المانعيّة هناك كان بالأصل الموضوعي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 300

الشرعي، أعني: أصالة الحلّ، و لكن هنا يكون ارتفاعا قطعيّا، لأنّ الحرمة ليست منجّزة، و قد فرض أنّ المانعيّة كانت من آثارها بوصف التنجّز.

هذا تمام الكلام في صورة اشتباه اللباس بالممنوع، سواء كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي أم بدوية بناء على ما هو الحقّ من عدم تقييد في الستر المعتبر في الصلاة من قبل الموانع، بل الموانع اعتبرت في عرض اعتبار الستر، فالصلاة مع أحدها واجدة للستر المعتبر، غاية الأمر أنّها واجدة للمانع أيضا.

و أمّا بناء على خلاف التحقيق الذي أشرنا إليه سابقا من أنّه يسري من قبل الموانع قيد في الستر المعتبر فيكون الصلاة مع أحدها مختلّة من جهتين، من جهة فقد الستر المقيّد بفقد قيده، و من جهة وجود المانع، فلا إشكال بناء على هذا المبنى مع تبيّن الحال و انحصار اللباس في المبنيين المانعيّة في تعيّن الصلاة عاريا، لأنّه غير قادر على الستر المعتبر، و دليل المانعيّة أيضا يمنعه عن هذا الثوب، فيتعيّن عليه الصلاة عاريا قهرا، هذا مع تبيّن الحال.

و أمّا مع الاشتباه فإن كان بالشبهة المحصورة و كان الوقت متّسعا تعيّن عليه التكرار، لأنّه واجد للستر الصحيح و قادر على إحرازه مع عدم المانع بواسطة التكرار كما هو واضح.

و إن كان ضيّقا لا يسع إلّا لصلاة واحدة فالحال فيه كما تقدّم في هذا الفرع بناء على المبنى الآخر، أعني عدم التقييد في الستر، بمعنى أنّه إن صلّى في أحد هذين اللباسين يحتمل أنّه وافق كلا القيدين، قيد الستر و

قيد الصلاة، لأنّه يحتمل أن يكون هو الثوب الخالي عن المانع، و لو تركهما و صلّى عريانا فقد فوّت أحد القيدين قطعا و أدرك الآخر كذلك، و لا وجه للترجيح، فلا طريق إلى استكشاف جعل البدل أعني: الصلاة عريانا في حقّه، بل يتعيّن عليه أن يصلّي في أحدهما.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 301

و إن كان الاشتباه بنحو الشبهة البدويّة فلا إشكال مع كون المشكوك هو الحرمة التكليفيّة الصرفة، لأنّها مرتفعة الفعليّة بالبراءة، و المانعيّة أيضا مرتفعة قطعا بارتفاع الفعليّة.

كما لا كلام أيضا مع كونه الحرمة المستتبعة للوضع، إمّا بذاتها و إمّا بوصف فعليّتها، كما في الحرير، فإنّه على الأوّل يرتفع المانعيّة بالأصل الشرعي و هو أصالة الحلّ، و على الثاني بالقطع بواسطة ارتفاع وصف الفعليّة كما تقدّم.

و إنّما الكلام في ما لو كان المشكوك هو الوضع وحده بدون التكليف أو معه، لكن في عرضه و في قباله، و لا إشكال هاهنا أيضا على البراءة في الشبهة الموضوعيّة للمانع، فإنّه يصلّي في هذا المشكوك، فإنّه من حيث المانع محكوم بالبراءة، و من حيث الشرط أعني الستر المقيّد يكون شاكّا في القدرة، و مقتضى القاعدة فيه الاشتغال، فلا يجوز الصلاة عريانا.

و أمّا لو بنينا على الاشتغال في الشبهة المذكورة تعيّن عليه الصلاة فيه، لا عاريا، فإنّه إن صلّى في هذا المشكوك يحتمل أن يكون قد أدرك كلا القيدين، قيد الستر و قيد الصلاة و إن كان يحتمل أنّه فوّتهما معا، و إن صلّى عاريا يدرك أحدهما قطعا، و يجعل الآخر كذلك، فلا طريق إلى استكشاف جعل البدل في حقّه، أعني: الصلاة عاريا.

و من هنا يظهر الحال بناء على مبنى عدم التقييد، و بالجملة، فحاله حال أحد

أطراف الشبهة عند عدم وسعة الوقت للتكرار.

و لكنّ الحقّ على كلا المبنيين أعني: التقييد و عدمه مع البناء على الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة للمانع هو الاحتياط بإتيان صلاتين، إحداهما عاريا و الأخرى مع المشكوك في سعة الوقت.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 302

و الفرق بينه و بين أحد الأطراف في الشبهة المحصورة أنّه هناك واجد للثوب الصحيح، غاية الأمر أنّه جاهله، فليس موضوعا للصلاة عاريا إلّا بجعل الشارع، و لا طريق إلى استكشافه، و أمّا هنا فيحتمل أنّه كان مكلّفا بالصلاة عاريا بناء على التقييد و كون الثوب ممنوعا واقعا، و يحتمل أنّه كان واجدا لقيدي الستر و الصلاة، فيحتاط من أجل كليهما، بإتيان الصلاتين، هذا بناء على التقييد.

و أمّا بناء على عدمه الذي قلنا في صورة التبيّن و معلوميّة كونه ممنوعا بالتخيير بين الصلاة فيه و عريانا، ففي المشكوك لا بدّ له من الاحتياط أيضا، أمّا عريانا فلأجل احتياط المانع، و أمّا مع اللباس المشكوك فلأجل احتياط الشرط.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 303

البحث الرابع في مكان المصلّي

اشارة

و فيه مباحث:

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 305

[البحث] الأوّل لا يعتبر في مكان المصلّي إلّا عدم كونه مغصوبا للعالم بغصبيّته،

المختار، سواء كان غاصبا أم غيره.

و مبنى المسألة إن كان هو المسألة الأصوليّة أعني: جواز اجتماع الأمر و النهي مع تعدّد الجهة و عدم الجواز، فقد استوفينا الكلام في المبنى في الأصول و اخترنا الجواز.

كما أنّ الفروع المتفرّعة على كلّ من القولين أيضا ممّا لا يكاد يخفى، فإنّه على الجواز لا إشكال في صحّة الصلاة مع العلم و الاختيار، فضلا عمّا كان معذورا، غاية الأمر أنّه عصى و أطاع من جهتين، كما أنّه بناء على القول الآخر لا بدّ من التفرقة بين صورتي العصيان و المعذوريّة، فيخصّ البطلان بالأولى دون الثانية، فلا مانعيّة فيها واقعا و إن انكشف بعد العمل كونه مغصوبا، فإنّ المانعيّة ممحّضة في الجهة العقليّة أعني: عدم إمكان كون الحركة الواحدة مقرّبا و مبعّدا للعبد مع اجتماع الشرائط الشرعيّة في العمل بتمامها، فإذا ارتفعت تلك الجهة بواسطة المعذوريّة ارتفع المانع عن الصحّة واقعا، فكشف الخلاف في الطريق الظاهري بعد العمل غير مضرّ بالصحّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 306

نعم هذا بناء على ما قلنا من تمحّض مبنى المسألة الفقهيّة في المسألة الأصوليّة، كما هو المستفاد من الفروع الدائرة بين مشايخنا في هذه الأعصار.

و أمّا لو احتملنا ابتناء المسألة على الجهة الشرعيّة إمّا بأن احتملنا أن يكون الإجماع الذي ادّعوه في هذه المسألة شرعيّا، لا مبنيّا على استناد المجمعين إلى المسألة العقليّة، و إمّا بأن قطعنا بكونه شرعيّا، و لكن قلنا: إنّ المتيقّن منه صورة تنجّز الحرمة، ففي هذه الصورة تكون المانعيّة شرعيّة، كما احتملناه في مانعيّة الحرير، فيكون المتحقّق في الحرمة الغير المنجّزة صرف الاحتمال.

فاللازم حينئذ ابتناء المسألة من حيث جواز الدخول ابتداء

في الصلاة مع مشكوكيّة المكان و عدم أصل دالّ على الحلّ على القولين في مسألة الدوران بين الأقلّ و الأكثر، فمن قال هناك بالاشتغال فيجب عليه أن يفصّل في هذا المقام بين الصلاة و بين سائر التصرّفات من الأكل و النوم و نحوهما، فيجوز هذه التصرّفات في هذا المكان، و أمّا الصلاة فلا بدّ أن توقع في خارجه.

و من حيث كشف الخلاف بعد الفراغ عن العمل بعد القول بالاحتياط، لكن جاز الدخول بأصالة الحلّ على جريان حديث لا تعاد في أمثال هذه الموارد من موارد الجري على طبق الحجّة و عدم اختصاصه بموارد السهو و النسيان، فمن قال بالاشتغال و باختصاص الحديث بالسهو و النسيان يشكل عليه تجويز الدخول مع عدم جريان أصالة الحلّ، و على فرض جوازه لجريانها يشكل الإجزاء بعد ما تبيّن الخلاف.

فالذي سهّل الخطب علينا أنّا اخترنا في الأصول البراءة في المسألة المذكورة.

ثمّ بعد البناء على تمحّض المبنى في المسألة الأصوليّة لو كان المصلّي حينما صلّى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 307

معتقدا بجواز الاجتماع، أو مقلّدا لمن اعتقده، و بعد الفراغ تبدّل رأيه أو قلّد من يقول بالامتناع فهل يحكم بصحّة الصلاة الواقعة منه في تلك الحال أو لا؟ الظاهر الثاني، إذ الفرض أنّه عاص و مستوجب للعقوبة بالتصرّف في المكان المغصوب و قد اعتقد بعدم إمكان اجتماع القرب و البعد في الحركة الواحدة الشخصيّة، فلا محيص عن البطلان و إن [كان] هو متخيّلا حال العمل خلافه.

و لو صلّى في المكان المباح باعتقاد المغصوبيّة لكن معتقدا للجواز أو مقلّدا لمن يعتقده، و بعد الصلاة انكشف له كون المكان مباحا و تبدّل رأيه، أو قلّد من يقول بالامتناع، فهل الصلاة في تلك

الحالة محكومة بالصحّة أم لا؟ الظاهر ابتناء المسألة على الوجهين في مسألة التجرّي.

فإن قلنا بأنّ القبيح ممحّض في الفعل القلبي و هو العزم و القصد السيّئ من دون سرايته منه إلى الخارج، غاية الأمر أنّ الأخبار وردت بالعفو عن النيّة الخالية عن ترتّب الأثر الخارجي رأسا، و بقي الباقي من دون أن يكون لهذا الأثر الخارجي على فرض إباحته ذاتا مدخليّة في القبح، فالظاهر الحكم بالصحّة، فإنّ القبح الفاعلي حصل بالقصد و هو أمر باطني، فلا ينافي حصول الحسن الفاعلي من جهة العمل الخارجي، و المفروض خلوّه عن الجهة المبعّدة ذاتا.

و إن قلنا بسراية المقبّحية إلى الخارج بمعنى أنّ العزم الخالي غير مقبّح، بل الفعل الخارجي منشأ لصيرورة الفاعل قبيح الوجه لدى المولى بواسطة تلك النيّة السيّئة فالظاهر الحكم بالبطلان، لأنّه حينئذ يشترك العمل مع العصيان في أنّ الفاعل يصير بسببه قبيحا، و كما أنّ العبادة محتاجة إلى الحسن الفعلي محتاجة إلى الحسن الفاعلي أيضا، فكيف يجتمع الجهتان في الحركة الواحدة الشخصيّة، فتدبّر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 308

ثمّ إنّ الميزان في البطلان هو اتّحاد الكون الصلاتي مع التصرّف المحرّم، و المرجع في تشخيص مصداق هذا المفهوم أعني الحكم بتحقّقه في أيّ موضع و بعدمه في آخر هو العرف، فمتى تحقّق التصرّف في المغصوب عند العرف و كان متّحدا مع الأكوان الصلاتيّة تحقّق البطلان، و إلّا فلا.

مثلا في المصبّ المغصوب لماء الوضوء إن قلنا بأنّ صبّ الماء على العضو إذا أريد به الغسل الوضوئي يكون حرمته من باب كونه مستلزما و جزء أخير للعلّة للتصرّف في الآنية المغصوبة، لا أنّه بنفسه يعدّ تصرّفا فيها، فلا بدّ من التفرقة بين صورة إمكان إيجاد المانع بعد الصبّ،

و صورة عدم الإمكان.

و إن قلنا بأنّ نفس هذا الصبّ على الوجه و اليد محاذيا بهما للآنيّة يعدّ عرفا تصرّفا فيها، كما في ما يسمّى في الفارسيّة «لگن» مقابلا لما يسمّى فيها «آفتابه» فإنّه موضوع لهذا المعنى، أعني: جعل اليد و الوجه محاذيا له حين غسلهما و صبّ الماء عليهما لئلّا ينصبّ على الفرش، فحينئذ لا يفرق بين الصورتين، فإنّ نفس هذا الفعل الوضوئي متّحد مع الغصب المحرّم في الصورتين، فلا بدّ من البطلان فيهما.

و من هنا يظهر الحال في الخيمة المغصوبة المنصوبة في الأرض المباحة، فإنّه يمكن أن يقال ببطلان الصلاة الواقعة تحتها بملاحظة أنّ الخيمة موضوعة لأجل هذه الأكوانات تحتها من القيام و القعود و الركوع و السجود و نحوها، و يكون هذا عند العرف استعمالا لها و تصرّفا فيها.

و هذا بخلاف السقف المبنيّ من الآجر المغصوب على الجدران و الأرض و الهواء المملوكة كلّها، فإنّ الغرض من بناء السقف ليس هو التمكّن تحتها، بل الاستقرار فوقها، كما هو الحال في السرير، و لهذا لو كان سرير مغصوب موضوعا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 309

على أرض مباحة جازت الصلاة و القيام و القعود تحته لمالك الأرض، إذ لا يعدّ أمثال ذلك استعمالا للسرير و لا تصرّفا فيه عرفا.

و أمّا لو كان تمام جدران البيت و سقفه ملتئمة من الآجر الغصبي مع كون الأرض و الهواء مباحين فلا يبعد أن يكون مثل ما إذا كان الخيمة نصفها مغصوبا و نصفها مباحا، فإنّ البيت كالخيمة، فكما أنّ القيام و القعود و الركوع و السجود و نحوها تصرّفات عرفا للخيمة فكذلك للبيت، فإنّه أيضا كالخيمة في الموضوعيّة لأجل أمثال هذه الأكوانات تحته.

و هذا بخلاف ما

إذا كانت الجدران للدار متّخذة من الآجر المغصوب مع كون الفضاء و الأرض مباحين، فإنّه لا يبعد أن يقال بصحّة الصلاة الواقعة في وسط تلك الدار، إذ لا يعدّ هذا تصرّفا في ذلك الجدار، إذ لا يفرق الحال في هذه الأكوان بين كون تلك الأجزاء مبنيّة على شكل الجدار، أو موضوعة بعضها على بعض بدون استعمالها في البناء.

و بالجملة لا بدّ في كلّ مقام من ملاحظة حكم العرف و أنّه هل يعدّ هذه الأكوانات الصلاتيّة تصرّفات في الشي ء المغصوب عند العرف أو لا؟ فإن عدّت كذلك يحكم بالبطلان، و إلّا فلا.

و لو كان المصلّي مشغولا بالصلاة في الأرض المباحة فنصبت عليه قهرا الخيمة المغصوبة و هو في صلاته فلا إشكال حسب ما مرّ في أنّ بقيّة صلاته يعدّ تصرّفا في الخيمة المغصوبة.

و لكنّه يمكن أن يقال بعدم البطلان في هذه الصورة من جهة أنّ ممنوعيّة الإنسان عن حقّ نفسه بواسطة وضع شخص آخر شيئا مغصوبا هناك ممّا لا يمكن الالتزام به.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 310

ألا ترى أنّه لو ألصق شخص الآجر المغصوب في تمام سطح دار الإنسان بحيث لا يمكن رفعها أبدا فهل يمكن الالتزام بأنّه يجب عليه رفع اليد عن داره بالمرّة لكون دخوله و مشيه و سائر أكوانه فيه تصرّفا في آجر الغير بغير رضاه، و هل نفهم من مذاق الشرع ذلك؟

و بالجملة، لا يفهم من الأدلّة المنع من مثل هذا التصرّف المستلزم لمنعه عن حقّه مع عدم قصده إلّا استيفاء حقّ نفسه، دون التصرّف في ملك غيره، غاية الأمر أنّه لا ينفكّ استيفاء حقّ نفسه عن ذلك.

ثمّ إنّه قد حقّقنا في الأصول أنّه بناء على القول بامتناع اجتماع الأمر و

النهي لا وجه للموازنة بين مصلحة الأمر و مفسدة النهي و ترجيح ما هو الغالب منهما و تقديمه على غيره، بل اللازم مطلقا ترجيح جانب النهي على الأمر و لو فرض مصلحة الأمر أضعاف مفسدة النهي، و ذلك لأنّ النهي مقتض تعيينيّ للخصوصيّة، بمعنى أنّه مقتض لعدم وجود الخاصّ بخصوصيّته في الخارج، و أمّا الأمر فلا اقتضاء له إلّا بالنسبة إلى صرف الوجود، و لا فرق فيه بين هذا الخاصّ و الخاصّ الآخر، فلا معنى لمزاحمة اللامقتضي مع المقتضي، بل اللازم على المولى بملاحظة الجمع بين غرضيه تخصيص أمره بغير مورد النهي، و هذا بمكان من الوضوح.

نعم لو فرض المزاحمة و الدوران و عدم إمكان الجمع صحّ حينئذ الموازنة و تقديم ما هو الأقوى ملاكا من الأمر و النهي.

و لكن هذا- أعني: تقييد الأمر و الإرادة بمورد السلامة عن الابتلاء بالمحرّم و المبغوض التعييني جمعا بين الغرضين- إنّما هو في ما إذا كان المبغوض التعييني قابلا للردع، و أمّا إذا سقط عن قابليّة ذلك مع بقاء أثر النهي من استحقاق العقوبة، كما إذا توسّط الأرض المغصوبة، حيث إنّ المكث بمقدار أقلّ زمان الخروج ممّا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 311

لا بدّ منه و يكون المكلّف مضطرّا إليه فلا يقبل الردع عنه، لكنّه معاقب عليه من أثر النهي السابق عن الدخول، لا بمعنى أنّه بسبب ذلك النهي يترتّب العقوبة على هذه الحركات الخروجيّة، بل بمعنى أنّ عقوبة هذه الحركات تترتّب على الدخول المنهيّ.

و بالجملة، لا إشكال في كون هذه الحركة مبغوضة تعيينا، و لكنّه لا مانع من تطبيقها على الأفعال الصلاتيّة في الفريضة في صورة ضيق الوقت بحيث لا يتمكّن من إتيان الصلاة في خارج

الأرض مع حفظ الشرائط الاختياريّة من الاستقرار، و مع وجدانه للشرائط المطلقة مثل الطهور و القبلة المطلقة، أو في النافلة مطلقا.

لا يقال: يلزم اتّحاد المحبوب و المبغوض في الشي ء الواحد الشخصي و قد فرضنا استحالته.

لأنّا نقول: بوجه العرضيّة سلّمنا استحالته، و لكنّا نقول هاهنا باجتماعهما على وجه الترتّب، بمعنى أنّه بعد سقوط المبغوض التعييني عن التأثير في نفس المولى للردع لا مانع في تأثير الجهة المحسّنة الصلاتيّة في نفسه الشريفة للأمر و البعث.

ألا ترى في الموالي و العبيد العرفيّة أنّه لو كان مطلق أكوان عبد في دار مخصوصة مبغوضا لمولاه فألقى العبد نفسه في تلك الدار بحيث لا يمكنه الخروج منها أبدا فهو في هذا الحال و إن كان يعاقب على جميع أكوانه حتّى على تحريك يده، و لكنّه لو اشتغل بخياطة الجبّة للمولى مع كمال حاجته إلى الجبّة فهل ترى من نفسك أنّه لا يمكن من المولى محبوبيّة هذه الخياطة لكونها متّحده مع المبغوض التعييني.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 312

و أيضا لو ألقى المكلّف نفسه من شاهق إلى الأرض، و لكنّه يمكنه أن يلقي نفسه إلى الأرض المباحة مع إمكان إلقائه إلى المغصوبة فهل ترى من نفسك أنّ المولى يرفع اليد من هذا الغرض الممكن التحصيل أيضا بمجرّد اختيار العبد بعصيانه تفويت غرض آخر منه، أعني: إقدامه على هلاك نفسه.

و أيضا لو ألقى المكلّف نفسه في دار مغصوبة بحيث لا يمكنه الخروج منها إلى آخر العمر، فهل ترى أنّ الصلاة ساقطة منه إلى آخر العمر؟

فتحقّق من مجموع ما ذكرنا أنّ المبغوضيّة التعيينيّة إنّما يوجب صرف الأمر عن موردها ما دامت قابلة للاستيفاء للمولى بتوسّط الردع و النهي، و أمّا بعد سقوطها عن ذلك

و لو بسوء اختيار العبد فلا جهة لسقوط الجهة الأخرى المحسّنة عن التأثير في أحداث الأمر، فهو مأمور مع كونه معاقبا على هذه الحركة الشخصيّة، و قد اجتمعت المحبوبيّة و المبغوضيّة على نحو الترتّب.

و الحاصل:

أنّ الإنسان ربّما يبعث الغير إلى ما هو مبغوض له تعيينا، ألا ترى أنّك إذا أبغضت كون شخص في دارك بجميع أنحائه و لكنّه دخل فيها فإنّك تبعثه بكمال الشدّة نحو الخروج، مع أنّه مبغوضك، و كذلك مع شدّة بغضك لوصول يد الأجنبي إلى بدن زوجتك أو بنتك أو سائر محارمك لو أشرفت واحدة منهنّ على الغرق في الماء، فأنت تبعث الأجنبي إلى أخذ بعض أعضائها بيده و إخراجها من الماء، إلى غير ذلك ممّا ليس بعزيز.

و لعلّ هذه المسألة كسابقتها، أعني: تقييد مورد الأمر بغير مورد النهي في صورة إمكان استيفاء المولى كليهما من العبد من البديهيّات، فليس في تلك مجال الموازنة، كما أنّه ليس في هذه مجال التقييد للأمر و الإمساك عنه و عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 313

انقداحه في نفس المولى و إن صدر الخلاف في كليهما عن بعض الأساطين قدّس اللّٰه أسرارهم.

هذا كلّه في صورة عصيانه من أوّل الدخول.

و أمّا لو كان الدخول بإذن المالك و نهاه عن الكون بعد ذلك فلا إشكال في جواز تطبيق الحركة الخروجيّة على فعل النافلة الذي يجوز ترك الاستقرار فيه اختيارا و لو في سعة الوقت.

و أمّا الفريضة فلا بدّ من التفصيل فيها بين السعة و الضيق:

فمع الأوّل لا يجوز، لاشتراط الاستقرار.

و أمّا مع الثاني فالكلام فيها ما تقدّم حرفا بحرف في صورة الدخول العصياني، فلا احتياج إلى الإعادة.

و لو شرع في الصلاة في دار الغير بإذنه العامّ أو

الخاصّ ثمّ عدل في أثناء الصلاة عن الإذن و نهاه عن الكون، فإن كانت نافلة جاز إتمامها في حال الخروج، و إن كانت فريضة، فإن كان الوقت واسعا فالأمر دائر بين أن يبقى مستقرّا في ملك الغير بغير رضاه محافظة على إتمام العمل و ترك قطعه و على الاستقرار المعتبر في حال الاختيار، و بين أن يصلّي خارجا محافظة على ترك المكث المحرّم و ترك القطع كذلك، و بين أن يقطع و يأتي بالصلاة في خارج الدار محافظة على ترك المكث المحرّم و رعاية للاستقرار المعتبر في حال الاختيار.

و الظاهر من هذه الوجوه هو الأخير إمّا لعدم الدليل على أصل حرمة الإبطال، و إمّا لأنّ المتيقّن منه صورة إمكان الإتمام مع الشرائط المعتبرة التي منها الاستقرار، و الظاهر من الوجهين هو الثاني.

و إن كان الوقت ضيّقا فلا سبيل إلى الإبطال، لأنّه يوجب فوت الوقت،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 314

فيدور بين أن يصلّي خارجا محافظة على حرمة الغصب، أو مستقرّا محافظة على شرطيّة الاستقرار، و الظاهر هو الأوّل، لما أشرنا إليه في بعض مباحث الساتر من أنّه متى دار الأمر بين الغرضين للمولى و كان لأحدهما بدل و لا بدل للآخر تعيّن اختيار ما له البدل بأن ينتقل إلى بدله، و هنا كذلك، فإنّ الاستقرار له بدل، بخلاف الغصب، فيتعيّن عليه الصلاة خارجا، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 315

المبحث الثاني هل يشترط في صلاة كلّ من الرجل و المرأة عدم محاذاة الآخر

اشارة

مطلقا، أو بشرط عدم تقدّمه، و إلّا فالمتأخّر يختصّ بالبطلان، أو لا يشترط مطلقا و إنّما الثابت مجرّد الكراهة؟ قولان منشؤهما اختلاف الأخبار في الجواز و المنع، بل في نفس

أخبار المنع أيضا اختلاف، فإنّها بين طوائف:
الأولى: ما ظاهره الفساد و الأمر بصلاة أحدهما أوّلا ثمّ الآخر بعده،

كصحيحة العلاء عن محمّد عن أحدهما عليهما السّلام «قال: سألته عن المرأة تزامل الرجل في المحمل يصلّيان جميعا؟ فقال عليه السّلام: لا، و لكن يصلّي الرجل، فإذا فرغ صلّت المرأة» «1».

و الثانية: ما ظاهره المنع إلّا مع وجود الحاجز بينهما

الظاهر في كونه مانعا عن الرؤية في تمام الحالات، و لا محالة لا بدّ أن يكون بمقدار القامة، كرواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السّلام في «المرأة تصلّي عند الرجل؟ قال عليه السّلام: إذا كان بينهما حاجز فلا بأس» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 316

و الثالثة: ما ظاهره المنع إلّا مع وجود الحائل قصيرا كان أم طويلا

و لو بمقدار شبر، بل كلّ ما يكفي لأجل المنع عن المارّة مثل السبحة و العصا إذا كان موجودا بينهما جازت صلاتهما بأيّ كيفيّة كانت كرواية عليّ بن جعفر عن أخيه عليهما السّلام «قال:

سألته عن الرجل هل يصلح أن يصلّي في مسجد قصير الحائط و امرأة قائمة يصلّي و هو يراها و تراه؟ قال عليه السّلام: إن كان بينهما حائط طويل أو قصير فلا بأس» «1».

و من هذا القبيل رواية ليث المرادي «قال: سألته عن الرجل و المرأة يصلّيان في بيت واحد، المرأة عن يمين الرجل بحذاه؟ قال عليه السّلام: لا، إلّا أن يكون بينهما شبر أو ذراع، ثمّ قال عليه السّلام: كان طول رحل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله ذراعا و كان يضعه بين يديه إذا صلّى يستره ممّن يمرّ بين يديه» «2».

فإنّ الاستشهاد بطول رحل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله المراد به ارتفاعه عن الأرض شاهد على إرادة مقدار الشبر و الذراع الواقعين في الصدر بحسب الطول و أنّ كونه ذراعا أيضا لا مدخليّة له، بل الملاك هو أو الشبر، بل يمكن أن يقال: إنّه لو استفدنا من الأخبار الواردة في كفاية مثل السبحة و العصا لأجل الممانعة عن

المارّة نحكم بمقتضى هذا الاستشهاد بكفاية فصله بين الرجل و المرأة في مسألة المحاذاة أيضا.

هذا إن فهمنا كون المناط في الذراع و الشبر كونهما ساترا للمارّة، و إن لم نفهم العلّية فاللازم الاقتصار بهذا المقدار الطولي، لكن هذا مقتضى ظاهر الخبر و إن كان لم يفت بذلك أحد، أعني بكفاية هذا المقدار من الحائل لرفع المنع و الفساد.

و لو لا ملاحظة معارضة أخبار المنع بأخبار الجواز كان هذا وجه جمع حسن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 8 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 317

بين اختلاف نفس أخبار المنع بأن يقال: إنّ الرافع للمنع أحد أمور:

الأوّل: الحائل البالغ بمقدار القامة، و الثاني: الحائل البالغ طولا بمقدار الشبر أو الذراع، و الثالث: البعد بمقدار عشرة أذرع كما هو أيضا مفاد بعضها و إن كان في بعض آخر التعبير بأكثر من عشرة، و لكن مقتضى الجمع أنّ اعتبار الزيادة لأجل المقدّمة العلميّة، حيث إنّ تحصيل العلم بحصول البعد بمقدار العشرة متوقّف غالبا على الفصل بالزيادة، لندرة العلم بذلك المقدار بلا زيادة أصلا، و الرابع: أن يتقدّم الرجل بمقدار صدره، كما هو مفاد بعضها الآخر.

و لكنّ العمدة ملاحظة مقابلتها بأخبار الجواز، كمرسلة عليّ بن فضّال عن جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الرجل و المرأة تصلّي بحذاه؟ قال عليه السّلام:

لا بأس» «1».

و كصحيحة جميل عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه «قال: لا بأس أن تصلّي المرأة بحذاء الرجل و هو يصلّي، فإنّ النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله كان يصلّي و عائشة مضطجعة بين يديه و هي حائض

و كان صلّى اللّٰه عليه و آله إذا أراد أن يسجد غمز رجليها فرفعت رجليها حتّى يسجد» «2».

و التعليل بفعل النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و إن لم نفهم وجه مناسبته لا يمنعنا عن استفادة أصل الحكم من صدرها، فإنّها صريحة في جواز محاذاتهما حال الصلاة، أو نقول: إنّ وجه المناسبة أنّ وجه توهّم المنع عن المحاذاة أو تقدّم المرأة على الرجل توجّه حواسّ الرجل إلى جانب المرأة، و هذا المعنى لا تفاوت فيه بين اشتغال المرأة بالصلاة و عدمه، فلو كان مانعا عن صحّة الصلاة لما كان النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله مصلّيا مع اضطجاع عائشة أمامه.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 318

و على كلّ حال فالرواية خالية عن الخدشة سندا، لاعتباره، و دلالة، لصراحته في الجواز، فمقتضى الجمع هو حمل ما تقدّم على الكراهة، و أمّا تقييد هذا الإطلاق بصورة وجود الحائل أو البعد ففيه ما تقدّم منّا سابقا «1» من أنّ التصرّف في هيئة المقيّد أهون من التصرّف في مادّة المطلق الوارد في مقام البيان.

نعم في بعض روايات المنع الحكم بإعادة صلاة المرأة التي صلّت بحيال الرجل الذي كان مصلّيا قبلها، و هو في البطلان أظهر من سائر الأخبار المشتملة على صرف النهي أو وجود البأس، و هو رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليهما السّلام «قال: سألته عن إمام في الظهر، فقامت امرأته بحياله تصلّي و هي تحسب أنّها العصر، هل يفسد ذلك على القوم؟ و ما حال المرأة في صلاتها و قد كانت صلّت الظهر؟

قال عليه السّلام: لا يفسد ذلك على القوم و تعيد المرأة» «2».

و في الرواية احتمالات:

الأوّل: أن يكون منشأ سؤال السائل عن صلاة القوم و عن صلاة المرأة اقتدائها العصر بالظهر، و هذا قد علمنا من الخارج أنّه غير مضرّ لا بصلاة المرأة و لا بصلاتهم، فلا يمكن حمل السؤال و الجواب عليه، لمنافاة الأدلّة الخارجيّة.

و الثاني: أن يكون منشؤه وقوف المأموم بحيال الإمام مع اعتبار وقوفه متأخّرا عنه، و هذا أيضا و إن كان لا يأبى عنه الجواب، لكن جلالة السائل تأبى عن احتمال فساد صلاة القوم بمجرّد وقوف مأموم واحد بحيال الإمام.

و الثالث: أن يكون المنشأ وقوف المرأة في صلاتها بحيال الرجل، و هذا يصلح له السؤال و الجواب معا.

______________________________

(1) تقدّم في الأخبار الواردة في كيفيّة صلاة العاري، منه عفي عنه.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 319

أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فوجه التفرقة بين المرأة و الرجل في البطلان و العدم هو تقدّم صلاة الرجل على صلاة المرأة، فتكون الرواية دليلا على أنّ المتأخّر هو المخصوص بالبطلان، هذا.

و لكن بعد ملاحظة إمكان أن تكون الإعادة مستحبّة لأجل استيفاء الصلاة الخالية عن المنقصة فلا توجب هذه الرواية قدحا في الجمع الذي ذكرنا، مضافا إلى تأيّده باختلاف الأخبار المانعة في التحديد بالعشرة أذرع أو بمقدار الشبر، أو بمقدار الذراع، فإنّه بعد ملاحظة أخبار الجواز يصير هذا المعنى أعني: اختلاف مراتب هذه الدرجات في الكراهة أظهر من المعنى الذي ذكرناه سابقا من حمل الذراع و الشبر على الحائل البالغ طوله هذا المقدار و إن كان لولاها كان ذلك أحسن لرفع الاختلاف عمّا بينها، و لكن

بعد الحمل على الكراهة كان هذا الاختلاف محمولا على مراتب الكراهة، بل و أمارة عليها، كما جعلوا من أمارات استحبابيّة أوامر النزح الواردة في باب البئر اختلاف الأخبار في المقدار المنزوح.

و قد يستشهد لهذا القول بصحيحة الفضيل المرويّة عن العلل عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال: إنّما سمّيت مكّة بكّة، لأنّه تبكّ فيها الرجال و النساء، و المرأة تصلّي بين يديك و عن يمينك و عن يسارك و معك و لا بأس بذلك، و إنّما يكره في سائر البلدان» «1».

و الحقّ أنّ الاستشهاد بها للقول بالكراهة مبنيّ على إحدى مقدّمتين، إمّا الالتزام بظهور مادّة الكراهة في الأخبار في المعنى المصطلح، أو ثبوت الإجماع على عدم الفصل في البطلان و الصحّة بين مكّة و سائر البلدان، فإنّه حينذاك لا بدّ من حمل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 320

قوله عليه السّلام: «يكره» على المعنى الاصطلاحي، إذ حمله على الحرمة ينافي الإجماع المذكور.

و أمّا لو منعنا كلتا المقدّمتين فلا شهادة فيها أصلا، غاية الأمر أنّها تصير مخصّصة لسائر الأخبار المانعة بغير بلدة مكّة زادها اللّٰه شرفا و تعظيما، سواء حملنا المنع فيها على التحريم أو الكراهة.

و ممّا يدلّ على الجواز أيضا خبر عيسى بن عبد اللّٰه القمّي «سئل الصادق عليه السّلام عن امرأة صلّت مع الرجال و خلفها صفوف و قدّامها صفوف؟ قال: مضت صلاتها و لم تفسد على أحد و لا تعيد» «1».

و ينبغي التنبيه على أمور:
الأوّل: هل البطلان على القول به مختصّ في صورة التعاقب بالمتأخّر أو يعمّه و المتقدّم،

كما في صورة التقارن؟

قد يقال بالأوّل مستندا إلى أنّ الموجب للبطلان في صلاة كلّ من الرجل و المرأة إنّما هو الصلاة الصحيحة الصادرة من الآخر بحذاء صاحبه، دون الأعمّ منها و من

الباطلة، و حينئذ فهذا الملاك موجود في صلاة المتقدّم، فإنّها صلاة صحيحة، فتصير مانعة عن صحّة صلاة المتأخّر، فإذا صارت صلاة المتأخّر باطلة خرجت عن قابليّة إبطالها لصلاة المتقدّم، و تصير كصلاة المحدث.

و لكن فيه من الفساد ما لا يخفى، فإنّا لو استفدنا من الأخبار كون المحاذاة من

______________________________

(1) لم نظفر بهذا الخبر بعد الفحص عنه في مظانّه من كتب الأخبار، و إنّما نقلناه من بعض الكتب الفقهيّة لبعض الأجلّة الأخيار، قدّس أسرارهم، منه عفي عنه و عن والديه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 321

موانع الصلاة فكما يعتبر عدمها في أوّل الصلاة كذلك يعتبر عدمها في أثنائها، كما هو الحال في سائر الموانع من الحدث و غيره، و إذن فكيف يأتي المتقدّم ببقيّة صلاته و الحال أنّه قد تحقّقت المحاذاة بالنسبة إليها.

و بالجملة، حال هذه البقيّة حال ابتداء الصلاة إذا اتّفق مع المحاذاة، فكما أنّا نحكم ببطلان الابتداء، كذلك نحكم ببطلان هذه البقيّة.

و الحقّ أن يقال: الصحّة المعتبرة هي الصحّة مع قطع النظر عن المحاذاة، و هي متحقّقة في صلاة كلّ من المتقدّم و المتأخّر، لكن لا يستفاد من الأخبار إلّا فساد عنوانين:

أحدهما: صلاة الرجل و المرأة متقارنين، كما هو المستفاد من قولهم:

«لا يصلّيان».

و الثاني: صلاة المتأخّر، كما هو المستفاد من النهي الوارد عن صلاة واحد من الرجل و المرأة إذا كان الآخر مشتغلا بالصلاة، فإنّ المستفاد من هذا النهي فساد صلاة المتأخّر دون المتقدّم، فصلاة المتقدّم تبقى خارجة عن كلا العنوانين، فتكون صحيحة بمقتضى أصالة البراءة عند الشكّ في القيد و الجزء كما قوّيناها في محلّه.

نعم إن قلنا بأنّ قوله: «يصلّيان» مطلق بالنسبة إلى صورة التعاقب كان دليلا على فساد صلاة المتقدّم أيضا، و

لكن في إطلاقه منع، بل هو منزّل على صورة المقارنة، لا بمعنى أن يكون همزة «اللّٰه أكبر» من كلّ منهما و «راؤه» مقارنين لهما من الأخرى حتّى يكون فردا نادرا، بل و لو على نحو المقارنة في الإمام و المأموم، فإنّه لا إشكال في صدق أنّهما يصلّيان معا بذلك، و أمّا بالنسبة إلى غير هذه الصورة ممّا إذا لم يصدق المقارنة عرفا فلا إطلاق للعبارة، و العبارة الأخرى أيضا لا يستفاد منها إلّا النهي عن صلاة المتأخّر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 322

و حينئذ فاستثناء صورة الفصل بعشرة أذرع أو وجود الحائل لا بدّ و أن يتعلّق بما استفيد ممنوعيّته، و قد عرفت أنّه في صورة المقارنة، كلاهما، و في صورة التعاقب، خصوص الأخيرة، فكأنّه قيل: في صورة المقارنة، كلتاهما فاسدة إلّا مع الفصل أو الحائل، و في صورة المعاقبة، الأخيرة فاسدة إلّا مع أحد الأمرين، فلو فرض ارتفاع الحائل في أثناء الصلاة فإن أمكن تحصيله بسرعة دخل في كبرى المسألة المتقدّمة من التكشّف في الأثناء، و قد قلنا بعدم استبعاد جريان «لا تعاد» فيه، و إن لم يمكن إلى آخر الصلاة و كان الوقت متّسعا فالمنع في صورة مقارنة الصلاتين يعمّهما، و في صورة المعاقبة يختصّ المتأخّرة شروعا، فإنّه قضيّة ما ذكرنا من أنّ الاستثناء مخصوص بما استفيد من الأخبار ممنوعيّته و هو خصوص الأخيرة في صورة المعاقبة، فلو ارتفع الحائل فالأخيرة هي التي قد تحقّق مانعها، و أمّا السابقة شروعا فلم يجعل لها مانع حتّى يقال بتحقّق المانع بالنسبة إليها، فتدبّر.

الثاني: النهي في هذا الباب إن كان من قبيل النهي في العبادة،

بمعنى أنّ العبادة من حيث الأجزاء و القيود المعتبرة في ماهيّتها شرعا كانت تامّة، و إنّما المانع من جهة عدم حصول القرب

المعتبر فيها، فإنّ مع وجود النهي و كونه موجبا للعقوبة و البعد لا يمكن حصول القرب، فلا إشكال أنّ الحكم بالبطلان يختصّ بصورة تنجّز النهي بالعلم به موضوعا و حكما، و عدم الغفلة و النسيان بشي ء منهما، إذ مع الجهل إمّا بالموضوع أو بالحكم مع كونه على وجه يعذر فيه أو الغفلة أو النسيان بواحد من الأمرين لا عقوبة و لا بعد، و المفروض تماميّة العبادة بحسب ما يعتبر في ماهيّتها خارجا من الأجزاء و القيود الشرعيّة، فلا مانع من الصحّة بوجه.

و أمّا إن كان من قبيل النواهي الوضعيّة التي تكون للإرشاد إلى المانعيّة مثل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 323

النهي عن الصلاة في ما لا يؤكل و نحوه فلا إشكال في أنّه مع الغفلة و النسيان و الجهل موضوعا أو حكما تكون الصلاة مقرونة بالمانع واقعا، فيتوقّف الحكم بالصحّة على القول بشمول حديث لا تعاد لجميع هذه الأقسام، أو عموم حديث الرفع في ما لا يعلمون بالنسبة إلى الموضوع و الحكم.

و الأوّل يظهر منهم رضوان اللّٰه عليهم عدم الالتزام بشموله للجهل و الغفلة و النسيان للحكم، بل و عدم شموله لغير النسيان، للموضوع، و لا يبعد دعوى الانصراف فيه بالنسبة إلى الموضوع، أمّا اختصاصه بخصوص النسيان فلا، كما أنّه على فرض تسليم الاختصاص بنسيان الموضوع فاستفادة الإجزاء في غفلة الموضوع من حديث الرفع في ما لا يعلمون مشكلة، و شموله للجهل به و إن كان مسلّما لكن على وجه الحكم الظاهري الغير المفيد للإجزاء، كما هو المدّعى، و قد أشير إليه في بعض المباحث المتقدّمة.

الثالث: لو شكّ في تحقّق المحاذاة المانعة في حال الصلاة

فلهذا الشكّ صورتان:

الاولى: أن يكون حاصل قبل الفراغ، و الثانية: أن يكون بعده، و لا إشكال في الثانية

في جريان قاعدة الفراغ، إلّا إذا قطع بالغفلة حال العمل، فيتّحد حكمه حينئذ مع ما قبل الفراغ.

و محصّل الكلام في ما قبل الفراغ الذي هو الصورة الاولى أنّه تارة يكون الشكّ في أصل تحقّق المحاذاة مع المرأة المصلّية إمّا بأن يشكّ في أصل وجود المرأة، أو في كونها مصلّية بعد الفراغ عن وجودها، أو في وصف المحاذاة بعد الفراغ عن الوجود عن الصلاة، أو في حصول البعد المعتبر مع الفراغ عن الصلاة و المحاذاة.

و اخرى يكون في حصول المقارنة أو السبق و اللحوق، و على الثاني في تميّز

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 324

السابق عن اللاحق، كأن يلتفت في أثناء الصلاة أنّ امرأة قامت بحذائه يصلّي و لكن لا يعلم أنّها قارنته أو سبقته أو لحقته.

أمّا الصورة الأولى بتمام أقسامها فالمرجع فيها أصالة عدم المانع إذا فرض قيدا للمصلّي، فإنّ المحاذاة الخاصّة مشكوكة الوجود مع سبقها بالعدم، نعم لو فرض اعتبار عدمها قيدا في الصلاة فليس لهذا الاتّصاف حالة سابقة متيقّنة، كما ليست لنقيضه أيضا، فلا محيص عن الاحتياط، و أمّا أصالة عدمها بلا اتّصاف ثمّ حمل هذا المستصحب على الصلاة الوجدانيّة فهي من الأصول المثبتة.

و أمّا الصورة الثانية فإن قلنا بأنّ موضوع المانعيّة هو الصلاة الصحيحة للمرأة إذا وقعت في محاذاة الرجل فأصالة الصحّة في صلاة المرأة حينئذ حاكمة على أصالة عدم المانع في صلاة الرجل، و لو قلنا بجريانها في ذاتها بأن جعلناه قيدا في المصلّي فإنّ الشكّ في وجود المانع و عدمه مسبّب عن الشكّ في صحّة صلاة المرأة و بطلانها، فإذا حكمنا بأصالة الصحّة بصحّة صلاتها ارتفع الشكّ المسبّب، فلا مجال لأصالة عدم المانع، فنحكم ببطلان صلاة الرجل.

و أمّا إن

قلنا بأنّه لم يؤخذ في الموضوع الصحّة الفعليّة و من جميع الجهات فالمشكوك حينئذ تحقّق المحاذاة الخاصّة بخصوصيّة المقارنة أو سبق صلاة المرأة، فالأصل عدم الخصوصيّة، و لا يعارض بأصالة عدم سبق الرجل، لأنّه لا أثر له، إذ الأثر مرتّب على وجود المقارنة أو سبق الامرأة، فينفى بنفي هذا الموضوع، و سبق الرجل من جملة المقارنات، لعدم الموضوع و ليس بنفسه موضوعا.

و بالجملة، فجريان أصل عدم المانع أعني: السبق أو المقارنة مبنيّ على أخذ عدم هذين قيدا في المصلّي، و أمّا إذا أخذا وصفا للصلاة فلا، كما تقدّم، نعم لا بأس بالتمسّك بالاستصحاب التعليقي المتقدّم نظيره في مسألة الشكّ في اللباس و عدم العلم ممّا يؤكل أو غيره، فراجعه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 325

المبحث الثالث في خصوص مسجد الجبهة من مكان المصلّي، و الكلام فيه في طيّ مقامات:

[المقام] الأوّل يشترط في مسجد الجبهة كونه طاهرا،
اشارة

بخلاف موضع سائر بدن المصلّي حتّى مساجده، فهنا دعويان:

الاولى: اعتبار الطهارة في مسجد الجبهة.

و الثانية: عدمه في موضع سائر البدن.

أمّا الدليل على الاولى- فمضافا إلى ما نسب إلى جمله من الأصحاب دعوى الإجماع عليه- صحيحة ابن محبوب عن الرضا عليه السّلام أنّه «كتب إليه يسأله عن الجصّ يوقد عليه العذرة و عظام الموتى يجصّص به المسجد، أ يسجد عليه؟

فكتب عليه السّلام: إنّ الماء و النار طهّراه» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 326

تقريب الدلالة أنّه يظهر منها- سؤالا و جوابا- ارتكازيّة اشتراط طهارة موضع الجبهة في الأذهان، حتّى أنّه بعد الفراغ عن ذلك كان الاشتباه ممحّضا في خصوص هذا الجصّ و أنّه هل يصير بذلك نجسا حتّى لا يصحّ السجود عليه أو لا، فالسؤال إنّما هو عن تحقّق الصغرى بعد الفراغ عن الكبرى، و الإمام عليه السّلام أيضا

قرّره على هذه الكبرى و أجاب بحصول الصغرى بواسطة تطهير الماء و النار إيّاه، و نحن و إن لم نأخذ بهذا التعليل أعني: تطهير الماء و النار للشي ء النجس، و لكنّه لا ينافي الأخذ بذلك الأمر الذي فهمناه من تسالم السائل و الإمام عليه السّلام، بل و من الجواب من مفروغيّة اعتبار طهارة موضع الجبهة.

و يحتمل أن يكون المراد من التطهير بهما أنّ المفروض أنّه لم يصل إلى الجصّ المذكور غير الماء و النار، و هما لا ينجسان، بل من شأنهما أن يكونا مطهّرين، و على كلّ حال لا إشكال في استفادة ما ذكرنا من تسالم المتخاطبين عليه و إن لم نفهم المراد المطابقي من الكلام، هذا.

و أمّا الثانية فيدلّ عليها الأخبار المستفيضة، منها: صحيحة عليّ بن جعفر عليه السّلام عن أخيه موسى عليه السّلام أنّه «سأله عن البيت و الدار لا يصيبهما الشمس و يصيبهما البول و يغتسل فيهما من الجنابة، أ يصلّي فيهما إذا جفّا؟ قال عليه السّلام: نعم» «1».

و صحيحته الأخرى «عن البواري يصيبها البول، هل يصحّ الصلاة عليها إذا جفّت من غير أن تغسل؟ قال عليه السّلام: نعم لا بأس» «2».

و صحيحته الأخرى أيضا «قال: سألته عن البواري يبلّ قصبها بماء قذر،

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 327

أ يصلّي عليها؟ قال عليه السّلام: إذا يبست فلا بأس» «1».

و موثّقة عمّار «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن البارية يبلّ قصبها بماء قذر، هل يجوز الصلاة عليها؟ فقال عليه السّلام: إذا جفّت فلا بأس بالصلاة عليها» «2».

و صحيحة زرارة عن أبي

جعفر عليهما السّلام: «قال: سألته عن الشاذكونة عليها جنابة أ يصلّي عليها في المحمل؟ قال عليه السّلام: لا بأس» «3».

و خبر ابن أبي عمير «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: أصلّي على الشاذكونة و قد أصابتها الجنابة، قال عليه السّلام: لا بأس» «4».

و يعارض هذه الأخبار موثّقة ابن بكير «عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في الشاذكونة يصيبها الاحتلام، أ يصلّي عليها؟ قال عليه السّلام: لا» «5».

و موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: سئل عن الموضع القذر يكون في البيت و غيره فلا تصيبه الشمس، و لكنّه قد يبس الموضع القذر؟ قال عليه السّلام:

لا يصلّى عليه و اعلم موضعه حتّى تغسله، و عن الشمس هل تطهّر الأرض؟

قال عليه السّلام: إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثمّ يبس الموضع فالصلاة في الموضع جائزة، و إن أصابته الشمس و لم ييبس الموضع القذر و كان رطبا فلا تجوز الصلاة حتّى ييبس، و إن كان رجلك رطبا أو جبهتك رطبة أو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 5.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 3.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 328

غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصلّ على ذلك الموضع حتّى ييبس، و إن كان غير الشمس أصابه حتّى ييبس فإنّه لا يجوز ذلك» «1».

و خبر زرارة «قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن البول يكون على السطح أو

في المكان الذي يصلّى فيه؟ فقال عليه السّلام: إذا جفّفته الشمس فصلّ عليه فهو طاهر» «2».

و في خبر آخر سأل زرارة و حديد بن الحكم أبا عبد اللّٰه عليه السّلام: «السطح يصيبه البول أو يبال عليه يصلّى في ذلك المكان؟ فقال عليه السّلام: إن كان تصيبه الشمس و الريح و كان جافّا فلا بأس به إلّا أن يكون يتّخذ مبالا» «3». هذا.

و لكن مقتضى الجمع حمل هذه على الكراهة، لصراحة ما تقدّم في الجواز.

ثمّ إنّ التقييد بالجفاف الواقع في أخبار الجواز يحتمل فيه وجهان:

الأوّل: أن يكون لأجل مراعاة طهارة البدن و اللباس و عدم سراية النجاسة من الموضع النجس إليهما، فلا يكون مسوقا لتضييق موضوع الحكم المذكور في القضيّة، بل لأجل تنبيه المخاطب على حفظ مطلوب آخر كان هو ارتكازيّا له و هو طهارة البدن و اللباس، نظير ما يقوله واحد من المتشرّعة للآخر، حيث يقيّد جواز الصلاة في المكان النجس بالجفاف لأجل ملاحظة هذا الأمر المرتكز بين الطرفين، لا لإفادة قيد زائد.

و الثاني: أن يكون لأجل تضييق موضوع الحكم في القضيّة أعني: أنّ جواز الصلاة في المكان النجس مشروط بكونه جافّا، فيكون حاله حال قيد الجفاف

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب النجاسات، الحديث 4.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب النجاسات، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 329

الواقع في دليل مطهّرية الأرض للقدم و النعل، حيث إنّه لا مطهّرية مع الرطوبة، فكذلك ها هنا لا جواز مع الرطوبة.

و تظهر ثمرة الوجهين في مقامين:

الأوّل: في ما إذا كان الموضع النجس رطبا برطوبة غير مسرية، فعلى الأوّل لا بأس بالصلاة فيه،

لأنّ المفروض عدم سراية النجاسة إلى الثوب و البدن، و على الثاني لا يجوز، لأنّ المفروض تقييد الجواز بالجفاف، و هو غير حاصل، و لهذا نقول بعدم مطهّرية الأرض الرطبة بالرطوبة الغير المسرية.

و الثاني: في ما إذا كان الموضع نجسا بنجاسة معفوّ عنها كأقلّ من الدرهم من الدم، و كما إذا أوجب نجاسة ما لا يتمّ به الصلاة من الثوب، فإنّه لا مانع من الصلاة على الأوّل بخلاف الثاني، للإطلاق.

و الحقّ من الوجهين هو الأوّل، إذ أوّلا ارتكازيّة لزوم طهارة الثوب و البدن في أذهان السائلين يمنع عن انسباق تضييق الموضوع إلى الذهن من ذكر قيد الجفاف، بل المنسبق إلى الذهن هو كونه لمراعاة هذا الأمر المرتكز.

و ثانيا: سلّمنا عدم انصراف ذلك، و لكنّه لا أقلّ من الإجمال و تساوي الاحتمالين، فلا يكون دليلا على التقييد و التضييق، فيبقى ما دلّ على الجواز بنحو الإطلاق بحاله سليما عن المقيّد.

بقي في المقام أمور:
أحدها: هل المعتبر في مسجد الجبهة طهارة جميع ما يقع عليه السجود،

أو يكفي طهارة مقدار الواجب من السجدة و إن كان الزائد نجسا؟ الذي يستفاد من الدليل- و هو الإجماع و الارتكاز، و لا يستفاد الزائد عليه- هو الثاني.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 330

و أمّا التمسّك للأوّل بإطلاق كلماتهم في معقد الإجماع حيث ادّعوا الإجماع على طهارة مسجد الجبهة و لو فرضنا وقوع هذه اللفظة أو ما يؤدّي مؤدّاها في رواية معتبرة لكان مقتضى إطلاقه اعتبار الطهارة في جميع ما يقع عليه السجود، و المفروض أنّ معقد الإجماع أيضا بحكم الرواية، غاية الأمر لا بألفاظه، بل بمضمونه، ففيه أنّه فرع استفادة القطع بصدور هذا المضمون من المعصوم عليه السّلام، و هو أوّل الكلام، و إنّما المتيقّن اعتبار الطهارة بنحو الإجمال في موضع السجدة، و من المعلوم

أنّ المتيقّن من هذا المجمل ليس إلّا اعتبار طهارة مقدار الواجب من سجود الجبهة و يبقى الزائد عليه بلا دليل.

فنحكم بمقتضى إطلاق الأخبار المتقدّمة الدالّة على جواز الصلاة على الموضع النجس الشامل لموضع السجود بجواز نجاسة الزائد، و على فرض عدم الإطلاق فالمرجع هو الأصل العملي و هو البراءة، كما هو الحال في كلّ قيد أو جزء مشكوكين على ما حقّق في الأصول.

و قد يقال بالفرق بين التعبير بأنّه يعتبر في محلّ السجدة كذا و بين التعبير بأنّه يجب السجود على كذا، فمفاد الأوّل اشتراط ذلك الشرط في تمام المحلّ، و مفاد الثاني كفاية مقدار ما يتحقّق به السجود، و هذا هو الفارق بين المقام و بين اعتبار عدم كونه مأكولا و ملبوسا، فالتعبير الواقع في المقام في معاقد الإجماعات هو اعتبار الطهارة في مسجد الجبهة، و في ذلك المقام هو اعتبار وقوع السجود على غير المأكول و الملبوس من نبات الأرض أو نفس الأرض، و لهذا يكتفى بالسجود على المأكول و غيره معا، و لا يكتفى بالسجود على الطاهر و النجس كذلك.

مثلا: تارة يقال: اضرب زيدا و يكفي في امتثاله وقوع الضرب على الزيد و العمرو معا، و اخرى يقال: ليكن محلّ ضربك زيدا و لا يكفي إلّا أن يكون تمام محلّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 331

الضرب زيدا، من دون مشاركة الغير.

هذا ما يستفاد من كلام بعض الأساطين قدّس سرّه في هذا المقام تأييدا لاعتبار طهارة تمام موضع السجود بناء على المعاملة مع معقد الإجماعات معاملة متون الروايات.

و لكن استشكل فيه شيخنا الأستاذ دام ظلّه العالي بما حاصله عدم الفرق بين التعبيرين المذكورين، بل المعيار أمر آخر و هو أنّه إن كان

السجود على المأكول في ذلك المقام و على النجس في ما نحن فيه منهيّا عنه فاللازم عدم الاكتفاء باتّصاف بعض الموضع في كلام المقامين.

مثلا: إذا قيل: ليكن مسجدك نظيفا و لا بدّ أن لا يكون نجسا، و كذلك قيل:

ليكن مسجدك أرضا أو نباتا غير مأكول و لا ملبوس و لا بدّ أن لا يكون مأكولا أو ملبوسا، أو قيل: يجب إيقاع السجود على الشي ء النظيف أو على غير المأكول، لا على النجس أو المأكول، فلا بدّ من عدم الاكتفاء بالسجدة على الأمرين في كلا المقامين على كلا التعبيرين، كما أنّه لو لم يكن نهي عن غير المتّصف فاللازم الاكتفاء في كليهما على كلا التعبيرين.

و الذي ينبغي أن يقال: إنّ المعيار هو القصد، فإن قصد السجدة على مجموع الأمرين فلا يتحقّق الامتثال على كلا التعبيرين، إذ كما لا يصدق أنّ محلّ السجدة غير المأكول أو شي ء نظيف لا يصدق أيضا أنّه سجد على غير المأكول أو على النظيف، نعم يصدق أنّ مسجده مشتمل على ذلك أو أنّه سجد على شي ء مشتمل عليه، و لكنّ المفروض أنّ الدليل دلّ على لزوم كون المسجد كذا، أو وقوع السجود على كذا، و هو غير كونه مشتملا على كذا.

و إن قصد السجدة على خصوص الطاهر منهما أو الغير المأكول كذلك فيتحقّق

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 332

الامتثال، من غير فرق بين التعبيرين، إذ كما يصدق أنّه سجد على الطاهر أو الغير المأكول يصدق أنّ محلّ سجوده الطاهر و غير المأكول، و لا يصدق أنّ محلّ سجوده النجس و المأكول أيضا، أو أنّه سجد عليهما أيضا.

وجه [ذلك] أنّ عنوان السجود كعنوان الخضوع و التعظيم من العناوين التي يتقوّم وجودها في

الخارج بالقصد، ضرورة أنّ مجرّد إصابة الجبهة الأرض من دون قصد أو بقصد الحكّ مثلا لا يسمّى سجودا أو خضوعا قطعا، و هذا غير قصد القربة المعتبر من حيث العباديّة، بل هو معتبر في السجدة المحرّمة كالسجدة للصنم أيضا، و هو واضح.

و حينئذ فنقول: إذا قصد بتحطيط الجبهة الخضوع بوقوعها على التراب الطاهر دون غيره ممّا بجنبه من غير التراب و من التراب النجس فهو و إن وصل جبهته بذلك الشي ء الغير التراب أو التراب النجس، لكن لا بعنوان السجود و الخضوع، و الذي تحقّق فيه هذا العنوان إنّما هو مماسّة الجبهة للتراب الطاهر، فإنّه الذي فرضنا توجّه القصد نحو إيقاع الجبهة عليه بعنوان الخضوع، فمطلق إصابة الجبهة و إن كان صدقه مشتركا بين الطاهر و النجس و التراب و غيره، و لكن بعنوان السجوديّة لا يصدق إلّا على خصوص التراب الطاهر دون ما بجنبه.

فلو فرض أنّ لسان الدليل الأمر بالسجود على التراب الطاهر و النهي عن السجود على غير التراب و على النجس لكان الامتثال حاصلا أيضا، كما هو واضح.

نعم لو فرض أنّ لسان الدليل هو الأمر بإصابة الجبهة حال السجود التراب الطاهر و النهي عن إصابتها غير التراب و غير الطاهر لما حصل الامتثال في مفروض البحث، و لكنّه خلاف الواقع، و على فرضه أيضا لا فرق بين التعبير بالاشتراط في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 333

المسجد أو في السجود.

فحاصل الكلام أنّا بعد البناء على المعاملة مع معقد الإجماع معاملة المتون لا بدّ أن لا نفرّق بين التعبيرين، سواء على ما ذكرنا من الاعتبار بالقصد كما هو الحقّ، أم على غيره، فتدبّر، و عرفت أنّ الحقّ عدم المعاملة أوّلا، و الدوران مدار

القصد بعد التسليم ثانيا، و اللّٰه هو العالم بحقائق الأحكام.

الأمر الثاني: إنّ المشتبه بالنجس حكمه حكم النجس

إذا كان بين أطراف محصورة مع سائر الشرائط المقرّرة في محلّها، و أمّا المشتبه بين أطراف غير محصورة فلا بأس به، كما حقّق تفصيل ذلك أيضا في الأصول.

الأمر الثالث: إذا لم يتمكّن إلّا من السجود على الموضع النجس،

فهل ينتقل من السجود إلى الإيماء، أو يغتفر نجاسة موضع السجود حينئذ و يجب عليه السجود على النجس؟

لا إشكال في تعيين الثاني إن قلنا بأنّ طهارة الموضع شرط في الصلاة في عرض اعتبار السجدة فيها جزءا، فيعتبر في الصلاة أمور منها السجود و منها طهارة موضعه، فإنّه إذا تعذّر رعاية هذا الأمر الأخير فحيث إنّ الصلاة لا تترك في حال يتعيّن الإتيان بالبقيّة، و هي الصلاة مع السجدة على النجس، و لا حاجة على هذا إلى التشبّث بذيل قاعدة الميسور، بل نفس القطع بعدم سقوط الصلاة بحال كاف في المطلوب كما هو واضح.

و أمّا إن قلنا باعتباره طهارة المسجد في السجود الذي هو جزء الصلاة، فالذي أخذ جزء للصلاة ليس هو مطلق السجود، بل السجود الخاصّ، و هو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 334

السجود مع طهارة المحلّ، فمع تعذّر هذه الخصوصيّة يتعذّر ما هو الجزء للصلاة.

فتارة يقال بأنّ الدليل الدالّ على اعتبار الطهارة ليس له إطلاق شامل لحال عدم التمكّن، بل المتيقّن منه حال التمكّن، فيبقى إطلاق ما دلّ على جزئيّة السجود بحاله، فلا إشكال على هذا أيضا في السجود على النجس من دون وصول النوبة إلى قاعدة الميسور.

و اخرى يقال بأنّ الدليل المذكور مطلق شامل لجميع الأحوال، فلو لم يكن لدليل جزئيّة السجدة إطلاق شامل لهذا الحال ننتقل إلى الإيماء بلا حاجة إلى التشبّث بالقاعدة المذكورة أيضا.

نعم إنّما نحتاج إلى التشبّث بذيلها إذا قلنا بكلا الإطلاقين، أعني: إطلاق شرطيّة الطهارة و إطلاق جزئيّة السجدة، فإنّ

من المقطوع عدم محفوظيّة كلا الإطلاقين، إذ اللازم من محفوظيّتهما ارتفاع التكليف بالصلاة و هو مقطوع العدم، فنعلم إمّا بارتفاع اعتبار الذات، أو بارتفاع اعتبار القيد، فيكون المعيّن للثاني أحد أمرين، إمّا استصحاب بقاء وجوب السجدة، حيث إنّ الموضوع العرفي باق و لم يتغيّر، أو قاعدة الميسور، حيث إنّ الفاقد يعدّ عرفا ميسورا للواجد.

و لكن في كليهما نظر، أمّا الاستصحاب فلما تقرّر في الأصول من عدم حفظ وحدة الموضوع إذا كان من المفاهيم الكلّية الغير المتلبّسة بالوجود الخارجي، و توضيح ذلك يطلب من محلّه.

و أمّا قاعدة الميسور فهي و إن كانت سليمة عن الإشكال المذكور في الاستصحاب فإنّا نقول في كيفيّة التمسّك بها على حسب ما استفدناه من كيفيّة استشهاد الإمام عليه السّلام بآية نفي الحرج لإسقاط قيد المباشرة في المسح في باب الوضوء حيث إنّ المستفاد من استشهاده عليه السّلام أنّه لا بدّ من ملاحظة أنّ أيّ شي ء من أجزاء

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 335

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 335

الوضوء و قيوده نشأ من قبله الحرج فلا بدّ من نفيه و إبقاء الباقي، و هو في موضع السؤال قيد المباشرة، فهو المرفوع دون أصل المسح، فكذلك نقول في المقام: إنّه عند تعذّر طهارة المسجد فالصلاة الجامعة للأجزاء و الشرائط غير مقدورة، و لكنّ العجز عنها ليس مسبّبا إلّا عن العجز عن قيد طهارة المسجد، فلا بدّ من رفع اليد عن هذا القيد فقط، مع إبقاء أصل السجود بحاله.

و بالجملة، فالاستشهاد على فرض السلامة عن الخدشة الآتية لا إشكال فيه.

و لكنّ العمدة هو الخدشة في التمسّك بالقاعدة لأمثال هذه المقامات، إذ من المحتمل

كون المراد بها عدم سقوط ما ثبت استقلالا، لا ثبوتا مقدّميا، و هو إنّما ينفع في المطلوبات المستقلّة، بمعنى أنّه إذا فرض العجز عن واحد منها فلا يوجب سقوط الباقي، فيكون إرشادا إلى ما يحكم به العقل، لا حكما شرعيّا، و لم يعلم في الفقه موضع كان مستند فتوى الفقهاء رضوان اللّٰه عليهم منحصرا في هذه القاعدة دون غيرها حتّى يستكشف عن ثبوت قرينة دالّة على إرادة المطلوبات المقدّمية و الحكم التعبّدي الشرعي من الكلام المزبور و خفيت علينا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 336

المقام الثاني لا يجوز السجود على غير الأرض و نباتها و القرطاس
اشارة

كالجلود و الصوف و الشعر و الوبر و الريش و نحوها، و يستثنى من جواز السجود على النبات ما أكل أو لبس، فهنا أربع دعويات:

الاولى: جواز السجود على الأرض.

و الثانية: جوازه على نباتها، إلّا المأكول و الملبوس.

و الثالثة: جوازه على الكاغذ.

و الرابعة: عدم جوازه على غير هذه.

أمّا الدليل على الأوليين فصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال له: أخبرني عمّا يجوز السجود عليه و عمّا لا يجوز، قال عليه السّلام: السجود لا يجوز إلّا على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلّا ما أكل أو لبس» «1».

و عن الصدوق في العلل نحوه، و زاد عليه: «فقلت له: جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟ قال عليه السّلام: لأنّ السجود خضوع للّٰه عزّ و جلّ، فلا ينبغي أن يكون على

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 337

ما يؤكل و يلبس، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون و يلبسون، و الساجد في سجوده في عبادة اللّٰه عزّ و جلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على

معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها، و السجود على الأرض أفضل، لأنّه أبلغ من التواضع و الخضوع للّٰه عزّ و جلّ» «1».

و خبر الأعمش المرويّ عن الخصال عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين «قال: لا يسجد إلّا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلّا المأكول و القطن و الكتّان» «2». إلى غير ذلك، فلا إشكال في جواز السجود على الأرض و نباتها.

في تعيين ما يراد بالأرض

إنّما الكلام في تعيين ما يراد بالأرض، فإنّ لهذا اللفظ إطلاقات عند العرف، فتارة يطلق و يراد به ما يقابل السماء و جهة العلوّ، كما يقال: سقط على الأرض، أو ضربه على الأرض، و لا يفرق في هذا الإطلاق بين المفروش بالفرش و نحوه و غير المفروش و المخلوط بالأجزاء الغير الأرضيّة مثل الصوف و الشعر و نحوها، و غير المخلوط، ففي جميع هذه الأفراد يصدق بهذا الإطلاق.

و اخرى يطلق و يراد به ما يتعارف في مقام المشي عليه، فإنّه يكون غير

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1، و 1 من الباب 17 من هذه الأبواب.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 338

مفروش بالفرش و نحوه، و لكن مخلوط بالتبن و الحبوبات و الشعر و الخرق و الريش و نحوها، فإذا قيل: الأرض يطهّر بعضه بعضا، بمعنى أنّ النعل و القدم النجسين يطهران بالمشي على الأرض.

و ثالثة يطلق و يراد به نفس الأرض الخالصة عن كلّ ما سواه، و هو المراد في باب التيمّم و في هذا الباب، و المعيّن من هذه الوجوه هو القرينة الخارجيّة، و هي في المقام المنع

عن السجود على الريش و الشعر و الوبر و غير ذلك، أو يقال: إنّ الأرض حقيقة في الخالصة، و إنّما يراد به أحد الأوّلين بالقرينة، فلا يحتاج إرادة الثالث في المقام إلى إقامة القرينة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المرجع في تشخيص أنّ أيّ شي ء أرض و أيّ شي ء ليس بها هو العرف، كما هو الحال في تشخيص النبات أيضا، و لا إشكال مع الجزم بأحد الطرفين و لو فرض صدق عنوان المعدن أيضا، فإنّ المعدن في هذا الباب ليس له عنوان كما في باب الخمس، فلا مهمّ لنا في تشخيص أنّه في أيّ مقام يصدق هذا العنوان و في أيّ مورد لا يصدق، بل ندور مدار صدق اسم الأرض، فمعه لا نبالي بصدق المعدن كما في طين الأرمني و ما يسمّى بالفارسيّة «گل سر شور» و مع عدم صدق الاسم لا يجوز السجود كما في الذهب و الفضّة و نحوهما و لو فرض عدم صدق المعدنيّة.

أمّا لو شككنا في الصدق العرفي من جهة الشكّ في سعة دائرة المفهوم و ضيقها، لا من جهة الأمور الخارجيّة، كما إذا شككنا في الآجر و الخزف و نحوهما أنّهما هل خرجا بواسطة طروّ الحالة الثانويّة العارضة عليهما بواسطة الطبخ عن الحقيقة الأوّلية و صارا شيئا آخر و موضوعا مغايرا كمغايرة الحيوان مع النطفة، و الحاصل أنّه هل تحقّق فيهما الاستحالة و تبدّل الحقيقة، أو أنّهما باقيان على حقيقتهما الأوّلية

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 339

و إنّما الحادث تغيير بعض أوصافهما، فهل الأصل يقتضي جواز السجود أو عدمه، و كذلك لو حصل هذا الشكّ بالنسبة إلى النبات.

قد يقال بالجواز تارة بواسطة استصحاب بقاء الحقيقة الأوّلية الأرضيّة أو النباتيّة و

عدم تحقّق الاستحالة، و اخرى بواسطة أصالة البراءة بعد تسليم عدم جريان الاستصحاب، فإنّ المقام من موارد الشكّ في القيد الزائد، فإنّ المتيقّن الأخذ في المكلّف به هو الأعمّ ممّا يشمل الخزف و الآجر مثلا، و أمّا خصوص ما لا يشملهما فالتقييد به مشكوك، فمنفي بالأصل على ما هو الحقّ في الدوران بين المطلق و المقيّد.

و قد يدفع الأوّل بأنّ المفروض هو الشكّ في بقاء الهذيّة المحفوظة في الحالتين، و إلّا فلو فرض القطع ببقائها لما احتجنا إلى الاستصحاب، بل نحكم بمقتضى إطلاق الدليل الدالّ على السجود على الأرض، فإنّ المفروض احتمال حصول الاستحالة على نحو استحالة النطفة حيوانا، فلو كان هكذا فالمتحقّق عند العرف وجود حدث بعد أن انعدم وجود آخر، و لا يقولون: هذا كان نطفة في قطعة من الزمان فصار حيوانا، فلا يرون مشارا إليه محفوظا بين الحالتين، و إذا شكّ في هذا فقد شكّ في الموضوع، فلا مجرى للاستصحاب، و الحاصل أنّ الهيولى الذي يراه العقل لا يراه العرف.

و يدفع الثاني بأنّ المورد الذي يقول فيه القائل بالبراءة في المسألة المذكورة إنّما هو خصوص ما إذا كان الجامع واقعا تحت الخطاب و شكّ في أنّه هل وقع الخصوصيّة تحته أيضا أو لا، فمقتضى الأصل عدم لزوم الخصوصيّة.

و أمّا إذا شكّ في أنّ العنوان الذي وقع تحت الخطاب هل هو عبارة عن واجد الخصوصيّة أو أعمّ منه و من فاقدها، كما لو علمنا بأنّ الخطاب تعلّق بمفهوم الحيوان،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 340

و لكن شككنا في أنّه بحسب مفهومه هل أخذ فيه خصوصيّة الناطقيّة أو لا؟ فليس لنا أن نقول: إنّ القدر المتيقّن من هذا الخطاب هو الجامع، و الخصوصيّة مشكوكة،

فينفى بالأصل، بل الشكّ ممحّض حينئذ في مقام الامتثال، فإنّ الجامع نقطع بأنّه لم يتعلّق به خطاب أصلا على تقدير كون المفهوم مأخوذا فيه الخصوصيّة إلّا بنحو الاندماج و الاندكاك، كاندماج الحيوان في مفهوم الإنسان.

فإن قلت: ما الفرق بينه و بين مفهوم الصلاة إذا تردّد بين المركّب من العشرة أو التسعة؟

قلت: إن كان مفهومها عبارة عن الأمر البسيط فهو أيضا مثل ما نحن فيه، و أمّا إذا كان عبارة عن نفس المركّب من الأجزاء فليس ما يشار إليه و يقال: إنّه مقطوع و مردّد بين العشرة و التسعة إلّا لفظ الصلاة، و أمّا المعنى فليس إلّا التسعة المقطوعة و الزائد المشكوك.

و الحاصل: إنّه فرق بين وقوع الخطاب أوّلا على المركّب أو المقيّد فشكّ في جزء أو قيد، فالانحلال في متعلّق الخطاب إلى المقطوع و المشكوك حاصل، و يكون مجرى للبراءة، و بين توجّهه إلى العنوان البسيط المنتزع من المركّب أو المقيّد، فإنّ الانحلال في متعلّق التكليف حينئذ غير ثابت، فلا يمكن أن يقال: هذا المقدار متيقّن و الزائد مشكوك.

نعم الانحلال في مقام تطبيق ذلك العنوان البسيط، فلا يعلم أنّه منطبق على المقيّد أو على الأعمّ منه و من الفاقد، أو على المركّب التامّ، أو الأعمّ منه و من الناقص، و لا شكّ أنّ الجاري حينئذ هو الاشتغال.

نعم، لو فرض كون التكليف متعلّقا بالطبيعة بنحو الاستغراق كما لو قال:

أكرم كلّ فاسق فتردّد الأمر بين أنّه خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منه و من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 341

مرتكب الصغيرة فالأفراد المرتكبة للكبيرة مقطوعة، و الأفراد المرتكبة للصغيرة فقط مشكوكة فيرجع إلى البراءة.

و أمّا إذا كان متعلّقا بنحو صرف الوجود كما إذا تعلّق إرادته بإكرام

الفاسق بهذا النحو فلا يجوز الاكتفاء في مقام الامتثال بإكرام مرتكب الصغيرة فقط، بل لا بدّ من الاحتياط بإكرام مرتكب الكبيرة الذي هو المقطوع المصداقيّة.

و سرّ ذلك ما ذكرنا من الفرق بين ما إذا كان الجامع بنحو الاندماج في العنوان البسيط متعلّقا للخطاب، و بين وقوعه مستقلا متعلّقا له، غاية الأمر نشكّ في انضمام ضميمة إليه أيضا أو لا، فالذي يحكم بالبراءة فيه في المسألة المذكورة هو الثاني، و أمّا الأوّل فلا محيص فيه عن الاشتغال.

و ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ الأرض عنوان بسيط نشكّ في أنّ قيد عدم الطبخ بحدّ الخزفيّة أو الآجريّة مأخوذ فيه أو لا، و التكليف متعلّق بالسجود عليه بنحو صرف الوجود، فلا بدّ في مقام الخروج عن عهدته [من] الاقتصار على ما هو المصداق له قطعا، هذا كلّه حكم الشكّ.

و أمّا الكلام في الخزف و الآجر فالظاهر عدم الشكّ فيهما، لعدم خروجهما عن صدق اسم الأرض، فإنّهما تراب طبخ، و كما أنّ اللحم المطبوخ لا يخرج بالطبخ عن اسم اللحم فكذا هذان، و من المعلوم أنّ المراد بالأرض أعمّ من القطعة المنفصلة منها، و لا يختصّ بأجزائها حال الاتّصال بها.

و لهذا كان مولانا الصادق صلوات اللّٰه عليه لا يسجد إلّا على تربة الحسين عليه السّلام على ما في الوسائل عن إرشاد الديلمي، و ورد الأخبار بجواز السجدة على الخمرة المعمولة من سعف النخل.

و الحاصل: إنّ الأرض في هذا الباب و في التيمّم واحد، و يراد بها في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 342

الموضعين الأعمّ من الاتّصال و الانفصال، و بعد عدم إيجاب الطبخ خروج الشي ء عن حقيقته فاللازم جواز التيمّم و السجود على الخزف و الآجر، و

على فرض الشكّ فالاستصحاب فيهما جار بلا إشكال، لبقاء الموضوع العرفي، أعني: استصحاب جواز السجدة قبل الطبخ.

و من هنا يظهر حال في الجصّ و النورة «1»، سواء في الجصّ قبل الطبخ أم بعده، فإنّهما أوّلا: غير مشكوك كونهما أرضا و إن صدق عليهما اسم المعدن أيضا، لأنّك عرفت أنّ المعدن في هذا الباب و في التيمّم لا موضوعيّة له، و إنّما نقول في الجواهر و الملح و الزجاج بالمنع، للخروج عن اسم الأرض، لا لكونها معدنا، و ثانيا: على فرض الشكّ نجري الاستصحاب الحكمي.

و لا إشكال في عدم جواز السجدة على الصاروج باعتبار اشتماله على الرماد، و هو و إن خرج عن النبات، و لكن لا يسمّى باسمه و ليس الأجزاء الأرضيّة متميّزة عن غيرها، و قد ورد المنع عن السجود عليه في بعض الروايات أيضا.

و كذا الحال في الزجاجة، فإنّها و إن خرجت عن الأرض، و لكنّها استحالت إلى حقيقة أخرى كالذهب و الفضّة و أمثالهما.

و لكن الإشكال في معنى رواية وردت فيها، و هي ما رواه الكليني و الشيخ رحمهما اللّٰه عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين أنّ «بعض أصحابنا كتب إلى أبي الحسن الماضي صلوات اللّٰه عليه يسأله عن الصلاة على الزجاج، قال: فلمّا نفذ كتابي إليه تفكّرت و قلت: هو ممّا أنبتت الأرض و ما كان لي أن أسأل عنه، قال: فكتب عليه السّلام إليّ: لا تصلّ على الزجاج، و إن حدّثتك نفسك أنّه ممّا أنبتت

______________________________

(1) آهك.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 343

الأرض، و لكنّه من الملح و الرمل و هما ممسوخان» «1». و في رواية كشف الغمّة:

قال: فإنّه من الرمل و الملح مسخ.

و الإشكال بناء على الرواية

الاولى من جهات:

الاولى: تقريره عليه السّلام السائل في زعم أنّ الزجاج من قسم النبات، و الثانية:

أنّ المستفاد منها عدم جواز السجود على الرمل، و الثالثة: كونهما ممسوخين، فإن كان المراد من المسخ خروجهما عن الصورة الأرضيّة فهو في الملح واضح و لا يصحّ في الرمل.

و يمكن أن يكون المراد من قوله عليه السّلام: و لكنّه إلخ نفي توهّم النباتيّة، فالمعنى أنّه ليس الأمر كذلك، لأنّه من الملح و الرمل، فيتوجّه الإشكال بأنّه و إن كان ليس نباتا، و لكنّه من الأجزاء الأرضيّة، فأجاب بقوله عليه السّلام: و هما ممسوخان، يعني أنّه مع ذلك لا يجوز السجود عليه، لأنّهما ليسا باقيين على الصورة الأرضيّة، أمّا الملح فواضح، و أمّا الرمل فلصيرورته زجاجا، فالمراد من مسخ الرمل إنّما هو بالنسبة إلى الحالة الفعليّة، و اللّٰه تعالى هو العالم.

و كيف كان فالرواية الأخرى خالية عن الإشكال رأسا.

و أمّا القير فلا إشكال في خروجه عن اسم الأرض و صيرورته حقيقة أخرى، و لكن اختلفت الأخبار في جواز السجود عليه و عدمه.

فمن المجوّزة: خبر عمرو بن سعيد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام «قال:

لا تسجد على القير و لا على القفر و لا على الساروج» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 12 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 344

و صحيح زرارة «قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: أسجد على الزفت يعني القير؟

فقال عليه السّلام: لا و لا على الثوب الكرسف، و لا على الصوف، و لا على الشي ء من الحيوان، و لا على طعام، و لا على شي ء من ثمار الأرض، و لا على

شي ء من الرياش» «1».

و من المانعة: خبر معاوية عمّار «قال: سأل المعلّى بن خنيس أبا عبد اللّٰه عليه السّلام و أنا عنده عن السجود على القفر و على القير، فقال عليه السّلام: لا بأس به» «2».

و مثله خبره الآخر «3»، و خبره الثالث «4»، و خبر إبراهيم بن ميمون «5»، و في خبر منصور بن حازم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: القير من نبات الأرض» «6».

و لو لا مخافة الإجماع المنقول و الشهرة المحقّقة على خلاف الأخبار المجوّزة لكان مقتضى الجمع العرفي هو الحمل على الكراهة، و هو أولى من حمل أخبار الجواز على تقيّة السائل و ضرورته، فإنّ ذلك مضافا إلى عدم الشاهد ينافيه ما في الخبر الأخير من التعليل بأنّه من نبات الأرض الذي يراد به إمّا الحقيقة، فيكون شارحا للمراد من النبات في الأخبار الأخر و أنّه كلّ ما يخرج من الأرض كخروج النبات، و لازمة جواز السجدة على الماء المنجمد، فإنّه أيضا يخرج من الأرض مع استقرار

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 5.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 6.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 7.

(6) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 345

الجبهة عليه، و إمّا التعبّد و الإلحاق الحكمي.

و الحاصل أنّ العمدة مخالفة أخبار الجواز للمشهور، و بذلك يسقط عن درجة الاعتبار و الحجّية.

هذا كلّه

هو الكلام في الأرض.

و أمّا نباتها [الأرض]

فقد عرفت النصّ الدالّ على جواز السجود عليه مع استثناء ما أكل منه أو لبس، و لكن في بعض الأخبار استثناء الثمرة من النبات، فيقع التعارض بين العقد الإثباتي لكلّ منهما و بين العقد السلبي في موردي الافتراق، فإنّ مقتضى العقد الإثباتي في الأوّل جواز السجود على غير المأكول و إن صدق عليه الثمرة، كالحنظل و نحوه، و مقتضى العقد السلبي في الثاني عدمه. و مقتضى العقد الإثباتي في الثاني جوازه على غير الثمرة و إن كان مأكولا كالخسّ و نحوه، و قد كان مقتضى العقد السلبي في الأوّل عدمه، فيقع بين الطائفتين في الحنظل و ثمر الشوك و في الخسّ و شبهه، و حينئذ ففي مقام الجمع يحتمل وجوه:

الأوّل: تقييد كلّ من العنوانين بالآخر، فيقيّد المأكول بما إذا كان ثمرة، و الثمرة بما إذا كان مأكولا، فالذي لا يجوز السجود عليه هو ما اجتمع فيه الأمران، و ما تخلّف فيه أحدهما يجوز السجود عليه و إن تلبّس بالآخر.

الثاني: أن يجعل أحدهما أصلا و الآخر معرّفا له و من باب المثال لأجله، و هذا يتصوّر على وجهين:

الأوّل: أن يكون الأصل هو المأكول، و إنّما أريد بالثمرة في الأخبار الثانية الإشارة إليه بملاحظة انحصار أفراد المأكول من النبات بحسب الغالب في الثمار، و أمّا الاسفناج و الخسّ و البقول فمن الأفراد النادرة، و الباذنجان و البطّيخ و الخيار و نحوها و الحبوبات كلّها داخلة في قسم الثمار.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 346

و الثاني: أن يكون الأصل في المنع هو الثمرة، و إنّما عبّر في الأخبار الأول بالمأكول بملاحظة انحصار أفراد الثمار غالبا في المأكول، و ندرة ما كان منها غير مأكول.

و

يمكن أن يمنع شمول كلمة الثمرة في لغة العرب لمطلق ما تحمله الشجرة و لو كان ممّا لا ينتفع به، بل خاصّة بما كان ممّا ينتفع به فائدة معتدّا بها، فليس الشوك و الحنظل من أفراد هذا المفهوم.

و يؤيّد ذلك استعمالاته المجازيّة كما يقال: فلان ثمرة فؤادي، أو أنّ الأمر الفلاني مثمر لكذا، و كلّ ذلك يستعمل في مقام الاستفادة و الاستنفاع بالشخص أو بالشي ء.

و على هذا فلفظة «الثمرة» أخصّ مطلقا من المأكول، فإنّ مفاد أحد الخبرين أنّ ما لا يجوز السجود عليه من النبات منحصر في المأكول، و مفاد الآخر أنّه منحصر في الثمر، و الثاني أخصّ مطلق من الأوّل، فمقتضى القاعدة تخصيص الأوّل بالثاني.

اللّٰهمّ إلّا أن يتشبّث بذيل التعليل المتقدّم عن العلل لعدم جواز السجدة على المأكول و الملبوس بأنّ «أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون و يلبسون، و الساجد في سجوده في عبادة اللّٰه عزّ و جلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها» «1».

فإنّ مفاد هذه العلّة أنّ كلّ ما كان مأكولا لا يجوز السجود عليه و إن لم يكن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1، و الباب 17 من هذه الأبواب، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 347

ثمرة كالخسّ و الاسفناج و البقولات، فهذا يوجب أن يكون المقصود من ذكر الثمرة التمثيل للمأكول بواسطة الغلبة، كما مرّ في الوجه الثاني.

الفرق في الحكمة في جانب الوجود و العدم

لا يقال: ليست هذه بأزيد من حكمة، و هي ليست بمطّردة، فلا يمكن جعلها شاهدة.

لأنّا نقول: شأن الحكمة و إن كان عدم الاطّراد، لكن في خصوص جانب العدم، أعني: لا يدور عدم الحكم مدار عدمها، و

أمّا في جانب الوجود فلا يمكن أن لا يدور مدارها بأن لا يوجد الحكم مع وجودها، فيمكن أن يوجد الحكم في الأعمّ بالملاك الأخصّ، و أمّا وجوده في الأخصّ بالملاك الأعمّ فغير جائز، فإذا كان الملاك في هذا الباب للمنع هو المعبوديّة لأهل الدنيا و هو موجود في جميع المأكولات حتّى في مثل الخسّ، فلا يجوز تخصيص حكم المنع بما عدا الخسّ.

و بالجملة فجعل هذه الحكمة شاهدة لترجيح أخبار استثناء المأكول من النبات خال عن الإشكال.

ثمّ إنّ المراد بالمأكول ما كان مأكولا للنوع و لو لم يكن للشخص، و أمّا إذا كان مأكولا عاديا للشخص دون النوع فلا يضرّ حتّى بالنسبة إلى الشخص المعتاد به، و ذلك لانصراف المأكول إلى ما كان مضافا إلى نوع الناس، نعم يكفي كونه مأكولا لأهل صقع في ممنوعيّته حتّى بالنسبة إلى سائر الأصقاع، فإنّه يصدق عليه أنّه مأكول الإنسان أو مأكول الناس، كما هو المنصرف إليه الإطلاق، هذا.

و لا يلزم كونه مأكولا فعليّا بلا حاجة إلى علاج من طحن و خبز و نحوهما،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 348

بل يعمّ ذلك و ما يحتاج إلى العلاج، فالمراد هو المعدّ لأكل الإنسان و لو بعد العلاج، فينطبق على الحنطة المكتسية بالقشر الأعلى، فإنّها ليست معدّة لغير الأكل من حوائج الإنسان. نعم الشعير معدّ لأكل الدوابّ أيضا، أمّا لحاجة الإنسان فلا يعدّ إلّا لأكله بحيث يعدّ غيره في جنبه نادرا، فالمعيار هو الإعداد لأكل الإنسان، بمعنى أنّه لا ينفع الإنسان به في غير الأكل إلّا نادرا.

و هكذا الكلام في جانب الملبوس الذي ورد استثنائه أيضا في النصوص عن النبات، فالمراد به أيضا هو ما أعدّ للباس الإنسان، و لكنّ الفرق أنّه

لا يصدق على القطن و الكتّان قبل الغزل أنّه معدّ للّباس، بل هو ممّا أعدّ له و لغيره كالافتراش و نحوه، فالإنسان ينتفع بهما في ما عدا اللباس أيضا بطريق الشيوع و الكثرة، فلا يكون معدّا لخصوص لبس الإنسان.

و هكذا الكلام بعد الغزل، فإنّه أيضا غير معدّ لحاجته اللبسيّة خاصّة، بل يشترك فيه هي و الحاجة الفرشيّة و غيرهما، و بعد الغزل و النسج يمكن الفرق بين أنواعه، فبعض المنسوجات لا يعدّ إلّا للفرش بحيث يكون لبسه نادرا، و بعضها بالعكس، و بعضها قد يكون لبسا و قد يكون فرشا، و ليس ممحّضا لشي ء منهما.

و بالجملة، فالعبرة بصدق الإعداد لخصوص لبس الإنسان، و هو في القطن و الكتّان غير مسلّم، بل و فيهما بعد الغزل، بل و بعد بعض أقسام النسج، نعم يصدق في بعض أنواعه، حيث إنّه معدّ لخصوص اللباس، بحيث يكون سائر الانتفاعات غير ملحوظ فيه إلّا نادرا أو تبعا، لا في عرض اللباس.

و من هاهنا يمكن لنا طريق جمع بين الأخبار المتعارضة في خصوص القطن و الكتّان بالمنع عن السجود عليهما و التصريح بالجواز مع عدم التقيّة و الضرورة، فإنّ الجمع بينهما بالكراهة مع تسليم كونهما مصداقين للملبوس بعيد.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 349

و الجمع بحمل المجوّزة على حال تقيّة السائل ينافيه تصريح السائل بالسؤال عن حكم غير هذه الحالة، و بحملها على تقيّة الإمام عليه السّلام يبعّده أنّه في معنى الطرح، و هو بعد عدم إمكان الجمع، و هو ممكن بمثل ما قلنا أعني: حمل أخبار المنع على ما أعدّ منهما للّبس، و أخبار الجواز على غير المعدّ، كنفس القطن و الكتّان أو المغزولين أو المنسوجين ببعض الأنواع المعدّ لغير

اللبس أو المعدّة للأمرين أو الأمور بشهادة ما وقع الاستثناء فيه بالملبوس من النصوص.

و يمكن أن يقال بأنّ النسبة بين ما دلّ على المنع من السجود على الملبوس من النبات و ما دلّ على جوازه على القطن و الكتّان و إن كان عموما من وجه، لافتراق الأوّل في الملبوس النباتي من غير القطن و الكتّان و الثاني في القطن و الكتّان الغير المنسوجين، إلّا أنّ ظهور الأوّل في مادّة الاجتماع أعني: منسوجهما أقوى، فإنّ إخراجه عنه يوجب تقييده بالفرد النادر، بل لعلّه كان معدوما في زمان الصدور، و إنّما حدث في هذه الأزمنة.

و هذا بخلاف تقييد دليل الجواز في القطن و الكتّان بغير الملبوس منهما، فإنّه فرد شائع، فيكون حال دليل المنع عن الملبوس حال الخاصّ المطلق بالنسبة إلى الدليل المذكور، فيخصّص عموم الدليل المذكور بما عدا الملبوس منهما.

و حينئذ فإن قلنا: إنّ العامّ المخصّص إنّما يعارض العامّ الآخر المنافي معه بمقدار حجّيته و هو ما بقي بعد التخصيص فالنسبة بين الدليل المذكور و ما بقبالة من مطلقات المنع في القطن و الكتّان نسبة الخاصّ المطلق إلى العامّ، فيخصّص به دليل المنع بخصوص الملبوس.

و إن قلنا: إنّ النسبة لا تنقلب، بل هما يعدّان عرفا من المتباينين، غاية الأمر لأحدهما مخصّص منفصل، فالمعيار في تعيين النسبة هو الحجّية الذاتيّة، و هي منعقدة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 350

في كلّ منهما بالنسبة إلى العموم.

فحينئذ نقول: إنّ الخاصّ المنفصل في المقام أعني: الدليل المانع عن الملبوس كما أنّه خاصّ بالنسبة إلى مطلقات الجواز بالتقريب المتقدّم، كذلك له هذه النسبة أعني: الخصوص بملاحظة اشتماله على الحصر الدالّ على جواز السجود فيما عدا الملبوس بالنسبة إلى مطلقات المنع، فكما

يخصّص المطلقات الأوّل بمفاد عقده السلبي، كذلك يخصّص المطلقات الثانية بمفاد عقده الإثباتي، فكأنّه قيل: لا يجوز السجود على الملبوس من النبات، و يجوز على غير الملبوس منه، فالمفاد الأوّل مخصّص لمطلقات الجواز، و الثاني لمطلقات المنع.

إن قلت: ما ذكرت في تقريب أظهريّة المفاد السلبي من مطلقات الجواز من لزوم التقييد بالفرد النادر لو قيّد الملبوس بما عدا القطن و الكتّان غير جار في المفاد الإثباتي، فإنّ النسبة بينه و بين مطلقات المنع هو العموم من وجه كما مرّ، و كما يمكن تقييد المطلقات المذكورة بخصوص الملبوس من القطن و الكتّان بدون لزوم التقييد بالفرد النادر، كذلك يمكن تقييد المفاد الإثباتي المذكور أيضا بما عدا القطن و الكتّان من سائر النباتات و إخراج غير الملبوس منهما عن تحته من غير لزوم التقييد بالفرد النادر كما هو واضح، فأيّ مرجّح للأوّل على الثاني؟

قلت: لو كان المفادان منفصلين في عبارتين كان ما ذكرته حقّا، و أمّا إذا كان المفاد الإثباتي فرعا على السلبي و حاصلا بانحلال الحصر الموجود في السلبي فلا مجال لما ذكرت، فإنّ ظهور الحصر غير ظهور العموم، و بعبارة أخرى: ليس حال الحصر مع العموم حال العامّين بأن يكون الأمر دائرا بين أحد التخصيصين، بل يدور بين التخصّصين أو رفع اليد عن حقيقيّة الحصر و حمله على الإضافيّة، و هذا أبعد من رفع اليد عن العموم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 351

و إن أبيت إلّا عن أنّه أيضا عامّ آخر في قبال عامّ فنقول: لا أقلّ حينئذ من سقوط دليل المنع عن الحجّية بواسطة طروّ الإجمال، فإنّه لو سلّمنا عدم أظهريّة الحصر فلا أقلّ من صيرورته موجبا لسقوط دليل المنع و كونهما مجملين، كما

هو الحال في كلّ عامّين من وجه.

و حينئذ فلا مانع من الأخذ بدليل المنع في ما أعدّ للّبس من القطن و الكتّان، فإنّ عدم جواز السجود عليه قدر متيقّن من دليل المنع و إن فرض إجماله بالنسبة إلى غير ما أعدّ، كما أنّه لا مانع من الأخذ بدليل الجواز في ما لم يعدّ، بعد فرض تخصيصه في ما أعدّ، فيرتفع التعارض بين دليلي المنع و الجواز، لانحصار مورد حجّية الأوّل بما أعدّ، و مورد حجّية الثاني بغيره.

و حاصل ما ذكرنا أنّه يمكن الجمع بين الأخبار الثلاثة أوّلا بحمل الأظهر على الظاهر، و النتيجة عدم الجواز على المعدّ للّبس، و الجواز على غيره من القطن و الكتّان، و ثانيا على فرض الإجمال من جهة التردّد في أظهريّة الحصر بالنسبة إلى العموم لأوله إلى العموم أيضا بالأخذ بالقدر المتيقّن من مطلقات المنع، و ما بقي بعد التخصيص من مطلقات الجواز، و بعبارة أخرى: الأخذ بما بقيت كلتا الطائفتين فيه على الحجّية، أعني: الحكم بعدم الجواز في ما أعدّ الذي هو المتيقّن من أخبار المنع، و بالجواز في غيره الذي هو الباقي بعد التخصيص تحت أدلّة الجواز.

و إن أبيت عن كلّ ذلك و قلت: بل مطلقات الجواز و مطلقات المنع من قبيل المتعارضين و لا يخرجان عن موضوع التعارض العرفي بهذه الوجوه فنقول: إنّ حكم المتعارضين إمّا التخيير و إمّا الترجيح، و نحن على كلّ تقدير يلزمنا الحكم بعدم الجواز بالنسبة إلى ما أعدّ للّبس من القطن و الكتّان، فإنّه لو تخيّرنا مطلقات الجواز أو رجّحناه فلا بدّ من تخصيصها بما دلّ على استثناء الملبوس من النبات بعد ما تقدّم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 352

من تفسيره

بما أعدّ للّبس و أنّه غير موجود في القطن و الكتّان قبل النسج، بل و في بعض أقسام النسج، فإنّ الدليل المذكور على هذا بضميمة عدم وجود المصداق الملبوس النباتي في ذلك الزمان إلّا القطن أو الكتّان يصير كالخاصّ المطلق بالنسبة إلى طرفي التعارض، فلا يحسب في شي ء منهما، فهو سليم عن المعارض على كلّ تقدير.

نعم هذا كلّه بناء على الأساس الذي أسّسنا من تفسير الملبوس بما أعدّ للّبس و أنّ القطن و الكتّان على قسمين، قسم منهما معدّ له و قسم غير معدّ.

و أمّا بناء على القول بأنّ القطن و الكتّان من أوّل إنباتهما من الأرض يصدق عليهما عنوان الملبوس، فيكون دليل استثناء الملبوس أيضا من أطراف التعارض، لما عرفت من كونه نصّا في إرادة القطن و الكتّان، لمعدوميّة غيرهما في ذلك الزمان، بحيث لو حمل على غيرهما كان لغوا بلا مورد.

و يمكن جعل هذا مؤيّدا لما أسّسنا، فإنّه بناء عليه لا يبقى هذا الاستثناء بلا مورد في شي ء من التقادير الثلاثة المتقدّمة أعني: الجمع الدلالي أو الإجمال الدلالي أو التعارض، و أمّا على خلافه فيبقى الاستثناء المذكور بلا مورد لو أخذ بأخبار الجواز و رجّحت على مطلقات المنع.

لا يقال: هذا الاستثناء أيضا مثل مطلقات المنع، فكما طرحت هي، يطرح هذا.

لأنّا نقول: كلّا، فإنّ الاستثناء غير قابل للطرح مع فرض الأخذ بالمستثنى منه، فإنّهما خبر واحد لا يقبلان التفكيك في السند، و المفروض أنّ المستثنى منه أعني: جواز السجود على الأرض و نباتها لا معارض له، فلا بدّ من أخذه، فكيف يطرح المستثنى مع ذلك؟

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 353

و من هنا نقول: لو لم يكن في أخبار المنع غير خبر الاستثناء، بمعنى

أنّه لم يكن لنا خبر دالّ بالاستقلال على منع السجود على القطن و الكتّان، بل كان منحصرا في ما دلّ عليه بصورة الاستثناء، أو ببعض الفقرات مع دلالة سائر فقرأته على مطلب آخر فلا يمكن إدراج أخبار المسألة تحت الأخبار العلاجيّة، لأنّ مصبّها ما إذا كان الأمر دائرا بين الأخذ بهذا في تمام المفاد، و طرح ذاك رأسا، و بين العكس، و في ما إذا كان أحد طرفي التعارض بعض فقرأت خبر و إن كان الطرف الآخر خبرا مستقلّا لا يكون الأمر كذلك، فهو كالعامّين من وجه، حيث ليسا داخلين في الأخبار العلاجيّة في مادّة التعارض لأجل ما ذكر.

فالوجه الذي أفادوه لإخراج العامّين من وجه قاض بإخراج ما نحن فيه أيضا، غاية الأمر أنّه موجود هناك في كلا الطرفين، و هاهنا في طرف واحد، فلا بدّ من المعاملة معهما على حسب ما يقتضيه القاعدة في كلّ تعارض بين الفردين من الأمارة و هو التساقط و الرجوع إلى الأصل، فيؤخذ حينئذ بالمستثنى منه في أخبار المنع أعني: جواز السجود على الأرض و نباتها، و يرجع بالنسبة إلى المستثنى و هو القطن و الكتّان بعد تساقط الدليلين إلى مقتضى الأصل العملي و هو البراءة على ما هو التحقيق في الشكّ في القيود، هذا.

و أمّا لو كان لنا علاوة على ما ذكر في بعض فقرأت الخبر الواحد بصورة الاستثناء أو غيره خبر مستقلّ آخر دالّ بتمامه على المنع عن القطن و الكتّان فهل يمكن القول حينئذ بكون هذا الخبر مع الخبر المستقلّ الآخر المجوّز للسجود عليهما من موضوع الأخبار العلاجيّة أو لا؟

الذي رجّحه شيخنا الأستاذ دام ظلّه العالي هو الثاني، بملاحظة أنّ مصبّها هو الخبران اللذان كلّ واحد

منهما في حدّ ذاته لو لا المعارض كان أركان الحجيّة فيه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 354

تامّة، و هاهنا ليس كذلك، إذ الأخبار المجوّزة لو فرض عدم المعارض لها لم يكن بحجّة بملاحظة الاستثناء الدالّ على المنع عن القطن و الكتّان، فهو كان معارضه موجودا أم لا غير حجّة، لطروّ الإجمال عليه من قبل هذا الاستثناء المنفصل.

و بعبارة أخرى: الخبر المشتمل على الاستثناء لا معارضة له مع أخبار المنع، لتوافقهما في المفاد، فأخبار المنع يتمّ أركان الحجّية فيها، سواء كان معارضها هو أخبار الجواز أم لم يكن، أمّا على الثاني فواضح، و أمّا على الأوّل فلأجل أنّ ذلك المعارض معارض بالاستثناء.

فإن قلت: لم لا يكون الاستثناء أيضا مع أخبار المنع في عرض واحد معارضين لأخبار الجواز، فإنّ المفروض هو القول بكون عنوان ما لبس متّحدا مع القطن و الكتّان، و الإغماض عن أخصّيته عنهما بالبيان المتقدّم، و من المعلوم أنّ تعدّد أفراد الخبر في أحد طرفي التعارض و وحدته في الآخر لا يوجب خروج المورد عن الأخبار العلاجيّة.

قلت: هذا الذي ذكرت إنّما يتمّ في ما إذا كان الأخبار المستقلّة الدالّة على المنع متعدّدة، و ليس هكذا محلّ الكلام، فإنّ الاستثناء جزء من الخبر المشتمل على فقرأت، و ليس خبرا على حدة مجزّى عن سائر الفقرات، و على هذا فلا يمكن احتسابه مع سائر الأخبار في عرض واحد.

هذا ما استفدته من إفادات شيخنا الأستاذ دام ظلّه، و لكن لم يتّضح لي وجه لما أفاده دام ظلّه، فإنّه إن كان وجه تعيّن الأخذ بأخبار المنع هو الأخبار العلاجيّة فقد فرضنا خروج أخبار الجواز منها، و معه كيف يتحقّق موضوعها و هو مجي ء الخبرين المتعارضين، و إن

كان الوجه مقتضى قاعدة باب التعارض مع قطع النظر عن الأخبار العلاجيّة، فلا شكّ أنّه ليس مقتضاها إلّا تعارض الطوائف الثلاث من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 355

دون تقدّم لإحداها على الأخرى، فيطرأ الإجمال على الجميع، و هو دام ظلّه أعرف بما أفاد، و قد استشكل بذلك فضلاء المجلس أيضا، كثّر اللّٰه أمثالهم.

و يجوز السجود على الكاغذ و ادّعي عليه الإجماع، و يدلّ عليه صحيحة عليّ بن مهزيار «قال: سأل داود بن فرقد أبا الحسن عليه السّلام عن القراطيس و الكواغذ المكتوبة هل يجوز السجود عليها أم لا؟ فكتب عليه السّلام: يجوز» «1».

و صحيحة صفوان الجمّال «قال: رأيت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام في المحمل يسجد على القرطاس» «2».

و صحيحة جميل بن درّاج «عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه كره أن يسجد على قرطاس عليه كتابة» «3»، حيث يدلّ بظاهره على عدم الكراهة مع عدم الكتابة، هذا.

و لكنّ الشأن كلّه في إثبات أنّ الكاغذ و القرطاس مأخوذان بعنوانهما موضوعين للحكم، حتّى أنّه لا يختلف باختلاف المصاديق بحسب الأزمنة، كما هو الحال في الخمر، حيث علمنا أنّ الحكم معلّق على عنوانه، فلو فرض أنّ مصاديقها في زمن الخطاب كانت متّخذة من العنب و في ما بعده من الزمان يتّخذ من شي ء آخر نقول ببقاء الحكم بواسطة بقاء العنوان و عدم تبدّله و إن تبدّلت مصاديقه، أو أنّ العنوان جعل عبرة لمصاديقه الموجودة في زمن الخطاب، و حيث كانت المصاديق في ذلك الزمان واجدة لخصوصيّة خاصّة و لم يكن المتعارف في ذلك الزمان فاقدة لها، فلهذا أطلق الحكم و لم يحتج إلى التقييد، و لعلّ المصاديق في هذا الزمان غير واجدة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة،

الباب 7 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 356

لتلك الخصوصيّات.

و مع هذا الاحتمال لا يبقى لنا مجال للتمسّك بالإطلاق، فإنّه فرع الحمل على إرادة العنوان بما هو هو، و أمّا مع جعله عبرة و إشارة إلى الأفراد الموجودة في زمن الخطاب فلا مجال لهذا التمسّك.

إن قلت: الظاهر من العناوين المجعولة تحت الأحكام كونها بوجه الموضوعيّة لا المعرّفية.

قلت: ليس وجه المعرّفية معنى مجازيّا، بل اللفظ قد استعمل معه أيضا في معناه الحقيقي، أ لا ترى أنّك لو تلفّظت بالماء و جعلته عبرة لما هو الموجود في الخارج منه من المياه العذبة لما استعملت اللفظ إلّا في معناه، نعم إذا أردت الدوران مدار العنوان فلا بدّ من تقييده بالعذوبة أو عدم الملوحة.

و الحاصل: إنّا لا نسلّم أنّ اللفظ بعد كونه بكلّ من الوجهين مستعملا في معناه الحقيقي و غير خارج عنه يكون ظاهرا في وجه الموضوعيّة، بحيث يحتاج الخروج عنه إلى التماس الدليل و نصب القرينة، بل لا بدّ في حمله على كلّ منهما من التماس القرينة الخارجيّة، فمع العدم يكون اللفظ مجملا مردّدا بينهما، و اللّٰه العالم.

و الحاصل أنّ التمسّك بإطلاق دليل جواز السجود على الكاغذ فرع استفادة الموضوعيّة، و أمّا إذا أنكرنا ظهوره فيها و احتملنا أنّه سيق لأجل الإشارة إلى تمام الأفراد المتعارفة في زمن الصدور، فلا يبقى لنا إطلاق، فلعلّ تمام الأفراد في ذلك الزمان كانت مأخوذة من النبات أو من القطن و الكتّان قبل النسج، فليس لنا التعدّي إلى القراطيس المعمولة من

الصوف و الإبريسم و غير ذلك ممّا لا يصحّ السجود عليه، بل القدر المتيقّن هو الكاغذ الذي قطعنا بكون أصله ممّا يصحّ السجود عليه، و في غيره ممّا نقطع بكونه من غيره أو نشكّ، فلا يجوز السجود عليه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 357

المقام الثالث لو تعذّر عليه السجود على الأرض و نباتها و القرطاس

فلا إشكال في عدم سقوط أصل السجود و عدم الانتقال إلى الإيماء، فإنّ قاعدة الميسور يقتضي وجوب الوضع بعد عدم التمكّن من خصوصيّته، و لكن ليس لشي ء ممّا يوضع الجبهة عليه بعد الثلاثة المذكورة خصوصيّة مرجّحة له على ما عداه حتّى يكون هو بدلا اضطراريّا عن الثلاثة المذكورة، فيساوي ظهر كفّه و ثوبه و المعدن و أجزاء الحيوان و غير ذلك من أفراد ما لا يصحّ السجود عليه، لكن هذا لو لم يكن لنا إلّا قاعدة الميسور.

و أمّا إذا كان لنا أخبار مجوّزة لخصوص الثوب فيمكن حينئذ القول ببقاء غيره من سائر أفراد ما لا يصحّ السجود تحت إطلاق المادّة لدليل المنع، مثلا الفيروزج و الياقوت و العقيق قد ورد النهي عن السجود عليها، فإطلاق المادّة المفيد لاشتراط السجود بعدم تلك يعمّ حال الاضطرار أيضا.

نعم في خصوص الثوب علم من النصّ تقييد مانعيّته و اشتراط عدمه بحال الاختيار دون الاضطرار، فلا يجوز لنا رفع اليد عن إطلاق المانعيّة في غيره، هذا مع الشكّ في كونه مرخّصا فيه من باب أحد الأفراد التي يجوز السجود عليها في هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 358

الحال، أو أنّه لأجل خصوصيّة فيه و جعله بدلا اضطراريا، و لم يكن للدليل ظهور به في شي ء من الطرفين، كما هو الحال في الأخبار التي ورد الجواب فيها ب «لا بأس» بعد سؤال السائل عن السجود على

كمّه أو بعض ثوبه عند الاضطرار.

و فيه أنّ قاعدة الميسور قاضية بتساوي جميع الأفراد بعد فرض كونها متساوية في صدق الميسور على كلّ واحد منها على حدّ سواء، غاية الأمر أنّ عموم القاعدة مؤيّد و معتضد في خصوص الثوب بالخبر الخاصّ، و ذلك لا يوجب رفع اليد عن عمومها في سائر الأفراد، هذا.

و لكن يمكن ادّعاء الظهور في الخصوصيّة من بعض الأخبار، و هو خبر أبي بصير عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال: قلت له: أكون في السفر فتحضر الصلاة و أخاف الرمضاء على وجهي، كيف أصنع؟ قال عليه السّلام: تسجد على بعض ثوبك، فقلت: ليس عليّ ثوب يمكّنني أن أسجد على طرفه و لا ذيله، قال عليه السّلام: اسجد على ظهر كفّك، فإنّها إحدى المساجد» «1».

و خبره الآخر «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: جعلت فداك، الرجل يكون في السفر، فيقطع عليه الطريق، فيبقى عريانا في سراويل و لا يجد ما يسجد عليه، يخاف إن سجد على الرمضاء أحرقت وجهه، قال عليه السّلام: يسجد على ظهر كفّه، فإنّها إحدى المساجد» «2».

فإنّ التعليل للأمر بالسجود على ظهر الكفّ بقوله: فإنّها إحدى المساجد، يبعد أن يراد به أنّه أحد أفراد ما أمر بالسجود عليه في هذا الحال، فإنّه كالتعليل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 6.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 359

لحرمة الخمر بقولك: لأنّها إحدى المحرّمات و يكون شبه المصادرة، فالظاهر أنّ الضمير راجع إلى الكفّ، و المراد أن الكفّ لمّا يكون أحد المساجد السبعة، فاللازم عند الاضطرار هو السجود عليه، فهذا يناسب التعليل التعبّدي للحكم،

و لو كان مورد التكليف حينئذ أحد الأفراد من غير فرق بينها أصلا لما كان لهذا التعليل مجال، فهو نصّ في الخصوصيّة، و كذا في خصوصيّة الثوب الذي رخّص فيه في المرتبة المتقدّمة.

بقي الكلام في أنّ المعتبر في الثوب الذي يجوز السجود عليه اضطرارا كونه من القطن و الكتّان، أو يكفي و لو كان صوفا و نحوه؟ مقتضى إطلاق الأخبار الواردة في مقام البيان هو الثاني.

و مقتضى بعض الأخبار هو الأوّل و هو ما رواه منصور بن حازم عن غير واحد من أصحابنا «قال: قلت لأبي جعفر عليهما السّلام: إنّا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج، أ فنسجد عليه؟ قال عليه السّلام: لا، و لكن اجعل بينك و بينه شيئا قطنا أو كتّانا» «1».

و ما رواه عليّ بن جعفر عن أخيه عليهما السّلام «قال: سألته عن الرجل يؤذيه حرّ الأرض و هو في الصلاة و لا يقدر على السجود، هل يصلح له أن يضع ثوبه إذا كان قطنا أو كتّانا؟ قال عليه السّلام: إذا كان مضطرّا فليفعل» «2».

لكنّ الرواية الثانية غير صالحة لتقييد تلك المطلقات بملاحظة عدم كون الشرطيّة في كلام الإمام عليه السّلام، و إنّما هي في كلام المسائل.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 7.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 9.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 360

و أمّا الأولى، فهي ظاهرة في حدّ ذاتها في التعبّد، لوقوعه في كلام الإمام عليه السّلام، و لكن ارتباطه بما نحن فيه مبنيّ على جعل قول السائل: إنّا نكون بأرض باردة يكون فيها الثلج. بيانا لحال الاضطرار، كما في قولك: لو ابتليت بأرض الثلج فما ذا

أصنع للسجود، و أمّا لو أريد به كون بلاده باردة يكثر فيها الثلج و أنّه إن أراد أن يصلّي في الصحراء مع وجود الثلج فما ذا يصنع، فهي أجنبيّة عمّا نحن فيه، إذ هي على هذا من الأخبار الدالّة على الجواز في القطن و الكتّان حال الاختيار، فإنّه مع تمكّن السائل من الذهاب إلى المنزل و عدم اضطراره إلى السجود على الثلج، أجابه بما ذكر، فلا ربط له بما نحن فيه، و لا يبعد دعوى ظهورها في هذا الاحتمال، لما يستفاد من قوله: «إنّا نكون» من الدوام و الاستمرار.

و لو سلّم ظهورها في الأوّل نقول: إنّها و إن كان ظاهرها التقييد، لكن بعد المعارضة بتلك المطلقات الواردة في مقام البيان التي يستبعد التزام التقييد فيها مع شيوع ثياب الصوف و الشعر و الوبر و الجلد يصير الظهور المذكور موهونا.

و الحاصل أنّه يدور الأمر بين رفع اليد عن المطلقات الواردة في مقام البيان و الالتزام بأنّ القيد قد أخّر بيانه عن وقت الحاجة، و بين رفع اليد عن ظهور القيد في القيديّة للمطلوب الأوّلي إمّا بحمله على بيان أحد الأفراد لقوله: «شيئا» للإشارة إلى أنّ المراد ليس عمومه الشامل لغير الثوب، بل خصوص الثوب، و إنّما خصّهما بالذكر لندرة عدم تمكّن المصلّي منهما، و إمّا بحمله على الأفضليّة، فهو قيد في المطلوب الثانوي، و لا يخفى أنّ الثاني أرجح من الأوّل.

و يؤيّده رواية القاسم بن الفضيل عن أحمد بن عمر «قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام عن الرجل يسجد على كمّ قميصه من أذى الحرّ و البرد أو على ردائه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 361

إذا كان تحته مسح «1» أو غيره ممّا لا يسجد

عليه؟ فقال عليه السّلام: لا بأس» «2».

و هذه الرواية أظهر من سائر المطلقات في الإطلاق، لوقوع السؤال فيها عن السجود على الرداء الذي بطانته مسح أو غيره ممّا لا يسجد عليه، و الظاهر أنّ غرضه صورة قلب الرداء بحيث يقع السجود على باطنه، كما هو المتعارف في بسط العباء للصلاة أو الجلوس عليه، إذ احتمال إرادة السجود على الظهارة لتوهّم إضرار البطانة بعيد غايته.

و كيف كان، فلو سلّم تقييد المطلقات فهل القاعدة يقتضي عند تعذّر المقيّد الانتقال إلى ظهر الكفّ أو إلى الثوب الآخر الذي ليس من القطن و الكتّان من أنّ المتيقّن من التقييد حال التمكّن من القيد، فيبقى المطلقات بحالها بالنسبة إلى حالة تعذّره، و من أنّ إطلاق المادّة في المقيّد يقتضي بقاء القيديّة حال التعذّر أيضا، فيقيّد به إطلاق المطلقات.

و الأوّل أظهر، فإنّ إطلاق المقيّد بالنسبة إلى حال التعذّر يمكن منعه أو التردّد فيه و صيرورته مجملا، و ذلك لأنّ القدرة و التمكّن غالب الحصول بالنسبة إلى القيد، إذ قلّما يتّفق عدم تمكّن المصلّي و لو من قطعة صغيرة من القطن و الكتّان، و إذا كان القيد غالب الوجود في الخارج يصير إطلاق المطلق موهونا، لعدم حصول نقض غرض لو أراده المتكلّم بالمطلق.

و إذن فيبقى إطلاقات الثوب سليمان عن المقيّد بالنسبة إلى حال تعذّر القطن و الكتّان، فيكون الثوب من غيرهما مقدّما على ظهر الكفّ، و اللّٰه العالم.

______________________________

(1) المسح- بالكسر فالسكون- يعبّر عنه بالبلاس.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 362

و لا يجوز السجود على الوحل الذي هو لسيلانه مانع عن استقرار الجبهة عليه، و هذا الحكم مضافا إلى ورود النصّ

به مطابق للقاعدة، فإنّه لا يخلو إمّا أن يسجد على نفس الوحل و قد عرفت أنّه يفوت معه الاستقرار و إن كان الوحل من الأرض، و إمّا أن يسجد على الأرض تحته بغرق جبهته في الوحل، و هذا أيضا غير جائز، لعدم صدق أنّه سجد على الأرض، فإنّه مثل ما إذا ألصق قطعة من التراب على جبهته ثمّ وضعها مع تلك القطعة على الأرض، فإنّه ليس وضعا للجبهة على الأرض، بل وضع للأرض على الأرض، و لا فرق بين حصول ذلك من ابتداء الهويّ للسجود و بين حصوله في أثنائه كما فيما نحن فيه، حيث إنّه من حين مماسّة الجبهة للوحل يلصق بجبهته أجزاء الوحل إلى أن يصل إلى الأرض، فهو قد وضع أجزاء الوحل الملصقة بجبهته على الأرض، لا أنّه وضع جبهته عليها.

و لو اضطرّ إلى السجدة على الوحل و لم يقدر على ما يستقرّ عليه الجبهة من الأرض أو النبات أو الكاغذ فمقتضى قاعدة الميسور مع قطع النظر عن الخبر الخاصّ لزوم إيصال الجبهة إلى الوحل بدون استقرار، أو غرقها حتّى تصل الأرض مع استقرار، لكن مع الحائل، لأنّه ميسور السجود مع الاستقرار بلا حائل.

و لكن دلّ الخبر الخاصّ بأنّه يومئ للسجود حينئذ و هو قائم، و هو موثّق عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في «الرجل يصيبه المطر و هو في موضع لا يقدر أن يسجد فيه من الطين و لا يجد موضعا جافّا؟ قال عليه السّلام: يفتتح الصلاة، فإذا ركع فليركع كما يركع إذا صلّى، فإذا رفع رأسه عن الركوع فليؤم بالسجود إيماء و هو قائم يفعل ذلك حتّى يفرغ من الصلاة و يتشهّد و هو قائم، ثمّ يسلّم» «1».

______________________________

(1)

الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 15 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 363

و لا إشكال في دلالته على جواز الاكتفاء بالإيماء، لكن هل يكون ذلك على وجه الرخصة أو العزيمة؟ يمكن ترجيح الأوّل، إذ الظاهر أنّ الملحوظ في جعل الإيماء لزوم الحرج من تكليفه بالسجود بواسطة تلطّخ بدنه و ثيابه بالطين و الوحل، لا أنّ الملحوظ فوات الاستقرار المعتبر.

بل يمكن استفادة جواز الإيماء حتّى في صورة التمكّن من السجود مع الاستقرار كما في حال الاختيار، لكن مع التلطّخ المذكور، إذ ليس في كلام السائل قرينة دالّة على عدم تمكّنه من السجود بالكيفيّة المعتبرة، بل الظاهر من قوله:

و لا يجد موضعا جافّا، ملاحظة الحرج عليه و لو مع تمكّنه من السجود المعتبر، و لا شبهة أنّ الحكم بالإيماء في هذه الصورة لا يفهم منه إلّا كونه على وجه الرخصة مع كفاية السجود على حسب مفاد الأدلّة الأوّلية.

فكذلك نقول بالنسبة إلى حال عدم التمكّن من الاستقرار المعتبر في السجود:

يجوز له السجود بمعنى إيصال الجبهة إلى الوحل بدون استقرار على حسب مفاد قاعدة الميسور، فحال القاعدة في هذه الصورة حال الأدلّة الأوّلية في صورة التمكّن من الاستقرار، حيث إنّ الخبر لوقوعه في مقام الامتنان برفع الحرج ليس دالّا على أزيد من الحكم الترخيصي، لا جعل البدل التعييني.

فمقتضى الجمع بينه و بين إطلاق الأدلّة الأوّلية في صورة إمكان الاستقرار و إطلاق القاعدة في صورة عدمه هو جواز الإيماء مع السجود الاختياري في الاولى، و مع السجود بلا استقرار على الوحل في الثانية.

و الحاصل أنّ الأمر في هذا المقام لا يدلّ على أزيد من الجواز، لكونه واردا في مقام توهّم الحظر.

و حاصل المقام أنّ من المسلّم

في محلّه أنّه إذا ورد قيد منفصل و شكّ في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 364

رجوعه إلى المادّة اللازم منه رجوعه إلى الهيئة أيضا، أو إلى الهيئة فقط مع بقاء إطلاق المادّة بحاله يقتصر على المتيقّن من تقييد الهيئة دون المادّة.

و على هذا الأصل المسلّم في محلّه نقول في المقام: لو أغمضنا عن ظهور دليل الأمر بالإيماء في كونه للترخيص لا للتعيين فلا أقلّ من الإجمال، فأمره دائر بين أن يكون للتعيين اللازم منه تقييد إطلاق كلّ واحد من الهيئة و المادّة للدليل الأوّلي الآمر بالسجود الاختياري، أو الثانوي الآمر بالسجدة على الوحل، و أن يكون للترخيصي حتّى يلزم التقييد في خصوص هيئتهما مع بقاء المادّة على حالها حتّى يكون السجود الاختياري أو على الوحل واجدين لمصلحته الذاتيّة.

فلا بدّ على حسب ذلك الأصل من الاقتصار على تقييد الهيئة و حفظ إطلاق المادّة، و مقتضاه جواز الأمرين للمصلّي في المقامين، أعني: ما إذا تمكّن من السجود التامّ، و ما إذا لم يتمكّن إلّا من الناقص، لكنّ الأحوط له الاقتصار على مفاد الدليل من الإيماء قائما، لأنّه بلا شبهة على كلّ حال، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 365

المبحث الرابع يعتبر في مكان المصلّي كونه قائما قارّا

على وجه لا يفوت عنه الاستقرار الواجب على المصلّي فيه، فلو صلّى اختيارا في سفينة أو على دابّة و نحوهما بحيث لم يكن مستقرّا حين الصلاة بطلت، و يأتي ذكر أدلّة وجوب الاستقرار في الصلاة بعد ذلك إن شاء اللّٰه تعالى.

و اعلم أنّ مجرّد كون السفينة سارية جارية لا يضرّ بصدق الاستقرار المعتبر في بدن المصلّي، نعم لو كانت بواسطة موج الماء مضطربة بحيث يوجب حركة بدن المصلّي كان منافيا معه، و أمّا مجرّد حركته

بتبع حركتها خالية عن التلاطم و الاضطراب فلا يضرّ، و لا نحتاج في جوازه اختيارا إلى التماس دليل، بل الصحّة مطابقة للقاعدة.

و كذا لا كلام في الصحّة في السفينة المتلاطمة المضطربة مع الاضطرار و عدم القدرة على الخروج أو الصلاة فيها مطمئنّا، فإنّ الصلاة فلا تترك بحال.

إنّما الكلام في الصلاة فيها مع اضطرابها المنافي مع الاستقرار في حال الاختيار و التمكّن من الخروج إلى الساحل، فقد اختلفت الأخبار.

ففي بعضها التصريح بصحّة الصلاة مع القدرة على الخروج، مثل ما رواه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 366

الصدوق قدّس سرّه بإسناده عن جميل بن درّاج أنّه «قال لأبي عبد اللّٰه عليه السّلام: تكون السفينة قريبة من الجدّ «1» فأخرج و أصلّي؟ قال عليه السّلام: صلّ فيها، أما ترضى بصلاة نوح» «2».

و ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن عليّ بن فضّال عن المفضّل بن صالح «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الصلاة في الفرات و ما هو أضعف منه من الأنهار في السفينة؟ قال عليه السّلام: إن صلّيت فحسن و إن خرجت فحسن» «3».

و ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن عبد اللّٰه بن الحسن عن جدّه عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السّلام «قال: سألته عن الرجل هل يصلح له أن يصلّي في السفينة الفريضة و هو يقدر على الجدد؟ «4» قال عليه السّلام: نعم لا بأس» «5».

و في آخر التصريح بأنّه مع القدرة على الخروج يصلّي خارجها و لا يصلّي فيها، مثل ما رواه الكليني قدّس سرّه عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد بن عيسى «قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام يسأل

عن الصلاة في السفينة فيقول: إن استطعتم أن تخرجوا إلى الجدد فاخرجوا، فإن لم تقدروا فصلّوا قياما، فإن لم تستطيعوا فصلّوا

______________________________

(1) الجدّ- بضمّ الأوّل-: الساحل.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 11، مع اختلاف في العبارة.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 7.

(4) الجدد- بالفتحتين-: الأرض المستوية.

(5) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 13.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 367

قعودا و تحرّوا القبلة» «1».

و مضمرة عليّ بن إبراهيم «قال: سألته عن الصلاة في السفينة؟ قال: يصلّي و هو جالس إذا لم يمكنه القيام في السفينة، و لا يصلّي في السفينة و هو يقدر على الشطّ» «2»، الحديث.

و حينئذ فهل يعامل مع هاتين الطائفتين معاملة المتعارضين، أو يحمل الاولى على الصحّة في السفينة، و الثانية على أفضليّة الخروج، أو يحمل الاولى على صورة إمكان استيفاء الأفعال و الشروط، أعني: الركوع و السجود و القيام و الاستقرار، و الثانية على صورة عدم التمكّن من ذلك.

تقريب ذلك أنّ السائل في الأولى فرض القرب من الجدّ أو الجدد، أو كون السفينة في نهر كالفرات و ما هو أصغر منه و أضعف، و هذا يحتمل وجهين:

الأوّل: إنّه توطئة لبيان التمكّن من الخروج و عدم الاضطرار إلى الصلاة في السفينة، و الجواب حينئذ عامّ لجميع موارد التمكّن و لو في غير ما فرضه السائل.

و الثاني: إنّه أراد بذلك بيان قلّة الماء و أنّ السفينة بواسطة ذلك ساكنة غير مضطربة في حال سيرها، حيث إنّ القريب من الشطّ يقلّ فيه الماء، و كذا نهر الفرات ليس بمثابة يوجب الاضطراب في السفينة، و الجواب على هذا ليس عامّا لجميع موارد التمكّن من الخروج،

بل يختصّ بمواضع سكون السفينة و مأمونيّتها عن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب القبلة، الحديث 14.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب القبلة، الحديث 8.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 368

الاضطراب، و قد عرفت أنّ الصحّة في هذه الصورة مطابقة للقاعدة، و إذا جاء الاحتمالان كان القدر المتيقّن هو صورة الأمن من الاضطراب و يبقى غيرها بلا دليل.

و أمّا الطائفة الثانية فالأمر فيها بالعكس، بمعنى أنّ المتيقّن منها صورة معرضيّة السفينة للحركات العنيفة و الاضطرابات الشديدة بقرينة ما ذكر فيها من التفصيل بين القيام عند إمكانه و القعود مع عدمه، فإنّ عدم إمكان القيام إنّما يكون لأجل اضطراب السفينة شديدا، فالمتيقّن من مورد الكلام هو السفينة المضطربة، ففيها حكمت بأنّه مع القدرة على الخروج بتوسّط آلة كالبلم يجب عليه الخروج و الصلاة في الشطّ، و إلّا فيصلّي فيها إمّا قائما و إمّا قاعدا.

و لعلّ عدم ذكر القيام مع الاستقرار من المراتب و الاقتصار على القيام و القعود أيضا شاهد على إرادة الاضطراب، فإنّه لا ثالث لهذين على هذا الفرض، و إلّا فكان اللازم أن يقول: يصلّي قائما مطمئنّا، و إن لم يمكن فمتزلزلا، و إن لم يمكن فجالسا، فإسقاط الأوّل ليس إلّا لأجل أنّ مفروض الكلام صورة التزلزل و الاضطراب، و لا أقلّ من أنّه القدر المتيقّن من هذه الطائفة، فيبقى صورة الطمأنينة و الاستقرار خاليا عن الدليل على المنع.

لا يقال: إنّ ما ذكرت من القدر المتيقّن في الطائفتين لا يضرّ بالأخذ بإطلاقهما على ما قرّرت في الأصول من عدم إضرار ذلك بمقدّمات الأخذ بالإطلاق.

لأنّا نقول: إنّما لا يضرّ إذا كان في البين إطلاق، و أمّا إذا لم يكن إلّا كلام

واحد ذو وجهين، فليس لنا إطلاق حتّى يؤخذ به، و الحاصل أنّ ما نحن فيه من باب إجمال الدلالة، لا من باب وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 369

الغير المضرّ بالإطلاق.

لا يقال: ينافي ما ذكرت من كون القدر المتيقّن في أخبار الجواز صورة الطمأنينة و الاستقرار مرسلة الصدوق في الهداية «قال: سئل الصادق عليه السّلام عن الرجل يكون في السفينة و تحضر الصلاة أ يخرج إلى الشطّ؟ فقال عليه السّلام: لا، أ يرغب عن صلاة نوح، فقال: صلّ في السفينة قائما، فإن لم تهيّأ لك من قيام فصلّها قاعدا، فإن دارت السفينة فدر معها و تحرّ القبلة جهدك، فإن عصفت الريح و لم تهيّأ لك أن تدور إلى القبلة فصلّ إلى صدر السفينة» «1»، الخبر، فإنّه من أخبار الجواز مع فرض السائل القدرة على الخروج، و مع ذلك يكون المتيقّن منه صورة عدم التمكّن من الاستقرار بنحو ما مرّ في أخبار المنع.

لأنّا نقول: نعم الأمر كما ذكرت، و لكنّ الخبر غير صالح للاستناد بواسطة الإرسال، فلا ينافي مع ما ذكرنا في وجه التوفيق بين الطائفتين، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام.

______________________________

(1) الهداية: 148، باب صلاة السفينة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 370

المبحث الخامس هل يعتبر في الصلاة أن لا تكون واقعة أمام قبر الإمام عليه السّلام أو لا يعتبر؟

اشارة

نسب إلى المشهور الثاني مع الكراهة، بل حكي عن الحدائق أنّه لم يقف على من قال بالتحريم سوى شيخنا البهائي طاب ثراه، ثمّ اقتفاه جمع ممّن تأخّر عنه منهم شيخنا المجلسي و هو الأقرب عندي، انتهى.

و مستند المنع ما رواه الشيخ قدّس سرّه بإسناده عن محمّد بن أحمد بن داود عن أبيه عن محمّد بن عبد اللّٰه الحميري «قال: كتبت إلى الفقيه عليه السّلام أسأله عن الرجل يزور

قبور الأئمّة عليهم السّلام: هل يجوز أن يسجد على القبر أم لا، و هل يجوز لمن صلّى عند قبورهم عليهم السّلام أن يقوم وراء القبر و يجعل القبر قبلة و يقوم عند رأسه و رجليه، و هل يجوز أن يتقدّم القبر و يصلّي و يجعله خلفه أم لا؟ فأجاب عليه السّلام و قرأت التوقيع، و منه نسخت: و أمّا السجود على القبر فلا يجوز في نافلة و لا فريضة و لا زيادة، بل يضع خدّه الأيمن على القبر، و أمّا الصلاة فإنّها خلفه و يجعله الأمام، و لا يجوز أن يصلّي بين يديه، لأنّ الإمام عليه السّلام لا يتقدّم و يصلّى عن يمينه و شماله» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 371

و رواه الطبرسي في الاحتجاج عن محمّد بن عبد اللّٰه الحميري عن صاحب الزمان عليه السّلام مثله، إلّا أنّه قال عليه السّلام: «و لا يجوز أن يصلّى بين يديه و لا عن يمينه و لا عن شماله، لأنّ الإمام عليه السّلام لا يتقدّم و لا يساوى» «1».

و ما رواه ابن قولويه قدّس سرّه في المزار على ما في الوسائل بإسناده عن عبد اللّٰه الأصمّ عن الهشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث طويل قال: «أتاه رجل فقال له: يا ابن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله هل يزار والدك؟ قال عليه السّلام: نعم و يصلّى عنده، و قال عليه السّلام: يصلّى خلفه و لا يتقدّم عليه» «2».

و الإشكال في سند الأولى تارة من حيث عدم ذكر الشيخ قدّس سرّه طريقه إلى محمّد بن أحمد بن داود، و اخرى

من حيث إنّ الفقيه في عرف الرواة يراد به أبو الحسن الماضي عليه السّلام، و الحميري غير معاصر له عليه السّلام، فإمّا أنّ الواسطة كانت في البين و حذفت، و قوله: كتبت مقول قول الواسطة، و إمّا أنّه جرى في هذه الكلمة على خلاف الاصطلاح، و حينئذ إرادة المعصوم عليه السّلام منه غير معلوم، فلعلّه أراد به واحدا من فقهاء الإماميّة رضوان اللّٰه عليهم.

مدفوع أمّا الأوّل فبأنّ الشيخ قد عيّن طريقه إلى الراوي في فهرسته على المحكيّ في جماعة ثقات، و أمّا الثاني فبأنّ حذف الواسطة خلاف الظاهر، كما أنّ إرادة غير المعصوم من لفظ الفقيه يأبى عنه جلالة الحميري، حيث لا يسأل عن غير المعصوم و لا سيّما مع تسمية كتابه توقيعا، فالظاهر أنّ الرواية من قسم الصحاح.

نعم، الإشكال في الدلالة متّجه، حيث إنّ «لا يجوز» و إن كان ظاهرا في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 2.

(2) المصدر: الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 372

التحريم، إلّا أنّ التعليل يوهنه، و ذلك لأنّه إن قرئ قوله عليه السّلام: و يجعله الأمام (بفتح الهمزة) مرادا به ما هو إحدى الجهات فلا بدّ أن يراد من الإمام في قوله عليه السّلام: لأنّ الإمام لا يتقدّم عليه، هو أحد المعصومين عليهم السّلام.

و حينئذ لا يصلح التعليل للوجوب، لأنّ عدم التقدّم على الإمام لو كان واجبا لوجب في غير حال الصلاة، و هو مقطوع العدم، فلا بدّ أن يراد به الأدب الغير الواجب، فيكون المعلّل أيضا حكما غير إلزامي.

نعم إن قرأنا «الإمام» في قوله: و يجعله الإمام- بكسر الهمزة- مرادا به إمام الجماعة، بمعنى أنّ القبر ينزّل منزلة إمام الجماعة، لا في

جميع الخصوصيّات، بل في خصوص عدم التقدّم، فيراد من الإمام في قوله: لأنّ الإمام إلخ أيضا إمام الجماعة، و حينئذ يصلح التعليل للحكم الإلزامي، إلّا أنّ هذا الاحتمال لو لم نقل بمرجوحيّته بالنسبة إلى الأوّل فلا أقلّ من مساواته معه و حصول الإجمال بذلك المسقط عن الاستدلال، و المتيقّن حينئذ مطلق المرجوحيّة للتقدّم في الصلاة على قبر الإمام عليه السّلام.

و أمّا الروايتان الأخريان فبعد الغمض عن سندهما يشكل حملهما على التحريم بعد تصريح الرواية الأولى بجواز الصلاة في اليمين و الشمال، فالنهي عنهما في الاولى من الأخيرتين و الأمر بالخلف في الأخيرة منهما لا يمكن أن يحملا على الإلزام، بل للكراهة و الندب، فالنهي عن التقدّم لوقوعه في تلو المكروه أو المستحبّ يضعف عن إثبات التحريم.

ثمّ إنّ القول بتحريم التقدّم مبنيّ- على ما عرفت- على قراءة الإمام في صحيح الحميري في الموضعين بكسر الهمزة مرادا به إمام الجماعة، و حينئذ فالعبرة بنفس القبر، لا بالمقبر فيه، فلو اشتمل القبر على الثياب و الشبّاك فاليمين و الشمال

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 373

و القدّام و الخلف يلحظ بالنسبة إلى المجموع، فإذا كان في أحد الجانبين بملاحظة المجموع و متقدّما بالنسبة إلى المدفون فيه فلا حرمة.

و أمّا إذا قرأناه في الموضع الأوّل بالفتح فالعبرة بالمدفون فيه، فلا بدّ من ملاحظة عدم التقدّم عليه في التخلّص عن الكراهة، هذا هو الكلام في قبور الأئمّة عليهم السّلام.

حكم الصلاة بين القبور و عليها و إليها
اشارة

و أمّا سائر القبور فالمعروف كراهة الصلاة بينها و عليها و إليها.

أمّا الأوّل:

فللجمع بين موثّقة عمّار الناهية عن الصلاة بين القبور إلّا إذا كان بينه و بينها في كلّ واحدة من الجهات الأربع عشرة أذرع، و بين الصحاح الأربع الناصّة بالجواز من غير تقييد بالبعد المذكور.

و لا يخفى أنّها غير قابلة للتقييد بالموثّقة، لأنّه يلزم التقييد بالفرد النادر، فإنّ الغالب من الصلاة بين القبور كونها قريبة من المصلّي غير بعيدة عنه، خصوصا بهذا المقدار من كلّ جانب، فلا محيص عن التصرّف في الموثّقة بحملها على الكراهة.

و من هنا يعلم أنّ الصلاة إلى القبور أيضا يعلم جوازها و عدم حرمتها من جهة الغلبة المذكورة أعني: أنّ الغالب من أفراد عنوان الصلاة بين القبور مشتمل على الصلاة إلى القبر، كما على الصلاة عن يمينه و عن شماله و في قدّامه، فإذا حكم بعدم الحرمة بعنوان البينيّة يعلم عدمها بواحد من تلك العناوين الأربعة أيضا، فإنّ الترخيص في الشي ء ترخيص في ملازماته الغالبيّة، نعم لا يستفاد الكراهة إلّا بالنسبة إلى عنوان بين القبور دون شي ء من تلك و لو انفكّ عن البين كما لو صلّى

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 374

في نقطة الانتهاء.

و أمّا الثاني:

فيدلّ عليه قول النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله: «الأرض كلّها مسجد، إلّا الحمّام و القبر» «1».

و رواية يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله نهى عن الصلاة على القبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه» «2».

و النهي و إن كان ظاهرا في التحريم، إلّا أنّ عطف المكروه عليه أو عطفه على المكروه يوهن ظهوره، فالمتيقّن مطلق المرجوحيّة.

و أمّا الثالث: أعني الصلاة إلى القبر فقد استدلّ على كراهتها بصحيحة معمّر بن خلّاد عن الرضا عليه السّلام

«قال عليه السّلام: لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتّخذ القبر قبلة» «3».

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام «قال: قلت له: الصلاة بين القبور؟

قال: بين خللها، و لا تتّخذ شيئا منها قبلة، فإنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله نهى عن ذلك و قال:

لا تتّخذوا قبري قبلة و لا مسجدا، فإنّ اللّٰه عزّ و جلّ لعن الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» «4».

و مرسلة الصدوق «قال: قال النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله: لا تتّخذوا قبري قبلة و لا مسجدا، فإنّ اللّٰه عزّ و جلّ لعن اليهود حيث اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» «5».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 7.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 8.

(3) المصدر: الحديث 3.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب مكان المصلّي، الحديث 5.

(5) المصدر: الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 375

و الاستدلال بهذه الأخبار مبنيّ على تفسير الاتّخاذ قبلة بكون الصلاة في قبال القبر و بحذاه، و هذا بعيد غايته، حيث لا يطلق بمجرّد محاذاة شي ء لإنسان و مواجهته إيّاه أنّه قبلة له، فضلا عن صدق اتّخاذه قبلة، مضافا إلى عدم مناسبة التعليل بلعن اليهود بهذا العمل مع الكراهة، بل المناسب له التحريم، و إلى معارضتها على هذا التفسير بالأخبار الكثيرة الواردة في باب زيارة الحسين و سائر الأئمّة صلوات اللّٰه عليه و عليهم المشتملة على استحباب الصلاة خلف قبورهم عليهم السّلام و ترتّب الثواب عليها.

و ارتكاب التخصيص بما عدا قبورهم عليهم السّلام ينافيه ما في صحيح زرارة و المرسل المتقدّمين من نهي النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله من اتّخاذه قبره صلّى اللّٰه عليه

و آله قبلة، و التفصيل بين قبره صلّى اللّٰه عليه و آله و قبورهم عليهم السّلام نقطع بعدمه، فهذه الأخبار منافية مع تلك بناء على التفسير المذكور، سواء على التحريم أم الكراهة.

فالحقّ أن يقال تفصّينا عن جميع ذلك بحرمة عنوان اتّخاذ القبر قبلة، لكن بمعنى جعله كالكعبة، لا على سبيل الاستقلال بأن يصلّي إليه و لو مستدبرا للكعبة المشرّفة، فإنّه أمر لا ينقدح في ذهن أحد من المسلمين و لو كان من أضعف العوام، حيث إنّ اشتراط الكعبة في الصلاة صار في المغروسيّة في الأذهان بمثابة لا ينقدح في ذهنهم خلافه حتّى يحتاج إلى النهي و الردع، بل على سبيل المشاركة، بأن يصلّى نحو الكعبة، لكن مع توجّه خاطره إلى القبر الشريف أيضا بأن يجعله كالكعبة المشرّفة وجها للّٰه تعالى.

فكما أنّ استقباله للكعبة بعنوان أنّه وجه اللّٰه، كذلك كان متوجّها إلى القبر الشريف بهذا النظر بحيث يجمعهما في الوجهيّة للّٰه تعالى.

فهذا المعنى أمر يمكن أن ينقدح في بعض الأذهان العواميّة، كما انقدح نظيره

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 376

فيهم، فلهذا احتيج إلى الردع عنه حين ما رخّصوا عليهم السّلام في الصلاة بين القبور حتّى لا يرتكبه أحد بالنسبة إلى قبر من قبور الأئمة عليهم السّلام أو الصلحاء الأبرار إذا كان في سمت قبلة المصلّي.

و بالجملة، فالظاهر إرادة هذا المعنى، و يناسبه التعليل أيضا، و لا ينافيه الأخبار المشار إليها أيضا، لأنّها ناظرة إلى مجرّد كون الصلاة خلف القبر بدون الاتّخاذ المذكور، لكن على هذا يبقى كراهة الصلاة إلى القبر بلا دليل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 377

البحث الخامس في الأذان و الإقامة

اشارة

و فيهما مباحث:

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 379

المبحث الأوّل لا إشكال في أنّهما مشروعان مؤكّدا في الفرائض الخمس اليوميّة،

اشارة

إنّما الكلام في أنّها على وجه الوجوب إمّا شرعا أو شرطا في كليهما، أو في خصوص الإقامة مطلقا، أو في بعض الصور، أو على وجه الاستحباب مطلقا.

فقد اختلفت الأقوال في ذلك لاختلاف الأنظار في وجه الجمع بين متشتّتات الأخبار، إلّا أنّ المشهور على ما قيل على استحبابهما في الجميع مطلقا، سفرا و حضرا، أداء و قضاء، جماعة و فرادى، و لنقدّم الكلام في الإقامة، لأنّ القول بوجوبها في جميع الفرائض الخمس أكثر، ثمّ نتبعه إن شاء اللّٰه تعالى بالتكلّم في الأذان.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إنّ مقتضى الأصل لا شبهة أنّه مع إجمال الأدلّة و الترديد في وجوبها بأيّ من القسمين أعني شرعيّا كان أم شرطيّا هو البراءة و عدم الوجوب بناء على أنّ الشكّ في الشرط مرجعه البراءة كما قرّر في الأصول،

فالقائل بالوجوب لا بدّ له من إقامة الدليل،
اشارة

فالذي يمكن أن يكون مستندا له في هذا الباب أحد أمور:

الأوّل: ما ورد في موثّقة عمّار

من قول الصادق عليه السّلام في مقام التعليل لعدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 380

سقوط الأذان و الإقامة عن المريض و إن كان شديد الوجع: «لأنّه لا صلاة إلّا بأذان و إقامة» «1».

و ظاهر هذا التركيب كون النفي راجعا إلى الحقيقة، و رجوعه إلى الكمال خلاف الظاهر.

و فيه أنّه بعد لزوم إرجاعه إلى الكمال بالنسبة إلى الأذان لوجود الأخبار الأخر المصرّحة بنفي وجوبه و عدم البأس بتركه في السفر و الحضر بنحو الإطلاق من دون تفصيل- كما في صحيحة الحلبي- لا يمكن حفظ هذا الظهور بالنسبة إلى الإقامة فقط، بل إمّا يحمل على نفي الكمال بالنسبة إليهما، فيكون الموثّقة شاهدا على استحباب الإقامة لا وجوبها، أو على الجامع بين نفي الكمال و الصحّة، فلا دلالة لها بالنسبة إلى الإقامة حينئذ لا على الوجوب و لا الاستحباب، و على كلّ حال لا يمكن التمسّك بها للوجوب.

الثاني: ما ورد في مقام تعليل اعتبار عدم التكلّم في الإقامة

من قول الصادق عليه السّلام في خبر أبي هارون المكفوف: «يا أبا هارون الإقامة من الصلاة، فإذا أقمت فلا تتكلّم و لا تؤم بيدك» «2».

و مثله ما في خبر يونس الشيباني من قول الصادق عليه السّلام: «إذا أقمت الصلاة فأقم مترسّلا، فإنّك في الصلاة» «3»، و في خبر آخر: «فإنّه إذا أخذ في الإقامة فهو في صلاة» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 35 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 12.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 9.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 12.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 381

فإنّ التعبير بكونها من الصلاة أو: إنّك في

الصلاة ربما يستفاد منه علاوة على وجوبها كونها دخيلة فيها على وجه الشرطيّة بحيث يفسد الصلاة بدونها، و لهذا اعتبر فيها ما اعتبر في الصلاة.

و لكن فيه أنّه بعد القطع بتفاوت أفراد الصلاة كمالا و نقصانا، فمن المحتمل أنّ الإقامة كالقنوت موجبة لكمال الصلاة و صحّ اعتبار كونها من الصلاة، فإنّ أجزاء الصلاة الكاملة و شروطها يصحّ أن يقال: إنّها بعض الصلاة حقيقة، و لا سيّما بعد ما ورد في مقام تحديد أفعال الصلاة من أنّ أوّلها التكبير و آخرها التسليم، و أمّا اشتراط ما يشترط في الصلاة من الطهارة و الاستقبال و عدم التكلّم فعلى القول به لا يدلّ على الوجوب، إذ ربّ مستحبّ يشترط في صحّته الطهارة و سائر الشروط الصلاتيّة.

الثالث: ما ورد من تجويز قطع الفريضة عند نسيان الإقامة لتداركها،

فإنّه لو لم تكن الإقامة واجبة لما جاز لأجل تداركه قطع الصلاة الذي هو أمر محرّم في نفسه.

و فيه أنّه من المحتمل أن يكون جواز ذلك المحرّم لأجل الأمر الغير الواجب من جهة قصور مقتضيه و اختصاصه بعدم طروّ ذلك الأمر، و بعبارة أخرى: من باب فوات الموضوع لذلك المحرّم، لا من باب المزاحمة، كما وقع نظيره في السورة، فإنّ وجوبها مقصور بعدم الاستعجال لأجل حاجة و لو دنيويّة، فالحاجة الدنيويّة موجبة لفوات موضوع الوجوب و ملاكه، لا أنّها يزاحم الواجب مع تحقّق موضوعه.

الرابع: ما ورد من التعبير بأنّه: «يجزيك في الصلاة إقامة واحدة»

«1»، أو

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب الأذان و الإقامة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 382

«إقامة بدون أذان» «1».

تقريب الاستدلال أنّ لفظ الإجزاء في حدّ ذاته لا ظهور له في الوجوب، بل يختلف حسب كون النظر في استعماله إلى أداء الأمر الاستحبابي أو الوجوبي، و هو فيهما مستعمل في معناه بدون تجوّز فيه أصلا، و لكن في خصوص المقام يمكن استظهار الوجوب منه بملاحظة أنّ مجموع الأذان و الإقامة ليسا متعلّقين لأمر واحد بحيث يكون امتثاله متوقّفا على إيجاد كليهما، فلو لم يأت بواحد لم يمتثله أصلا، بل كلّ واحد له أمر مستقلّ منحاز عن الآخر، فلا معنى للإجزاء في شي ء منهما بالنسبة إلى أمر الآخر، كما أنّ الإجزاء عن أمر نفسه بديهيّ لا يحتاج إلى البيان، فلو كان الأمران استحبابيّين لما كان لهذا الإطلاق وجه إلّا لدفع توهّم المخاطب ارتباطهما في الأمر الاستحبابي و بيان أنّهما متعلّقين لأمرين مستقلّين، و لكنّه توهّم بعيد.

و هذا بخلاف ما لو كان أمر الإقامة وجوبيّا و الأذان ندبيّا، فيصحّ دفعا لتوهّم كونهما معا مأمورا بهما بأمرين وجوبيّين الإطلاق المذكور، يعني يجزيك

في مقام الامتثال للأمر الوجوبي الإقامة الواحدة، فإذا فعلتها فقد فرغت عمّا تعلّق بعهدتك وجوبا، و إنّما فات منك الفضل.

و الحاصل: لو كان الأذان و الإقامة بجمعهما عنوان واحد و كانا مستحبّين بذاك العنوان الواحد المنطبق عليهما على وجه الارتباط و كان ذلك العنوان تشكيكيّا بحيث كان مرتبته الأعلى متقوّمة بهما معا، و الأدنى حاصلة بواحد منهما، أو كان في البين توهّم ذلك كان لإطلاق الإجزاء في الإقامة وحدها وجه.

و أمّا إذا كان حكاية الارتباط بينهما حتّى في المرتبة غير ثابتة و لا محتمل، بل

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب الأذان و الإقامة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 383

كان مقطوعا أنّهما أمران منحاز كلّ منهما عن الآخر فلا محالة يكون الكلام المذكور للإرشاد إلى تميّز الواجب منهما عن المندوب، هذا.

مضافا إلى أنّ التتبّع في الروايات يشهد بأنّ الإقامة كانت عند السائلين مفروغا عنها، بحيث لم يقع سؤال عن تركها كما وقع السؤال عن ترك الأذان، و أيضا في موارد السقوط مثل المزدلفة و عرفة لم يرخّص شرعا إلّا في ترك الأذان دون الإقامة، فيشهد ذلك بأنّ الإقامة من الأمور المفروغ عنها، بحيث لا يرفع اليد عنها بحال، كسائر الأفعال الواجبة الصلاتيّة، نعم مجرّد ذلك لا يدلّ على أنّه تعبّدي أو شرطي.

لكنّ الذي يبعّد الوجوب الشرطي في الإقامة ما ورد مستفيضا من أنّ: «من صلّى بأذان و إقامة صلّى خلفه صفّان من الملائكة، و من صلّى بإقامة بغير أذان صلّى خلفه صفّ واحد» «1».

فإنّ التعبير عن شرطيّة شي ء للصلاة ليس إلّا ببطلان الصلاة بدونه، كقوله:

لا صلاة إلّا بكذا، و ما يؤدّي مؤدّاه، و لا يتعارف التعبير عنها ببيان الثواب على فعله و أنّ

من فعل كذا كان له من الأجر كذا و إن كان ذلك في الواجبات المستقلّة متعارفا.

فالإنصاف منافاة هذه الأخبار مع وجوبها الشرطي دون التعبّدي.

و يمكن أن يقال بأنّا نستفيد استحباب الإقامة من أخبار اقتداء الملائكة صفّا أو صفّين، لا لمجرّد أنّ الترغيب إلى عمل بذكر الثواب يستشمّ منه رائحة الاستحباب، بل لمقدّمتين مستفادتين من هذه الأخبار.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب الأذان و الإقامة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 384

الاولى: أنّ الأذان و الإقامة ليسا بأجنبيّين عن الصلاة و مطلوبين مستقلّين بحيالهما، بل يحدث بسببهما خصوصيّة و مزيّة في الصلاة، فالصلاة المقرونة بهما أو بالإقامة ذات مزيّة مفقودة في الصلاة الفاقدة، لا أنّ الصلاة على حال واحد في الحالين و إنّما الفرق بإدراك مطلوب آخر معها و فواته.

و سبب استفادة ذلك منها حكمها بأنّ الأذان و الإقامة موجبان لأهليّة في الصلاة و ارتفاع منزلة فيها حتّى تصير قابلة لاقتداء الملائكة بها، فهما نظير خصوصيّة الكون في المسجد و سائر الأمور الموجبة لحدوث خصوصيّة في الصلاة المقرونة بها، و يعبّر عنها بالشروط، غاية الأمر إمّا الشرط الوجوبي أو الاستحبابي، فمطلوب الشارع هو الصلاة معهما.

كما نقول: مطلوبه الصلاة مع الطهارة، فكما أنّ الوضوء مطلوب مقدّمي لتحصيل هذه الخصوصيّة المتقوّمة بها مطوبيّة الشارع في الصلاة، فكذا الأذان و الإقامة أيضا مطلوبان مقدّميان لتحصيل الخصوصيّة الخاصّة المتقوّمة بها، إمّا أصل المطلوبيّة المتعلّقة بالصلاة، و إمّا مرتبة كاملة منها.

فعلى التقدير الأوّل هما شرطان للصحّة، و على الثاني شرطان للكمال، نعم يحتمل أن يكونا مضافا إلى هذه المطلوبيّة المقدّميّة مطلوبين نفسا أيضا، و لكن مطلوبيّتهما نفسا لا دليل عليها، فيكون مجرى للأصل.

و يظهر الثمر في ما لو ترك الصلاة

و تركهما أيضا، فعلى الأوّل لا يستحقّ إلّا عقوبة الصلاة، و على الثاني يستحقّ عقوبتين، و بالجملة، الذي يمكن جعل هذه الأخبار دليلا عليه ليس بأزيد من الطلب المقدّمي، فيبقى النفسي على صرف الاحتمال الخالي عن الحجّة.

و الثانية: أنّه بعد استظهار عدم الطلب النفسي، و إلّا لكان المناسب ظهور

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 385

الأثر في نفس الإقامة كان قيل: من أقام أمام صلاته وقع مورد تحسين صفّ من الملائكة في إقامته، و من أذّن و أقام وقع مورد تحسين صفّين فيهما.

فحيث رتّبه على الصلاة و أنّ الصلاة تصير لائقة بأن يقتدي بها الملائكة كان هذا قرينة على أنّ مطلوبيّتها على وجه الشرطيّة للصلاة، لا النفسيّة نقول: الصلاة المأخوذة في القضيّة- و المفروض لها حالتان: كونها مع الإقامة تارة، و مع الأمرين اخرى- يحتمل فيها ثلاثة احتمالات:

الأوّل: الصلاة الجامعة لشرائط الصحّة كلا و من جميع الجهات.

الثاني: الأعمّ من الصحيحة و من الفاسدة مطلقا و لو بعدم الطهارة و نحو ذلك.

و الثالث: الصحيحة من غير جهة الإقامة، فالاحتمال الوسط لا يحتمله أحد، إذ الملك لا يقتدي بالفاسدة قطعا، و أمّا الأخير فيبعّده أنّ الإقامة إذا كانت شرطا للصحّة و كانت الصلاة بدونها فاسدة كالطهارة فأوّلا لا اختصاص بهذا الشرط في اقتداء الملك، بل لا بدّ من ذكر القبلة و الطهور و غيرهما من الشروط أيضا، و ثانيا لا اختصاص للملك بكون ذلك شرطا لاقتدائه، بل أدنى مصلّ من البشر أيضا يتوقّف اقتداؤه على وجود شرائط الصحّة في صلاة المقتدي (بالفتح) فما وجه التخصيص لذلك بالملك.

مضافا إلى أنّ إطلاق الصلاة منصرف إلى الوجه الأوّل أعني: الجامعة لتمام الشرائط، كما في قولك: من تصدّق أمام صلاته بدرهم

كانت صلاته مشرقة مضيئة، فإنّ الإنسان يفهم من لفظ «صلاته» ما هو الجامع لتمام الشرائط المفروغ عنها في هذا الكلام، و لا محالة ليس التصدّق بدرهم من جملتها.

نعم لو ثبت من دليل خارجي شرطيّة التصدّق و ارتباطه بالصلاة من حيث الصحّة لا الكمال صار ذلك قرينة على إرادة خلاف الظاهر أعني: الصلاة الصحيحة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 386

من غير هذه الجهة، و لكن ما لم يثبت من الخارج ذلك كان نفس الكلام ظاهرا في سلب ارتباطه عن الصلاة صحّة و إن ارتبط بها كمالا.

و يشهد لما ذكر من عدم إرادة الصحّة لو لا الإقامة أنّ المراد بالنسبة إلى الأذان قطعا هو الصلاة الصحيحة من جميع الجهات، فلو كان بالنسبة إلى الإقامة هو الصحيحة من غير جهتها لزم اختلاف السياق، مع أنّ الظاهر كونها على نسق واحد بالنسبة إليهما، فإمّا أريد من الصلاة هو الصحيحة من جميع الجهات بالنسبة إلى كليهما، و إمّا الصحيحة من غير جهة الإقامة و الأذان، فحيث إنّ الثاني مقطوع العدم، للقطع بعدم دخالة الأذان في الصحّة، يتعيّن الأوّل، و لازمة عدم دخالة الإقامة أيضا في الصحّة كالأذان.

هذا مضافا إلى أنّا لم نعهد في شي ء من أدلّة الأجزاء و الشرائط المعتبرة في صحّة المأمور به إفادة الجزئيّة أو الشرطيّة بلسان ذكر الثواب، كان يقال: من قرأ الفاتحة في صلاته كان له كذا و كذا من الأجر، نعم يعهد ذلك في أدلّة الواجبات و المستحبّات المستقلّة و كذا في المستحبّات التي لها دخل في كمال الطبيعة المأمور بها مع الفراغ عن صحّتها، و حيث إنّ الإقامة ليست من قبيل الأوّلين بحكم المقدّمة الأولى تعيّن أن يكون من الأخير.

و يشهد لهذا أيضا

قوله عليه السّلام في ذيل بعض أخبار الصفّ و الصفّين: اغتنم الصفّين، حيث أطلق الغنيمة على صفّ الإقامة كصفّ الأذان، فكما أنّ الثاني غنيمة، كذلك الأوّل، و لا يخفى ظهور لفظ الغنيمة في عدم الوجوب، هذا.

و يمكن أن يستدلّ أيضا على عدم وجوب الإقامة و استحبابها بما في صحيح صفوان من قوله عليه السّلام: «و الأذان و الإقامة في جميع الصلوات أفضل» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 387

تقريب الاستدلال أنّه عليه السّلام عبّر بالأفضليّة بالنسبة إلى الأذان و الإقامة كليهما، لا بمعنى اجتماعهما، إذ العطف بالواو ليس لاجتماع المعطوف و المعطوف عليه في الوجود، بل لاجتماعهما في الحكم و إن كانا بحسب الوجود مختلفين غير مجتمعين.

ألا ترى صحّة قولك: جاءني زيد و عمرو إذا جاءا متعاقبين لا متقارنين؟

فكذا هاهنا إذا قيل: الإقامة و الأذان أفضل، معناه أنّ الإقامة أفضل و الأذان أفضل، فالصلاة مع تركهما أيضا له فضل، لكن مع فعلهما أو فعل أحدهما يصير أفضل، و هذا التعبير و إن وقع في موثّق سماعة بالنسبة إلى الأذان فقط، و لكن قد جمع بينهما في هذا التعبير في صحيحة صفوان.

ففي الأولى: «قال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: لا تصلّ الغداة و المغرب إلّا بأذان و إقامة و رخّص في سائر الصلوات بالإقامة، و الأذان أفضل» «1».

و في الثانية: «عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام قال: الأذان مثنى مثنى، و الإقامة مثنى مثنى، و لا بدّ في الفجر و المغرب من أذان و إقامة في الحضر و السفر، لأنّه لا يقصّر فيهما في حضر و لا سفر، و يجزئك إقامة بغير أذان في

الظهر و العصر و العشاء الآخرة، و الأذان و الإقامة في جميع الصلوات أفضل» «2».

و إرجاع الكلام إلى أنّ ضمّ الأذان إلى الإقامة في الجميع أفضل خلاف ظاهر لا يصار إليه بغير ضرورة تلجأ إليه، بل يستفاد من الكلام أنّ الأذان و لو منفكّا عن الإقامة أفضل من تركه، كما أنّ الإقامة منفكّة عن الأذان أفضل من تركها، فيستفاد مشروعيّة الأذان فقط بدون الإقامة أيضا كالعكس مضافا إلى مشروعيّة الصلاة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 388

بدونهما، و اللّٰه العالم.

إن قلت: الأفضليّة إنّما لوحظت بالنسبة إلى التبعيض بين الصلوات بإتيان الأذان و الإقامة معا في الفجر و المغرب و الاقتصار على الإقامة في الثلاثة الباقية، فالمفضّل عليه هذا، و المفضّل هو الإتيان بهما معا في جميع الصلوات، و على هذا فيكون من باب أفضليّة أحد أفراد الطبيعة المأمور بها، نحو قولك: التصدّق بهذا الدرهم واجب، و بهذا و ذاك أفضل، و ليس في هذا مخالفة ظاهر في كلمة الواو.

قلت: في هذا المثال أيضا لم يفد الواو المعيّة في الوجود، بل في الحكم، غاية الأمر أنّ الأفضليّة حكم للتصدّق لا للدرهمين، و حكمهما هو التصدّق.

و إن شئت المثال المناسب للمقام فلاحظ قولك: إكرام زيد و إكرام عمرو أفضل من إكرام بكر، فهل ترى أنّ معنى الكلام أنّ مجموع الإكرامين من حيث الاجتماع أفضل، أو أنّ المعنى أنّ كلا منهما أفضل؟ لا أظنّك تقول بالأوّل.

و حينئذ نقول في المقام: إنّ المفضّل عليه هو الصلاة الخالية عن الأذان في حكم أفضليّة الأذان، و الصلاة

الخالية عن الإقامة في حكم أفضليّة الإقامة.

و القرينة على هذا موثّقة سماعة حيث قال عليه السّلام بعد الحكم بنظير ما في صحيح صفوان: و الأذان أفضل، و لا شكّ أنّ معنى هذه الكلمة ليس أنّ ضمّ الأذان أفضل حتّى يكون المفضّل عليه هو الصلاة مع الإقامة بلا ضمّ الأذان، بل المعنى أنّ نفس الأذان بالنسبة إلى الصلاة الخالية عنه أفضل، فإذا عطفنا على الأذان الإقامة و قلنا:

الأذان و الإقامة أفضل، و راعينا ظهور كلمة الواو في الاشتراك في الحكم لا المعيّة في الوجود صار المعنى أنّ الإقامة أيضا حالها كالأذان في أنّها أفضل بالنسبة إلى خلوّ الصلاة عنها، فكلّ من الأمرين إنّما فضّل على فقدان نفسه في الصلاة بدون ملاحظة صاحبه، فكأنّه قيل: الأذان في جميع الصلوات أفضل من حالة خلوّ الصلاة عنه،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 389

و كذا الإقامة، و لا تتركهما في الغداة و المغرب و رخّص لك بالاكتفاء بالإقامة في الثلاثة الباقية.

و الحاصل أنّه بعد إمكان حفظ ظهور الواو و عدم منافاة لسائر أجزاء الكلام معه و عدم إشكال في أصل هذا الظهور لا وجه لرفع اليد عنه.

و يشهد للاستحباب أيضا في الجملة الخبر المرويّ عن دعائم الإسلام عن عليّ عليه السّلام «قال: لا بأس بأن يصلّي الرجل بنفسه بلا أذان و إقامة» «1».

كلام حول كتاب دعائم الإسلام

و أمّا اعتبار هذا الكتاب و مؤلّفه أعني: أبا حنيفة القاضي نعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيوان الذي كان منصوبا بالقضاوة من طرف خليفة عصره من الخلفاء الإسماعيليّة فربما يخدش فيه تارة من حيث اشتماله على الفتاوى الغير المفتي بها عند الأصحاب، كعدم انفعال الماء القليل و تحريم نكاح المتعة.

و اخرى من حيث خلوّه

عن الرواية عن الأئمّة من بعد الصادق عليه السّلام و اقتصاره عليه و من تقدّمه عليهم السّلام، و هذا يناسب مذهب الإسماعيليّة القائلين بإمامة إسماعيل بن جعفر بعد أبيه عليه السّلام و أنّه حيّ غائب.

و ثالثة من حيث عدم اشتهاره بين أصحاب الحديث و عدم نقلهم عنه، مع نقلهم عن فاسد العقيدة في المذهب إذا كان موثّقا، و ما ذاك إلّا لعدم كونه معتمدا عندهم.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 390

و رابعة من حيث إرساله و حذفه أسانيد الأحاديث المنقولة فيه.

و لعلّه من هذه الجهات أو بعضها ذكر العلّامة المجلسي في البحار أنّ أخباره يصلح للتأييد و التأكيد.

و أمّا المؤلّف: فقد قال في ترجمته في أمل الآمل: أبو حنيفة نعمان بن أبي عبد اللّٰه محمّد بن منصور بن أحمد بن حيوان، أحد الأئمّة الفضلاء المشار إليهم، ذكره الأمير مختار المسحي في تأريخه، فقال: كان من الفقه و الدين و النبل على ما لا مزيد عليه، و له عدّة تصانيف، منها: كتاب أصول المذهب و غيره، انتهى. و كان مالكي المذهب، ثمّ انتقل إلى مذهب الإماميّة و صنّف كتبا و كتاب الأخبار في الفقه، و كتاب الاقتصار في الفقه أيضا، و قال ابن زولاق في كتاب أخبار مصر في ترجمة أبي الحسن علي بن النعمان المذكور و كان أبوه النعمان بن محمّد بن القاضي في غاية الفضل من أهل القرآن و العلم بمعانيه و عالما بوجوه الفقه و علم اختلاف الفقهاء و اللغة و الشعراء الفحل و المعرفة بأحوال الناس مع عقل و إنصاف و ألّف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن

تأليف و أملح سجع، و عمل في المناقب و المثالب كتابا حسنا، و له ردود على المخالفين، له ردّ على أبي حنيفة و مالك، و على الشافعي، و كتاب اختلاف الفقهاء، و ينتصر فيه لأهل البيت عليهم السّلام، و له القصيدة ألقبها بالمنتخبة، و كان أبو حنيفة المذكور ملازما صحبة المعزّ تميم بن المنصور لمّا وصل من إفريقيّة إلى الديار المصريّة، كان معه و مات سنة 363 بمصر، ذكر ذلك كلّه ابن الخلّكان، انتهى كلام أمل الآمل.

نعم ذكر ابن شهر آشوب في معالم العلماء أنّه ليس بإمامي، و كتبه حسان.

و عن العلّامة الطباطبائي في رجاله في ضمن كلام له في ترجمة القاضي المذكور: و كتاب الدعائم كتاب حسن جيّد يصدق ما قيل فيه، إلّا أنّه لم يرو فيه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 391

عمّن بعد الصادق عليه السّلام من الأئمة عليهم السّلام خوفا من الخلفاء الإسماعيليّة، حيث كان قاضيا منصوبا من قبلهم بمصر، لكنّه قد أبدأ من وراء ستر التقيّة مذهبه بما لا يخفى على اللبيب.

و قال صاحب المقاييس في ذكر القائلين بعدم نجاسة الماء القليل بالملاقاة:

و ذهب إليه من القدماء صاحب دعائم الإسلام، كما يظهر من كلامه في هذا الكتاب، و ساق بعض ما رواه فيه و بيّنه و شرحه، ثمّ قال: و هذا الرجل كما يلوح في كتابه من أفاضل الشيعة، بل الإماميّة و إن لم يرو في كتابه إلّا عن الصادق و من قبله من الأئمة عليهم السّلام.

و قال: و ما في معالم السروي من نفي كونه إماميّا منظور فيه، و قد ذكر السروي أنّ له كتبا حسانا في الإمامة و فضائل الأئمّة عليهم السّلام و غيرها، و عدّ منها كتابا

في المناقب إلى الصادق عليه السّلام، و لعلّ الوجه في اقتصاره عليه سلام اللّٰه عليه ما سبق من احتمال كون من نسبه من العامّة إلى الإماميّة أنّه من الشيعة، لكنّه خلاف الظاهر، و اللّٰه يعلم.

و أكثر الأخبار التي أوردها في الدعائم موافقة لما في كتب أصحابنا المشهورة، و قال في أوّله أنّه اقتصر فيه على الثابت الصحيح ممّا جاء عن الأئمّة من أهل بيت الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله من جملة ما اختلف فيه الرواة عنهم و أنّه إنّما أسقط الأسانيد طلبا للاختصار، إلّا أنّه مع ذلك خالف فيه الأصحاب في جملة من الأحكام المعلومة عندهم، بل بعض ضروريّات مذهبهم كحلّية المتعة، فربما كان مخالفته لهم هنا و بقاؤه على مذهب مالك من هذا الباب.

و لعلّه لبعض ما ذكر و لعدم اشتهاره بين الأصحاب و عدم توثيقهم له و عدم تصحيحهم لحديثه أو كتابه لم يورد صاحب الوسائل شيئا من أخباره و لم يعدّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 392

الدعائم من الكتب التي يعتمد عليها، و قال صاحب البحار: إنّ أخباره يصلح للتأييد و التأكيد، مع أنّ أخبار كثير من الأصول و المصنّفات يعتمد عليها و إن كان مؤلّفوها فاسدي المذهب كابن فضّال و غيره، فلتعرف ذلك. انتهى.

أقول: أمّا اشتماله على الفتاوى الغير المفتي بها عند الأصحاب فقد اعتذر عنه العلّامة النوري قدّس سرّه في خاتمة كتاب مستدرك الوسائل بوجوه:

الأوّل: أنّه لم يخالف في موضع إلّا لما ساقه الدليل من ظاهر كتاب أو سنّة، و لم يتمسّك في موضع بالقياس و الاستحسان و الاعتبارات العقليّة و المناطات الظنّية.

الثاني: أنّه لم يكن الأحكام في تلك الأعصار بين فقهاء أصحابنا منقّحة متميّزة.

الثالث: أنّه ما خالف

في فرع غالبا إلّا و معه موافق معروف، نعم في مسألة المتعة لا موافق له، إلّا أنّي بعد التأمّل ظهر لي أنّه ذكر ذلك على غير وجه الاعتقاد و إن استند للحرمة إلى أخبار رواها تقيّة أو تحبّبا إلى أهل بلاده، فإنّها عندهم من المنكرات العظيمة.

و الشاهد على ذلك- مضافا إلى بعد خفاء حلّيتها عند الإماميّة عليه- أنّه ذكر في كتاب الطلاق في باب إحلال المطلّقة ثلاثا ما لفظه: و عنه يعني جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه «قال: من طلّق امرأته أي ثلاثا، فتزوّجت تزويج متعة لم يحلّها ذلك له» و لو لا جوازها و عدم كونها الزنا المحض لم يكن ليوردها في مقام ما اختاره من الأحكام الثابتة عنهم عليهم السّلام بالأثر الصحيح، و هذا ظاهر و الحمد للّٰه، و مثله ما ذكره في باب ذكر الحدّ في الزنا ما لفظه: و عن عليّ صلوات اللّٰه عليه: «و لا يكون الإحصان بنكاح متعة» و دلالته على ما ادّعيناه أوضح.

الرابع: بعد محلّ إقامته عن مجمع العلماء و المحدّثين و الفقهاء الناقدين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 393

و تعسّر اطّلاعه على زبرهم و تصانيفهم و آرائهم و فتاواهم، لطول المسافة و صعوبة السير و قلّة التردّد، خصوصا بعد تعدّد الخليفة، فإنّه كان في مصر و كان تحت ملوك الفاطميّين، و الأصحاب في أقطار العراق و العجم و كانت في تصرّف العباسيين.

و من هنا يظهر الجواب عمّا ذكر من عدم اشتهاره، فإنّه لعدم اطّلاعهم عليه و عدم حاجتهم إليه، و صاحب الوسائل الظاهر أنّه لم يعثر على هذا الكتاب، فإنّه قال في آخر كتاب الهداية و هو مختصر الوسائل في ذكر الكتب التي لم ينقل

عنها إمّا لقلّة ما فيها من النصوص، أو لعدم ثبوت الاعتماد عليه، و عدّ منها فقه الرضا و طبّه عليه السّلام، أو ثبوت عدم اعتباره، و عدّ منها مصباح الشريعة.

و قال في أمل الآمل: و عندنا أيضا كتب لا نعرف مؤلّفها، و عدّ منها عشرة، و ليس لهذا الكتاب ذكر في الموضعين، و من البعيد أنّه كان عنده و لم يشر إليه، لأنّه إن عرف صاحبه و أنّه هو القاضي نعما، فقد مدحه في أمله، فينبغي ذكره في ما اعتمد عليه و نقل عنه و إن لم يعرفه، فذكره في الكتب المجهولة أولى من ذكر طبّ الرضا عليه السّلام و الكشكول الذي ليس فيه حكم فرعيّ أصلا.

و أمّا خلوّه عن الرواية عن الأئمة بعد الصادق عليهم السّلام فقد ذكر العلّامة المذكور في الكتاب المزبور أنّه وجد في كتاب الوصايا من الدعائم رواية عن ابن أبي عمير أنّه «قال: كنت جالسا على باب أبي جعفر عليه السّلام إذ أقبلت امرأة فقالت: استأذن لي على أبي جعفر عليه السّلام، قيل لها: و ما تريدين منه؟ قالت: أردت أن أسأله عن مسألة، فقيل لها: هذا الحكم فقيه أهل العراق فاسأليه، قالت: إنّ زوجي هلك و ترك ألف درهم و كان لي عليه من صداقي خمسمائة درهم، فأخذت صداقي و أخذت ميراثي، ثمّ جاء رجل فقال: لي عليه ألف درهم و كنت أعرف له ذلك، فشهدت بها، فقال

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 394

الحكم: اصبر لي حتّى أتدبّر في مسألتك و أحسبها و جعل يحسب، فخرج إليه أبو جعفر عليه السّلام و هو على ذلك، فقال: ما هذا الذي تحرّك به أصابعك يا حكم؟

فأخبره، فما أتمّ الكلام حتّى

قال أبو جعفر عليه السّلام: أقرّت له بثلثي ما في يديها و لا ميراث لها حتّى يقضيه» «1».

و المراد به أبو جعفر الثاني عليه السّلام قطعا، لأنّ ابن أبي عمير لم يدرك الصادق عليه السّلام فضلا عن الباقر عليه السّلام، بل أدرك الكاظم عليه السّلام و لم يرو عنه، و إنّما هو من أصحاب الرضا و الجواد عليهما السّلام، و هو من مشاهير الرواة، بل الفقهاء العظام الذين لا يخفى عصرهم و زمانهم و طبقتهم على مثله من أهل العلم و الفضل.

و في كتاب الوقوف عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما السّلام: «إنّ بعض أصحابه كتب إليه: أنّ فلانا ابتاع ضيعة و جعل لك في الوقف الخمس» «2». إلى آخر الخبر المرويّ في الكافي و التهذيب و الفقيه مسندا عن عليّ بن مهزيار «قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السّلام إلخ» «3» و عليّ من أصحاب الجواد و الرضا عليهما السّلام لم يدرك قبلهما من الأئمة عليهم السّلام أحدا.

و في كتاب الميراث عن حذيفة بن منصور «قال: مات أخ لي و ترك ابنته، فأمرت إسماعيل بن جابر أن يسأل أبا الحسن عليّا صلوات اللّٰه عليه عن ذلك،

______________________________

(1) دعائم الإسلام 2: 361، الحديث 1315، و عنه مستدرك الوسائل: كتاب الوصايا، الباب 25 من أبواب كتاب الوصايا، الحديث 1.

(2) دعائم الإسلام 2: 344، الحديث 1290، و عنه مستدرك الوسائل: كتاب الوقوف و الصدقات، الباب 4، الحديث 1.

(3) الكافي 7: 26/ 30، و التهذيب 9: 130/ 557، و الفقيه 4: 178/ 628.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 395

فسأله، فقال: المال كلّه لابنته» «1».

و أيضا ذكر في آخر أدعية التعقيب ما لفظه: «و روينا عن الأئمة عليهم السّلام

أنّهم أمروا بعد ذلك بالتقرّب بعقب كلّ صلاة فريضة، و التقرّب أن يبسط المصلّي يديه ..

إلى أن ذكر الدعاء و هو: اللّٰهمّ إنّي أتقرّب إليك بمحمّد رسولك و نبيّك و بعليّ وصيّه وليّك، و بالأئمة من ولده الطاهرين الحسن و الحسين و عليّ بن الحسين و محمّد بن عليّ و جعفر بن محمّد، و يسمّي الأئمة إماما إماما حتّى يسمّي إمام عصره ثمّ يقول إلخ».

و روى في ذكر العقائق عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أنّه نهى عن أربع كنى، إلى أن قال:

و أبي القاسم إذا كان الاسم محمّدا، نهى عن ذلك سائر الناس و رخّص فيه لعليّ عليه السّلام، و قال صلّى اللّٰه عليه و آله: المهدي من ولدي يضاهي اسمه اسمي و كنيته كنيتي.

و أيضا كثير من متون أخباره مطابق لما في الجعفريّات، بحيث تطمئنّ النفس أخذها منها، و الحال أنّ سند أخبارها ينتهي إلى موسى بن جعفر عليهما السّلام و حاله عليه السّلام عند الإسماعيليّة معلوم.

و أيضا في رسالة شريفة في فهرست كتب الشيخ الفقيه أبي الفتح محمّد بن عثمان ابن عليّ الكراجكي عملها بعض معاصريه ما لفظه: مختصر كتاب الدعائم للقاضي النعمان عمله و هو من جملة فقهاء الحضرة كتاب الاختيار من الأخبار، و هو اختصار كتاب الأخبار للقاضي النعمان، يجري مجرى اختصار الدعائم، و الظاهر أنّ المراد منه شرح الأخبار، و فيه من الدلالة على جلالة قدره ما لا يخفى.

قال العلّامة النوري قدّس سرّه: و لم أعرف صاحب الفهرست، إلّا أنّ في موضع منها

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: كتاب الفرائض و المواريث، الباب 4 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 396

هكذا: كتاب

غاية الإنصاف في مسائل الخلاف يتضمّن النقض على أبي الصلاح الحلبي رحمه اللّٰه في مسائل خلف كذا بينه و بين المرتضى نصر فيها رأي المرتضى و نصر والدي رحمه اللّٰه. و في موضع آخر جواب رسالة الحازميّة في إبطال العدد و تثبيت الرؤية، و هي الردّ على أبي الحسن بن أبي حازم المصري تلميذ شيخي رحمة اللّٰه عليه عقيب انتقالي من العدد أربعون ورقة، و من ذلك يظهر أنّه و والده من فقهاء عصرهما.

و أمّا احتمال كونه إسماعيليا كما في كلام الفاضل الآميرزا عبد اللّٰه في رياض العلماء في ترجمته حيث قال: من أين علم أنّه كان من أصحابنا و أنّه اتّقى الخلفاء الإسماعيليّة، فهل هذا إلّا مجرّد دعوى و احتمال؟ إذ ما الدليل على أنّه لم يكن إسماعيليّا حقيقة من بين مذاهب الإماميّة، فتأمّل، انتهى.

أو استظهار عدم كونه إماميّا، كما في كلام صاحب الروضات حيث قال:

الظاهر عندي أنّه لم يكن من الإماميّة الحقّة و إن كان في كتبه يظهر الميل إلى طريقة أهل البيت عليهم السّلام و الرواية من أحاديثهم من جهة مصلحة وقته و التقرّب إلى السلاطين من أولادهم، و ذلك لما حقّقناه مرارا في ذيل تراجم كثير ممّن كان يتوهّم في حقّهم هذا الأمر بمحض ما يشاهد في كلماتهم من المناقب و المثالب اللتين يجريهما اللّٰه تعالى على ألسنتهم الناطقة لطفا منه بالمستضعفين من البريّة، و أنت تعلم أنّه لو كان لهذه النسبة يعني: ما ذكره صاحب الوسائل في أمل الآمل واقعا لذكره سلفنا الصالحون و قدماؤنا الحاذقون بأمثال هذه الشئون، و لم يكن يخفى ذلك إلى زمان صاحب الأمل الذي من فرط صداقته يقول بشيعيّة أبي الفرج الأصبهاني الخبيث.

ففيهما- مضافا إلى

ما تقدّم- أنّه يكذبهما ملاحظة سخافة مذهب الإسماعيليّة و كمال مباينته مع هذا العالم الجليل، بحيث لا يرضى المنصف بأن ينسب ذلك المذهب السخيف إليه، فإنّ من جملة ما ذهبوا إليه على ما صرّح به الشيخ الجليل الحسن بن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 397

موسى النوبختي في كتاب الفرق أنّهم أنكروا موت إسماعيل في حياة أبيه و قالوا: كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس، لأنّه خاف تغيّبه عنهم، و زعموا أنّ إسماعيل لا يموت حتّى يملك الأرض يقوم بأمر الناس، و أنّه هو القائم، هذا مذهب الخالصة منهم.

و أمّا الباطنيّة منهم فمقالاتهم أفظع و أشنع، فزعموا- كما في الكتاب المذكور- أنّ اللّٰه عزّ و جلّ بدا له في إمامة جعفر عليه السّلام فصيّرها في محمّد بن إسماعيل، و زعموا أنّه حيّ لم يمت و أنّه يبعث بالرسالة و شريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمّد النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و أنّه من اولي العزم، و أولو العزم عندهم سبعة، نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد و عليّ صلوات اللّٰه عليهما و آلهما و محمّد بن إسماعيل.

و زعموا أنّ اللّٰه تبارك و تعالى جعل له جنّة آدم، و معناها عندهم الإباحة للمحارم و جميع ما خلق في الدنيا، و هو قول اللّٰه عزّ و جلّ وَ كُلٰا مِنْهٰا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمٰا وَ لٰا تَقْرَبٰا هٰذِهِ الشَّجَرَةَ موسى بن جعفر بن محمّد و ولده عليهم السّلام من بعده من ادّعى الإمامة منهم.

و زعموا أنّه خاتم النبيّين الذي حكاه اللّٰه عزّ و جلّ في كتابه، و أنّ جميع الأشياء التي فرضها اللّٰه عزّ و جلّ على عباده و سنّه نبيّه

و أمر بها فله ظاهر و باطن، و أنّ جميع ما استعبد إليه العباد في الظاهر من الكتاب و السنّة فأمثال مضروبة و تحتها معان هي بطونها و عليها العمل و فيها النجاة، و أنّ ما ظهر منها ففي استعمالها الهلاك و الشقاء، و هي جزء من العذاب الأدنى عذّب اللّٰه به قوما، إذ لم يعرفوا الحقّ و لم يقولوا به، إلى غير ذلك من مقالاتهم الشنيعة التي نسبها إليهم في الكتاب المذكور و غيره من تصانيفهم في هذا الباب.

و ليس في كتاب الدعائم ذكر لإسماعيل و لا لمحمّد أصلا في موضع منه، حتّى في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 398

مقام إثبات الإمامة و ردّ مقالات العامّة و أئمّتهم الأربعة، مع أنّ خلفاء عصره الذين كان هو في قاعدة سلطنتهم و منصوبا للقضاوة من قبلهم المدّعين انتهاء نسبهم إلى محمّد بن إسماعيل المستولين على بلاد المغاربة و مصر و الإسكندريّة و غيرها كانوا في الباطن من الباطنيّة، كما صرّح به العالم الخبير البصير السيّد مرتضى الرازي في كتاب تبصرة العوامّ، و مع ذلك فإنّه صرّح في كتابه بكفر الباطنيّة و ضلالتهم و خروجهم عن الدين، و من أراد فليراجع المستدرك حيث نقل هذا الموضع من كلامه.

ثمّ إنّ الظاهر من كتب المقالات أنّ الإسماعيليّة كلّهم منكرون للشرائع، تاركون للفرائض، مستبيحون للمحارم.

و من ذلك ظهر أنّ نسبة هذا العالم الجليل صاحب هذا المؤلّف الشريف إلى هذا المذهب السخيف افتراء عظيم، فإنّ الكتاب المذكور قد ألّف على طريقة العلماء الإماميّة، بل هو من أجلّ ما ألّفوا و أحسن ما دوّنوا من تقديم ما يحتاج إليه الفقه من مسائل الإمامة على أبدع نظم و ترتيب، كما لا يخفى

على الناظر اللبيب.

و على هذا فنقول: إن كان القدح في المؤلّف (بالكسر) من جهة كونه إسماعيليّا فالقرائن المتقدّمة من كتابه شاهد بكونه إماميّا اثنا عشريّا، و إن كان في ستر التقيّة من الخلفاء الإسماعيليّة.

و إن كان من جهة عدم توثيق الرجاليّين إيّاه و عدم تصحيحهم حديثه و كتابه فكم له من نظير في جملة الثقات المعتمدين الذين قد أهملهم الرجاليّون إمّا للغفلة، أو عدم الاطّلاع، أو العجلة، كجعفر بن أحمد القمّي، و فرات بن إبراهيم الكوفي صاحب التفسير، و محمّد بن عليّ بن إبراهيم صاحب العلل، و الحسن بن عليّ بن شعبة صاحب تحف العقول، و السيّد عليّ بن الحسين بن باقي صاحب اختيار

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 399

المصباح، و الحسن بن أبي الحسن الديلمي صاحب إرشاد القلوب و غرر الأخبار و غيرها، و سبط الطبرسي صاحب مشكاة الأنوار و غيرهم.

و إن كان من جهة تفرّده بالفتوى في بعض الفروع و مخالفته لسائر الأصحاب فكم له في ذلك أيضا من نظير، كفضل بن شاذان، و يونس بن عبد الرحمن، و قد قال الشيخ المفيد في المقالات: و لم يوحشني من خالف فيه، إذ بالحجّة لي أتمّ انس و لا وحشة من حقّ، و قال السيّد المرتضى في بعض رسائله: لا يوجب أن يوحش من المذهب قلّة الذاهب إليه و العاثر عليه، بل ينبغي أن لا يوحش منه إلّا ما لا دلالة له تعضده و لا حجّة تعمده.

و إن كان من جهة إفتائه بتحريم المتعة الذي خلافه ضروري المذهب فقد عرفت أنّه قد اتّقى في هذا المقام، مع أنّه أظهر في خفايا كلامه ما هو الثابت الصحيح عنده، و قد ذكرنا لك موضعه.

و إن

كان من جهة مجهوليّة حاله من حيث الوثاقة و الأمانة- و لو فرض كونه شيعيّا إماميّا اثنا عشريّا- فقد عرفت أوّلا: شهادة التتبّع في كتابه الدعائم و شرح الأخبار الذي هو من نفائس الكتب على كثرة فضله و طول باعه و خلوص ولائه، و أمّا دعائمه فكلّه في فقه الإماميّة و فروعها و أحكامها مستدلّا عليها بأخبار أهل البيت عليهم السّلام على أحسن نظم و ترتيب، بل ليس في أيدينا من علماء تلك الأعصار ما يشبهه في الوضع و التتبّع مفتتحا بمسائل في الإمامة و شروطها و فضائل الأئمة عليهم السّلام و وصاياهم و شرح عدم جواز أخذ الأحكام الدينيّة عن غيرهم كسائر كتب أصحابنا في هذا الباب.

و ثانيا: أنّ مثل العلّامة الكراجكي قد لخّص كتاب دعائمه على ما تقدّم من فهرست كتب الكراجكي، و كفى بذلك في جلالته و وثاقته، و كذلك شهادة المسحي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 400

صاحب تأريخ مصر بأنّه كان من العلم و الفقه و الدين و النبل على ما لا مزيد عليه، و قول ابن دولاق أنّه من أهل القرآن، إلى قوله: مع عقل و إنصاف كما تقدّم كلامه، و قول ابن خلّكان أنّه من الفضلاء المشار إليهم.

و الحاصل أنّه داخل في الموثّقين المعتمدين من أفاضل العلماء الاثنا عشريّة.

و أمّا إرسال أحاديث كتابة أعني: دعائم الإسلام فيرفع قدحه تصريحه في أوّله بأنّ بناؤه فيه على الاختصار و الاقتصار على الثابت الصحيح ممّا رواه عن الأئمّة من أهل بيت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أجمعين من جملة ما اختلف فيه الرواة عنهم، هذا.

و قد نقل شيخنا الأستاذ العلّامة أدام اللّٰه أيّامه أنّ سيّد أستاذه السيّد محمّد الأصفهاني

قدّس اللّٰه تربته الزكيّة عند بحثه عن اشتراط القبض في الرهن و عدم تماميّة دلالة الآية الشريفة فَرِهٰانٌ مَقْبُوضَةٌ و انحصار المدرك في هذا الباب بخبر الدعائم: «لا رهن إلّا بالقبض» راجع في اعتبار سنده إلى العلّامة النوري قدّس اللّٰه فسيح تربته الزكيّة، فصرّح هو بوثاقته و اعتباره، فقنع السيّد العلّامة المذكور قدّس سرّه بتوثيقه و استراح في المسألة المذكورة بهذا الخبر.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 401

المبحث الثاني حكموا بسقوط الأذان في موارد:

منها: لعصر يوم الجمعة، و لم نظفر بدليل يدلّ عليه، نعم استدلّ عليه بما رواه الشيخ في الصحيح عن رهط منهم: الفضيل و زرارة عن أبي جعفر عليهما السّلام «إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله جمع بين الظهر و العصر بأذان و إقامتين، و جمع بين المغرب و العشاء بأذان واحد و إقامتين» «1».

و بما روي عن حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام «قال عليه السّلام: الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة» «2».

و الرواية الثانية على فرض صحّة السند و كون المراد بالأذان الثالث أذان العصر بناء على أنّ الأوّل أذان الصبح و الثاني أذان الظهر، أو أنّ الأوّل أذان إعلام الظهر، و الثاني أذان إعظامه حسن الدلالة على المطلوب، لكنّ الكلام في مقدّمتيها، أمّا السند فضعيف، و أمّا الدلالة فمن المحتمل أن يكون المراد ما اخترعه عثمان على

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 36 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 49 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1 و 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 402

نقل، و معاوية على آخر من الأذان الثالث لصلاة الجمعة، لبعد المسافة بين منزله و بين المسجد، فالخبر تعريض بهذه البدعة.

و أمّا الأولى:

فربما يقال: إنّه لا دلالة فيها على سقوط الأذان للعصر في صورة الجمع، لا مطلقا، و لا في خصوص يوم الجمعة، و إنّما يدلّ على جواز الجمع بين الفريضتين بأذان واحد في يوم الجمعة و غيره، فعمومات استحباب الأذان لكلّ صلاة كقوله عليه السّلام: «و الأذان و الإقامة في جميع الصلوات أفضل» «1» سليمة عن المخصّص.

فكما لا منافاة في هذه الرواية و ما يفيد مفادها مع أدلّة استحباب النافلة، فكذلك مع أدلّة استحباب الأذان.

و لكنّ الإنصاف أنّا إذا رأينا من الشارع في موارد مختلفة أنّه فرّق بين عنوان الجمع و بين أذان واحد و إقامتين، سواء في موارد جعل الجمع فيها مستحبّا كيومي الجمعة و العرفة و عشاءي المزدلفة أم لا، كقاضي الصلوات و السلس يفهم من المجموع أنّ لعنوان الجمع خصوصيّة بحيث لم يبق عموم قوله عليه السّلام: «و الأذان في جميع الصلوات أفضل» على حاله بدون تخصيص.

فإذا فهمنا ذلك فإمّا نقول: إنّه لا يستفاد منه أزيد من تخصيص حكم الأفضليّة في صورة الجمع بين الفريضتين مؤدّاتين أم مقضيّتين، و أمّا أنّ هذا التخصيص راجع إلى حيث تأكّد الفضل، فأصل الفضل باق في حال الجمع بلا تأكّد، أو أنّه راجع إلى أصل الفضل و المشروعيّة فلا دليل على شي ء من الأمرين، و يكفي حينئذ في عدم المشروعيّة الأصل.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 403

و إمّا نقول: إنّ ظاهر قوله: جمع بينهما، أو أجمع بينهما بأذان و إقامتين كقولك:

جمعت صلاتي الظهر و العصر بوضوء واحد كون الأذان واقعا لكلتا الصلاتين لا لخصوص الظهر حتّى يبقى العصر بلا أذان.

و حينئذ فحاله حال المأموم الذي

يكتفى بأذان الجماعة عن أذان آخر لصلاته، و على هذا فالدليل دالّ على عدم المشروعيّة و جواز الإتيان برجاء المطلوبيّة على كلا الوجهين، أمّا على الأوّل فواضح، فإنّ الحرمة الذاتيّة غير محتملة أو مدفوعة بالأصل، و التشريعيّة منفيّة مع الاحتياط، و أمّا على الثاني فلأنّه و إن قامت الحجّة على نفي المشروعيّة، لكن مع ذلك يحتمل خلافه، و يجوز إدراكا لهذا الاحتمال الإتيان برجاء المطلوبيّة.

لكنّك خبير بأنّه على كلا الوجهين لا يبقى خصوصيّة ليوم الجمعة بالنسبة إلى سائر الأيام، بل الحكم عامّ لجميع أفراد الجمع، يوم الجمعة كان أم غيره، مستحبّا كان أم جائزا، كما أنّه اتّضح أنّ تركه يكون على وجه العزيمة لا الرخصة، بمعنى جواز إتيانه بقصد التوظيف، لكن كان الأفضل تركه و كان الفعل أقلّ فضلا، كما هو الحال في العبادات المكروهة.

و يمكن استفادة عدم المشروعيّة من بعض الأخبار الذي دلّ على أنّ الجمع بين الصلاتين يكون في ما إذا لم يكن بينهما تطوّع، فإن كان بينهما تطوّع فلا جمع، بتقريب أنّ من المعلوم أنّه ليس نظر الشارع في هذه القضيّة بيان مفهوم الجمع، بل المنظور هو أثره الثابت له شرعا، كما هو الحال في قوله لو قال: لا سفر في ما دون المسافة، أو لا كثرة في ما دون الكرّ من الماء.

و حينئذ نقول: إنّا نقطع بأنّ الجمع بما هو جمع لا أثر له شرعا غير مرجوحيّة الأذان معه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 404

فإن قلت: التفريق بين الصلاتين مستحبّ، فالجمع مكروه، بمعنى أنّه خلاف المستحبّ.

قلت: التفريق و لو كان كلتا الصلاتين في وقت واحد غير معلوم الاستحباب و إنّما المعلوم هو التفريق المحصّل للفضل الوقتي، و في الحقيقة ليس الفضل

للتفريق بما هو هو، بل لإدراك الوقت الخاصّ المضروب للفضيلة، و إذن فالأثر الذي يمكن أن يكون محطّا للنظر في القضيّة المذكورة ليس إلّا المرجوحيّة للأذان.

و حينئذ نقول: المرجوحيّة المتصوّرة فيه على نحوين:

الأوّل: المرجوحيّة المصطلحة بمعنى رجحان الترك المطلق من الفعل.

و الثاني: المرجوحيّة العباديّة، و هي على نحوين أيضا:

الأوّل: أن يكون بمعنى أنّ هناك فعلا آخر لا يجتمع وجودا مع فعل العبادة، و هو أرجح من العبادة، ففعل العبادة بالقياس إلى تركها راجح، و لكن بالقياس إلى ذلك الأمر المضادّ معه مرجوح.

و الثاني: أن يكون في الخصوصيّة القائمة بالعبادة في فردها الخاصّ حزازة، فمعنى مرجوحيّتها أنّها بالقياس إلى الفرد الآخر الخالي عن تلك الخصوصيّة مرجوحة، لا أنّ تركها راجح على فعلها.

فنقول في المقام: لا يحتمل أن يكون المرجوحيّة الثابتة للأذان في حال الجمع بين الصلاتين من قبيل القسم الثاني، أعني: أن يكون بالقياس إلى ضدّ أرجح، فإنّه و إن كان يحتمل أن يكون في عشاء المزدلفة و عصر العرفة كذلك، بمعنى أن يكون المبادرة إلى الصلاة الثابتة في ذلك المكان و ذلك الموسم ذات فضل أرجح من الأذان، و على هذا التقدير لا ينسلب أصل الفضل عن الأذان، لكن في كلّ مكان و كلّ زمان يقع فيه الجمع لا يحتمل ذلك فيه، بل لا يحتمل أصل الرجحان في الجمع بين الصلاتين و المبادرة إلى الصلاة الثانية، فضلا عن كون ذلك

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 405

أرجح من فعل الأذان.

فالأمر دائر بين أحد الآخرين، فإن كان الأوّل منهما أعني: المرجوحيّة المصطلحة فواضح أنّ لازمة سلب أصل الرجحان عن فعل الأذان، و إن كان الثاني فكذلك، لأنّ الخصوصيّة التي أوجبت في العبادة أعني: الصلاة الثانية مع

الأذان عند مجامعتها مع الأولى هي كونها مصحوبة مع الأذان، و معنى ذلك المرجوحيّة المطلقة في فعل الأذان، و ذلك لأنّ الأذان ليس عبادة نفسيّة، بل مقدّميّة، و معناه أنّ الصلاة المقيّدة به عبادة ذات كمال بسبب استصحابه معه، فالكراهة العباديّة عند الجمع- على تقديرها- للصلاة الثانية المقيّدة لا محالة.

و أمّا وجه أنّ الأذان ليس كالتعقيب مستحبّا نفسيّا، غاية الأمر في محلّ مخصوص، فقد تقدّم وجه استفادته من أخبار اقتداء الصفّ و الصفّين من الملائكة، فراجع.

فثبت أنّ الأثر الذي يرتفع بفعل النافلة بين الصلاتين و أفاد الخبر أنّه لا أثر للجمع بين الصلاتين معها إنّما هو المرجوحيّة المطلقة للفعل، و هذا معنى كون السقوط عزيمة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الدليل على كون سقوط الأذان مع عنوان الجمع مطلقا في أيّ مقام حصل بطريق العزيمة- بمعنى عدم المشروعيّة و كونه حراما تشريعيّا لو أتي به بعنوان التعبّد لا بمعنى كونه محرّما ذاتيّا، إذ لا يحتمل ذلك في هذا المقام، و لا بوجه الرخصة، بمعنى أنّ الفعل راجح، و لكن الترك أرجح- أمران:

أحدهما: كلمة الباء في قول الإمام عليه السّلام في مقام النقل عن النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله في مواضع متفرّقة: جمع بين الصلاتين بأذان و إقامتين، حيث إنّ ظاهرها دخالة ذلك الأذان في كلتا الصلاتين، فيكون له لسان الحكومة على ما دلّ على أنّ الأذان لكلّ صلاة أفضل، لأنّه مع تسليم ذلك نقول: إنّ أذان الصلاة الثانية عند الجمع قد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 406

حصل، فلا مجال للإتيان ثانيا، و ليس هذا بمثابة نقل الراوي بهذه الكلمة فعل الجمع عن النبيّ أو الإمام صلّى اللّٰه عليه و آله حتّى يقال: إنّه

ليس بأزيد من نقل فعل، و لا نعلم على أيّ وجه وقع، و لعلّه كان للتسهيل.

مضافا إلى ما ورد في خصوص عشاء المزدلفة من أنّ هذا أعني: الاكتفاء بأذان المغرب لها و إتيانها معجّلا بعدها هو السنّة، و على هذا فيكفي في عدم رجحان الأذان مطلقا للصلاة الثانية في مطلق صور الجمع عدم الدليل.

و الثاني: ما ورد من المضمون المتقدّم، أعني: أنّ الجمع يكون فيما إذا لم يكن تطوّع، و إذا كان فلا جمع بالتقريب المتقدّم، و منه يظهر أيضا المراد بالجمع الذي موجب لسقوط الأذان عن الرجحان و أنّه ينتفي بمجرّد فعل النافلة، نعم بفعل التعقيب فقط لا ينتفي ما لم يحصل الفصل الطويل الذي يصدق معه التفريق عرفا.

و لكن ليعلم أنّ قضيّة كلا الأمرين ليس إلّا عدم الرجحان للفعل، لا الحرمة الذاتيّة، فالإتيان به عند الجمع لا بقصد التعبّد لا مانع منه على كلّ حال، لكن في غير السلس و المستحاضة، فالاحتياط فيهما يكون بالترك و لو فرض عدم الدليل على عدم المشروعيّة، و لهذا يكون الاحتياط في حقّهما هو الترك في الإقامة أيضا، بل في الأذان و الإقامة معا للصلاة الاولى، و لكلتا الصلاتين في صورة التفريق، و ذلك لأنّ الحكم بعدم الحدثيّة على بول السلس و دم المستحاضة القدر المتيقّن منه حال الصلاة، فيبقى ما كان منه في حال الأذان و الإقامة بلا دليل على عدم الحدثيّة.

لكن هذا مع عدم الترخيص بفعل الأذان و الإقامة، و قد ورد في حقّ السلس الترخيص بإتيان الصلاتين جمعا بأذان و إقامتين، و أمّا بالنسبة إلى المستحاضة فلم نعثر على النصّ، فالاحتياط بالنسبة إليها يقتضي المبادرة بعد غسلها إلى الصلاة الأولى، بلا تخلّل أذان و

إقامة، و كذلك بعدها إلى الصلاة الثانية كذلك، بل و بلا تخلّل وضوء بين الصلاتين، لما ذكر من الوجه، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 407

المبحث الثالث يسقط الأذان و الإقامة عمّن دخل في مكان أقيم فيه الجماعة

اشارة

و بقي أهلها و لم يتفرّقوا.

و قبل التكلّم في تفصيل المسألة ينبغي التيمّن بذكر أخبارها،

فنقول و على اللّٰه التوكّل:

منها: ما رواه ثقة الإسلام و شيخ الطائفة بطريقهما إلى أبي بصير «قال: سألته عن الرجل ينتهي إلى الإمام حين يسلّم؟ فقال عليه السّلام: ليس عليه أن يعيد الأذان، فليدخل معهم في أذانهم، فإن وجدهم قد تفرّقوا أعاد الأذان» «1».

و منها: ما رواه الشيخ بطريق عن أبي بصير أيضا عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قلت له: الرجل يدخل المسجد و قد صلّى القوم، أ يؤذّن و يقيم؟ قال عليه السّلام:

إن كان دخل و لم يتفرّق الصفّ صلّى بأذانهم و إقامتهم، و إن كان تفرّق الصفّ أذّن و أقام» «2».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 408

و منها: ما رواه أيضا بطريقين عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام «قال عليه السّلام: دخل رجلان المسجد و قد صلّى الناس، فقال لهما عليّ عليه السّلام: إن شئتما فليؤمّ أحدكما صاحبه و لا يؤذّن و لا يقيم» «1».

و منها: ما رواه أيضا عن السكوني عن جعفر عليه السّلام عن أبيه عن عليّ عليهم السّلام أنّه عليه السّلام كان يقول: إذا دخل رجل المسجد و قد صلّى أهله، فلا يؤذّنن و لا يقيمنّ و لا يتطوّع حتّى يبدأ بصلاة الفريضة، و لا يخرج منه إلى غيره حتّى يصلّي فيه» «2».

و منها: ما رواه رئيس المحدّثين و شيخ الطائفة بطريقهما عن أبي علي «قال: كنّا عند أبي عبد اللّٰه عليه السّلام فأتاه رجل فقال: جعلت فداك صلّينا في المسجد الفجر فانصرف بعضنا

و جلس بعض في التسبيح، فدخل علينا رجل المسجد فأذّن، فمنعناه و دفعناه عن ذلك، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: أحسنت ادفعه عن ذلك و امنعه أشدّ المنع، فقلت: فإن دخلوا فأرادوا أن يصلّوا فيه جماعة؟ قال عليه السّلام:

يقومون في ناحية المسجد و لا يبدو بهم إمام، الحديث» «3». هذا بحسب رواية الشيخ.

و مثله رواه الصدوق رحمهما اللّٰه، إلّا أنّه «قال: أحسنتم ادفعوه عن ذلك و امنعوه أشدّ المنع، فقلت له: فإن دخل جماعة، فقال عليه السّلام: يقومون في ناحية المسجد و لا يبدر لهم إمام» «4».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 3.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 65 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 65 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 409

و منها: المحكيّ عن كتاب زيد النرسي عن عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السّلام:

«إذا أدركت الجماعة و قد انصرف القوم فوجدت الإمام مكانه و أهل المسجد قبل أن يتفرّقوا أجزأك أذانهم و إقامتهم، فاستفتح الصلاة لنفسك، و إذا وافيتهم و قد انصرفوا صلاتهم و هم جلوس أجزأ إقامة بغير أذان، و إن وجدتهم تفرّقوا و خرج بعضهم من المسجد فأذّن و أقم لنفسك» «1».

و بإزاء هذه الأخبار خبران:

الأوّل: ما رواه الصدوق قدّس سرّه بإسناده عن معاوية بن شريح عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه «قال عليه السّلام: إذا جاء الرجل مبادرا و الإمام راكع أجزأته تكبيرة واحدة، إلى أن قال: و من أدركه و قد رفع رأسه من السجدة الأخيرة و هو في التشهّد

فقد أدرك الجماعة، و ليس عليه أذان و لا إقامة، و من أدركه و قد سلّم فعليه الأذان و الإقامة» «2».

و الثاني: موثّق عمّار عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام في حديث «في الرجل أدرك الإمام حين سلّم؟ قال عليه السّلام: عليه أن يؤذّن و يقيم و يفتتح الصلاة» «3».

إذا سمعت الأخبار فاستمع لما يتلى عليك في وجه الجمع و التوفيق لرفع التعارض عمّا بين الأخيرين و ما قبلهما، حيث يستفاد ممّا قبلهما كون الأذان و الإقامة مستنكرين حتّى يقال في حقّ فاعلهما: ادفعوه عن ذلك و امنعوه أشدّ المنع، و منهما كونهما مستحسنين بمثابة يصلح التحريض و الترغيب نحوهما بمثل قولنا:

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 65 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 4.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 25 من أبواب الأذان و الإقامة، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 410

عليك فعلهما، و بين هذين المضمونين كمال التهافت و التنافر، فما يقال في وجه التوفيق أمران لا يصلح شي ء منهما للمصير إليه.

الأوّل: تقييد الأخيرين بما بعد التفرّق، و هما آبيان عنه، بل يمكن عدّهما ناصّين في أنّ المفروض إدراك الإمام متّصلا بسلامه و لم يتفرّق الجماعة، فلا يصلح للتقييد بما بعد تفرّقها.

و بالجملة، فتقييدهما بما بعد التفرّق في البعد بمثابة تقييد ما قبلهما بما قبل السلام، فكما أنّها نصّ في ما بعده و قبل التفرّق، فكذا هما أيضا ناصّان في عين هذا الموضوع.

و الثاني: حمل ما تقدّمهما على الكراهيّة العباديّة و حملهما على أصل الرجحان و الاستحباب المتقوّم به عباديّتهما، فإنّ العبادات المكروهة ليست عبارة عمّا يترجّح تركها المطلق على فعلها، كما هو

المراد بالكراهيّة المصطلحة، كيف و هذا لا يجامع عباديّتها المتوقّفة على رجحان الفعل على الترك، بل عبارة عن مضادّة وجودها مع مستحبّ آخر هو آكد منها، و هو ملازم مع تركها، فمرجوحيّتها إنّما هي بالقياس إلى ذاك المستحبّ الأهمّ.

و على هذا فنقول في هذا المقام:

إنّ ترك الأذان و الإقامة لمن دخل على الجماعة بعد السلام ملازم مع أمر وجودي يكون مطلوبا للشارع بمطلوبيّة آكد و أهمّ من مطلوبيّة فعلهما له، مثل احترام إمام الجماعة السابقة أو الإمام الراتب، فبملاحظة إدراك ذاك الأهمّ ورد في الأخبار السابقة التأكيد و المبالغة في المنع عنهما، و بملاحظة كونهما في حدّ ذاتهما راجحين و مستحبّين ورد في الخبرين الأخيرين الحثّ و التحريض إلى فعلهما، هذا ما قد يقال في وجه الجمع و دفع المنافاة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 411

و لكنّ الحقّ أنّه أيضا قريب من الوجه الأوّل في البعد، لا لأنّا لا نحتمل بحسب مقام الثبوت عن أن يكون في البين مزاحم أهمّ ملازم مع تركهما، بل هذا محتمل هنا بحسب الثبوت على خلاف المقام السابق، حيث قلنا: لا يحتمل أن يكون الجمع بين الصلاتين و المبادرة إلى الصلاة الثانية راجحا أصلا فضلا عن أن يكون أرجح من الأذان.

و لكن لأجل عدم مناسبة ذلك مع التعبير بكلمة الحثّ و التحريض فإنّ المستحبّ المزاحم بمستحبّ آخر أقوى و أهمّ منه لا نضايق أن يرد فيه الترخيص أو الأمر الذي مفاده أيضا ذلك، لوقوعه في مقام توهّم الحظر، و أمّا الحثّ و التحريص نحوه فنضايق عنه، فإنّ المقام غير لائق به، و حاله حال الترخيص في فعل الواجب الذي زاحمه واجب آخر أهمّ منه، فكما لا يصحّ الترخيص نحوه بنحو

الإطلاق بل بنحو الترتّب على مذاق من يصحّح الترتّب و إلّا فلا يصحّ مطلقا، فكذا حال الترغيب و التحريص بكلمة «عليك» و نحوه التي معناها الملازمة و عدم الانفكاك في المستحبّ الذي زاحمه مستحبّ آخر أهمّ منه.

و حينئذ فالإنصاف أنّ عدّ المقام من باب تعارض الخبرين الذي لا جمع عرفي بينهما أولى من هذه التجشّمات.

و حينئذ نقول: لا مقاومة للخبرين بالنسبة إلى ما تقدّمهما، لأنّ الأصحاب تلقّوا تلك بالقبول و أفتوا بمضمونها، و قد أعرضوا عن هذين، و هذا يوجب وهنهما بحسب السند و خروجهما عن موضوع الحجّية رأسا، فتكون تلك سليمة عن المعارض الحجّة.

إذا عرفت فلنشرع في تفصيل المسألة بحسب ما يستفاد من النظر في تلك الأخبار و أنّ السقوط هل هو على وجه الرخصة أو على وجه العزيمة، و على كلّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 412

حال هل يخصّ المسجد أو يعمّه و غيره، و هل يخصّ مريد الجماعة أو يعمّه و غيره، و هل يخصّ من يريد إقامة الجماعة، أو يعمّه و غيره، و أنّ الملاك في التفرّق الذي يسقط معه السقوط و يثبت مع عدمه ما ذا، فهل المراد بعدم التفرّق بقاء هيئة الصفوف بحالها بحيث لو خرج واحد كفى في حصول التفرّق، أو أنّ المراد بالتفرّق حصوله بالنسبة إلى جميع الآحاد، فلا بدّ من تفرّق كلّ واحد منهم عن مكانه، فلو بقي واحد كفى في عدم التفرّق.

و هل المراد بقاؤها بهيئة الجماعة،

فلو قام عدّة من مكانهم و لكن بقوا في ذلك المكان بهيئة الاجتماع كفى في عدم التفرّق، أو أنّ المراد البقاء على حالة الصفّية، و على هذا أيضا يكفي البقاء بهيئة الصفّ و لو اشتغلوا بشغل آخر أجنبيّ عن الصلاة مثل المباحثة

و نحوها، أو لا بدّ من بقائهم في التعقيب و لواحق الصلاة؟

لا بدّ في تشخيص الحقّ في جميع هذه التفاصيل من النظر إلى ما يستفاد من الأخبار.

فنقول و على اللّٰه التوكّل:

أمّا كون السقوط رخصة أو عزيمة فالحقّ هو الثاني بالبيان الذي تقدّم في وجه عدم الجمع بين الخبرين الأخيرين مع سائر الأخبار، فإنّ كونه على وجه الرخصة معناه هنا منحصر كما عرفت في كون الأذان في الجماعة منافيا مع أمر وجودي أهمّ منه في المطلوبيّة، و لا شكّ أنّ الندب إلى المستحبّ المزاحم بالمستحبّ الأهمّ لا يصحّ، بل الصحيح أمّا النهي إرشادا إلى إدراك الأهمّ، و إلّا فالترخيص لفعله، و أمّا الندب و الترغيب إليه فلا يصلح مع فرض مفوّتيّته لما هو أرجح منه.

إذا عرفت هذا فنقول: ما تقدّم في أدلّة مشروعيّة الأذان و الإقامة من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 413

العمومات و الإطلاقات و أنّ من فعلهما اقتدى بصلاته صفّان من الملائكة، و من أقام اقتدى بها صفّ واحد، ثمّ الأمر في بعض الأخبار عقيب ذلك بقوله: فاغتنم الصفّين لا يصلح مع هذه النواهي الواردة في أخبار مسألتنا أعني: ما عدا الخبرين الأخيرين الذين بنينا على طرحهما، سواء كانت إرشاديّة أم مولويّة.

أمّا على الثاني فواضح، حيث إنّ النسبة هو العموم و الخصوص، و قاعدة ذلك هو التخصيص و إخراج الخاصّ عن تحت حكم العامّ، فلا يبقى للأذان قبل تفرّق الجماعة حثّ و تحريص، و لا دليل غيره، فيبقى أصل مشروعيّته بلا دليل.

و أمّا على الأوّل أعني: كون النواهي إرشاديّة فلأنّه ليس في أنفسها إشارة إلى أنّ ذلك لأجل إدراك المطلوب الآخر الأهمّ، و لا أنّ هناك إطلاق مادّة آخر يدلّ على وجود مطلوب

آخر للمولى قد عجزنا في مقام الامتثال عن الجمع بينه و بين المطلوب الأذاني حتّى يكون مقتضى إطلاق مادّة الخطابين بقائهما بوصف المطلوبيّة الذاتيّة مع قطع النظر عن الشرائط العقليّة من قبيل القدرة و تحمّل النهي الوارد عن الأذان في حال المزاحمة بينهما على الإرشاد إلى أهميّة ذلك المطلوب الآخر.

و إنّما الثابت و المتحقّق إطلاق خطابات الأذان، و هذه النواهي عن الأذان في مورد الجماعة الغير المتفرّقة أهلها، و هذان عند عرضهما على العرف لا يعاملون معهما إلّا معاملة التخصيص و التقييد.

نعم يحتمل بحسب مقام الثبوت أن يكون الأمر كما ذكر، أعني: من باب المزاحمة بالأهمّ، إلّا أنّه لا دليل عليه بحسب الإثبات، لا من جهة الهيئة، و لا من جهة المادّة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 414

أمّا الأوّل فواضح، حيث إنّ هيئة لا تفعل مضادّة مع هيئة افعل، و أمّا الثاني فلأنّ إطلاق المادّة ليس وراء إطلاق الهيئة، بل هو هو، لأنّ المراد بإطلاق المادّة أنّ الهيئة مع الإغماض عن الشرائط العقليّة قد سيقت ممحّضة لما يتعلّق بالأغراض الشرعيّة، فإذا فرضنا أنّ العمومات قد اشتملت على غاية الحثّ إلى الفعل فلا يلائم هذا الحثّ بل مطلق الحثّ مع المرجوحيّة بمعنى الابتلاء بالمزاحم الأهمّ، و لازم ذلك أنّ ذلك الحثّ لا محالة مخصّص بغير هذا المورد، فيبقى أصل المشروعيّة في هذا المورد بلا دليل عليه أصلا.

و أمّا المراد بالتفرّق الذي أنيط السقوط بعدمه و الثبوت بوجوده فتارة نتكلّم مع قطع النظر عن خبر أبي علي و الخبر المحكيّ عن كتاب زيد النرسي و بحسب ما يستفاد من بقيّة الأخبار السابقة المشتملة على عنوان التفرّق، و أمّا لو كنّا و هذه فالمستفاد منها ما ذا؟

و اخرى

نتكلّم مع ملاحظة ذينك أيضا.

أمّا الكلام بحسب الأوّل فنقول: إنّ الأخبار المذكورة بين ما أضيف فيه التفرّق إلى الجماعة بواو الضمير، و بين ما أضيف فيه ذلك إلى الصفّ، و الأوّل فيه احتمالان:

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 414

الأوّل: أن يكون المراد بالواو هو العموم الاستغراقي، و لازمة توقّف صدق العنوان على حصول التفرقة بين كلّ واحد واحد عن جميع من عداه من أهل تلك الجماعة المنعقدة، فما دام اثنان منهم موجودين لم يصدق أنّهم تفرّقوا، نعم لو بقي واحد فقط صدق ذلك لأنّ هذا الواحد تفرّق عن جميع من عداه، و كذا كلّ واحد واحد ممّن عداه.

أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فلأنّه يكفي في حصول الافتراق بين الاثنين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 415

حركة أحدهما و انتقاله إلى مكان آخر و إن بقي الآخر في مكانه.

ألا ترى صدق الافتراق الذي هو غاية خيار المجلس بانتقال واحد من المتبايعين و لو بقي الآخر؟ كذلك في المقام.

و أمّا ما ترى من إطلاق «تفرّقوا» في ما إذا كان المتخلّف نفرا يسيرا مضمحلّا في جنب المتفرّقين فهو من باب المسامحة و تنزيل النادر منزلة المعدوم، لا أنّه مصداق حقيقة بنظر العرف دون العقل.

و الحاصل أنّه لا اختلاف في تشخيص مصداق «تفرّقوا» مشيرا إلى جماعة خاصّة بين العقل و العرف في أنّ اللازم ثبوته بالنسبة إلى جميعهم من دون استثناء، كما هو الحال في نظائره من «ضربوا» و «صلّوا» و غير ذلك، و هذا واضح، و من المعلوم أنّ المعيار في ترتّب الأحكام هو المصاديق الحقيقيّة العرفيّة، دون ما يطلقون عليه اللفظة مسامحة و عناية.

و الثاني: أن يكون

المراد بها العموم المجموعي و لوحظ التفرّق فيه بملاحظة تركّبه من الأبعاض، و يكفي في صدق التفرّق في الكلّ صيرورته بعضين بأن بقي بعضه و خرج بعضه و لو كان البعض الخارج واحدا، و هذا أيضا لا اختلاف فيه بين العقل و العرف.

و أمّا ما ترى من إطلاق عدم تفرّق الكلّ بهذا المعنى بخروج واحد أو نفر يسير يعدّ معدوما في جنب المتخلّفين، فهو أيضا من المسامحات العرفيّة مع اعترافهم بكونه غير مصداق حقيقة لعدم التفرّق و كونه مصداقا للتفرّق. هذا في الصنف الأوّل من الأخبار.

و أمّا الثاني أعني: ما أضيف التفرّق فيه إلى الصفّ ففيه ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أن يراد بالصفّ هو الأمر الواحد المستطيل كالخطّ المستطيل،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 416

فيلاحظ كلّ صفّ كأنّه شخص واحد، و لا بدّ حينئذ من ملاحظة التفرّق بين الصفوف، فإذا حصل ذلك بأن يخرج صفّ و لو واحدا و يتفرّق عن الصفوف الباقية كفى في صدق العنوان.

و الثاني: أن يراد بالصفّ أهله، و حينئذ تارة يراد العموم المجموعي، و اخرى الاستغراقي على حسب ما مرّ في الصنف المتقدّم، هذه هي الاحتمالات التي يتصوّر و بحسب مقام الثبوت، و أمّا بحسب الاستظهار فالظاهر هو إرادة العموم الاستغراقي من «واو» الضمير و أهل الصفّ من الصفّ بإرادة الاستغراق أيضا، و قد عرفت أنّ لازمة صدق عنوان التفرّق عند بقاء واحد و عدم صدقه عند بقاء ما زاد عليه و لو كان اثنين.

و يدلّ عليه أيضا رواية أبي علي حيث قال الراوي: انصرف بعضنا و جلس بعض في التسبيح، و مع ذلك قال الإمام عليه السّلام: أحسنت ادفعه عن ذلك و امنعه أشدّ المنع «1»، و لم يستفصل عن أنّ

البعض الجالس كان بأيّ مقدار.

لا يقال: فاللازم منه كفاية بقاء الواحد أيضا، و هو خلاف مقصودك.

لأنّا نقول: لا يلزم منه، لأنّ كلام الراوي حيث قال: فدخل علينا رجل و أيضا قال: فمنعناه و دفعناه، يظهر منه كون الجالس أكثر من واحد، فلم يحتج إلى الاستفصال من هذه الجهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أنّ ما يقال في هذا المقام من احتمال آخر في هذه الروايات المشتملة على عنوان التفرّق من كون المراد بالتفرّق زوال الهيئة الصلاتيّة و تبدّلها بالهيئة الأخرى، و لو كانت الجماعة بأجمعها باقية في أمكنتهم مستقبلين القبلة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 65 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 417

كما لو جلسوا على هيئتهم بعد الفراغ من الصلاة و التعقيب لاستماع الموعظة أو المرثية أو غير ذلك بحيث انقلبت هيئة المجلس إلى هيئة أخرى، و بالجملة فالمعيار تفرّق الهيئة الصلاتيّة، غاية الأمر أنّه كما يحصل هذا تارة بتفرّق أبدان المصلّين عن أمكنتها يحصل اخرى مع اجتماع أبدانهم و بقائها في أمكنتها، كما في المثال المذكور، ليس له وجه و إن كان يظهر من بعض الكلمات اختياره، و ذلك لأنّ عنوان التفرّق لا يصحّ إضافته إلّا إلى متعدّد، و الهيئة الصلاتيّة أمر واحد لا يصحّ نسبة التفرّق إليها، نعم يصحّ نسبة التبدّل و الانقلاب و الزوال و نحو ذلك إليها.

فالذي يمكن احتماله في الروايات المشتملة على التفرّق منحصرة في الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة التي ذكرنا لازم كلّ منها، و على كلّ من تلك الثلاثة لا يفرق الحال بين بقاء الهيئة الصلاتيّة في المتخلّفين و انقلابها إلى الضدّ، فإنّ المعيار بناء عليها إمّا تفرّق الأشخاص و عدم تفرّقها بأحد الوجهين من

الاستغراق أو المجموعيّة، أو تفرّق الصفوف و عدم تفرّقها، و كلّ ذلك يلائم مع بقاء الهيئة الأوّلية الصلاتيّة في المتخلّف و عدم بقائها كما هو واضح، فالاحتمال المذكور يبقى بلا مدرك رأسا، و اللّٰه العالم.

بقي الكلام في رواية كتاب زيد النرسي، و الإنصاف أنّها مشوّشة المتن، فإنّها قد قسّم المسألة على ثلاثة أقسام، و لكن لم يعلم أيّ فرق بين القسمين الأوّلين، فإنّ القسم الأوّل: عبارة عمّا إذا انصرف القوم و وجد الإمام مكانه و أهل المسجد قبل أن يتفرّقوا.

و الثاني عبارة عمّا إذا وافيتهم و قد انصرفوا عن صلاتهم و هم جلوس، و أنت خبير بأنّ قوله: و هم جلوس عبارة أخرى عن قوله في القسم الأوّل قبل أن يتفرّقوا، اللّٰهمّ إلّا أن يحمل الأوّل على موضوعيّة الجلوس، و يحمل الشقّ الأوّل على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 418

عدم التفرّق مع القيام.

و أمّا حمل قوله: و هم جلوس على ما بعد الفراغ من التعقيب، و قوله: قبل أن يتفرّقوا على ما قبله فهو جمع بلا شاهد عليه في الكلام و يكون اقتراحا صرفا، فالأولى أن يقال: إنّا لا نفهم معناها و نردّها إلى أهلها، مضافا إلى أنّ التقسيم إلى ثلاثة أقسام ممّا اتّفقت الروايات الأخر على خلافه و أنّ الأمر بين أمرين: إمّا ثبوتهما معا، و إمّا سقوطهما كذلك، و اللّٰه العالم.

و أمّا الكلام في اختصاص الحكم بالمسجد أو عمومه لغيره

فالظاهر الأوّل، لأنّ أخبار المسألة بين ثلاثة أصناف، فصنف يكون السؤال فيه مشتملا على ذكر المسجد، و صنف يشتمل جواب الإمام عليه السّلام فيه على ذكره بطريق القضيّة الشرطيّة، و صنف يكون السؤال و الجواب كلاهما خاليين عن ذكره، و لا كلام في أنّ الصنف الأوّل لا يستفاد منه الاشتراط و

لا الإطلاق.

و أمّا الثاني فهو و إن ذكر فيه قيد المسجد بصورة القضيّة الشرطيّة، و لكن حيث إنّه قيد غالبي و سوق القضيّة الشرطيّة لنكتة الغلبة أيضا يكون متعارفا، فلا يكون دليلا على الاشتراط، فيبقى الصنف الثالث، فإن أمكن منه استفادة الإطلاق فحيث إنّه دليل منفصل لا يضرّه إجمال الصنفين الأوّلين، بل بإطلاقه يرفع الإجمال عنهما.

و لكنّ الإنصاف عدم اطمينان النفس بإطلاق هذا الصنف أيضا، و ذلك لقول السائل فيه: الرجل ينتهي إلى الإمام حين يسلّم، و حيث إنّ الإمام في تلك الأزمنة كان منصبا لشخص معيّن كالقضاوة و كان محلّه معيّنا في المسجد فلا أقلّ من كونه مجملا و مشكوكا في إطلاقه، إذ يحتمل قريبا أن يكون اللام فيه للعهد و الإشارة إلى الإمام المنصوب، لا إلى إمام الجماعة، نعم لو قال: إلى إمام، بهيئة التنكير، أو علم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 419

أنّ اللام للإشارة إلى الجنس كان الإطلاق صحيحا، و لكنّ الجزم بذلك مشكل، و الشكّ كاف في عدم جواز رفع اليد عن مطلقات أدلّة الأذان.

و لو علم أنّ الجماعة أقيمت بدون أذان و لا إقامة،

فإن علم أنّ ذلك لم يكن لاكتفائهم بسماعهما ممّن يؤذّن و يقيم أو بأذان الجماعة الأولى المنعقدة قبل انعقادها فلا إشكال في عدم السقوط، و أمّا لو علم بأحد الأمرين فلا إشكال في عدم عموم أخبار المسألة، لأنّها بين ما اشتمل على الاجتزاء بأذانهم و إقامتهم الظاهر في كونهم مباشرين لهما، و بين مطلق، و لكن حيث إنّ الجماعة بغير أذان و إقامة في غاية الندرة يكون المنصرف منه صورة وجودهما، فالذي يمكن أن يقال: إنّ دليل تنزيل السماع منزلة الأذان و الإقامة، و كذلك تنزيل أذان الجماعة الأولى منزلة أذان الثانية ناظر إلى عموم

الآثار التي منها هذا الأثر، و هذا أيضا الجزم به في غاية الإشكال، فيبقى السقوط في الفرعين بلا دليل.

و كذا لا إشكال في ما إذا لم يكن إمام الجماعة راتبا،

لقوّة احتمال أن يكون مصبّ الأخبار هو الراتب و أن يكون الحكمة في هذا الحكم مراعاة جانبه، و ليس في الأخبار إطلاق بحيث يشمل مطلق ما يصدق عليه إمام الجماعة، كما قلنا: إنّه ليس فيها إطلاق شامل لغير المسجد.

و كذا الكلام في صورة عدم اتّحاد الفرضين

إمّا بالأدائيّة و القضائيّة، أو باختلاف نوعهما، بأن يكون صلاة الجماعة ظهرا أو صلاة الداخل عليهم عصرا، أو بالعكس، فإنّ المنصرف من الأخبار صورة الاتّحاد في الأدائيّة و القضائيّة و في جنس الفريضة.

ففي مثل زماننا حيث تعارف فيه الجمع بين فريضتي الظهر و العصر لو ورد الداخل بعد إتمام عصر الجماعة و أراد الظهر و العصر فهنا احتمالات

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 420

الأوّل: السقوط لكلتا الصلاتين، و الثاني: عدمه لكلتيهما، و الثالث: التفصيل بين الظهر بعدم السقوط و العصر بالسقوط.

و الذي يسهّل الخطب في جميع هذه الفروع أنّا اخترنا كون السقوط في مورده على وجه العزيمة بمعنى عدم الأمر، لا بمعنى الحرمة الذاتيّة، فإذن لا بأس بالإتيان بهما في جميع موارد الشكّ بعنوان الرجاء و الاحتياط، و اللّٰه العالم.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 421

المقصد الثاني في أفعال الصلاة

اشارة

و هي واجبة و مسنونة.

و في الواجبات منها أبحاث:

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 423

[البحث] الأوّل في النيّة

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 425

و لا إشكال في البطلان بنقيصتها عمدا كانت أم سهوا،

و الكلام في كونها معتبرة على نحو الجزئيّة أو على وجه الشرطيّة مستغنى عنه بعد عدم ترتّب ثمرة عمليّة عليه و إن كان الحقّ أنّه على وجه الشرطيّة، لعدم تعقّل معنى لجزئيّتها، فإنّ الجزء عبارة عمّا اعتبر في المأمور به في عرض سائر الأجزاء، بحيث كان الأثر المترتّب عليه هو الصحّة التأهليّة، بمعنى أنّه بحيث لو انضمّ إليه سائر الأجزاء كان الأثر مترتّبا، و لو لم ينضمّ إليه البقيّة لما كان نقص من قبل هذا، كما أنّه لو لم يكن هذا لما كان نقص من قبل البقيّة.

و الأمر هاهنا ليس بهذا المنوال، فالنيّة لا بدّ منها في قوام حقيقة تمام الأجزاء، فالسجود لا يتقوّم حقيقته إلّا بها، و كذلك الركوع، و كذلك الحمد، فلو قرأ الفاتحة بنيّة إهداء الثواب إلى الميّت لما كان حمدا صلاتيّا.

و الحاصل أنّه في صورة انعدام النيّة ليس النقصان مستندا إلى عدمها فقط، بل إلى عدمها و عدم سائر الأجزاء أيضا، و هذا معنى عدم عرضيّتها معها، بل هي في طولها، و هذا معنى الشرطيّة.

و أمّا شرح حقيقتها
اشارة

فيحتاج إلى بسط في المقال، و على اللّٰه التوكّل في كلّ حال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 426

فنقول: لا بدّ من ملاحظة قطعيّاتنا في باب العبادة و أنّها ما هي، و ما زاد منها ما هو، و هل الدليل دلّ على اعتبار الزائد أو لا؟

فاعلم أنا نعلم إجمالا بديهة أنّ الصلاة من جملة العبادات دون التوصّليّات التي يكتفى بوقوعها في الخارج كيف ما اتّفق.

و نعلم أيضا بأنّ العبادة لا بدّ فيها وقوع الفعل من المكلّف بصفة الاختياريّة، فلو وقع بنحو الاضطرار كفعل النائم و الساهي فلا يكفي.

و نعلم أيضا أنّ الاختياريّة بمجرّدها غير كافية، فإنّ أفعالنا

الاختياريّة كثيرة، و ليس تمامها عبادة بصرف ذلك، بل لا بدّ مع ذلك من أن يكون القصد الداعي و الباعث نحو العمل جهة من الجهات التي يرجع إلى المولى بنحو من الرجوع و لو لم تكن هي إطاعة أمره، بل خوفه و هيبته أو الطمع منه.

و لهذا نرى تمشّي العبادة بمفهومها من عبدة الأصنام، مع أنّه لا أمر للأصنام حتّى يكون الداعي العبادي إطاعته، فليس المعتبر إلّا ما ذكرنا من كون الداعي جهة لها رجوع إلى المولى و تعلّق بساحته.

ثمّ لو كنّا نحن و مفهوم العبادة فلا يعتبر في تحقّقها غير هذين الأمرين، و هما كما ترى يجتمعان مع المبغوضيّة الفعليّة أيضا، بمعنى أنّ حالها حال التوصّلي، فكما أنّه يمكن حصوله مع الاجتماع مع المبغوض و لو بناء على امتناع الاجتماع، كذلك العبادة أيضا بمفهومها اللغوي ممكن التحقّق مع المبغوضيّة بأن كان العبادة مع كونها عبادة مبغوضة للمولى، كما لو أبغض المولى حضور عبده في صفّ سلامه مع هيئة منفّرة خاصّة، بحيث يتنفّر عن نفس سلامه و عبادته بواسطة وقوعها في هذه الحالة، مثل صلاة الحائض و صوم يوم العيد.

و لكن قد تحقّق لنا في الشريعة اعتبار أمر ثالث أيضا في العبادات الشرعيّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 427

زيادة على ما يعتبر في تحقّق مفهومها و هو كون الفعل يقع خارجا على وجه يتقرّب الفاعل بسببه لدى المولى و يصير صاحب وجاهة، و لا نعني بذلك كونه ذا منزلة و رتبة عنده، بل مجرّد أن يكون بين الفاعل و التارك فرق عند المولى و لو لم نسمّ ذلك الفرق باسم الرتبة و المنزلة، فهذا المعنى قام الدليل على اعتباره في العبادة شرعا، و هو

لا يلائم إلّا مع عدم المبغوضيّة الفعليّة في الفعل، فإنّه حينئذ يوجب البعد عن ساحة المولى، فلا يصلح لأن يتقرّب به.

إذا عرف ما ذكرنا فلنبحث في أنّه بم يتحقّق هذه الأمور؟

فاعلم أنّ المعتبر في باب الاختياريّة كون العمل منبعثا عن الإرادة المنبعثة عن تصوّر ذات الفعل و تصوّر منفعته الملاءمة و الشوق نحوها إلى أن ينجرّ الأمر إلى إحداث الإرادة المحرّكة سمت الفعل في النفس، فمتى تحقّق هذا المعنى صحّ إطلاق الاختياريّ على الفعل، ثمّ انقداح هذين التصوّرين أعني: إخطار صورة العمل تفصيلا و كذلك صورة منفعته حتّى يحدث بسببهما الشوق المنتهي إلى الإرادة قد يكون مقارنا لأوّل جزء من أجزاء العمل، و قد يكون مقارنا لأوّل مقدّمة من مقدّماته، و قد لا يكون هذا و لا ذاك، بل يكون مقارنا لفعل آخر أجنبيّ معه.

ثمّ يتبدّل صورة التفصيل في كلّ من هذه الثلاثة إلى الصورة الإجماليّة الارتكازيّة الكامنة في النفس التي نظيرها في العلم هو العلم الارتكازي الذي يستفتي الإنسان أحيانا من نفسه بملاحظة هذا الإجمالي الارتكازي و غيبوبة التفصيل عن ذهنه، فيستفيد من خزانة خياله، و التأمّل في ارتكازه صورة العلم التفصيلي.

فنقول: شبه هذا الإجمال و التفصيل موجودان في الإرادة أيضا، فالتفصيل هو حضور صورة الفعل و فائدته في الذهن مفصّلا، و الإجمال هو الثبوت الإجمالي

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 428

الارتكازي في النفس في قبال العدم الصرف، بحيث لو لا هذا الإجمال و الارتكاز لوقف عن الحركة من بعد ذلك، فوقوع الحركة بعده يحتاج إلى إرادة جديدة أو قسر قاسر، فما دامت الحركة حاصلة بدون صورة جديدة أو قسر قاسر فالمؤثّر و المحرّك ذلك الإجمال، حتّى أنّه قد يتّفق أنّ الإنسان في

أثناء الحركة يلتفت إلى نفسه و أنّه إلى أيّ مقصد يتحرّك فيتأمّل، فيصير تفصيليّا له صورة المقصد و لو لم يلتفت أيضا كان متشاغلا بها بذاك الداعي الإجمالي.

و بالجملة، لا كلام في اتّصاف الفعل بالاختياريّة و خروجه عن الاضطراريّة القسريّة بمجرّد استناده بهذا القسم من الإرادة و انبعاثه منه، من غير فرق بين مقارنة الإرادة التفصيليّة لأوّل أجزاء العمل أو أوّل مقدّماته أو عدم المقارنة لشي ء منهما بأن يكون حصولها في أثناء العمل الخارجي الأجنبيّ عن هذا العمل، كما لو تصوّر في أوّل النهار فعل شراء اللحم من السوق و طبخه ثمّ المشي إلى عيادة مريض من أصدقائه، و تصوّر فائدتهما و حصل له الشوق إلى أن تحقّق العزم له إلى فعلهما، فمشى عقيب هذا إلى السوق و اشترى اللحم و طبخه، ثمّ مشى متّصلا بذلك بدون تخلّل إرادة تفصيليّة و تصوّر تفصيلي إلى بيت ذلك الصديق المريض، فإنّه لا يشكّ أحد في أنّ وقوع العيادة منه يتّصف بالاختياريّة و لو لم يقارن النيّة التفصيليّة شيئا من أجزائها و لا شيئا من مقدّماتها.

و لا فرق في ذلك بين تكرّر ذلك أعني: وقوع العملين الأجنبيّين منه مرارا عديدة بحيث يحصل له عادة بإتيانهما بإرادة تفصيليّة واحدة، أو كان ذلك في أوّل مرتبة من صدوره منه، فإنّه كما يتصوّر في المرّة العاشرة و ما فوقها مثلا، كذلك قد يتّفق ذلك في أوّل الوهلة بأن كان هذا اليوم أوّل مشيه إلى عيادة هذا المريض، كما هو واضح.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 429

إذا عرفت ذلك فالقائل بالإخطار إن أراد بالإخطار هذه الصورة التفصيليّة التي قد عرفتها و عرفت عدم اعتبار مقارنتها في الاتّصاف بالاختياريّة، و لا حاجة إليها

لغير ذلك أيضا، فلا وجه لما ذكروه من اعتبار المقارنة.

و إن أراد أمرا آخر غير ما ذكرنا و هو حديث النفس المستطيل المقارن أوّله لهمزة «اللّٰه» و آخره لراء «أكبر» فإن أراد أنّه المعتبر دون غيره ممّا ذكرنا فهو بديهي الفساد، و إن أراد أنّه أيضا لازم مضافا إلى ما ذكرنا فنطالبه بدليله، و إذ ليس فليس.

كلام للشيخ الأنصاري قدّس سرّه في كتاب الطهارة

ثمّ إنّ لشيخنا المرتضى قدّس سرّه في بحث النيّة من كتاب طهارته كلاما على خلاف ما ذكرنا، قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: لم أفهم المراد منه، فقال قدّس سرّه بعد ذكر كفاية القصد الإجمالي في ما عدا الجزء الأوّل من أجزاء الفعل ما لفظه:

ثمّ المراد بأجزاء الفعل ما كان مربوطا به بجامع بحكم العادة النوعيّة أو الشخصيّة، مثلا إذا تصوّر المختار المشي إلى السوق لأجل شراء اللحم فقام للبس ثيابه و نعله كفى القصد التفصيلي في أوّل قيامه، و أمّا لبس ثيابه و نعله فضلا عن أوّل جزء من المشي، فيكفي فيها الأمر المركوز في الذهن و إن ذهل عن هذه الأفعال تفصيلا، لكنّها أفعال اختياريّة صادرة عن قصد و اختيار يترتّب عليها ما يترتّب على الفعل الاختياري لو فرض صدوره من أوّله إلى آخره بالقصد و التصوّر التفصيليّين، نعم لو لم يكن الحركة اللاحقة مرتبطة بالسابق لم يكتف بقصد المجموع في أوّل الأمر بعد تصوّره، فمن أراد شراء اللحم ثمّ زيارة مؤمن لم يكتف في صدور

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 430

زيارة المؤمن التصوّر و القصد المتعلّقان في أوّل الشروع بالشراء و الزيارة، بل لا بدّ عند الاشتغال بالمشي للزيارة من تصوّر و قصد متجدّدين، انتهى كلامه، رفع في الفردوس مقامه.

و قد تلخّص ممّا قدّمنا أنّ

الحقّ مع القائلين بكفاية الداعي بالمعنى الأعمّ من الأمر الارتكازي الذي ذكرنا، و أنّ القول بالإخطار بمعنى حديث النفس الممتدّ الزماني على تقدير إرادة الاكتفاء به في أوّل العمل و لو عرض الغفلة المحضة و زالت الصورة الارتكازيّة في الأثناء بديهي الفساد، و على تقدير إرادة لزومه مضافا إلى ما مرّ لا دليل عليه، فإنّ أصل اعتبار النيّة في العبادة ليس عليه دليل لفظي، فضلا عن أن يكون دالّا على اعتبار معنى الإخطار.

نعم، لو كان هناك لفظ دالّ على اعتبارها أمكن أن يدّعى أنّ لفظة النيّة بحسب اللغة يراد بها الإخطار القلبي دون مجرّد القصد الخالي عن الإخطار، و لهذا لا يقال: نوى إليه، كما يقال: أراد إليه.

و الحاصل أنّ القائل المذكور يحتاج في إثبات مرامه إلى مقدّمتين: إحداهما:

وجود الدليل اللفظي على اعتبار النيّة بهذه اللفظة، و الأخرى: أنّ هذه اللفظة غير مرادفة مع لفظة القصد و الإرادة و ما شابههما، و المقدّمة الأولى ممنوعة و الثانية غير مسلّمة.

و أمّا قوله عليه السّلام: «لا عمل إلّا بنيّة» «1» و قوله عليه السّلام: «إنّما الأعمال بالنيّات» «2» و قوله عليه السّلام: «إنّما لكلّ امرئ ما نوى» «3» فمن الواضح عدم ارتباطها بمقامنا أعني:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 10.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 5 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 10.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 431

اعتبار النيّة المعتبرة في باب العبادة، كيف و لو كان هذا مرادا منها لزم تخصيص الأكثر، لكثرة الأعمال الغير المحتاجة إلى هذه النيّة مع إباء سياقها بملاحظة الحصر عن أصل التخصيص، فضلا عن كثرته، فيتعيّن

أن تكون ناظرة إلى مقام آخر و هو أنّ العمل الذي يكتب لبني آدم أو عليهم من الخيرات و الحسنات و من الشرور و السيّئات لا يكون كذلك إلّا بالنيّة، فإن نشأ من نيّة الخير يكتب خيرا، و إن صدر من نيّة السوء يكتب شرّا، فكأنّه قيل: صيرورة العمل خيرا أو شرّا ليس إلّا بالنيّة، و أنّ معيار الثواب و العقاب هو النيّة، فلا ربط لها بما نحن فيه، هذا كلّه هو الكلام في ما به يتحقّق الاختياريّة.

و أمّا الكلام في ما به يتحقّق المقرّبيّة

التي قلنا إنّها من الأمور المعتبرة في العبادة بالاتّفاق مع عدم اعتبارها في مفهومها فاعلم أنّ الميزان فيها كون العمل منبعثا عن داع إلهي منسوب إلى اللّٰه تعالى، و له بحسب اختلاف درجات العابدين كمالا و ضعفا مراتب مندرجة في الكمال و الضعف.

الاولى: أن لا يكون نظر العابد إلى نفع عائد إلى نفسه أصلا و لو بالمرتبة الأقصى منه أعني: القرب من اللّٰه تعالى، بل كان نظره ممحّضا على أهليّة اللّٰه تعالى للعبادة، و هذه المرتبة كما قاله شيخنا المرتضى قدّس سرّه: لا ينبغي دعواها إلّا لمن ادّعاها و أحد عشر من أولاده المعصومين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين، حيث قال صلوات اللّٰه عليه: «ما عبدتك طمعا في الجنّة، و لا خوفا من النار، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك».

الثانية: أن يكون الداعي له إلى الامتثال صرف كونه مقرّبا لدى المولى، لا شيئا آخر من جنّة أو فرار من نار.

و الثالثة: أن يكون نظره في الامتثال حصول القرب، و لكن لم يكن القرب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 432

أقصى الدواعي له، بل كان الداعي الأقصى له حصول النعمة الدنيويّة أو الأخرويّة له أو اندفاع الضرر الدنيوي أو الأخروي

عنه، و هذه هي التي وقعت محلا للكلام بين الأعلام في كفايته في حصول القرب المعتبر في العبادة و عدمها.

و الحقّ هو الكفاية، فإنّه و إن كان أقصى دواعيه نفعه النفساني الشهواني، إلّا أنّه بطمعه من إنعام المولى و إحسانه فهو كالعبيد الظاهريّة إذا أخلصوا الخدمة و أحسنوا المودّة لمواليهم الظاهريّة بغرض أن يكمل لهم الوجاهة عنده حتّى يصير ذلك سببا لمزيد إنعام المولى عليهم و زيادة إحسانه إليهم، فإنّه لا شكّ في أنّ ذلك أمر حسن يوجب قربهم لديهم، فإنّ نفس الطمع من يد المولى و النظر إلى باب إحسانه أمر مرغوب مطلوب في ذاته، فالداعي الأوّلي في هذا القسم أمر حسن.

نعم لو كان المقصود ابتداء حصول المنفعة أو دفع المضرّة بلا توسيط القربة كما هو الشأن في الخواصّ الطبيعيّة للأفعال فيصلّي مثلا صلاة الليل و كان نظره إلى حصول خاصيّة درّ الرزق كما يفعل بعض الأوراد و المناتر لأجل بعض ما يترتّب عليها من الخواصّ، فليس هذا عبادة أصلا.

و أمّا القسم الثالث، أعني: ما كان المقصود أوّلا حصول القرب لدى المولى، ثمّ بواسطته حصول المنفعة بإفضال المولى و ترشّحات جوده و كرمه، فهذا عبادة نوع المسلمين المصلّين، حيث إنّ القسم الأوّل لا حظّ منه لأحد غير المعصومين عليهم السّلام، و القسم الثاني أيضا مخصوص بالأوحدي من غيرهم، فيبقى المتعارف الغالب من أفراد المصلّين، فعباداتهم طرّا من القسم الثالث، فيلزم على تقدير عدم كفايته الحكم ببطلان صلاة الجميع من الطائفة الثالثة، مضافا إلى [أنّ] الحثّ و الترغيب بإيعاد الثواب، و التخويف بتوعيد العقاب أيضا لا ثمرة لهما أيضا إلّا الفعل بداعي الوصول إلى الأوّل و الحذر عن الثاني.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 433

و

قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ ميزان حسن العمل و مقدار حسنه هو الداعي الأقصى، أعني: ما هو داعي الدواعي في نفسه، فإن كان أمرا راجحا صار موجبا لمزيّة العمل و رجحانه، و إن كان قبيحا رديّا صار موجبا لقبحه و رداءته، و إن كان لا حسن فيه و لا قبح فلا حسن و لا قبح في العمل، و إن كان الداعي المتوسّط بين العمل و بين الداعي الأقصى حسنا، مثلا لو أوعده إنسان بمال كثير لو صلّى امتثالا لأمر اللّٰه تعالى ففعل بداعي وصوله إلى ذلك المال فهو و إن تحقّق في نفسه حقيقة امتثال أمر اللّٰه، و لكن لمّا كان الداعي الأقصى الذي هو المحرّك الأصلي له هو الوصول إلى المال و هو أمر مباح فلا يتحقّق حقيقة العباديّة في حقّه.

و على هذا فلا يرد النقض بالصلاة عن رياء، فإنّ الداعي الأقصى للمرائي هو الرياء، و هو غير مربوط بالمولى، و قد كان المعيار هو ارتباطه، نعم يبقى الكلام في العبادات الاستيجاريّة و كيفيّة تصحيحها، و هو موكول إلى مقام آخر.

هذا تمام الكلام باعتبار نفس النيّة التي هي أمر بسيط.

و أمّا كيفيّتها باعتبار المنويّ
اشارة

فلا إشكال في لزوم قصد التعيين، أعني: تعيين المأمور به، لأنّه إن لم يتصوّره معيّنا بقيوده و مشخّصاته لما يدعوه إلى العمل أمره المتعلّق بخصوصه، و هذا واضح.

و لا يخفى أنّ اللازم أعمّ من التعيين التفصيلي و الإجمالي، كما إذا قصد في صورة اتّحاد الواجب في ذمّته ما هو الواجب عليّ في الحال، مثلا إذا كان عليه درهم واحد و لا يعلم أنّه من زيد أو من عمرو فيعطيه ممّن هو وكيلهما بقصد أداء ما في ذمّته في الحال، فيقع عنه أيّا ما كان

واقعا، و لا إشكال في هذا أيضا.

إنّما الكلام هنا في مقامات: الأوّل في تعيين الظهريّة و العصريّة، و الثاني: في تعيين الأدائيّة و القضائيّة، و الثالث: في تعيين الوجوب و الندب، و الرابع: في قصد التمييز.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 434

المقام الأوّل [تعيين الظهرية و العصرية]:

فنقول و على اللّٰه التوكّل: إذا كان للمأمور به ميز واقعي عن مأمور به آخر و كان محصّل ذلك الميز هو القصد مع الاشتراك في الصورة بحسب الخارج كما إذا كان قصد الظهريّة أو العصريّة جاعلا للأربع ركعات حقيقة مغايرة لحقيقة الآخر، و كان الذمّة مشتغلة بهما معا، فلا إشكال في لزوم القصد و التعيين القصدي للمأمور به، إذ ما لم يقصد لم يتحقّق المأمور به ذاتا، و ما لم يتحقّق الذات لم يتعلّق الأمر به، و بالفرض هو قاصد للأمر و امتثاله، نعم يكفيه الإشارة الإجماليّة، مثلا إذا كان في ذمّته ظهر أدائي و عصر قضائي يكفيه أحد الأمرين، إمّا قصد الظهريّة و العصريّة، أو قصد الأدائيّة و القضائيّة.

و أمّا إذا لم يكن بينهما ميز أصلا إلّا بتعدّد الوجود مثل درهم و درهم آخر إذا كان أحدهما واجبا و الآخر مستحبّا، فأوّلا: هل يعقل اشتراك التكليف في الزمان الواحد بهذا النحو أو لا يعقل، بل الزمان الأوّل أبدا مشغول بالتكليف الإيجابي، و يختصّ الزمان الثاني أعني: بعد أداء الدرهم الوجوبي بالتكليف الاستحبابي، كما هو مختار شيخنا المرتضى قدّس سرّه.

و ثانيا: على فرض التعقّل هل يلزم هنا قصد و تعيين بأن يقصد هذا الذي أعطيه هو الدرهم الوجوبي، أو أنّه الاستحبابي؟

الحقّ في المقام الأوّل هو المعقوليّة، فإنّا نرى بالوجدان أنّ الإنسان يأمر في الزمان الواحد عبده بأن يضرب الشخص الكذائي سوطا بطريق الوجوب

و سوطا آخر بطريق الندب، و كلا الطلبين متمشّ منه في زمان واحد، نعم لمّا يكون فصل الوجوب عدم الرضا بالترك فإذا حصل السوط الواحد فقد حصل المطلوب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 435

الوجوبي، أعني: ليس في نفسه قهرا عدم الرضا بالترك، فهذا تطبيق قهري للواجب على المأتيّ به الأوّل، لا أنّ الوجوب يختصّ بالزمان الأوّل و الاستحباب بالثاني.

و من هنا ظهر الحقّ في المقام الثاني و أنّ القصد غير مفيد فضلا عن كونه واجبا، بمعنى أنّ المصداق الأوّل قهريّ الانطباق على الواجب، و لا يعقل تشخيص كونه مصداقا للمستحبّ بالقصد و التعيين في النيّة، و هذا أيضا واضح.

و على هذا فنقول: إن كان في ذمّته أربع ركعات بعنوان الظهريّة، و أربع بعنوان العصريّة و قلنا بأنّهما حقيقتان مختلفتان و محقّقهما القصد كسائر العناوين القصديّة مثل التعظيم و شبهه، فإن كانا معا أدائيين أو قضائيين فلا إشكال في لزوم القصد التعييني و الإشارة إلى خصوصيّة الظهريّة أو العصريّة في الذهن، و هذا نظير ما لو كان في ذمّتك درهم لزيد و درهم لعمرو و أردت إعطاء الدرهمين لشخص واحد هو وكيل من جانبهما، فإنّه لا بدّ من قصد و إشارة إلى خصوصيّة كونه من الزيد أو من العمرو و لو بنحو الإشارة الإجماليّة، و هكذا لو كان لشخص عليك درهم من باب ضمان ما تلف من ماله في يدك، و آخر من جهة ثمن مال باعه منك، فلا بدّ من قصد التعيين، و لا يكفي إعطاؤك إيّاه درهما، و هذا واضح.

و محصّل الكلام في هذا المقام أنّ الذمّة متى اشتغلت بفعلين مشتركين في الجهات الخارجيّة جميعا فهذا على قسمين:

الأوّل: أن يكونا من باب حقيقتين

متمايزتين، و لكن مميّزهما القصد و الإشارة الذهنيّة كالتأديب و الإساءة و التعظيم و التوهين، أو فردين من حقيقة واحدة بحيث كانا متمايزين بالمميّزات الفرديّة مع كون المميّز من الأمور القصديّة الذهنيّة، كتعظيم الزيد و تعظيم العمرو، فإنّهما من حقيقة واحدة، لكن تمايزهما الفردي أيضا يكون بالقصد كالنوعي، و هذا لا إشكال في صورة تعدّد المكلّف به في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 436

الذمّة في الاحتياج إلى التعيين الذهني و لو الإجمالي، بل و كذا مع عدم التعدّد، لأنّ المأمور به متخصّص بالفرض بخصوصيّة لا يتحصّل إلّا بالقصد إليها.

و الثاني: أن يكون الفعلان كما هما مشتركان صورة، غير متمايزين واقعا أيضا بغير حيثيّة الوجود، بمعنى أنّهما ليسا في مرتبة الذات و الماهيّة لا نوعا و لا فردا متمايزين أصلا، بل التمايز جاء من قبل الوجود فقط مثل ضرب و ضرب آخر، و صلاة ركعتين و ركعتين أخريين، و هكذا.

و هذا القسم ممّا وقع إنكار إمكانه في كلام شيخنا المرتضى قدّس سرّه في غير صورة كون التكليفين وجوبيين، لأنّ التكليف إن كان وجوبا رجع إلى التكليف بصوم اليومين مثلا و هكذا، و ليس هذا من باب الاختلاف الموضوعي المحوج إلى قصد المميّز.

و إن كان أحدهما وجوبا و الآخر ندبا فإن كانا تدريجيّين كان الواجب هو الوجود الأوّل، و المندوب هو الوجود الثاني، فلا اشتراك في الزمان الواحد، و إن كانا يمكن إيجادهما دفعة مثل إعطاء الدرهم و درهم آخر، رجع إلى أنّ الأمر متعلّق بالدرهم اللابشرط عن الزيادة، فيكون إعطاؤه مع الزيادة من أفضل أفراده، فيصير كصورة التدريجيّة في اختصاص الوجود الأوّل بالوجوب و الثاني بالاستحباب.

و قد عرفت أنّ المختار في هذا القسم أيضا إمكان

كون أحدهما وجوبا و الآخر ندبا كصورة كونهما وجوبين، لما مرّ من الوجه فراجع، و في هذا القسم لا اختلاف موضوعي محوج إلى قصد التميّز و التعيين، و هذا أيضا لا إشكال فيه.

و حيث عرفت أنّ حيث الظهريّة و العصريّة من القسم الأوّل أعني:

الاختلاف الموضوعي مع التشابه و التشارك الصوري احتاجا إلى قصد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 437

خصوصيّتهما و لو بنحو الإجمال، مثل ما هو الواجب في الحال أو في الحال أو في الذمّة، كذلك إذا كان ما في الذمّة متّحدا، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني [في تعيين الأدائية و القضائية]:

لا إشكال في لزوم نيّة الأداء و القضاء إذا توقّف عليهما نيّة التعيين، كما لو كان في ذمّته ظهر و عصر إحداهما أداء و الأخرى قضاء و نشكّ في التعيين، فإنّ المعيّن حينئذ قصد ما هو الأداء و ما هو القضاء، كما أنّه لو علم بالتعيين يكفي له أحد الأمرين، إمّا قصد الأداء و القضاء، و إمّا قصد الظهر و العصر مع إهمال قصد الأداء و القضاء.

إنّما الكلام في صورة تعدّد المكلّف به أحدهما أداء و الآخر قضاء من دون اختلاف بالظهريّة و العصريّة بأن كانا معا ظهرا أو معا عصرا، فهل اللازم عليه إتيان أربع ركعات مرّتين مع قصد الظهريّة بلا حاجة إلى قصد الأداء و القضاء، أو يلزم القصد إلى هاتين الخصوصيّتين.

و بعبارة أخرى: هل الأداء و القضاء أيضا كالظهريّة و العصريّة حقيقتان مختلفتان حتّى يحتاجا إلى المميّز الذهني، أو أنّهما وجودان من حقيقة واحدة كالقصر و التمام مع زيادتهما عليهما بعدم المميّز الخارجي أيضا بخلافهما.

فإن كان الأوّل فلا بدّ من التعيين و لو إجمالا كما في الظهر و العصر، و إن كان الثاني

فلا حاجة إليه، بل و مع قصد أحدهما و كان الواقع بخلافه يلغو القصد، كما في قصد القصر أو الإتمام في أحد مواضع التخيير، حيث إنّ له إلغاء القصد المذكور قبل التجاوز عن الركعة الثانية، لكنّ الظاهر من كلمات العلماء رضوان اللّٰه عليهم هو الأوّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 438

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: يمكن تقريبه بعد مقدّمتين قطعيّتين:

إحداهما: أنّ التكليف بالأداء و القضاء ليس كالتكليفين المتوجّه أحدهما بالمقيّد و الآخر بالمطلق، كما لو تعلّق تكليف بعتق الرقبة المؤمنة، و تكليف آخر بمطلق الرقبة، حيث إنّ الجمع في الامتثال حينئذ ممكن كالتفريق، فإنّا نقطع بأنّ التكليف ليس بظهر مقيّد بالوقت و آخر بمطلق في خارج وقته الأوّلي، و إلّا كان اللازم جواز جمعهما في الامتثال كالمثال، و هو مقطوع الفساد.

الثانية: أنّه لو كان الأمر القضائي و الأدائي من باب التكليف بالفعل بصرف وجوده و بذلك الفعل بوجوده الثاني لزم ملاحظة ذلك، أعني: حيث كون الفعل وجودا ثانويّا في لحاظ الآمر، و نحن نقطع بأنّ تكليف صلّ الظهر الأدائي بالنسبة إلى من هو في أوّل البلوغ و بالنسبة إلى من هو مشغول بالقضاء الظهري يكون على نسق واحد لا مزيّة لأحدهما على الآخر، و ليس الملحوظ في حقّ الثاني: صلّ ظهرا آخرا، بل: صلّ الظهر، كما هو الحال بالنسبة إلى الأوّل.

و الحاصل أنّه أمر ممكن، و لكنّه محتاج إلى العناية الزائدة التي يدفعه الأصل في الخطابات اللفظيّة، فإذا ضممنا هذا الأصل اللفظي إلى تلك المقدّمة القطعيّة ينتجنا أنّ الأداء و القضاء أمران مختلفان بحسب الذهن و القصد.

و حينئذ فيحتمل أن يكون المميّز في كلّ منهما قصده بعنوانه الخاصّ الوجودي، و يحتمل أن يكون في جانب

الأداء قصد عنوانه الوجودي، و في طرف القضاء عدم هذا القصد، و يحتمل العكس، و لا معيّن لشي ء من هذه الثلاثة.

و الحاصل أنّا لو كنّا و الظواهر الأوّلية للخطابات لحملناهما على المطلق و المقيّد، و لكن صرفنا عن هذا الظاهر المقدّمة الأولى القطعيّة، و حينئذ يدور الأمر بين أمرين لا ثالث لهما، أحدهما: أن يكونا من قبيل وجودين لموضوع واحد،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 439

و الثاني: أن يكونا داخلين في موضوعين، و حيث إنّ الأوّل ينافيه المقدّمة الثانية يتعيّن الأمر في الثاني، فإنّه لا منافاة فيه معها أصلا، كما هو واضح.

المقام الثالث [في تعيين الوجوب و الندب]:
اشارة

هل اللازم في باب العبادة كون الداعي إلى العبادة هو الأمر الشخصي بالفعل المخصوص، بحيث كان خصوصيّة كون الأمر وجوبيّا أو ندبيّا و كون العمل فعل الجمعة أو الظهر مثلا معلوما تفصيلا حين العمل للفاعل عند التمكّن منه، فلو فعله لا بهذا الداعي إمّا للجهل التفصيلي في وصف الأمر و أنّه الوجوب أو الندب، و إمّا للجهل التفصيلي بمتعلّقه و أنّه الظهر أو الجمعة مثلا، فلا يكون مجزيا، كما لو أخلّ بأصل داعويّة الأمر و أتى بداع شهواني؟

و المقصود بالبحث في هذا المقام هو الجهة الاولى، أعني: اعتبار العلم التفصيلي بوصف الطلب من الندبيّة و الوجوبيّة، و أمّا الجهة الثانية فنبحث عنها إن شاء اللّٰه تعالى في المقام الرابع.

فنقول و على اللّٰه التوكّل: لا نرى من وجداننا مانعا عن حصول القرب المعتبر في باب العبادة للفاعل التارك مع التمكّن للفحص عن خصوصيّة كون أمر المولى بالفعل الكذائي وجوبيّا أو ندبيّا، و لكنّه أتى بذلك الفعل إمّا بداعي شخص الأمر الواقعي المعلوم عند اللّٰه، إن ندبا فندب، و إن وجوبا فوجوب، أو بداعي جامع

الطلب و الرجحان المعلوم عنده أيضا، فإنّه عند العقلاء يكون مطيعا ممتثلا لأمر المولى، و لا يجعل جهله الممكن إزالته مانعا عن حصول الإطاعة و الامتثال، فإنّه متحرّك بتحريك الأمر، و يكفي هذا في احتساب العمل إطاعة.

نعم ربما يقال: إنّ عدّه إطاعة بهذا الوجه إنّما يصحّ لو أحرز من حاله أنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 440

لو حصل له العلم بكيفيّة الأمر لكان داعيا له إلى العمل على أيّ تقدير، سواء كان وجوبا أم ندبا، و أمّا لو كان بحيث لو علم بكونه ندبا لتقاعد عن العمل و لا يصير الأمر مؤثّرا في نفسه فلا يصحّ أن يكون الجامع داعيا و محرّكا له، و كذا شخص الأمر الواقعي بقول مطلق، و لا بدّ في حصول الامتثال كونه الداعي بقول مطلق، لا على تقدير خاصّ دون غيره.

و لكنّ الحقّ كفاية هذا العمل و وقوعه امتثالا على كلتا الصورتين المفروضتين، أمّا على الاولى فواضح، و أمّا على الثانية فلأجل أنّه و إن كان على تقدير معلوميّة كونه ندبيّا لا ينبعث نحو العمل، إلّا أنّه عند الشكّ و الترديد و احتمال كونه وجوبا يحضر نفسه للإجابة و الإطاعة بقول مطلق لأجل استراحة خاطره، فيبني في قلبه على الإطاعة المطلقة و الاستماع إلى نداء هذا الأمر الشخصي كيف ما كان، أو جامع الطلب المتحقّق في ضمنه، و لا ملازمة بين عدم حضور النفس في صورة تفصيليّة الندب و بين عدم الحضور في صورة الإجمال و الترديد.

فالأقوى أنّه لو أثّر في نفسه الأمر الشخصي بمجهوليّته التفصيليّة أو الأمر الجامع و أتى بالعمل بتأثّره، كفى ذلك في صدق الامتثال.

الفرق بين التقييد و التجريد في النيّة

بقي الكلام في فرع مرتبط بالمقام و هو أنّه لو اعتقد

الأمر الوجوبي ندبيّا أو بالعكس و تحرّك نحو العمل بداعي خصوص ما اعتقده على خلاف الواقع، فهل يجزي في الامتثال و حصول العبادة أو لا؟

المشهور في ألسنة المشايخ قدّس سرّهم هو الفرق بين ما إذا كان الداعي هو الصورة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 441

الاعتقاديّة بطريق التقييد، و بينه بطريق التجريد و الانحلال، كما ذكروه في مسألة الاقتداء بمن اعتقده زيدا و كان عمروا، فقالوا بالصحّة مع التجريد و الانحلال، و بالفساد مع التقييد.

و المقصود من التجريد أن يكون الحاضر في ذهنه عند عقد الاقتداء و نيّته صورة الإمام، و لكن مع تجزئة هذائيّته عن زيديّته، بأن يجعله في الذهن منقسما إلى موضوع و هو هذا، و محمول و هو زيد، فيجعل مورد اقتدائه هو الموضوع أعني:

هذا، فيكون لهذا الموضوع محمولان، أحدهما الزيديّة، و الآخر المقتدائيّة، و لهذا لا يبطل الاقتداء عند كشف عدم الزيديّة، إذ لا يبقى بلا موضوع.

و المقصود من التقييد أن يكون الحاضر في الذهن هو الصورة المذكورة بلا تجزئته و جعله على قسمين، بل على ما هو عليه في الخارج من الاندماج بين هذائيّته و زيديّته و عدم الميز لأحدهما عن الآخر، فيشار إليه ذهنا أيضا بطريق لا يمتاز الهذائيّة عن الزيديّة شبه الخارج، و لازم هذا أنّه لو بطل اعتقاد الزيديّة يبقى الاقتداء بلا موضوع واقعي، بل كان موضوعه أمرا وهميّا خياليّا، فما كان واقعيّا لم يقصد الاقتداء به و هو العمر و ما قصد به الاقتداء كان مجرّد الوهم و الخيال بلا واقع له و لا خارج.

و قد يتخيّل أنّ المراد بالتقييد هو أنّه لو بان له أنّ الإمام عمرو لم يقتد به، و بالتجريد خلاف ذلك و

أنّه لو انكشف الواقع عنده اقتدى، و لكنّه فاسد، بل الحقّ ما ذكرنا، فلو كانت الصورة الحاضرة هو الزيد الحاضر بوجه الاندماج ما صحّ الاقتداء و إن فرض كونه بحيث لو انكشف له أنّه عمرو يقتدي به، و لو كانت الصورة الحاضرة هو الزيد الحاضر بامتياز هذائيّته عن زيديّته كان صحيحا و إن فرض أنّه لا يقتدي على تقدير ظهور الحال عنده، و الوجه واضح ممّا قرّرنا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 442

إذا عرفت ذلك ففيما نحن فيه أيضا يجري هذا التفصيل بعينه، فتارة يكون المؤثّر في نفسه ذات أمر المولى مع تجزئته في الذهن عن وصف ما اعتقده عليه من الوجوبيّة أو الندبيّة، فيجعله داعيا لنفسه و نصب عينه عند الحركة سمت الفعل، و لازم ذلك هو الصحّة و عدم بقاء عمله بلا داع واقعيّ.

و اخرى يكون المؤثّر هو الأمر الوجوبي على نحو الاندماج، كما هو عليه في الخارج، و لازم هذا بقاء حركته بلا داع خارجيّ و كونه بدعوة الأمر الوهمي الخيالي، و لا يكفي هذا في الامتثال، هذا ما هو المشهور في ألسنة المشايخ قدّس سرّهم.

و قد استشكل عليه شيخنا الأستاذ دام ظلّه في هذا المقام مع تسليمه منهم في مسألة الاقتداء، و حاصل ما استشكله أنّا لسنا في باب العبادة ندور مدار صدق الامتثال حتّى يرد الكلام المزبور في صورة التقييد و نحكم بأنّه لا يصدق الامتثال، لأنّ ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد، بل باب العبادة يكفيه التحرّك بملاك الأمر و لو لم يكن أمرا أصلا، كما في الضدّ العبادي المزاحم بالضدّ الأهمّ، حيث يقول القائل بعدم إمكان الأمر بالضدّين ترتّبا بأنّ العبادة مع ذلك صحيحة إذا

أتى بها بداعي الرجحان الذاتي.

فالمعتبر في باب العبادة أمران: أحدهما: كون الفعل ذا جهة محسّنة يصلح لأن يتقرّب به، و هذا بالفرض موجود في المقام، و الأمر الثاني: أن يكون الفاعل آتيا بالفعل على وجه يوجب القرب له، و هو في المقام حاصل، و ذلك لأنّ اعتقاده الوجوب ليس بأضعف من احتماله الوجوب، و كما أنّه لو انبعث باحتمال الوجوب و أتى بالفعل احتياطا بهذا الاحتمال و لم يكن واقعا وجوب كان موجبا للقرب الانقيادي.

فالاعتقاد في ما نحن فيه يؤثّر في القرب الفاعلي الانقيادي بطريق أولى،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 443

و بالجملة، القرب الفاعلي متحقّق بلا شكّ، و الفعل أيضا واجد للجهة المقرّبة، و هما منضمّين كافيان قطعا لحصول العبادة و إن لم يصدق عنوان الامتثال، و اللّٰه العالم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّه لو قصد الأمر الوجوبي ندبا بعنوان التشريع أو بالعكس كذلك فالحقّ هنا جريان التفصيل المتقدّم، بمعنى أنّه لو كان المؤثّر في نفسه ذات الأمر و جعل ما شرّعه هو من وصف الوجوبيّة أو الندبيّة عرضا عليه في عرض الداعويّة فاللازم هو الصحّة، لأنّه قد تحرّك بالأمر الواقعي، و الكيفيّة التشريعيّة لم يؤثّر في نفسه شيئا.

و إن كان المؤثّر هو الذات مع الكيفيّة التشريعيّة على وجه التقييد فاللازم البطلان، لأنّ التحرّك بالأمر التشريعي لا يوجب القرب.

المقام الرابع [في قصد التمييز]:

اعلم أنّ الوجه المتصوّر الذي يمكن أن يكون اتّكال القائل بلزوم تفصيليّة العمل المتعلّق للأمر عند التمكّن منه في حصول الامتثال في باب العبادة عليه أحد أمرين على سبيل منع الخلوّ.

أحدهما: منع صدق الامتثال و القرب مع كونه متساهلا في السؤال و إتيانه بعملين أو أعمال، فإنّه لا يعدّ بهذا العمل التساهلي مطيعا و لا يصير مقرّبا،

بل يعدّ مستهزئا و لاغيا.

و الثاني: أنّ قصد التمييز يحتمل أن يكون كقصد الأمر ممّا له دخل في الغرض، و لا يمكن للآمر أخذه في متعلّقه، للدور المقرّر في محلّه، و كلّ ما كان من القيود مشكوكا في هذه المرحلة فالأصل فيه يقتضي الاشتغال و إن قلنا في القيود المشكوكة الممكنة الأخذ في المأمور به بالبراءة، لأنّ الشكّ هناك عند القائل بالبراءة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 444

في مرحلة الثبوت، و في هذا المقام في مرحلة السقوط بعد القطع بالثبوت، فإنّ المأمور به معلوم بحدوده و قيوده.

و الحقّ بطلان كلا الوجهين على ما حقّق في الأصول، و إجماله أنّا لا نرى مانعا من أنفسنا من حصول القرب إذا كان الداعي له إلى التكرار و ترك التتبّع و الفحص و السؤال أمرا عقلائيّا صحيحا، فإنّه حينئذ لا يعدّ لاغيا مستهزئا، بل مطيعا لأمر المولى ممتثلا.

و أمّا ما ذكر من الوجه الثاني ففيه أوّلا: إنّا نقطع بعد كون هذا القيد ممّا يغفل عنه أذهان عامّة المكلّفين، و ما هذا شأنه لا بدّ على تقدير دخله في الغرض من نصب الأدلّة عليه بأزيد ممّا لا بدّ في غيره من القيود التي ينقدح في أذهان العامّة احتمال دخلها، مع أنّا لا نرى في الكتاب و السنّة و غيرهما عينا و لا أثرا من اعتبار هذا القيد، بأنّ هذا القيد ممّا لا مدخليّة له.

و ثانيا: لو فرضنا الشكّ و عدم القطع المزبور نقول: الكلام في هذه القيود هو الكلام في قيود المأمور به، و قولك: إنّ الشكّ هناك في الثبوت و هنا في السقوط في محلّ السقوط، فإنّ الشكّ هناك أيضا في السقوط.

ألا ترى أنّه لو كان المأمور به

واقعا عتق الرقبة المؤمنة، فعتق الكافرة يوجب سقوط الأمر المذكور؟ كلّا و حاشا، و لكنّ القائل بالبراءة يقول: ليس على عهدة العبد إلّا التحرّك سمت الأمر بمقدار علمه، و الزائد ليس عليه، لقبح العقاب بلا بيان.

و هذا الوجه بعينه قائم في المقام، فإنّ هذا القيد ليس علينا عقاب لو تركناه، لأنّ العقاب عليه على تقدير دخله واقعا يكون عقابا بلا بيان، فإنّه و إن كان درجة في المأمور به غير ممكن، و لكن إعلانه بالبيان المنفصل بمكان من الإمكان، و اللّٰه هو الموفّق و عليه التكلان.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 445

مسألة لو ضمّ إلى نيّة التقرّب إرادة شي ء آخر
اشارة

فلا يخلو إمّا أن يكون مباحا، كما لو ضمّ المتوضّي نيّة التبرّد أو التسخّن أو النظافة و غير ذلك من المقاصد، أو يكون محرّما كالرياء و السمعة أو غير ذلك من المحرّمات، أو يكون راجحا شرعا، فالكلام في مقامات ثلاثة.

أمّا المقام الأوّل [أن يكون الضميمة مباحا]

اعلم أنّه لا إشكال في الصحّة في ما إذا كان المؤثّر في أصل الطبيعة المأمور بها منحصرا في داعي أمرها من دون داع إليه غيره أصلا، و لكن بعد ما صار المكلّف ملجئا حسب دعوة الأمر إلى إيجاد الطبيعة كان بعض أفرادها أوفق بطبعه من غيره من الأفراد، فاختار ذلك الأوفق، كما لو لم يكن له غرض شهواني في إصابة الماء للبدن أصلا، و ألجأه إليه أمر الشارع بالغسل أو الوضوء، و لكن بعد هذا الإلجاء يرى أنّ استعمال الماء البارد أوفق بحاله من الحارّ أو بالعكس، فاختار الوضوء الخاصّ أعني: بالبارد أو بالحارّ، فإنّه ما دعاه إلى إيجاد الطبيعة إلّا أمر المولى من غير شركة لشي ء آخر معه، و الشي ء الآخر إنّما أثّر في اختيار الخصوصيّة، فالخاصّ و إن يحصل من داعيين: الأمر و الشي ء المباح، إلّا أنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 446

غير متعلّق للأمر، و الذي هو المأمور به أعني: أصل الطبيعة لم يؤثّر فيه إلّا الداعي الإلهي، بل الأوامر المتعلّقة بالطبائع لا تزال مقرونة بدواع أخر متعلّقة بالخصوصيّات، ضرورة أنّها لا يعقل داعويّتها بغير ما تعلّقت به، و هذا واضح.

فلا ينبغي الإشكال في حصول القرب المعتبر في العبادة في هذا القسم، و كذا لا ينبغي الإشكال أيضا في ما إذا كانت الطبيعة المأمور بها حاصلة بدعوة الأمر و كانت هناك طبيعة أخرى نسبتها معها نسبة العموم من وجه، و كانت

هي موردا لغرض من الأغراض المباحة، فأوجد المكلّف المصداق الذي هو مجمع العنوانين بدعوة هذين الداعيين، فإنّ إيجاد هذا المجمع أيضا و إن كان لشركة الداعيين، إلّا أنّ كلّا منهما له محلّ ممتاز عمّا هو محلّ الآخر، فمحلّ الآخر طبيعة، و محلّ ذلك الغرض المباح طبيعة أخرى و إن اجتمعا في الوجود الخارجي.

كما لو كان له غرض في إصابة الماء البارد جسده و إن لم يكن هناك أمر بالتوضّؤ أو بالغسل، و لكن لا يفرق بين أنحاء الإصابة من كونها في خصوص الوجه و اليدين بالكيفيّة الخاصّة، و لكن يعتبر في حصوله برودة الماء، و أمّا أمر الشارع بالتوضّؤ فقد اعتبر فيه خصوصيّة الوجه و اليدين مع الكيفيّة المقرّرة بدون اعتبار برودة الماء، فإذا أتى بالغسل بالوجه المقرّر في الوضوء بالماء البارد فقد أثّر كلّ من الداعيين في محلّ مخصوص به، أمّا الأمر الوضوئي فقد أوجد إتيان الغسل الوضوئي مع نيّة التقرّب، و ذلك الغرض المباح أوجد إصابة البدن للماء البارد.

و بالجملة فهذا الخاصّ الموجود في الخارج مجمع لعنوانين، و أحد العنوانين مأمور به و لم يؤثّر فيه غير أمر الشارع، و العنوان الآخر الذي حصل بغير الداعي الإلهي ليس بمأمور به.

إن قلت: نعم، و لكنّ الجامع المشترك بين العنوانين و هو مطلق إصابة الماء

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 447

للبدن قد اجتمع فيه داعيان و لم يتأثّر من الداعي الإلهي فقط، و قد كان من المعتبر إيجاد المأمور به بجميع ما له دخل فيه من الطبيعة و كلّ خصوصيّة أخذت معها في تعلّق الأمر بالداعي الإلهي بلا شركة لداع غيره، و هذا بخلاف الحال في القسم الأوّل، فإنّ الطبيعة جاءت من قبل الأمر،

و الخصوصيّة من قبل الهوى، و أمّا هنا فكلّ من الأمر و الهوى قد أثّر في خاصّ غير الخاصّ المتأثّر من الآخر، و لكن بين الخاصّين جهة عامّة مشتركة، و هي لا محالة جاءت بتأثير كليهما، فقد سقط الأمر عن وصف الاستقلال في الداعويّة بالنسبة إلى هذا الجزء من المأمور به.

قلت: كلّا، إنّه مع ذلك محفوظ الاستقلاليّة في تمام الخاصّ المأمور به، أ لا ترى أنّه يمكن ثبوت وصف التأثير الاستقلاليّة لكلّ من الخاصّين بأن أثّر كلّ من الخاصّين لا الخصوصيّتين أثرا خاصّا به مغايرا لأثر الآخر، فكما يمكن التأثير الاستقلالي فيهما يمكن أن يقعا موردين لتأثير مؤثّرين استقلاليين أيضا بلا فرق، و هكذا يمكن أن يقع أحدهما موردا لعرض المحموليّة و الآخر للموضوعيّة، إلى غير ذلك ممّا أشير إليه في مبحث اجتماع الأمر و النهي، فإذن لا ينبغي الإشكال في هذا القسم أيضا.

و بالجملة، لا يحتاج المؤثّران الاستقلاليّان إلى تعدّد المحلّ بأزيد من احتياج الضدّين، فكما تصوّرنا اجتماع الضدّين في مبحث الاجتماع بواسطة تعدّد موردهما في ما إذا كان بين العنوانين عموم من وجه، فكذلك يكفي هذا المقدار في اجتماع المؤثّرين الاستقلاليّين أيضا بلا فرق.

و حاصل الكلام في المقام أنّ الداعي الغير الإلهي المباح على قسمين:

الأوّل: أن يكون داعويّته في غير ما يكون الداعي الإلهي داعيا إليه.

و الثاني: أن يكون داعيا إلى عين محلّ دعوة الداعي الإلهي، و القسم الأوّل على قسمين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 448

الأوّل: أن يكون محلّ دعوته ترجيح الخصوصيّة الفرديّة من بين الخصوصيّات بعد ما صار الداعي الإلهي محرّكا له إلى تحصيل صرف الوجود للطبيعة المأمور بها، فإنّ الأمر لا يقتضي أزيد من صرف الوجود، فلا محالة تكون

الخصوصيّات الفرديّة مفوّضة إلى اختيار المكلّف، فإذا لم يكن في نفسه داع إلى استعمال الماء بوجه و لكن بعد ما صار ملجئا بتحريك الأمر الوضوئي إلى استعماله فاختار فردا خاصّا من الماء لأجل بعض دواعيه النفسانيّة لم يضرّ ذلك بداعويّة الأمر و صدق الإطاعة و الامتثال في حقّه و إن كان هذا الوجود الواحد الخارجي إنّما حصل ببركة داعيين: أحدهما أثّر في الصرف المتحقّق فيه، و الآخر في خصوصيّته، لكن هذا المقدار ممّا لا يضرّ و لا يوجب سقوط الأمر عن الاستقلال في الداعويّة أيضا لو قلنا باعتباره في صدق الإطاعة على كلام يأتي فيه إن شاء اللّٰه تعالى في القسم الثاني من القسمين الأوّلين.

و الثاني: أن يكون محلّ دعوته طبيعة مغايرة مفهوما مع الطبيعة المأمور بها و إن كانا قد يجتمعان في الوجود الخارجي، كما إذا توجّه خاطره إلى تحصيل عنوان التبريد المجامع مع القعود في السرداب، و مع غسل بعض بدنه أو تمامه بالماء، و مع وضع خرقة مرطوبة على جسده بحيث لم يتفاوت في غرضه شي ء من ذلك، و كان كلّ منها ممكنا له بلا فرق، و تعلّق به أمر الشارع بالوضوء، و هو مقتض لصرف الوجود المجامع مع عنوان التبريد و بدونه، فدعاه هذا الأمر إلى إيجاد الوضوء، لكن في خصوص فرده الخاصّ المتحقّق بالماء البارد تحصيلا لذلك الغرض التبريدي.

فهذا أيضا حاله كالقسم الأوّل في عدم الإشكال في الصحّة، فإنّ هذا الوجود الواحد و إن تركّب في إيجاده داعيان، لكن كلّ منهما أثر في شطر منه، فبعض في إيجاد وضوئيّته، و آخر في إيجاد تبريديّته، نعم بين عنواني الوضوء و التبريد جامع و هو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 449

عنوان

العمل، و لكن مجرّد هذا لا يوجب اجتماع الداعيين فيه، فإنّ هذا الجامع غير مقصود، و إنّما ينتزعه العقل بعد وقوعه و صدوره.

و الحاصل أنّ الجامع بين العنوانين تارة شي ء مستقلّ باللحاظ، سواء كان بينهما عموم من وجه، كما في عنوان الصلاة في الحمّام و صلاة الصبح، فإذا أمره الشارع بصلاة الصبح و كان في نفسه داع إلى الصلاة في الحمّام بمجموعه من الذات و القيد فقد تحقّق اجتماع الداعيين في عنوان الصلاة.

و كذلك إذا كان بينهما الإطلاق و التقييد، كما لو دعاه الأمر النفساني إلى إيجاد طبيعة الصلاة، و الأمر الشرعي إلى خصوص صلاة الصبح، فيجتمع الداعيان في عنوان الصلاة، فيجي ء في هاتين الصورتين بالنسبة إلى الجامع الذي تلفّق فيه الداعيان الكلام الآتي في القسم الثاني من مجي ء الأقسام الأربعة فيه.

و اخرى: صرف انتزاع عقلي بدون استقلال له في اللحاظ بأن كان المفهومان متغايرين بتمام المفهوم و إن كانا يتصادقان بحسب الوجود أحيانا، سواء كان بينهما عموم من وجه، كالصلاة و الغصب، حيث ليس بينهما جامع إلّا مفهوم العمل، و هو أيضا غير ملتفت و غير مقصود لفاعل العنوانين، فلا محالة يكون الحال حينئذ حال ما إذا أثّر الداعي النفساني في ترجيح الخصوصيّة الفرديّة فقط، كما مرّ في القسم الأوّل، و اللّٰه العالم. أم كان عموم مطلق، كمطلق الحركة و فعل الصلاة، فإذا كان مورد داعيه مطلق الحركة بدون خصوصيّة لأفرادها أصلا فلا نقص في صلاته من هذه الجهة كما لا يخفى.

و أمّا القسم الثاني: أعني: ما إذا كان محلّ دعوة الأمر المباح عين محلّ دعوة الأمر الإلهي كما إذا كان له غرض في خصوص غسل الوجه، و المفروض أنّه محلّ دعوة الأمر الوضوئي،

فهذا يتصوّر على أربعة أقسام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 450

الأوّل: أن يكون الداعي النفساني ضعيفا غير قابل في حدّ ذاته للمحرّكيّة، و لكنّ الأمر الشرعي كان قويّا بالغا ذلك الحدّ.

و الثاني: عكس ذلك.

و الثالث: أن يكون كلّ منهما منفردا ضعيفا غير صالح للداعويّة، و لكنّهما منضمّين بلغا إلى حدّ الدعوة و التأثير.

و الرابع: أن يكون كلّ على حدّ الاستقلال في حدّ نفسه، و إنّما اشتركا في مرحلة التأثير الفعلي لأجل عدم قابليّة المحلّ الواحد لتأثيرين استقلاليّين، فكلّ منهما علّة مستقلّة بحسب الشأنيّة و جزء علّة بحسب الفعليّة.

أمّا القسم الأوّل فالعمل و إن كان بالدقّة لا يخلو عن شركة تأثير غير الأمر، فإنّ الداعي النفساني ليس بلا ربط صرف، و لا أقلّ من كونه مؤثّرا في تأكّد الداعي، إلّا أنّه يمكن دعوى كفاية هذا المقدار في صدق عنوان الإطاعة في نظر العرف، و إن قلنا بكفاية العمل في القسم الرابع فهاهنا يكون كذلك بطريق أولى.

و أمّا القسم الثالث فلا إشكال ظاهرا في عدم عدّه عند العرف عبدا مطيعا للمولى، فإنّه إنّما تحرّك بأمر مولاه و هواه منضمّين، و ليس منقادا لأمر مولاه فقط.

و القسم الثاني يكون حاله كذلك، بل أوضح.

و أمّا الرابع فقد يقال تبعا لبعض الأعاظم «1» قدّس سرّه بالكفاية فيه، نظرا إلى عدم الدليل على اعتبار ما زاد على كون الأمر مؤثّرا في نفسه و لو خلّي و طبعه و لم ينضمّ إليه شي ء، و هذا كذلك، و أمّا اعتبار كونه خالصا عن الضميمة بهذا المعنى أيضا فنطالب بدليله، إذ الأدلّة اللفظيّة التي تمسّكوا بها لاعتبار الإخلاص في العبادة حتّى

______________________________

(1) هو كاشف الغطاء قدّس سرّه، منه رحمه اللّٰه تعالى.

كتاب الصلاة (للأراكي)،

ج 1، ص: 451

عن مثل هذه الضميمة المباحة من مثل قوله تعالى فَادْعُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «1» مخدوشة، إذ ليست ناظرة إلّا إلى نفي الشرك باللّه و اعتقاد التوحيد له في الألوهيّة، و أين ذلك بمقامنا؟

و بعض منها واردة في باب النهي عن الرياء، فلا ربط لها بمقامنا أيضا، فيبقى في البين صدق الإطاعة المعتبرة في باب العبادة، و قد عرفت أنّا إذا عرضنا على الوجدان هذا العمل الذي أثّر فيه داعيان على الوجه المذكور لا نرى من أنفسنا مانعا عن تسميته باسم الطاعة.

ألا ترى أنّ العبد الظاهري إذا كان له موليان و كلّ منهما أمره بعمل واحد، فعمله امتثالا لهما بحيث كان امتثال كلّ منهما مؤثّرا تامّا في نفسه بحسب الشأنيّة فهل ترى أنّ أهل العرف يتوقّفون في حصول القرب له، أو يحكمون بأنّ القرب الحاصل له مبعّض بالنسبة إلى الموليين، فله قرب واحد منقسم بينهما، بل لا تشكّ في أنّهم يحكمون بحصول القربين له، قرب بالنسبة إلى هذا، و قرب بالنسبة إلى ذاك.

هذا مضافا إلى استبعاد الالتزام باعتبار التخليص عن الداعي النفساني المذكور، فإنّ اللازم منه أنّه في مثال الوضوء مثلا إن أمكنه غسل وجهه أوّلا لأجل حصول الغرض النفساني غسله أوّلا، ثمّ غسل بداعي الأمر الوضوئي، و إن لم يمكنه ذلك لقلّة الماء سقط عنه أمر الوضوء، لعدم تمكّنه من الوضوء الصحيح إذا لم يسع الوقت، لتضعيف ذلك الداعي بواسطة الرياضة، فإنّه يحتاج إلى مضيّ زمان، و ربما لا يكفيه يوم، بل أيّام.

و لكن في الأخير نظر، فإنّ وجود الداعي النفساني و إن بلغ ما بلغ ليس على

______________________________

(1) غافر: 14، و مثلها سائر الآيات الواردة الآمرة بالإخلاص في العبادة.

كتاب الصلاة

(للأراكي)، ج 1، ص: 452

نحو يسلب الاختيار عن المكلّف بحيث لم يصحّ النهي عن الفعل، فإذا صحّ النهي عنه علم أنّه أمر اختياري يمكن للمكلّف رفع اليد عن مقتضاه، فكذا في مقامنا أيضا يصحّ إلزام العقل بطرحه عن النفس حتّى يحصل قيد الإخلاص.

و يشهد لهذا أيضا أنّ داعي القربة من الأمور المعتبرة في العبادة بحيث يترتّب على الإخلال بها العقوبة، فلو لم يكن أمرا اختياريّا لما يصحّ العقوبة على تركه. فإذا كان أمر الداعي باختيار المكلّف حتّى أنّه يلزم عليه جعل الداعي الإلهي داعيا له أمكنه أيضا طرح الداعي الآخر و سلب عنوان الداعويّة عنه، فحال المكلّف الذي ابتلى بالداعي النفساني و الوقت ضيّق حال المكلّف الذي ليس في نفسه أصل الداعي الإلهي و الوقت ضيّق، فإذا قلتم في الثاني بعدم سقوط التكليف عنه فلا بدّ أن تقولوا بذلك في الأوّل، لعدم الفرق بينهما أصلا.

فالعمدة في دفع القول باعتبار قيد الإخلاص بالمعنى المزبور هو الوجه الأوّل أعني: عدم قيام الدليل على أزيد من صدق عنوان الإطاعة، و في صورة الضميمة المباحة على النحو الرابع يكون العنوان المزبور صادقا، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام و أوليائه الكرام عليهم صلوات اللّٰه الملك العلّام ما أسفر صبح و اضمحلّ ظلام.

و أمّا المقام الثاني [أن يكون الضميمة حراما]

اعلم أوّلا أنّه يمكن أن يستظهر من أخبار حرمة الرياء حرمة نفس العمل الخارجي الريائي، دون مجرّد العمل القلبي و هو القصد، و أنّه محسوب من السيّئات.

و اعلم أيضا أنّ ما ذكرنا من الانقسام إلى قسمين في الضميمة المباحة من كونها تارة مؤثّرة في ترجيح الخصوصيّة في تقدير الداعي إلى العمل، و يلحق به ما إذا كانت مؤثّرة بقول مطلق في مفهوم مغاير مع العمل المأمور به في

تمام المفهوم،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 453

و اخرى مؤثّرة في نفس العمل الذي هو مورد دعوة الأمر، و هذا القسم أيضا ينقسم إلى أربعة أقسام على حسب ما مرّ، كلّ ذلك جار في هذا المقام أيضا.

و على هذا فنقول: داعي الرياء أعني: إراءة العمل للناس بغرض جلب قلبهم و اعتقادهم الخير في حقّه، فيوجب ذلك الانتفاع الدنيوي بتحصيل الجاه و المال من عندهم قد يكون مؤثّرا في العبادة في عرض أمر الشارع، و قد يكون مؤثّرا في مقام ترجيح الفرد بعد الإلجاء إلى أصل العبادة بدعوة الأمر، و الصورة الأولى على أربعة أقسام:

الأوّل: أن يكون كلّ منهما ضعيفين في حدّ الذات و صارا معا داعيا واحدا، و هذا لا إشكال في مشموليّته لأدلّة حرمة الرياء و إبطاله العمل، مضافا إلى إخلاله للنّية، كما سبق في الضميمة المباحة.

و الثاني: أن يكون كلّ منهما قويّا في حدّ الذات، و لكن صارا داعيا واحدا من باب وحدة المحلّ و عدم قبوله للعلّتين، و هذا أيضا و إن لم يستشكل فيه هناك، لكن لا إشكال في حرمته و إبطاله هاهنا بملاحظة أدلّة المقام.

و يظهر منه بطريق الأولويّة حال القسم الثالث: و هو أن يكون الداعي الإلهي ضعيفا، و الداعي الريائي قويّا في نفسه مؤثّرا في وجود الفعل.

و الرابع: أن يكون بعكس الثالث، و الكلام فيه يأتي إن شاء اللّٰه بعد ذلك.

و المهمّ الآن بيان الحال في الصورة الاولى، أعني: ما إذا كان تأثير الداعي الريائي في مقام ترجيح الفرد مع تمحّض الداعي القربي في مقام إيجاد أصل العمل بأن كان هو بحيث لو لا قول الشارع «وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ» لما كان في نفسه داع إلى الصلاة لا قربيّا

و لا غيره، و لكن بعد ما تأثّر بنداء هذا الأمر و صار بصدد إجابته تردّد في مقام اختيار الخصوصيّة بين أن يوقع الصلاة في مكان خلوة من الناس، أو مكان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 454

يراه بعض المتديّنين لو صلّى فيه، فيعتقدون في حقّه الخير و الصلاح، و يوجب ذلك مدحه و حصول المنزلة عندهم، فاختار لأجل هذا الداعي إيقاع العمل في المكان الثاني.

فلا إشكال حسب ما قلناه في الضميمة المباحة أنّ العمل و إن كان وجوده الخارجي مسبّبا من سببين: القربة و رئاء الناس، و لكنّ الرئاء لم يشارك القربة في ما اقتضته، فإنّ الداعي القربي إنّما اقتضى الطبيعة بصرف وجودها من دون اقتضاء فيه لشي ء من خصوصيّاتها من حيث الزمان أو المكان أو غير ذلك، و لا شكّ أنّ الصرف لم يحرّك إليه غير أمر «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ» بحيث لولاه لما دعاه إليه داع أصلا.

و حينئذ فإن لم يشمل ما دلّ على حرمة الرياء هذا القسم من الداعي كان حاله حال الضميمة المباحة، بل هو هو بعينه، و قد عرفت عدم الإشكال في عدم الخلل في الصحّة معه، بل و لا يمكن العبادة بدون ذلك، فإنّ الخصوصيّات لا يزال يكون اختيارها بداع المكلّف و إن شملته الأدلّة المذكورة، فحيث عرفت أنّ قضيّتها الحرمة في نفس العمل الخارجي فاللازم الحكم بالبطلان حينئذ من هذه الجهة، أعني: من جهة اتّحاد العبادة مع المحرّم خارجا، و قد اعتبر فيها عدم ذلك.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يمكن ادّعاء عدم استفادة حرمة هذا القسم الذي قد فرض خلوص الداعي القربي في التأثير بالنسبة إلى ما اقتضاه من صرف الطبيعة من أدلّة حرمة الرياء، بتقريب أنّ مفاد تلك

الأدلّة إنّما هو تحريم كون الإنسان مظهرا في الخارج للناس أنّه عابد للّٰه على وجه خلوص النيّة، و الحال أنّه في الباطن على خلاف ذلك، إمّا تمام نيّته الدنيا و تحصيل الجاه، فلا يكون له نيّة القربة أصلا، أو أنّ الجاه ضميمة للقربة، فلا يكون له الخلوص، و على كلّ حال فهو منافق ليس ظاهره

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 455

مطابقا لباطنه.

و بعبارة أخرى: مفادها حرمة جعل الإنسان غير اللّٰه تعالى شريكا و العياذ باللّه معه تعالى في ما أراده اللّٰه تعالى منه، فإنّه تعالى أمره بإقامة الصلاة و هو كان مقيما لها بداعيين، أحدهما: هذا الأمر، و الآخر داعي الوصول إلى الجاه و المنزلة في القلوب و الرئاسة الدنيويّة.

و هذا الفرض الذي فرضنا خال عن النفاق و الشرك المذكورين، فإنّه كلّما أظهره للناس فهو واجد له، و لم يظهر شيئا لم يكن واجدا له فإنّه أظهر أنّه عابد للّٰه تعالى على وجه الخلوص، و هو كذلك، فإنّه لم يجعل الباعث لنفسه في الحركة سمت إيجاد الصلاة غير أمر الشارع بقوله «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ».

نعم ما أوجده من الخصوصيّة أعني: الإيقاع في المكان الخاصّ الموجب لجلب المنزلة و الدنيا إنّما أوجده بداعي الدنيا و حبّ الرئاسة، و لكنّه غير مرتبط بما هو تحت أمر الشارع، إذ أمر الشارع ساكت عن الخصوصيّات.

نعم يصدق أنّ هذا الوجود الخارجي أعني: ما صدر منه من الصلاة الشخصيّة قد تلفّق فيه الداعيان: داعي رضى اللّٰه، و داعي رضي الناس، و لكن لم يقم بهذا المضمون دليل على الحرمة، إنّما الذي استفيد من الأدلّة هو حرمة الإشراك في مقابل الإخلاص، و لازمة كون داعي رضي الناس ضميمة، بحيث لو فرضناه ضميمة مباحة

لزم منه البطلان بواسطة الإخلال في الإخلاص، و قد عرفت أنّ الضميمة المباحة في صورة التأثير في ترجيح الخصوصيّة غير مضرّة بالإخلاص و إن كان يصدق أنّ الصلاة الشخصيّة إنّما جاءت من قبل أمرين لا من قبل الأمر الخالص الإلهي.

فإذا فرضنا أنّ هذا القسم من الضميمة لا ينافي الإخلاص و المفروض أنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 456

ما حرّمته أدلّة الرياء هو ما كان منافيا معه و موجبا لجعل رضى اللّٰه تعالى و غيره شريكين، فلا ربط لها بهذا القسم، و اللازم من ذلك بقاؤه على الإباحة، و قد عرفت الصحّة مع كون الضميمة مباحة.

نعم لو فرض أنّ المكان الذي اختاره لأجل الصلاة كان هو المسجد أو مكانا مرغوبا للصلاة فيه شرعا و كان غرضه من اختياره إراءة الناس أنّه عامل بهذا الأمر الاستحبابي المتعلّق بإيقاع الصلاة في هذا المكان فحينئذ يشمله الأدلّة المحرّمة للرياء، و يوجب ذلك بطلان أصل العمل، لمكان اتّحاده مع العنوان المحرّم.

و ينبغي التيمّن بذكر الأخبار الواردة في الباب حتّى يعلم صدق ما ادّعيناه.

فنقول: روى في الوسائل عن الكليني قدّس سرّهما بطريق متّصل إلى أبي العباس البقباق عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا و يسرّ سيّئا، أ ليس يرجع إلى نفسه فيعلم أنّ ذلك ليس كذلك؟ و اللّٰه عزّ و جلّ يقول بَلِ الْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ الحديث» «1».

و عن السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: سيأتي زمان تخبث فيه سرائرهم، و تحسن فيه علانيتهم طمعا في الدنيا، لا يريدون به ما عند ربّهم، يكون دينهم رياء لا يخالطهم خوف» الحديث

«2».

و عن عمر بن يزيد «قال: إنّى لأتعشّى مع أبي عبد اللّٰه عليه السّلام إذ تلي هذه الآية بَلِ الْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقىٰ مَعٰاذِيرَهُ ثمّ قال عليه السّلام: ما يصنع الإنسان أن

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1. و الآية في سورة القيامة: 14.

(2) المصدر: الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 457

يتقرّب إلى اللّٰه عزّ و جلّ بخلاف ما يعلم اللّٰه، إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كان يقول: من أسرّ سريرة ردّاه اللّٰه رداها، إن خيرا فخيرا، و إن شرّا فشرّا» «1».

و عن الحميري في قرب الإسناد عن الحسن بن ظريف عن الحسين بن علوان «عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهم السّلام قال: قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: من تزيّن للناس بما يحبّ اللّٰه و بارز اللّٰه في السرّ بما يكره اللّٰه لقي اللّٰه و هو عليه غضبان له ماقت» «2».

و في عقاب الأعمال بسنده المتّصل إلى مسعدة بن زياد «عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام: إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله سئل في ما النجاة غدا؟ فقال صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: إنّما النجاة في أن لا تخادعوا اللّٰه فيخدعكم، فإنّه من يخادع اللّٰه يخدعه و يخلع منه الإيمان، و نفسه يخدع لو يشعر، قيل له: فكيف يخادع اللّٰه؟ قال صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: يعمل بما أمره اللّٰه ثمّ يريد به غيره، فاتّقوا اللّٰه في الرياء، فإنّه الشرك باللّه» «3».

و عن الكليني قدّس سرّه بسند المتّصل إلى مسمع عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: قال رسول اللّٰه

صلّى اللّٰه عليه و آله: ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق» «4».

و أنت خبير بأنّ مفاد كلّ هذه الأخبار هو الذمّ على مخالفة الظاهر للسريرة و الباطن، فيظهر للناس أنّه خالص النيّة، و الحال أنّه باطنا ليس كذلك، فهو الذي يقال في حقّه: (إنّ الإنسان على نفسه بصيرة) و يقال: إنّه نفاق، و لا يخفى أنّ ذلك

______________________________

(1) المصدر: الحديث 5.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 14.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 16.

(4) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 7.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 458

إنّما يتحقّق في مورد كان للعمل الذي يقصد به الناس مطلوبيّة للّٰه و كان ممّا يأمر اللّٰه تعالى به، لا من الأمور المباحة و إن كان يمكن أن يتقرّب به.

و قد عرفت أنّ الفرد في جميع موارد مطلوبيّة صرف الوجود غير مطلوب بخصوصيّته الفرديّة، و ليس ممّا ندب إليه، فيكون من المباحات التي يفعلها الإنسان أحيانا لأجل رضي الناس.

و بالجملة، الإنسان يفهم من هذه الأخبار أنّ الصلاة و الصوم و الزكاة و الحجّ و غيرها من العبادات التي شأنها أن يفعل لأجل اللّٰه تعالى لو فعلت لأجل الناس بحيث جعل داعيهم مكان داعي اللّٰه، أو جعله في عرضه و شريكا معه، فهذا أمر قبيح مذموم و شرك و نفاق.

و أمّا إذا كان جميع هذه الأعمال واقعة بداعي اللّٰه تعالى محضا من غير شائبة شي ء آخر أصلا، و لكن كانت الخصوصيّة الفرديّة الخارجة عن الأمر و الموكولة إلى دواعي المكلّف بداعي محبّة الناس محضا فلا يعلم من هذه ذمّة، لأنّه لم يظهر

خلاف ما هو في الباطن متّصف به، بل ربما كان الداعي الثاني تبعا للداعي الإلهي كما عرفت في الضميمة المباحة.

و الحاصل أنّ الخاصّ و إن تركّب فيه الداعيان، لكن بالتحليل العقلي هو منقسم إلى قسمين، فصرف الوجود الذي هو المأمور به قد أتي به بالداعي الإلهي مستقلا بلا شركة شي ء آخر، و الخصوصيّة جاءت بالداعي الدنياوي كذلك أيضا.

و من هنا يظهر الاستدلال على خلاف ما قلنا ببعض الأخبار.

كرواية زرارة و حمران عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال عليه السّلام: لو أنّ عبدا عمل عملا يطلب به وجه اللّٰه و الدار الآخرة و أدخل فيه رضى أحد من الناس كان

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 459

مشركا، إلى أن قال: «قال اللّٰه عزّ و جلّ: من عمل لي و لغيري فهو لمن عمل له» «1».

و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهما السّلام «قال: سئل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عن تفسير قول اللّٰه عزّ و جلّ فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صٰالِحاً وَ لٰا يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: من صلّى مراءاة الناس فهو مشرك، إلى أن قال: و من عمل عملا ممّا أمر اللّٰه به عزّ و جلّ مراءاة الناس فهو مشرك، و لا يقبل اللّٰه عمل مراء» «2».

و في رواية هشام بن سالم عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال عليه السّلام: يقول اللّٰه عزّ و جلّ: أنا خير شريك، فمن عمل لي و لغيري فهو لمن عمل له» «3».

تقريب الاستدلال أنّ هذه الصلاة الشخصيّة يصدق على مجموعها من الطبيعة و الخصوصيّة أنّها عمل طلب به وجه اللّٰه و الدار الآخرة، و قد

أدخل فيه رضى أحد من الناس، و كذا يصدق أنّه عمل عمل للّٰه و لغيره، و يصدق أنّها صلاة صلّيت مراءاة الناس.

و حاصل الجواب أنّ مجرّد الاتّحاد في الوجود الخارجي لو كان كافيا في صدق هذه العناوين لكان الضميمة المباحة الداعية إلى الخصوصيّة منافية للإخلاص، و لازم ذلك سدّ باب العبادة رأسا، إذ الأمر المتعلّق بالصرف لا يمكن قصده بالنسبة إلى الخصوصيّة، فإذا فرضنا أنّ العمل مع وحدته وجودا مشتمل حقيقة على شيئين، أحدهما مركب الأمر، و الآخر أجنبيّ عنه بحيث فرضنا هناك محلّين للدعوة و البعث

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 11.

(2) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 13.

(3) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 12 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 460

و التحريك، بحيث يوجد كلّ واحد منهما بدعوة داع مختصّ به كانت الصلاة الشخصيّة التي فرضناها مصداقا لقولنا: أنّها صلاة صلّيت لمحض إطاعة أمر اللّٰه بحيث لم يؤثّر فيها رضى غيره أصلا.

نعم أثّر في شي ء آخر لا يرتبط بصلاتيّته، فقوله عليه السّلام: من عمل عملا، ليس المقصود به مطلق العمل قطعا، فليس المحرّم مطلق العمل لغير اللّٰه تعالى و طلب رضاه، بل المقصود خصوص العمل الذي أمر اللّٰه به للعبادة، فكأنّه قيل: من صلّى صلاة، أو صام صوما، و هكذا، و قد فرضنا في ما نحن فيه أنّه ما صلّى و ما صام إلّا للّٰه تبارك و تعالى، و ما دعاه إلى طبيعة العبادة إلّا أمره سبحانه، و إنّما دعاه حبّ الدنيا و الرياء إلى الخصوصيّة التي هي كانت محلّا للضميمة المباحة في المقام السابق، و اللّٰه العالم بالحقائق.

بقي

الكلام في أقسام الصورة الأخرى أعني: ما إذا كان داعي الناس مؤثّرا في نفس العمل الصلاتي و الصومي، لا في الخصوصيّة الفرديّة.

فنقول: يجري فيه الأقسام الأربعة المتقدّمة في الضميمة المباحة في صورة انضمامها مع القربة في أصل الطبيعة من كونها تارة في عرض الداعي الإلهي و مساويا معه في القوّة و الضعف، و هذا على قسمين، الأوّل: أن يكون كلّ منهما غير مؤثّر في حدّ نفسه و مؤثّرا مع ملاحظة انضمام الآخر، و الثاني: أن يكون كلّ منهما مؤثّرا في نفسه بالاستقلال.

و اخرى يكون الداعي الإلهي ضعيفا و داعي الناس قويّا بالغا حدّ التأثير، و هذه الأقسام لا إشكال في مشموليّتها للأخبار المتقدّمة.

و ثالثة يكون الأمر بالعكس، و يظهر من كلام شيخنا الأنصاري قدّس سرّه إمكان استفادة صحّة ذلك من بعض الأخبار، و هو حسنة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 461

«قال: سألته عن الرجل يعمل الشي ء من الخير فيراه إنسان فيسرّه ذلك؟

قال عليه السّلام: لا بأس، ما من أحد إلّا و هو يحبّ أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك» «1».

و لكنّك خبير بأنّ التقييد بقوله عليه السّلام: إذا لم يكن صنع ذلك لذلك، مضرّ بمدّعاه قدّس سرّه، فإنّ القسم المذكور و إن كان المفروض فيه استقلال الداعي الإلهي و ضعف داعي الناس، و لكنّه ليس بلا دخل صرفا، بل لا أقلّ من شركته و لو بنحو التأكيد، فيدخل في عنوان كونه صنع لذلك، و قد قيّد سلام اللّٰه عليه عدم البأس بعدم ذلك.

فالظاهر تطبيق مورد «لا بأس» في هذا الكلام على ما ذكرناه من صورة تمحّض داعي أصل الصلاة في الداعي الإلهي،

و إنّما أثر داعي الناس في مرحلة اختيار الفرد و الكيفيّة الغير المأمور بها لا وجوبا و لا ندبا.

نعم لو كانت من الكيفيّات التي أمر بها ندبا مثل كونها في المسجد أو بالجماعة فأثّر الداعي الريائي في إتيان هذه الكيفيّة كان محرّما و مبطلا لأصل الصلاة، لا من باب الرياء فيها، أعني: في أصل الصلاة، بل باعتبار اتّحادها مع المحرّم أعني:

الخاصّ و هو الصلاة المتّصفة بكونها في المسجد، هذا إذا كان مورد ريائه ذلك.

و أمّا إذا كان مرائيا في أصل الكون في المسجد، حيث إنّه من المستحبّات نفسا فيكون مبنيّا على مسألة الاجتماع، كما أنّ الأوّل من صغريات مسألة النهي في العبادة.

نعم لو كانت خصوصيّة إضافة الصلاة إلى المسجد مستحبّة ورائي فيها لما أثّر

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الطهارة، الباب 15 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 462

في البطلان، لما حرّر في مبحث النهي في العبادة من الفرق بين ورود النهي على الخاصّ و بين وروده على الخصوصيّة، و لكنّه غير متمشّ في هذا المثال، لأنّ تمشّي الرياء فرع استحباب المرائي فيه، و الذي ورد الأمر الاستحبابي به في المثال أمران:

أحدهما الخاصّ، و هو الصلاة المتّصفة بوقوعها في المسجد، و الآخر نفس كون المكلّف و وقوفه في المسجد، و الرياء في الأوّل من صغريات النهي في العبادة، و في الثاني من صغريات اجتماع الأمر و النهي.

ثمّ هذا كلّه هو الرياء في نفس العمل أو ما ينطبق معه وجودا.

و أمّا إذا تحقّق الرياء في أمر خارجي غير متّحد معه وجودا فله صور:

الاولى: أن لا يكون ذلك الأمر مرتبطا بالعمل أصلا بنحو من الارتباط، و إنّما جعل محلّ إيقاعه أثناءه، كما لو قيل

بأنّ القنوت عبادة مستقلّة جعل محلّه الركعة الثانية من الصلاة، فلا إشكال في بطلان نفسه لو تحقّق فيه الرياء، و هل يوجب بطلان الصلاة أيضا، أو لا؟ يبتني على القول بأنّ الكلام المحرّم في أثناء الصلاة مبطل لها بهذا العنوان أو باعتبار اندراجه تحت عنوان الزيادة العمديّة أو الفعل الكثير، و أمّا إن قلنا بعدم الإبطال و عدم الاندراج فلا وجه للبطلان كما هو واضح.

و الثانية: أن يكون مرتبطا بالعمل، لكونه جزءا مندوبا فيه، فلا إشكال في بطلان نفسه، فلا يصير العمل الشخصي ذا خصوصيّة بها يصير أفضل الأفراد، و أمّا بطلان صرف وجود الطبيعة المتحقّقة بسائر الأجزاء المغايرة مع هذا الجزء وجودا فلا وجه له سوى توهّم أنّ قوله عليه السّلام: و أدخل فيه رضى أحد من الناس إلخ شامل له باعتبار أنّ هذا المجموع يصدق أنّ بعضه جي ء به للّٰه و بعضه للناس.

و لكنّه مدفوع بأنّ المراد بالإدخال تركّب الداعي من الأمرين في العمل

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 463

الواحد، و نحن إذا منعنا ذلك في الخصوصيّات الفرديّة مع الاتّحاد الوجودي بينها و بين صرف الطبيعة فكيف الحال في مثل هذا الجزء المغاير معها وجودا.

نعم بعد بطلان نفس الجزء المندوب يجري فيه ما تقدّم في سابقه من أنّه لو انطبق عليه أحد العناوين المبطلة من الفعل الكثير أو الزيادة العمديّة أو نحو ذلك كان موجبا للبطلان، و إن منع ذلك فلا وجه له.

و لكن هذا كلّه إنّما هو في ما إذا كان رياؤه في إتيان القنوت مثلا، لا في الصلاة الخاصّة بخصوصيّة كونها مع القنوت، و إلّا فاللازم الإبطال كما في الرياء في الصلاة في المسجد.

و الثالثة: أن يكون مرتبطا لكونه جزءا

واجبا فيه، سواء كان ركنا كالركوع، أم غيره كالسورة، و لا إشكال أيضا في بطلان نفسه، و أمّا إبطاله فمبنيّ أوّلا على أنّ الشي ء الغير المرتبط بالمركّب إذا وقع في أثنائه يصدق عليه عنوان الزيادة، أو أنّ عنوان الزيادة مخصوص بالوجود الثاني، و الوجود الأوّل و لو فرض كونه أجنبيّا لا يصدق عليه هذا العنوان، بل عنوان الغلط.

فإن قلنا بالأوّل فلا محيص عن الإبطال في الركن و غيره، لكونه زيادة عمديّة.

و إن قلنا بالثاني فيبتني الحال على أنّ الوجود الثاني مطلقا يصدق عليه عنوان الزيادة و لو كان ممّا يحتاج إليه في التيام المركّب بأن صار الوجود الأوّل لغوا بلا تأثير في حصول المركّب، فيكون الوجود الثاني زيادة محتاجا إليها لو لا عنوان الزيادة، أو أنّه بواسطة كونه محتاجا إليه في تحصيل الصرف لا يسمّى باسم الزيادة، و الأوّل أيضا قد بنينا على عدم كونه زيادة، و إنّما هو وجود غلط واقع في غير المحلّ.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 464

فإن قلنا بالأوّل فلا محيص أيضا عن الإبطال في الركن و غيره، لما تقدّم، و إلّا فلا وجه له بعد عدم الدليل على مبطليّة الكلام المحرّم ما لم ينطبق عليه كلام الآدمي و عدم كونه فعلا كثيرا و لا ماحيا.

و أمّا المقام الثالث: أعني: الضميمة الراجحة،

فقد ظهر الكلام فيه ممّا سبق، فكلّ قسم صحّ فيه الضميمة المباحة، فكذلك الحال في الراجحة بطريق أولى، و أمّا ما أضرّ فيه المباحة كما إذا كانت في عرض داعي الأمر و كان كلّ منهما ضعيفا في ذاته، أو كان داعي الأمر ضعيفا و هي قويّة، فيقع الكلام فيهما في هذا القسم.

كما إذا كان إكرام العالم واجبا عباديّا، و كذا الهاشمي، و لم يكن شي ء

منهما منفردا بحدّ الداعويّة، و صارا منضمّين كذلك، أو كان أحدهما غير مؤثّر في نفس العبد إلّا بنحو التأكّد، و الآخر مؤثّرا تامّا، فهل الامتثال بالنسبة إلى كلّ منهما في الأوّل، و بالنسبة إلى الأخير في الثاني حاصل أو لا؟

الكلام في ذلك مبنيّ على أنّه هل المعتبر في باب العبادة وقوع العمل بعنوان قربي مطلقا، أو لا بدّ من قصد الجهة الخاصّة القربيّة، و لم يظهر من شيخنا الأستاذ في هذا المقام شي ء، لعدم تعرّضه دام ظلّه لهذا القسم في بحثه الشريف، و لا بدّ لتحقيق الحقّ من فحص و تتبّع و مزيد تأمّل لا يسعه المجال و الحال، و اللّٰه أعلم بحقائق الأحوال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 465

البحث الثاني في تكبيرة الإحرام

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 467

و ينبغي أوّلا التعرّض لمطلب ذكره هاهنا شيخنا المرتضى قدّس سرّه

و تبعه بعض الأعاظم، و هو أنّ لنا أمورا أربعة مسلّمة لا بدّ من الجمع بينها و بيان كيفيّة توفيقها.

الأوّل: تحريم المنافيات في الصلاة.

و الثاني: أنّ التكبيرة جزء من الصلاة.

و الثالث: أنّ التكبير أمر مركّب ذو أجزاء، و جزء الجزء أيضا جزء.

و الرابع: أنّ تحريم المنافيات إنّما يتحقّق بالتكبيرة، فما لم يتحقّق التكبيرة و لو بعدم تحقّق جزئه الأخير فلا تحريم.

و أنت خبير بأنّ مقتضى الأخير عدم التحريم في أثناء التكبيرة لشي ء من المنافيات و إن كانت محرّمة وضعا و مقتضى المقدّمات الثلاثة الأوّل ثبوت التحريم لها في أثنائه أيضا.

فاختار شيخنا المرتضى قدّس سرّه لدفع هذا الإشكال طريقا، و هو أنّ ما هو الجزء للصلاة هو التكبيرة التي بلغت إلى آخرها بلا صدور مناف معها، فإن تحقّق ذلك كشف عن أنّه من أوّله داخل في الصلاة، و إلّا كشف عن خروجه، فيرتفع الإشكال، فإنّ عدم الحرمة حينئذ ليس تخصيصا في دليل التحريم، بل تخصّصا، فإنّ

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 468

المحرّم هو إتيان المنافي في الصلاة، و هذا ليس بصلاة على تقدير الإتيان بالمنافي، و إنّما يكون من الصلاة على تقدير العدم.

و بعبارة أخرى: لا يمكن التمسّك بعموم دليل التحريم، لأنّ عمومه فرع كون التكبير صلاة، و قد فرضنا أنّ فرض وقوع المنافي فيه يخرجه عن عنوان الصلاتيّة.

لا يقال: اللازم من ذلك عدم ثبوت التحريم الوضعي أيضا، لعين ما ذكر في التكليفي حرفا بحرف من عدم إمكان التمسّك بعموم دليل الوضع، لأنّ فرض تحقّق المنافي فيه يخرجه عن الصلاتيّة، و المفروض أنّ عنوان الدليل هو إيجاد المنافي في الصلاة.

لأنّا نقول: فرق بين المقامين، فإنّ باب الثاني باب

المضادّة و المنافاة، و المنافي للشي ء كما ينافيه إذا عرض في أثنائه، كذلك إذا صادف أوّله، قضيّة للتنافي و التضادّ، كما هو الحال في عامّة الأضداد.

نعم لو كان العنوان هو الإبطال لما تحقّق له فرض في الابتداء و قبل الانعقاد، لكنّ العنوان الثابت للأشياء المعهودة هو المنافاة و المضادّة و عدم إمكان الجمع في الوجود بينها و بين الصلاة، و هذا المعنى كما ترى لا فرق فيه بين الابتداء و الانتهاء و الوسط.

قال شيخنا الأستاذ دام ظلّه: يمكن أن نختار في التخلّص عن الإشكال مع السلامة عن محذور التخصيص في دليل التحريم التكليفي طريقا آخر، و هو أنّ الذي جعله الشارع في باب التكبيرة جزء من الصلاة ليس هو الألفاظ المخصوصة بالشرائط المقرّرة، بل المعنى البسيط المتحصّل عقيب هذه الألفاظ بالشرائط الخاصّة و هو إظهار كبرياء الباري تعالى، فالألفاظ الخاصّة محصّلة للجزء، لا أنّ نفسها جزء.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 469

و من ثمراته أنّه لو شكّ في اعتبار شي ء في تلك الألفاظ كالموالاة و نحوها يجب مراعاته، لكونه من الشكّ في المحصّل.

و الدليل على ذلك قوله عليه السّلام: تحريمها التكبير، و لم يقل تحريمها قول اللّٰه أكبر، و قوله عليه السّلام: التكبير نظير التمجيد و التحميد و المدح و الثناء، حيث إنّها أمور بسيطة محصّلها الألفاظ المخصوصة.

نعم لو كان لفظة التكبير مثل لفظة الحولقة و أمثالها من المصادر الجعليّة كان المفاد جزئيّة القول المخصوص، و لكن أنّى لنا بإثبات ذلك، مع أنّ معنى الكلمة بحسب أصل الوضع هو ما ذكرنا.

و على هذا فنقول: ما دام المكلّف متشاغلا بلفظ التكبيرة لم يتحقّق منه ذلك المعنى البسيط، فلم يدخل في الصلاة، لأنّ الجزء الأوّل منها ذلك

البسيط، فلا وجه لتعلّق التكليف التحريمي به، مع أنّه غير وارد بعد في الصلاة إلّا بعد التكلّم بالراء من اللّٰه أكبر، و أمّا وجه المنافاة الوضعيّة فلما تقدّم من كونها مقتضى المضادّة بينها و بين حقيقة الصلاة من غير فرق بين الوسط و الابتداء.

إذا عرفت ذلك فنقول: لا إشكال في كون التكبير جزءا من الصلاة

و ركنا بحيث لا تنعقد الصلاة بتركه، سواء كان عن عمد أم عن سهو.

نعم وقع في خصوص الترك النسياني اختلاف بين الأخبار، فطائفة فيها الصحيح و غيره دالّة على البطلان و لزوم الإعادة، و اخرى مشتملة أيضا على الصحيح دالّة على المضيّ إمّا مطلقا أو بشرط تذكّره ذلك بعد الركوع، مع لزوم الإعادة لو تذكّر قبله.

و الجمع بينهما بالحمل على الاستحباب و إن كان عرفيّا، و لكنّه غير معمول به بين الأصحاب، كما أنّ حمل بعض الأخبار الثانية على صورة الشكّ ممّا لا تقبله

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 470

العبارة، فراجع فإنّها صريحة في عدم الشكّ أو كالصريحة.

فالأولى أن يقال: إنّها إخبار لم تقع موردا لعمل الأصحاب، و كلّ ما كان كذلك سقط عن درجة الاعتبار، و لو فرض عدم المعارض له فيبقى الأخبار الأوّل سليمة عن المعارض الحجّة، هذا في طرف النقيصة.

و أمّا الزيادة فلا كلام أيضا في البطلان لو قصد افتتاح الصلاة بتكبيرة ثانية بعد ما قصده بالأولى، فيحتاج إلى عقد الصلاة بالثالثة، فلو أتى بعدها بالرابعة أيضا بهذا القصد احتاج إلى خامسة، و هكذا تبطل الصلاة بكلّ شفع و تنعقد بكلّ وتر.

و المستفاد من كلمات الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم أنّه لا بدّ من قصد الافتتاح في صورة تعدّد التكبيرات بواحد منها معيّنا، و هو بالخيار في تعيين أيّها شاء، و أمّا التعيين في أزيد من واحدة، كالسبع

أو الخمس أو الثلاث بحيث كان المقصود جعل السبب للافتتاح المجموع من حيث المجموع حتّى تكون التكبيرة الأولى بمنزلة «اللّٰه» في قولنا: اللّٰه أكبر، فيستفاد من كلماتهم قدّس سرّهم المفروغيّة من عدمه، و لكن النظر في أخبار الباب يشهد بخلاف ذلك و أنّ المكلّف بالخيار بين جعل تكبيرة الافتتاح هو الواحدة فقط أو ثلاثا أو خمسا أو سبعا.

و لا يخفى أنّ ظاهر ذلك كون حال الثلاث و الخمس و السبع في صورة قصده الافتتاح بها كالتكبيرة الواحدة في صورة قصد الافتتاح بها.

و الحاصل أنّ المستفاد منها أنّ الفرد الواجب مردّد هاهنا بين هذه المراتب المذكورة، لا أنّ الواجب من بينها واحدة و البقيّة استحبابيّة، كما هو المصرّح به في الفتاوى، و لم يعلم ما وجه العدول عن ظاهر الأخبار إلى ما قالوه، فإن كان الوجه عدم المعقوليّة للتخيير بين الأقلّ و الأكثر التدريجيّين، لحصول الامتثال دائما بالأقلّ، فلا يبقى مجال للامتثال بالأكثر، لاستحالة الامتثال عقيب الامتثال.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 471

ففيه أنّ التخيير في الأمر القصدي، فإن جعل في قصده حصول الافتتاح بالأوّل تعيّن هو لذلك، و إن جعله بالمجموع منها و من الاثنتين الأخريين كان كلّ من الثلاث بمنزلة الجزء من التكبيرة الواحدة.

فإن قلت: لا يتأتّى ذلك بناء على الاحتمال الذي ذكرته في أوّل البحث من كون التكبيرة بالمعنى البسيط جزء للصلاة، و هو إظهار كبرياء الحقّ تعالى، فإنّه دائما متحصّل بالتكبيرة الأولى.

قلت: نعم لو كان ذلك المعنى البسيط غير قابل للتشكيك، و أمّا إذا فرضناه كذلك مثل التنظيف، فيجري فيه أيضا ما ذكرناه، فإنّ قصد حصول الافتتاح بالمرتبة التي محصّلها تكبيرة واحدة تعيّنت هي لذلك، و إن قصد حصول المرتبة التي محصّلها

الثلاث فهكذا.

و بالجملة، فإن كان الوجه ما ذكر، فهذا جوابه، و إن كان غيره فلا بدّ من بيانه حتّى ينظر فيه.

و من أراد الاحتياط فليتكلّم بالتكبيرة الأولى قاصدا حصول الافتتاح بها إن كان الأمر في علم اللّٰه كما ذكروه، و إلّا فبالمجموع منها و من الباقي، ثمّ يأتي بالبقيّة، أعني: متمّم الثلاث أو الخمس، أو السبع بقصد القربة المطلقة.

ثمّ إنّ في بعض الروايات أنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كبّر للصلاة و إلى جانبه الحسين بن عليّ عليهما السّلام، فلم يحر الحسين عليه السّلام بالتكبير، ثمّ كبّر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، فلم يحر الحسين عليه السّلام بالتكبير، فلم يزل رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله يكبّر و يعالج الحسين عليه السّلام، فلم يحر حتّى أكمل سبع تكبيرات، فأحار الحسين عليه السّلام التكبير في السابعة، فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام: فصارت سنّة «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 7 من أبواب تكبيرة الإحرام، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 472

و ظاهر هذه الأخبار عدم المشروعيّة قبل فعله صلّى اللّٰه عليه و آله، و إنّما حصلت بسببه، فيحتمل أن يكون تكبيرته الاولى افتتاحا و البقيّة من باب مطلق الذكر، و يحتمل أن يكون من باب الإعراض عن التكبيرة السابقة و يكون تخصيصا لحرمة الإبطال و دليلا على مبطليّة نيّة الإعراض، و لكن حيث لا دليل على تعيّن الاحتمال الأخير فلا يكون دليلا على شي ء من الأمرين.

و على هذا فلو زاد التكبيرة الافتتاحيّة بمعنى أنّه بعد ما كبّر مرّة بهذا القصد كبّر اخرى كذلك، سواء كان عن عمد أم سهو، فظاهرهم الحكم بالبطلان في كلتا الصورتين، لكن إتمام ذلك مشكل، لعدم

الدلالة عليه في النصوص كما كانت في طرف النقيصة، و لم يثبت إجماع على الركنيّة بالمعنى المصطلح، أعني: كون كلّ من الزيادة و النقيصة سهوا و عمدا موجبا للبطلان، و إنّما المحقّق من الركنيّة هاهنا ذلك في جانب النقصان.

و أمّا الزيادة فحال التكبيرة من هذه الجهة حال سائر الأقوال و الأذكار المعتبرة في الصلاة، فينحصر دليل البطلان في صورة العمد بدليل بطلان الصلاة بالزيادة العمديّة، و تبقى صورة السهو بلا دليل.

ثمّ في صورة العمد هل يمكن الاكتفاء بالثانية لافتتاح الصلاة إذا لم يكن على جهة التشريع، كما لو صدر عن جهل بالحكم أو لا، بملاحظة أنّ الشي ء الواحد لا يمكن أن يؤثّر أثرين، الإبطال و الافتتاح، رجّح شيخنا الأستاذ دام ظلّه الثاني.

و صورتها أن يقول: «اللّٰه أكبر»

و هي المتيقّنة من صورتها، و في مرسل الصدوق «كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله أتمّ الناس صلاة و أوجزهم، كان إذا دخل في صلاته قال صلّى اللّٰه عليه و آله: اللّٰه أكبر بسم اللّٰه الرحمن الرحيم» «1».

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب تكبيرة الإحرام، الحديث 11.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 473

و هل يجوز التعدّي عنها إمّا بوصل همزة «اللّٰه» بغيره، أو إعراب «راء» «أكبر» بوصله ببسم اللّٰه، أو تسكين «هاء» «اللّٰه» بالوقف عليه، أو لا يجوز؟

من أنّ المقام من باب الدوران بين المطلق و المقيّد و الأصل فيه هو البراءة على حسب ما قرّر في الأصول، و من أنّ المقام من قبيل الشكّ في المحصّل، و مقتضى الأصل فيه الاشتغال، و لا إطلاق في البين يدفع به الشكّ.

أمّا الأوّل أعني: كونه من باب الشكّ في المحصّل فليس الوجه فيه ما أشرنا سابقا من كون المأمور به أمرا

واحدا بسيطا لا جزء له و هو التكبير، فإنّه يقطع بحصوله بالصيغة الخاصّة و بغيرها، و الشكّ في الخصوصيّة الزائدة، فيكون من باب الدوران بين المطلق و المقيّد.

بل الوجه أنّ الظاهر من الأخبار كون التكبير بعنوان الافتتاح و الإحرام للصلاة مطلوبا بحيث يكون تحصيل العنوان المذكور على عهدة المكلّف، لا أنّه خاصيّة مترتّبة على المأمور به، و ليس المراد بالافتتاح مجرّد كونه أوّل أجزاء المركّب الصلاتي، و إلّا لصدق هذين العنوانين على كلّ شي ء وقع في أوائل المركّبات المأمور بها، كغسل الوجه في الوضوء و غسل الرأس في الغسل، و هكذا، و الحال أنّه لم يعهد ذلك إلّا في هذا المقام.

بل الظاهر أنّ وجه التسمية بهما كون الصلاة متّصفة بصفة الحرميّة و الحريميّة، و من مقتضيات الحرم و الحريم عدم كون الإنسان فيه مطلق العنان و على حاله الطبيعي مختارا في حركاته و سكناته، و هذا الحرم له مدخل و مخرج كدار لها بابان أو دهليزان، يدخل فيها من أحدهما و يخرج من الآخر، و من المعلوم أنّ المدخل و المخرج أيضا من أجزاء الدار، فكذا التكبيرة و التسليمة هاهنا.

و حينئذ نقول: إنّ عنوان الدخول في الحريم الصلاتي أمر وقع تحت التكليف

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 474

و في عهدة المكلّف، فيجب عليه تحصيل اليقين بالفراغ عن هذه العهدة، و هو لا يحصل إلّا بمراعاة كلّ قيد و خصوصيّة يحتمل دخله في ذلك.

فإن قلت: فاللازم من ذلك أن نقول بالاشتغال في جميع القيود، و لو كان من قبيل احتمال كون اللباس ممّا لا يؤكل لحمه، فإنّ من المحتمل مانعيّة هذا اللباس للصلاة و بمقتضى جزئيّة التكبيرة للصلاة يكون مانعا لها أيضا، فيتحقّق الشكّ في

حصول العنوان المزبور إلّا مع الاجتناب عن التكبيرة فيه.

نعم يجوز لبسه بعد إيقاعها في حال التلبّس بسائر الأجزاء الصلاتيّة، و الحال أنّ ذلك خلاف ما يلتزمون به، فما وجه الفرق بين مثل هذه القيود المحتمل دخلها في الصلاة و بين القيود المذكورة حتّى يكون مقتضى الأصل في القسم الأوّل هو البراءة و في الثاني هو الاشتغال، مع كون الشكّ في كليهما بالنسبة إلى التكبيرة شكّا في المحصّل بالبيان المذكور بلا فرق بينهما أصلا.

قلت: حاصل ما ذكرت الإشكال في عامّة موارد يكون المأمور به أو المنشأ للأثر أمرا بسيطا متحصّلا عقيب أمور كالطهارة المأمور بها في باب الصلاة المتحصّلة عقيب الغسلتين و المسحتين، و كالزوجيّة و الملكيّة المتحصّلتين عقيب الصيغتين المخصوصتين.

و حاصل الإشكال أنّ من المسلّم في ما بينهم ظاهرا هو التفكيك في هذه الموارد بين ما إذا وقع الشكّ في المانعيّة لشي ء أو شرطيّته، و بين ما إذا وقع الشكّ في قيديّة شي ء، مثلا إذا شككنا في أنّ صيغة الطلاق هل يشترط في تأثيرها حضور عالم علاوة على حضور العدلين، أو هل يمنع عن تأثيرها حضور حائض، فلا شبهة أنّهم يتمسّكون بحديث الرفع لدفع هذه الشكوك و أمثالها، و أمّا لو شكّ في أنّه هل المعتبر هو الصيغة العربيّة أو يكفي و لو كانت فارسيّة مثلا فلا يتمسّكون.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 475

و هكذا لو شككنا في باب الوضوء أنّ الابتداء من الأعلى اعتبر قيدا في الغسلتين أو يجزي و لو كان الغسل منكوسا فلا يتمسّكون بالحديث.

و أمّا لو شككنا في أنّ حضور عادل مثلا شرط أو حضور حائض مانع عن تأثير الوضوء في الطهارة فلا نراهم يتوقّفون عن التمسّك، فيرد عليهم سؤال الفرق

بين الموردين الأوّلين أعني: الشكّ في المانعيّة و الشرطيّة، و بين المورد الأخير أعني:

الشكّ في القيديّة، مع أنّ مرجع المانعيّة و الشرطيّة أيضا إلى القيديّة، فإنّه إذا اشترط مثلا في الصلاة أن يكون الوضوء قبلها فمعناه كون المطلوب هو الصلاة الخاصّة بكون الوضوء قبلها، أو بكونها مع الطهارة، و كذا إذا اشترط في الطلاق حضور العدلين فمرجعه إلى أنّ المؤثّر هو الطلاق المخصوص بخصوصيّة حضور العدلين، و هكذا الكلام في المانعيّة، و بذلك يزيد الإشكال.

و الجواب عن هذا الإشكال يبتني على تقديم مقدّمات:

الاولى: أنّ التكليف في مسألتنا أعني: تكبيرة الإحرام متعلّق بأمر بسيط متحصّل بالصيغة الخاصّة و هو الافتتاح و الدخول في الحريم الصلاتي على ما تقدّم شطر من بيانه.

و الثانية: أنّه كلّما كان التكليف متعلّقا بأمر بسيط متحصّل عقيب أفعال أو أقوال مخصوصة فليس الأصل العقلي فيه إلّا الاشتغال.

و الثالثة: أنّه قابل للتصرّف الشرعي بأن يكون الشارع بعد ما جعل أمرا مقيّدا محصّلا لذلك البسيط جعل الفاقد في حال خاصّ قائما مقام ذلك الواجد في تحصيل ذلك الأمر، كما جعل الوضوء على المرارة بدلا عن الوضوء بمباشرة البشرة في حال الحرج في المباشرة، هذا بحسب الواقع.

و كذا يمكن أن يكتفى بما دون القيد من البقيّة بحسب الظاهر و في حال الشكّ،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 476

و يكون ترتّب المتحصّل على الفاقد في حال ترتّبا شرعيّا، لكونه من المحصّل و المحصّل الشرعيّين.

و الرابعة: أنّه بعد إمكان التصرّف المذكور و قابليّة المورد له فما جهة الفرق الذي يظهر منهم المفروغيّة عنه عندهم و تسالمهم عليه.

فنقول و على اللّٰه التوكّل و بأوليائه صلواته عليهم التوسّل:

أمّا المقدّمة الأولى فحاصل الكلام فيها أنّ المأمور به ليس مطلق قول

«اللّٰه أكبر» في أوّل الصلاة، غاية الأمر أنّ الدخول في حريم الصلاة من خاصّيته، كما هو الحال في جانب التسليمة الأخيرة من الصلاة، حيث إنّها مخرجة عن الصلاة و إن لم يقصد بها الخروج عن الصلاة، بل تكبيرة الإحرام نوع خاصّ لا يحصل إلّا بالقول المخصوص مع نيّة الدخول في الحريم الصلاتي، نعم يكفي القصد الإجمالي.

فإذا قصد التكبيرة التي جعلها الشارع جزءا للصلاة كان ذلك إشارة إلى قصد ذاك العنوان بنحو الإجمال، و الدليل على ذلك أعني: أنّه نوع خاصّ محصّله القصد و اللفظ أنّ المأمور به في الأخبار تكبيرة الافتتاح، فكما وقع أصل التكبيرة تحت الأمر كذلك خصوصيّة كونه افتتاحا.

و أمّا الثانية فالظاهر أنّه غير قابل للإنكار، فإذا أمر المولى بتعظيم زيد و تردّد الأمر بين كون محصّله تقبيل يده مرّة أو مرّتين فالشكّ و إن كان بين الأقلّ و الأكثر، و لكنّ التعظيم أمر مبيّن مفهوما، و قد اشتغلت الذمّة به يقينا، فيجب الفراغ عنه كذلك، و هذا بخلاف باب الأقلّ و الأكثر في أصل محلّ التكليف، فإنّ الاشتغال التعييني غير ثابت إلّا بالنسبة إلى الأقلّ.

و أمّا الثالثة فلا شبهة في أنّه كما أنّ من وظيفة الشارع رفع اليد عن قيد الطهارة في الصلاة إذا شكّ بعد الفراغ من الصلاة، كذلك من وظيفته أيضا رفع اليد

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 477

عنها من قبل قيد مشكوك الحصول في الوضوء أو مشكوك القيديّة فيه، فيكون غير خارج عن وظيفته أيضا لو قال: امض على وضوئك، مع الشكّ المزبور، و كذلك من وظيفته لو قال: قيد العربيّة في صيغة النكاح أو الطلاق مرفوع في حال الشكّ في القيديّة، و لازم ذلك حصول المسبّب الذي

هو النكاح و التزويج بالصيغة الفارسيّة.

و بالجملة، كما أنّ من وظيفته رفع المانعيّة و الشرطيّة بأن يقول: مانعيّة الشي ء المشكوك مانعيّته، أو شرطيّة الشي ء المشكوك شرطيّته مرفوعان عنك في حال الشكّ، و لازمة شرعا حصول المسبّب مع وجود الأوّل و مع فقد الثاني، كذلك من وظيفته أيضا رفع القيديّة و التقيّد بقيد مخصوص كعربيّة الصيغة أيضا من غير فرق بين المقامين بحسب الإمكان و الكون من وظيفة الشارع أصلا.

و أمّا الرابعة و هي العمدة، أعني: بيان الفرق بحسب الوقوع بين المقامين، فالتمسّك بالحديث جائز للشكّ في المانعيّة و الشرطيّة، دون الشكّ في القيديّة، كما هو الظاهر منهم على نحو التسالم.

فنقول و باللّه الاستعانة: إنّ مفاد حديث الرفع بالنسبة إلى الشكّ في المانعيّة بالشبهة الحكميّة لا شبهة في أنّه ليس رفع واقع المانعيّة في ظرف الشكّ، كيف و لازمة تخصيص المانعيّة الواقعيّة بحال العلم. و هو مستلزم للدور كما قرّر في محلّه.

بل و هكذا الحال في رفع المانعيّة المشكوكة بالشبهة الموضوعيّة، غاية الأمر أنّ رفع المانعيّة الواقعيّة فيها ليس محالا و مستلزما للدور، لإمكان التخصيص بالأفراد المعلوم انطباق عنوان المانع عليها دون المشكوكات منها، لكنّ الظاهر عدم كون ذلك مرادا لا بالنسبة إلى الشبهة الحكميّة و لا الموضوعيّة، و هكذا في الشرطيّة المشكوكة بالشبهة الحكميّة.

فمفاد الحديث بالنسبة إلى الجميع إنّما هو المعاملة مع المشكوك معاملة عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 478

المانعيّة و عدم الشرطيّة، فيكون الحديث ناظرا إلى العمل الشرعي الثابت لموضوع المانع و الشرط، فيرفع هذا العمل عن المشكوك و يثبت له عمل ما ليس بمانع أو شرط، فإنّ الشرط من أثره شرعا عدم الإتيان بمشروطه إلّا معه، و المانع بعكس ذلك.

فإذا قال

الشارع: عامل مع هذا المشكوك المانعيّة أو الشرطيّة تلك المعاملة فمعناه في مشكوك المانعيّة عدم المبالاة بإتيان العمل مع وجوده، و في مشكوك الشرطيّة عدم المبالاة به مع عدمه.

و أمّا القيد المشكوك قيديّته فالمفروض أنّه ليس هنا جعل مستقلّ من الشارع متعلّق بالمهملة، بل المعلوم جعل واحد مردّد بين تعلّقه بالمطلق أو بالمقيّد.

نعم ينسب هذا الجعل الواحد على كلّ من التقديرين إلى المهملة في البين نسبة عقليّة، و لكن لا يحسب جعلا مستقلّا شرعيّا، و ليس لها عمل بجعل الشارع حتّى يقال: إنّ أثر قيديّة المشكوك هو عدم الإتيان بالذات المهملة إلّا مع وجوده.

فإذا قال الشارع: عامل مع المشكوك معاملة عدم القيديّة فمعناه عدم الاحتياج في إتيان العمل إلى وجوده، فإنّ الإتيان بالذات المهملة لم يجعله الشارع بجعل مستقلّ.

و هذا بخلاف الحال في جانب الشرط و المانع، فإنّ للشارع فيهما جعلين مستقلّين منفصلين، أحدهما جعل المشروط و الممنوع، و الثاني جعل المانع و الشرط و إن كان يرجع ذلك أيضا إلى تقيّد الجعل الأوّل.

فإذا قال: عامل مع المشكوك المانعيّة معاملة عدم المانعيّة، و كذا مع مشكوك الشرطيّة فمعناه عدم احتياج العمل إلى مراعاة وجود الأوّل و فقد الثاني.

و بالجملة، فحاصل الدعوى بعد تسليم إمكان شمول الحديث لكلا الشكّين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 479

كما مرّ في المقدّمة الثانية استظهار كون المرفوع بالحديث بعد تسليم تعميمه للآثار الوضعيّة مضافا إلى العقاب و المؤاخذة خصوص الآثار التي كانت مجعولة بالجعل الاستقلالي الشرعي، دون مثل الأثر الذي ينسب إلى المهملة ببركة جعل الأثر إمّا للمطلقة أو للمقيّدة، فإنّه و إن كان يضاف عقلا إلى المهملة ذلك الأثر و يقال:

إنّ للقيد مدخليّة في ترتّب ذلك الأثر على المهملة،

إلّا أنّ الظاهر من الحديث غير مثل هذا الأثر.

و على هذا فلا يبقى فرق بين المانعيّة و الشرطيّة و الجزئيّة، فكلّ من هذه الثلاثة إن تعلّق بها جعل مستقلّ وراء جعل الممنوع و المشروط و الكلّ فشكّه مشمول للحديث من غير فرق بين شبهة الحكميّة أو الموضوعيّة، و إن تعلّق به الجعل الواحد المتعلّق بالمشروط و الممنوع و الكلّ فشكّه غير مشمول له من غير فرق بينهما أيضا.

و من هنا يظهر الحال في ما قد نقله شيخنا الأستاذ دام ظلّه عن شيخه الأستاذ الخراساني قدّس سرّه من أنّه كان بصدد التفرقة بين الشكّ في وجود مصداق المانع، و بين الشكّ في وجود مصداق الشرط في المشموليّة لحديث الرفع، بأنّ مقتضى الحديث رفع عنوان المانع عن المصداق المشكوك و تضييق دائرته، و هو مناسب لكونه واردا في مقام التوسيع و المنّة.

و أمّا في الثاني فإجراؤه مقتض أيضا لسلب عنوان الشرط عنه، أو لسلب الوجود عن عنوان الشرط، و هو مخالف للمنّة و التوسيع.

فإنّه يرد عليه في ما إذا كان جعل الشرط بنحو الاستقلال أنّه إن كان الشرط موجودا مع المكلّف فلا احتياج للعمل إلى تحصيل ذلك الشرط مجدّدا، و إن لم يكن معه كان محتاجا، فالاحتياج إلى التحصيل مشكوك و منفيّ بالحديث، و لازم ذلك جواز الدخول في العمل مع الشكّ في وجود الشرط الذي اعتبر فيه بنحو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 480

الاستقلال، و هو ممّا لا يلتزمون به أيضا.

و على هذا فالأحسن في مقام التفصّي عن الإشكال هو الالتزام بعدم شمول الحديث للآثار الوضعيّة و اختصاصه برفع المؤاخذة و الآثار التكليفيّة، و اللّٰه هو العالم.

ثمّ إنّه ممّا يؤيّد ما ذكرنا من لزوم مراعاة

الصيغة و الهيئة المعهودة في التكبيرة ما عن المنتهى و الغنية و غيرهما من الإجماع على أنّ اللّٰه تعالى لا يقبل صلاة امرئ حتّى يضع الطهور مواضعه، ثمّ يستقبل القبلة و يقول: «اللّٰه أكبر».

ثمّ هذا كلّه مع التمكّن من التلفّظ بهذه الصيغة

و لو لم يتمكّن [من بيان الصيغة]،
اشارة

فإن أمكن التعلّم قالوا: وجب، و هاهنا بحثان لا بدّ من التكلّم فيهما.

الأوّل: لو لم يتمكّن من التعلّم بعد الوقت و تمكّن منه قبله

فالظاهر منهم وجوبه معيّنا، كما أنّه لو تمكّن منه في كلا الوقتين كان التعلّم قبل الوقت واجبا موسّعا، فيسئل عن أنّ وجوب المقدّمة كيف يمكن تقدّمه على وجوب ذيها؟

و قد تفصّى المقدّس الأردبيلي قدّس سرّه بالالتزام بكونه واجبا نفسيّا تهيّئيّا، و صاحب الفصول التزم في مثل الغسل للصوم بكون الصوم واجبا معلّقا بالنسبة إلى طلوع الفجر بعد دخول الليل لا مشروطا.

و لكنّا في فسحة من هذا البحث و الإشكال بعد ما اخترناه في مبحث مقدّمة الواجب من الأصول في الواجبات المشروطة من أنّه بعد العلم بحصول شرطها في محلّه و عدم التمكّن من مقدّمة من مقدّماتها قبل حضور الشرط يجب تحصيله قبله، و مع التمكّن في كلا الحالين يجب بوجوب موسّع، إلّا أن يكون القدرة الخاصّة أعني:

القدرة في الوقت شرطا شرعيّا كنفس الوقت لا شرطا عقليّا، كما في حقّ الصغير الذي يبلغ بعد دخول الوقت، و لكن لو أهمل عن التعلّم قبل الوقت يعجز عنه بعده،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 481

و من أراد التفصيل فليراجع ما حرّرناه في الأصول في ذلك المبحث.

و الثاني: لو عصى المتمكّن من التعلّم و ترك التعلّم إلى أن ضاق الوقت عنه
اشارة

فلا إشكال في أنّه يجب عليه التكبيرة للصلاة في تلك الحالة التي هو عليها على حسب ما قرّر له من الوظيفة، سواء كان هو التكبير الملحون أو الترجمة أو غيرهما.

و لكنّ الإشكال في أنّ من المسلّم بينهم كونه معاقبا بتقصيره في التعلّم و تفويت الصلاة الاختياريّة على نفسه، و مع ذلك يقولون ببدليّة ما يأتي به في هذه الحالة عن الصلاة الاختياريّة، بحيث يسقط عنه تكليف الإعادة و القضاء، فيسئل عن أنّه كيف يتصوّر كون الشي ء بدلا عن الصلاة الاختياريّة إلّا مع وفائه بعين ما تفي به الصلاة الاختياريّة من المصلحة بدون

نقصان عنه أصلا، أو بما لا يجب استيفائه، و إلّا فإن كان النقصان بالمقدار الواجب الاستيفاء فلا معنى للبدليّة و التدارك، بل هذا واجب مستقلّ في هذه الحالة، و ما فات من الواجب التامّ المطلق بإطلاق المادّة حتّى بالنسبة إلى حال العجز لم يتدارك، فيشمله دليل القضاء، كما أنّه يجب الإعادة في الوقت و لا عصيان على الثاني مع ثبوته على الأوّل، أعني: القضاء في خارج الوقت، هذا على فرض عدم الوفاء و البدليّة.

و أمّا مع فرض البدليّة بالمعنى الذي ذكرنا يصير حال العنوانين أعني: المختار و المضطرّ كحال المسافر و الحاضر، فيتقيّد دليل الصلاة الاختياريّة بخصوص المختار، فلا يكون في البين إثم و معصية.

و الذي أفاده شيخنا العلّامة الأستاذ أدام اللّٰه أيّامه في التفصّي من الإشكال أن يقال: إنّ التكاليف التي ينقلب إلى الضدّ أو النقيض بواسطة طروّ بعض العناوين على المكلّف مثل تبديل حكم الإتمام بواسطة طروّ السفر و حكم الوضوء بواسطة طروّ عنوان فقد الماء، و حكم حرمة شرب الخمر إلى إيجابه بواسطة طروّ الاضطرار و أمثال ذلك يكون على قسمين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 482

تقسيم القيود إلى قيد الهيئة و المادّة
الأوّل: أن يكون العنوان الطارئ من قبيل القيود التي لا مدخليّة لها

في حسن توجّه الخطاب مثل عنوان المسافر، و هذا لا محالة يوجب تقييد الخطاب الأوّلي و لو كان بصورته عامّا بالمتّصف بضدّه، فالخطاب بالأربع ركعات و لو كان صورة عامّا لجميع المكلّفين، لكن يوجب دليل تقصير المسافر تقييده بخصوص الحاضر، و لازم ذلك تنويع الخطاب و أنّ حكم كلّ نوع ما يخصّه من دون اشتراكهما في الحكم.

و الثاني: أن يكون من قبيل القيود التي لا يحسن معها توجّه الخطاب الأوّلي إلى المكلّف،

مثل عنوان العجز عن المكلّف به الأوّلي، ففي هذه الصورة و إن كان العجز قيدا شرعيّا في الخطاب الثانوي كخطاب التيمّم، حيث إنّ موضوعه شرعا عدم الوجدان للماء، و لكنّه بالنسبة إلى الخطاب الأوّلي قيد عقلي، بمعنى أنّ الهيئة و إن كانت مقيّدة بالقدرة على متعلّقها، و لكنّ المادّة مطلقة بالنسبة إلى حالتي القدرة و العجز.

فدليل الوضوء و إن كان هيئة مقيّدا بالقدرة، و لكن بحسب المادّة يعمّ القادر و العاجز، بمعنى أنّ العاجز أيضا يفوت منه المصلحة الوضوئيّة، فلا يلزم تنويع الخطاب الأوّلي في هذا القسم.

و لازم القسم الأوّل جواز تحصيل العنوان الثاني اختيارا لما هو واضح، فإنّه غير مستلزم لتفويت شي ء من المصلحة، و لازم القسم الثاني عدم الجواز، لأنّه موجب لفوت ما هو الواجب المطلق بتفويت موضوعه، نعم لو حصل الاضطرار

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 483

لا من جانبه فلا إثم، هذا.

و لكنّه كما ترى لا يفي برفع تمام الإشكال، فإنّه و إن كان يدفع بهذا البيان إشكال أنّه كيف يمكن ورود الدليل في خصوص قسم بحكم خاصّ و مع ذلك كان هو باقيا تحت حكم العامّ حتّى يكون تحصيل عنوان الخاصّ محرّما و معصية من جهة تفويت حكم العامّ، و لكن قد بقي إشكال أنّ اللازم حينئذ صدق عنوان الفوت في حقّه.

لا يقال:

إنّه و إن كان يصدق الفوت، و لكنّ الفائت ليس بصلاة، فإنّ ما فعله بالفرض يكون حقيقة فردا من الصلاة، و ليس الواجب على المكلّف في كلّ يوم إلّا فردا واحدا من الظهر مثلا، و هو قد أتى به حقيقة، فما فات منه الظهر حتّى يشمله دليل: من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته، نعم فات عنه خصوصيّة غير قابلة للتدارك، لأنّ محلّ استيفاء تلك الخصوصيّة صرف الوجود، و هو قد فرض إتيانه بلا هذه الخصوصيّة و لا يقبل التكرار ثانيا حتّى يستوفي في ضمنه الخصوصيّة.

لأنّا نقول: ما معنى قولك: إنّ الفائت ليس بصلاة بل إنّما هو خصوصيّة، بل غاية ما في المقام أنّ المأتيّ فرد من الصلاة و الفائت فرد آخر على حسب ما قرّرنا في مقام الاستظهار من الخطابين، فإنّ مفاد الخطاب العامّ أنّ الفعل التامّ الذي هو فرد من الصلاة يكون بحسب المادّة مطلوبا على الإطلاق من عامّة المكلّفين حتّى هذا المكلّف العاجز، و مفاد الخطاب الخاصّ أنّ هذا الفعل الناقص بالنسبة إلى هذا العاجز يعدّ أيضا فردا من الصلاة و يكون مطلوبا منه في هذا الحال وجوبا، فيتصوّر في حقّه فردان من الصلاة، لكن أحد الفردين و هو التامّ مغن عن الآخر، و الآخر ليس مغنيا عن الأوّل، فيكون الفائت في حقّه واجبا و فريضة و هو واضح، و صلاة أيضا، لما فرضنا من كون التامّ فردا من الصلاة حقيقة، فإن قام إجماع على عدم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 484

وجوب القضاء كان دليلا على التخصيص في عموم دليل القضاء، و إلّا فعمومه متّبع، و يستكشف منه قابليّة الفائت للاستيفاء و التدارك، كما هو الشأن في كلّ عموم.

و ما ربما يقال

في مسألة الإتمام في مكان القصر جهلا بالحكم تقصيرا في مقام تصوّر إمكان الحكم بسقوط الإعادة في الوقت و استحقاقه العقوبة من كون ما أتى به من الصلاة التامّة مفوّت المحلّ بالنسبة إلى الصلاة المقصورة إنّما هو من باب الإلجاء في مقابل القاعدة العقليّة الغير القابلة للتخصيص الحاكمة بأنّ المكلّف الذي يكون وقت العمل بالنسبة إليه باقيا لا بدّ من كونه محكوما بالامتثال ليسقط عنه العقاب، لا إسقاط التكليف و تثبيت العقاب عليه، فإنّه عقاب بلا معصية، لجواز التأخير ما دام الوقت باقيا، و لا يمكن تخصيص هذا الحكم العقلي بالإجماع.

و هذا بخلاف المقام، فإنّ القاعدة الموجودة فيه لفظيّة أعني: عموم دليل القضاء، و مقتضاه لزوم القضاء في كلّ مقام يصدق فيه فوت الصلاة الفريضة، و هذه القاعدة قابلة للتخصيص، فيكون دليله الإجماع لو ثبت.

لكن مع ذلك تتميم الكلام في مسألتنا أعني: العاجز في باب التلفّظ بالتكبيرة أو القراءة مشكل، بواسطة أنّ الدليل الثانوي الموجود فيه أعني: قولهم عليهم السّلام: من لا يحسن قرائته فليفعل كذا، يمكن ادّعاء ظهوره في أنّ هذا الفعل صلاته الأوّلية من غير نقصان عن سائر الصلوات، و بالجملة، فهو بخطاب «المسافر صلاته ركعتان» أشبه منه بقولنا: من عجز عن الصلاة التامّة فليصلّ كذا.

و على هذا فعدم القضاء مطابق للقاعدة، لعدم صدق الفوت في حقّه، لإدراكه تمام مصلحة الصلاة، و لكنّ القول بالمعصية لو حصّل هذا العنوان اختيارا لا يصحّ على هذا كما هو واضح، لعدم تفويته واجبا بعد فرض ظهور الخبر في تنويع دليل «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ» فإثبات كونه غير منوّع لذلك الدليل، و مع ذلك لا يجب القضاء من

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 485

دون تخصيص لدليل القضاء، غير

ممكن ظاهرا بحسب الثبوت و بحسب الإثبات، كما هو واضح من البيانات السابقة، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

و يمكن أن يقال بإمكان استفادة كلا الأمرين، أعني: حرمة تحصيل العجز اختيارا و كون التكليف المجعول للعاجز مجزيا عن القضاء، و تطبيق ذلك على ظواهر الأدلّة، لا أن يكون الدليل منحصرا بالإجماع.

أمّا الأوّل: فلما مرّ من أنّ مقتضى إطلاق مادّة التكليف بالفعل الصحيح هو كونه مطلوبا حتّى في حال العجز عنه، فيكون العاجز قد فات عنه المطلوب المطلق، و لازم هذا حرمة تحصيل العجز اختيارا، و لا يقتضي دليل التكليف بالناقص في موضوع فوت ذلك التامّ الصحيح، إلّا أنّ هذا تكليفه في هذا الحال من دون تقييد بسببه في مادّة ذلك الخطاب، فالتامّ مطلوب تامّ أوّلي، و الناقص مطلوب ناقص في موضوع فوت التامّ.

و أمّا الثاني: فلأنّ لسان دليل الثانوي أنّ هذا الناقص هو صلاته التي وقعت مطلوبة في قوله تعالى «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ» و حفظ هذا الظهور غير ممكن بعد ما استفدنا من إطلاق المادّة المتقدّم كون التامّ مطلوبا مطلقا حتّى في حال العجز، و بعد عدم إمكان الحمل على الحقيقة يحمل الخطاب المذكور الدالّ على أنّ الناقص صلاته التامّة على التنزيل، أعني: أنّها بمنزلتها، و كان المكلّف الآتي بهذا قد أدرك ذلك و لم يفت منه التامّ، و لا شكّ أنّ فوت الصلاة التامّة له أثران:

أحدهما عقلي، و هو المعذوريّة في صورة طروّ العجز لا باختياره و عدمها، و العصيان في صورة طروّه باختياره، و الآخر شرعي و هو إيجاب القضاء، فإذا نزّل الشارع إدراك الصلاة الاضطراريّة بمنزلة إدراك الاختياريّة فلا يمكن أن يكون هذا التنزيل بالنسبة إلى الأثر الأوّل العقلي، لاستحالة انفكاك الأثر العقلي عن

مؤثّرة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 486

و عدم قابليّته للتنزيل، فيتمحّض أن يكون بالنسبة إلى الأثر الثاني، أعني: رفع إيجاب القضاء.

فيكون الحاصل من مجموع ما ذكرنا من الجمع بين الأدلّة أنّ تحصيل العجز عن الصلاة الاختياريّة محرّم، و يتحقّق به العصيان، و المكلّف بعد حصول العجز له بسوء الاختيار يصير موضوعا للصلاة الاضطراريّة، فإذا أتى بها في هذا الحال فقد سقط عنه القضاء بحكم التنزيل المزبور، كما هو المفتي به عند العلماء رضوان اللّٰه عليهم، و يحصل بذلك الجمع بين الفتاوى و مدلول الأدلّة، و للّٰه الحمد على كلّ نعمة.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنرجع إلى حكم المقام فنقول: العاجز عن التكبير بلفظته الصحيحة المعروفة إمّا أن يكون قادرا على التنطّق بلفظه على النحو الغلط بحيث يعدّ عرفا تلك اللفظة، غاية الأمر بوجه الغلط، فلا يبعد أن يقال أوّلا بمشموليّته للخطاب الأوّلي العامّ لجميع المكلّفين الذين منهم هذا الشخص الغير [القادر] على التنطّق بلفظة «اللّٰه أكبر» إلّا بهذا الوجه، مثل قوله: اللّٰه أكبار، فإنّ الخطاب المذكور بالنسبة إلى كلّ مكلّف ينصرف إلى ما هو المتمشّي منه من مصاديقه، و ثانيا على فرض عدم تسليم ذلك يكون مقتضى قاعدة الميسور بناء على تماميّتها وجوب ذلك، لأنّه ميسور عرفا لقول: «اللّٰه أكبر» حسب الفرض.

و إمّا أن لا يكون قادرا على التلفّظ به بوجه و لو بنحو الغلط، فالمحكيّ عنهم رضوان اللّٰه عليهم القول بلزوم التنطّق بالترجمة، سواء كان فارسيّا أم تركيّا أم غيرهما.

و بناه بعض الأعاظم قدّس سرّه على أن يكون المطلوب الأوّلي في باب التكبير هو إظهار كبرياء اللّٰه جلّت عظمته، غاية الأمر أنّه قيّد في حقّ القادر بكونه باللفظة الخاصّة، فعند تعذّر التنطّق بها و

بما هو ميسورها يكون مقتضى قاعدة الميسور

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 487

الإتيان بذات المطلوب، أعني: إظهار كبرياء اللّٰه تعالى و إن لم يكن بذلك القيد.

و أمّا بناء على أنّ المطلوب الأوّلي هو اللفظ المخصوص بلحاظ المعنى فاقتضاء القاعدة الإتيان بالترجمة في غاية الإشكال، و لا شكّ أنّ هذا مقتضى ظواهر الأدلّة، و بذلك يخدش في ما ذكره بعض الأعاظم أيضا.

توضيح المقام أنّ اللفظ تارة يكون مقصودا بالتبع، و المقصود بالأصالة إنّما هو المعنى الملقى به أعني: إظهار عظمة اللّٰه جلّ جلاله، كما يكون هو المتعارف في إفهام سائر المقاصد، حيث إنّ سمت اللفظ فيها صرف الآليّة مع فنائها في المعاني من دون نظر إليها، إلّا كالمعنى الحرفي.

و اخرى يكون المقصود بالأصالة هو اللفظ، و المعنى مقصود بالتبع، كما لو قصد الإنسان أن يقرأ شعرا فيه دلالة على المدح، لكن بقصد حصول المدح للمخاطب بواسطة قراءة ذلك الشعر مخاطبا إيّاه به تبعا، و كما إذا قصد قراءة آية القرآن و حصول التحيّة للمخاطب تبعا، أو إفهام مقصده إيّاه كذلك.

و حينئذ ففي المقام لا شبهة في أنّ المعنى ملحوظ في الجملة، بمعنى أنّه ليس بلا مدخليّة رأسا في التكليف، بحيث كان المقصود مجرّد اللفظ بما هو هو، بل المطلوب و المتعلّق للتكليف هو اللفظ بلحاظ كونه قالبا للمعنى الخاصّ أعني: كونه ثناء على اللّٰه تعالى بإظهار عظمته جلّت كبرياؤه.

فإن كان المطلوب أوّلا هو المعنى و اللفظ اعتبر قيدا له كان مقتضى قاعدة الميسور تعيّن الذات عند تعذّر القيد، فيجب عليه مطلق إظهار عظمة اللّٰه تعالى و لو لم يكن باللفظ المخصوص.

و إن كان الأمر بالعكس أعني: أنّ المطلوب أوّلا هو اللفظ و المعنى اعتبر قيدا

فعند تعذّر اللفظ ليس مقتضى القاعدة وجوب اختيار القيد بدون الذات.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 488

و لا يمكن استظهار الأوّل من الخبر الوارد في باب الأخرس الحاكم بلزوم تحريك اللسان و الإشارة بالإصبع عليه مكان القراءة، فإنّ الإشارة و تحريك اللسان كما يتحقّقان لأجل تفهيم المعاني كالإشارة الخاصّة باليد لتفهيم طلب المجي ء مثلا، كذلك قد يتحقّقان لأجل تفهيم لفظة خاصّة، فلا بدّ من الإشارة إليها بترتيب حروفها بحيث يكون المشار إليه نفس الحروف.

فعلم أنّ الخبر لا يكون دليلا على شي ء من الوجهين، بل هو أيضا يختلف كيفيّة الإشارة المدلولة به بحسب الوجهين، فيكون الإشارة إلى المعنى على أحدهما، و إلى لفظة اللّٰه أكبر على الآخر.

و محصّل الكلام في المقام أنّ الاحتمالات بحسب مقام الثبوت في حقّ العاجز عن أداء التكبير صحيحا و المتمكّن منه ملحونا- الذي قد عرفت اقتضاء قاعدة الميسور فيه تعيّن الملحون- ثلاثة مع قطع النظر عن القاعدة.

الأوّل: أن يكون غير مكلّف بالصلاة رأسا.

و الثاني: أن يكون مكلّفا بها مع التكبيرة الصحيحة.

و الثالث: أن يكون مكلّفا بها مع الملحونة، و لا رابع لهذه الاحتمالات، أعني:

احتمال كونه مكلّفا بها بلا تكبير أصلا.

وجه عدم هذا الاحتمال أنّه مخالف لقوله عليه السّلام: «لا صلاة بغير افتتاح» الدالّ على اعتبار الافتتاح في حقيقة الصلاة من غير فرق بين أفراد المصلّين من القادرين و العاجزين، غاية الأمر دلّ الدليل الخارجي على لزوم كون الافتتاح بالتكبيرة الصحيحة.

و حينئذ نقول: أمّا الاحتمال الأوّل فمقطوع الخلاف، و أمّا الثاني فتكليف بما لا يطاق، فيتعيّن الأمر في الثالث، فإنّه إذا كان الملحون بدلا من الصحيح في هذا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 489

الحال صدق أنّ الصلاة ليست بغير افتتاح، كما

أنّ الشارع إذا جعل التيمّم بدلا عن الوضوء صدق أنّه لا صلاة إلّا بطهور.

هذا هو الكلام في القادر على الملحون باللغة العربيّة مع قطع النظر عن قاعدة الميسور، و قد عرفت أنّ مقتضاها أيضا ذلك.

الاحتمالات في كلّ مقام كان اللفظ المخصوص مأمورا به

و أمّا غير القادر على اللغة العربيّة أصلا حتّى الملحون و القادر على المرادف باللغة الأخرى فحاصل الكلام فيه أنّ الاحتمالات المتصوّرة بحسب مقام الثبوت في كلّ مقام صار اللفظ المخصوص مأمورا به بلحاظ الدلالة على معناه ثلاثة، بسبب أنّ ملحوظيّة المعنى من اللفظ على ثلاثة وجوه:

الأوّل: أن يكون المقصود بالإفادة شيئا آخر وراء المعنى و إن كان المعنى ملحوظا، و ذلك كما في قولك: «لا إله إلّا اللّٰه كلمة التوحيد» و قولك: «زيد قائم قضيّة» لوضوح أنّ الموضوع لهذين المحمولين ليس إلّا المستعمل من اللفظتين دون مهملهما، فالمعنى ملحوظ في جانب الموضوع، و لكن ليس مقصودا بالإفادة.

الثاني: أن يكون المقصود بالإفادة من اللفظ هو المعنى الموضوع له، و هذا على قسمين:

الأوّل: أن يكون ذلك بجعل اللفظ ابتداء مظهرا لمعناه و حاكيا عنه بلا وساطة شي ء آخر في البين، كما هو المرسوم في طريق المحاورة، حيث إنّ النظر الاستدلالي أوّلا إلى المعنى، كأنّه الملقى.

و الثاني: أن يكون بجعل اللفظ حاكيا عن لفظ آخر باعتبار حكاية ذلك

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 490

اللفظ عن معناه، فاللفظ الأوّل ليس الملقى به أوّلا إلّا اللفظ، و هو حاك عن المعنى، فيكون اللفظ حينئذ نظير الكتابة، حيث إنّ الكاتب ينقل بكلّ نقش من النقوش حرفا وضع ذلك النقش له، ثمّ يحكي بتلك الحروف الملتئمة المعنى، فاللفظ أيضا قد يكون بهذه المثابة.

و هذان القسمان مشتركان في كون المقصود الأصلي في اللبّ هو المعنى، بحيث

إن كان ذمّا يكون كذلك فيهما، و إن كان مدحا فكذلك، إلّا أنّ الفرق في كيفيّة الحكاية، ففي أحدهما المنظور الاستقلالي هو المعنى، و في الآخر هو اللفظ.

و بعبارة أخرى: الملقى بالفتح نحو المخاطب في أحدهما هو المعنى، و في الآخر هو اللفظ.

و بعبارة ثالثة: تارة يكون فعل المتكلّم إعطاء المعنى، و اخرى إعطاء اللفظ، و الأوّل أيضا على قسمين، فتارة يكون الغرض مقيّدا بإعطائه بلفظ مخصوص، و اخرى غير مقيّد به، بل الغرض حاصل بأدائه بأيّ لفظ.

مثلا تارة يكون المقصود هو الإخبار بقيام زيد بأيّ لفظ كان مؤدّيا له، سواء كان قوله: زيد قائم، أو قيام زيد موجود، أو نحوهما، و اخرى يكون ذلك، و لكنّ الغرض متعلّق بخصوص أدائه بلفظ: زيد قائم مثلا، دون سائر التراكيب.

و حينئذ نقول: لفظة «اللّٰه أكبر» الذي أمر به في أوّل الصلاة يحتمل أن يكون من باب القسم الأخير، أعني: أن يكون المأمور به إنشاء الثناء له تعالى بالكبرياء مع تعلّق الغرض بأدائه بخصوص هذا التركيب، دون ما يؤدّي مؤدّاه.

و يحتمل أن يكون من قبيل القسم الأوّل، أعني: أن يكون المأمور به إعطاء اللفظ المخصوص دون المعنى و إن كان جهة الأمر بإعطاء ذلك اللفظ أيضا كونه مؤدّيا لمعناه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 491

و الظاهر من الاحتمالين هو الأخير، و ذلك لأنّه لو كان الأوّل لزم بطلان صلاة عامّة الناس، لخلوّها عن إنشاء التكبير، فإنّ الإنشاء كالإخبار يحتاج إلى تصوّر الموضوع و المحمول و النسبة بينهما حتّى يتحقّق القضيّة، و بدون واحد من ذلك لا تحقّق للقضيّة كما هو واضح، و من البديهي عدم تحقّق ذلك في أذهان العامّة عند التلفّظ ب «اللّٰه أكبر» في أوّل صلواتهم،

فتعيّن أن يكون المأمور به صرف التلفّظ باللفظة المخصوصة.

و إذن فنقول: إذا تعسّر ذلك فالترجمة ليست معدودة ميسورة لهذا المعسور عرفا قطعا، بل اللازم أنّه إن أمكن التلفّظ بما يشبه هذه اللفظة بحيث يعدّ عرفا ميسورها تعيّن هو، و إلّا فمقتضى قوله عليه السّلام: لا صلاة بغير افتتاح، هو اختيار الترجمة، لا لأنّها ميسور تلك اللفظة.

معنى قولهم: الإشارة في الأخرس يقوم مقام التلفّظ

و من هنا يتّضح الحال في الأخرس، فإنّه على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون عارفا بصورة اللفظة المخصوصة تفصيلا، كأن كان أوّلا ناطقا، ثمّ صار أخرس.

و الثاني: أن لا يعرفها تفصيلا، و يعرفها إجمالا، بمعنى أنّه يعلم أنّ للناس في أوّل صلاتهم لفظة خاصّة متميّزة عن سائر أذكار صلواتهم يكون به الشروع في الصلاة، و لكن لا يعرف صورتها التفصيليّة.

و الثالث: أن لا يعرف ذاك و لا هذا.

فالقسم الأوّل يشير إلى اللفظة بصورتها التفصيليّة، و الثاني إليها بصورتها

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 492

الإجماليّة، و الأخير يسقط عنه، لأنّه مقتضى عدم سقوط الصلاة بحال، و الحاصل أنّ تكليف القسمين الأوّلين من الأخرس حسب ما قلنا و اخترنا إنّما هو الإشارة إلى اللفظ، لا كما يستفاد من بعض العبائر من الإشارة إلى المعنى، كما في تفهيم مقاصده.

و يشهد لهذا خبر السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: تلبية الأخرس و تشهّده و قراءة القرآن في الصلاة تحريك لسانه و إشارته بإصبعه» «1» حيث إنّ الظاهر منه كون تحريك اللسان إشارة إلى ذوات الحروف، و إشارة الإصبع لتمييز إشكالها و حركاتها.

و هذا في ما إذا كان المقصود الإشارة إلى لفظة «اللّٰه أكبر» حسن، و أمّا إذا كان المقصود إفهام معناه فلا يخفى أنّ الأخرس في مقام إفهام معنى الكبرياء و

العظمة لا يحتاج إلى تحريك اللسان، بل إلى جعل اليدين بالوضع المخصوص و الهيئة المخصوصة، فالرواية المذكورة يمكن جعلها شاهدة على أصل المبنى الذي اخترنا، فتدبّر.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 59 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 493

البحث الثالث في القيام

اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 495

و هو واجب في الصلاة،

بل الإجماع مستفيض على ركنيّته في الجملة، و الكلام أوّلا في تصوير الركنيّة، بمعنى كونه بحيث يوجب زيادته و نقيصته و لو سهوا بطلان الصلاة، مع أنّ من المعلوم أنّه لو كبّر تكبيرة الإحرام و سها عن القراءة رأسا أو بعضها و ركع صحّ صلاته، كما أنّه لو قام بمقدار القراءة قبل التشهّد أو السجدة نسيانا رجع إلى التشهّد و السجدة و صحّ صلاته أيضا، مع تحقّق نقصان القيام في الأوّل و زيادته في الثاني، و هذا يقضي بكونه واجبا غير ركن كالقراءة.

نعم القيام في حال التكبيرة

لكونه شرطا في التكبيرة لو زاد بزيادة التكبيرة أو نقص كذلك، أو وحده بأن كبّر جالسا، أوجب البطلان، أمّا الأوّل فلزيادة التكبيرة، و أمّا الثاني فلعدم حصول التكبيرة التي بها يحصل افتتاح الصلاة، و أمّا القيام المتّصل بالركوع بمعنى قيام آخر بعد الفراغ من السورة فلا يوجب تركه سهوا بطلانا، و لهذا لو ركع قبل السورة أو في أثناء الحمد، بل أو بعد التكبيرة صحّت الصلاة.

نعم مسمّى القيام المتّصل بالركوع و لو كان المتحقّق منه في أثناء التكبيرة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 496

فضلا عن القراءة ربما يقال بركنيّته، بمعنى أنّه لا بدّ من وصل الركوع بالانتصاب القيامي الذي كان قبله، بحيث يحصل الانتقال من الحالة الانتصابيّة القياميّة إلى هيئة الركوع و الانحناء بالحدّ الخاصّ الذي عيّنه الشارع إمّا من باب تعيين أحد الأفراد، أو من باب التصرّف في المفهوم حتّى يكون الركوع الشرعي أخصّ من اللغوي.

و بالجملة، لا بدّ من حصول الانتقال من تلك الحالة إلى هذه الهيئة باتّصال بلا تخلّل سكون في الحدود المتوسّطة، و هذا المعنى يتصوّر فيه النقيصة منفكّة عن نقيصة الركوع بأن يركع عن جلوس بهيئة

التقوّس، أو بتخلّل السكون في الحدّ المتوسّط بين الانتصاب و الركوع بالحدّ الشرعي.

نعم الزيادة فيه لا يتصوّر إلّا مع زيادة الركوع، لأنّ الاتّصال الخارجي الذي هو قيده لا يتحقّق بدون الطرفين، فيكون البطلان مستندا إلى مجموع الأمرين، أعني: زيادة القيام و زيادة الركوع، نعم لو كان القيام الانتزاعي قيدا كان مستندا إلى خصوص زيادة القيام، لكنّه خلاف الظاهر.

و لا ينافي القول بركنيّة القيام بهذا المعنى مع شرطيّته في حال التكبيرة و في حال القراءة، إذ لا منافاة بين اجتماع الحيثيّتين في الشي ء الواحد، فالقيام المستطيل المتحقّق من أوّل التكبيرة إلى حال الركوع يكون مصداقا للواجب الركني المعتبر في عرض سائر الأجزاء الصلاتيّة و معدودا أيضا من شرائط التكبيرة و القراءة.

هذا ما يمكن أن يقال في مقام التصوير، و قد حكاه الأستاذ دام ظلّه عن سيّده الأستاذ طاب رمسه الشريف.

و لكن استشكل الأستاذ دام ظلّه عليه بأنّه لا يمكن إقامة الدليل على ركنيّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 497

القيام مستقلّا و من حيث نفسه، لا في طرف النقيصة و لا في طرف الزيادة.

أمّا في طرف النقيصة للقيام في حال التكبيرة، فلأنّ الذي يستفاد من الأدلّة أنّ نقص التكبيرة الكائنة في حال القيام لمن كان تكليفه القيام، و في حال الجلوس لمن كان تكليفه الجلوس موجب للبطلان و لو كان ذلك عن سهو، و أمّا أنّ هذا البطلان لأجل نقيصة التكبيرة فقط أو القيام كذلك، أو لأجل نقيصة كليهما فلا دلالة فيه على شي ء من ذلك.

و النصّ الدالّ على ذلك موثّق عمّار عن الصادق عليه الصلاة و السلام عن «رجل وجب عليه الصلاة من قعود، فنسي حتّى قام و افتتح الصلاة و هو قائم ثمّ ذكر؟

قال عليه السّلام: يقعد و يفتتح الصلاة و هو قاعد، و كذلك إن وجب عليه الصلاة من قيام فنسي حتّى افتتح الصلاة و هو قاعد فعليه أن يقطع صلاته و يقوم فيفتتح الصلاة و هو قائم، و لا يعتدّ بافتتاحه و هو قاعد» «1».

و هذا الموثّق و إن دلّ على شرطيّة القيام للتكبير بمعنى أنّ ما يحصل به الافتتاح هو التكبير في حال القيام لا مطلق القيام، إذ لو كان الثاني لزم حصول الزيادة في تكبير الافتتاح عند تكبيرة الثاني، فاللازم توقّف حصول الافتتاح على التكبير الخاصّ، فيسلم الفرض عن زيادة تكبير الافتتاح، و لكن لا دلالة على ركنيّة القيام مستقلّا و من حيث نفسه قاصرة.

و لا يظهر هنا لهذا ثمرة عمليّة، إذ النتيجة على كلّ حال هو البطلان، سواء استند إلى التكبيرة و كان القيام شرطا لها أم إلى القيام و كان التكبيرة مقارنا للركن أم إلى كليهما، و كذا الحال في جانب زيادة القيام في حال التكبيرة.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب القيام، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 498

و أمّا القيام المتّصل بالركوع

فالذي يمكن استفادته من الأدلّة شرطيّته للركوع، بمعنى أنّ الركوع الذي أمر به الشارع و جعله جزءا للصلاة هو الركوع الذي كان إحداثه و إيجاده بتمامه من أوّله إلى آخره عن هيئة الانتصاب و ليس ذلك لأجل قوله عليه السّلام: «لا صلاة لمن لم يقم صلبه» «1» فإنّه محكوم لدليل لا تعاد، بل الدليل عليه أنّ إيجاب أصل القيام الانتصابي ثمّ الأمر بالتكبيرة حاله، ثمّ القراءة كذلك، ثمّ الأمر بإحداث الركوع حاله يفهم منه العرف أنّ المطلوب إحداث تمام هذه الهيئة الانحنائيّة بالحدّ الخاصّ من تلك الحالة الانتصابيّة، فإنّه لا

يقال للمنحني: انحن، بل يقال له: ازدد في انحنائك.

و هذا نظير ما إذا وجب على الشخص الخارج من الماء إحداث الغمس في الماء لمجموع البدن، فإنّ المفهوم منه أنّ الواجب كون الغمس بتمامه حادثا حال الخروج بجميع البدن، فلو كان بعض البدن خارجا و بعضه داخلا و إن كان يصدق أنّ غمس المجموع قد حدث منه بواسطة غمس البقيّة، لكنّه خلاف متفاهم العرف من عبارة: اغمس بدنك في الماء.

و هكذا في المقام لو قيل: اركع، و الحال أنّه قد وجب عليه قبله الانتصاب يفهم أنّ الواجب إحداث هذه الهيئة من أوّله إلى آخره متّصلا بتلك الحالة الانتصابيّة، فلو تخلّل فصل سكون في البين بأن انحنى لا بالمقدار الواجب في الركوع فمكث قليلا، ثمّ انحنى من هناك إلى الركوع لم يصدق أنّه أحدث الهيئة الركوعيّة بتمامها، بل أحدث أوّلا مرتبة منه ثمّ ورد من تلك المرتبة إلى المرتبة السفلى، و قد كان المفروض وجوب إحداث تلك المرتبة السفلى بجميعها عن حالة الانتصاب.

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب القيام، الحديث 1 و 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 499

و لا ينقض ذلك بالسجود، حيث لا إشكال في عدم اعتبار كونه عن انتصاب مع ورود الخطاب به أيضا عقيب إيجاب الانتصاب عن الركوع، و ذلك لأنّ الهويّ هناك ممحّض في المقدّميّة، و السجود ليس إلّا وضع الجبهة على الأرض.

و أمّا هنا فليس حقيقة الركوع إلّا عبارة عن الخفض و الحطّ، لا أنّ ذلك مقدّمة و الركوع شي ء آخر، غاية الأمر أنّ مراتب الهويّ بتمامها غير كافية، بل الواجب المرتبة الخاصّة منه، فلو أحدث أوّلا الهويّ بالمرتبة الاولى، ثمّ بعد المكث بمقدار قليل الهويّ بالمرتبة الأخرى لما

تحقّق منه في أوّل الوهلة إلّا الركوع اللغوي، ثمّ ركع الركوع الشرعي من الركوع اللغوي، و قد كان الواجب تحصيل الركوع الشرعي من القيام الانتصابي.

و هذا بخلاف السجود، فإنّ الهويّ هناك خارج عن حقيقة السجود رأسا، و لهذا لا يجب في سجود السهو الانتصاب جلوسا، ثمّ الهويّ منه إلى السجود، بل يكفي و لو قصد السجود من حالة الانخفاض الجلوسي.

إذا عرفت ذلك فنقول: بعد استفادة تقييد الركوع الصلاتي بكونه واقعا عن الانتصاب القيامي نضمّ إلى ذلك الاستثناء الواقع في حديث لا تعاد الدالّ على وجوب الإعادة بنقيصة الركوع الصلاتي، و مقتضاه أنّه لو ركع لا عن الانتصاب سهوا كانت صلاته باطلة.

و أمّا في جانب الزيادة فحيث إنّ أصل الدليل على الإبطال في جانب الزيادة في جميع الأركان ليس إلّا الإجماع، و إلّا فدليل لا تعاد لا تعرّض فيه للزيادة، فالأمر تابع لمقدار دلالة الإجماع، فمن الممكن أنّا و إن استفدنا من الأدلّة جزئيّة الركوع عن حالة الانتصاب، و لكن كانت زيادة صورة الركوع و لو لا عن الانتصاب موجبة للبطلان، فلو ركع عن جلوس سهوا حكم ببطلان الصلاة، لأنّه

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 500

إن اكتفى بهذا الركوع كان نقصا للركوع المعتبر في الصلاة، و قد عرفت إيجابه للبطلان و لو كان سهوا، و لو لم يكتف و أتى به ثانيا عن انتصاب كان أيضا موجبا للبطلان من جهة تحقّق الزيادة في صورة الركوع و لو لم يتحقّق زيادة ما هو المعتبر منه في الصلاة.

و أمّا لو قلنا بأنّه لا دلالة للإجماع إلّا على أنّ زيادة الأركان بالكيفيّة التي اعتبرت في الصلاة بتلك الكيفيّة موجبة للبطلان، فلو أتى في الفرض بالركوع الثاني عن انتصاب

صحّت صلاته.

ثمّ إنّه يعتبر في القيام أمور:
منها: الاستقلال و عدم الاستناد على شي ء آخر غير الرجلين

كالجدار و الشجر و نحوهما، و الدليل عليه أمور:

الأوّل: التأسّي بالنبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله، مع قوله صلّى اللّٰه عليه و آله: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» «1».

و الثاني: صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام: «قال: لا تستند بخمرك و أنت تصلّي، و لا تستند إلى جدار إلّا أن تكون مريضا» «2». و الخمر بفتحتين ما وراك من شجر أو بناء و نحوه.

و الثالث: خبر عبد اللّٰه بن بكير المرويّ عن قرب الإسناد «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الصلاة قاعدا أو متوكّئا على عصا أو حائط؟ قال عليه السّلام: لا، ما شأن أبيك و هذا، ما بلغ أبوك هذا بعد» «3».

______________________________

(1) عوالي اللئالي 1: 198.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القيام، الحديث 2.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 20.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 501

لكن يعارضها صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليهما السّلام أنّه «سأله عن الرجل هل يصلح له أن يستند إلى حائط المسجد و هو يصلّي، أو يضع يده على الحائط و هو قائم من غير مرض و لا علّة؟ فقال عليه السّلام: لا بأس» «1».

«و عن الرجل يكون في صلاة فريضة فيقوم في الركعتين الأوليين هل يصلح له أن يتناول جانب المسجد فينهض يستعين به على القيام من غير ضعف و لا علّة؟

فقال عليه السّلام: لا بأس به» «2».

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

كتاب الصلاة (للأراكي)؛ ج 1، ص: 501

و موثّقة ابن بكير المرويّة عن التهذيب عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: سألته عن الرجل يصلّي متوكّئا على عصا أو على

حائط؟ قال عليه السّلام: لا بأس بالتوكّي على عصا و الاتّكاء على الحائط» «3».

و خبر سعيد بن يسار «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الاتّكاء في الصلاة على الحائط يمينا و شمالا؟ فقال عليه السّلام: لا بأس» «4».

و الجمع بين هذه و السابقة بحمل النهي على الكراهة و هذه على مطلق الرخصة جمع عرفي لو كانت الأخبار الثانية معمولا بها غير معرض عنها عند الأصحاب رضوان اللّٰه عليهم، و إلّا فأصل الحجّية فيها غير حاصل، و يبقى السابقة حينئذ بلا معارض.

و أمّا حمل هذه على الاتّكاء الغير التامّ الغير المنافي مع الاستقلال على الرجلين فليس جمعا عرفيّا، خصوصا مع قوله في صحيحة عليّ بن جعفر:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القيام، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القيام، الحديث 1.

(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القيام، الحديث 4.

(4) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب القيام، الحديث 3.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 502

من غير مرض و لا علّة، و الذي يفعله المريض و العليل هو التوكّؤ و الاستناد التامّ.

ثمّ على تقدير القول بلزوم الاستقلال و كون ثقل البدن على الرجلين فهل المعتبر وقوع الثقل على كليهما، أو يكفي و لو على واحدة منهما؟ الذي ربما يستدلّ به على الأوّل أمران:

الأوّل: قاعدة الاشتغال بناء على أنّها المرجع في أمثال المقام.

و الثاني: انصراف أدلّة اعتبار القيام إلى ذلك بعد ملاحظة أنّ الغالب في الخارج من أفراد هذا المفهوم هذا النحو و كون غيره خارجا عن المتعارف.

و فيه أنّ الانصراف الذي كان في حكم التقييد اللفظي ممنوع في المقام، و إنّما المسلّم منه ما يمنع عن الأخذ بالإطلاق

بمعنى عدم انصراف الذهن إلى غيره بواسطة غلبة الوجود، فيبقى غيره مشكوك الحال، لا معلوما عدم كونه موضوع الحكم.

و حينئذ فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي و هو هنا البراءة على ما حقّق في محلّه من كونها المرجع في الشبهة بين الأقلّ و الأكثر التي من جزئيّاتها المقام، كما هو واضح، و اللّٰه العالم.

بقي الكلام في أنّه على تقدير القول بلزوم كون الثقل على الرجلين هل المعتبر كونه عليهما بوجه التساوي، أو يكفي و لو كان بنحو التفاوت، و الظاهر انحصار المدرك في اعتبار الأوّل في دعوى الانصراف، و فيه ما لا يخفى.

و منها: الاستقرار،

بأن لا يكون ماشيا و لا مضطربا، بل كان واقفا ساكنا بلا خلاف فيه على الظاهر، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

و الدليل عليه أمّا بمعنى عدم كفاية المشي فأوّلا دعوى مأخوذيّته في مفهوم

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 503

القيام، فإنّه عرفا مقابل للمشي كمقابلته للقعود، فكما لا يقال للماشي: أنّه قاعد، لا يقال: إنّه قائم.

و الفرق بين هذه الدعوى و ما ادّعي في اشتراط الاستقلال على الرجلين أنّ المدّعى هناك أنّه بعد إطلاق المفهوم و صدقه على الفاقد و الواجد ينصرف عند الإطلاق إلى الواجد، و أمّا هنا فالمدّعى أنّه خارج عن أصل المفهوم.

و ثانيا: خبر السكوني عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام أنّه «قال عليه السّلام في الرجل يصلّي في موضع، ثمّ يريد أن يتقدّم، قال عليه السّلام: يكفّ عن القراءة في مشيه حتّى يتقدّم إلى الموضع الذي يريد، ثمّ يقرأ» «1».

و لا يخفى أنّ الاشتراط في هذا المقام إنّما هو في الأذكار، لا في أصل الصلاة، فلهذا قال عليه السّلام: يكفّ عن القراءة في مشيه.

و ثالثا:

رواية سليمان بن صالح الوارد في الإقامة عن أبي عبد اللّٰه عليه السّلام «قال: لا يقيم أحدكم الصلاة و هو ماش و لا راكب و لا مضطجع، إلّا أن يكون مريضا، و ليتمكّن في الإقامة كما يتمكّن في الصلاة، فإنّه إذا أخذ في الإقامة فهو في صلاة» «2».

و يمكن المناقشة في الاستدلال بها بأنّا بعد ان علمنا أنّ اعتبار التمكّن في الإقامة من باب شرط الكمال لا الصحّة فالأمر في المشبّه به يدور بين الأمرين، و لا معيّن في البين لأحد الطرفين.

و أمّا بمعنى عدم الاضطراب فالدليل عليه رواية هارون بن حمزة الغنوي أنّه

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 34 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.

(2) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الصلاة، الحديث 12.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 504

سأل أبا عبد اللّٰه عليه السّلام عن الصلاة في السفينة، «فقال عليه السّلام: إن كانت محملة ثقيلة فإذا قمت فيها لم تتحرّك فصلّ قائما، و إن كانت خفيفة تكفأ فصلّ قاعدا» «1».

و نوقش في الاستدلال بهذه الرواية بأنّ المراد بقوله عليه السّلام: لم يتحرّك، بقرينة المقابلة عدم الأكفاء، بمعنى الانقلاب، فالمعنى- و اللّٰه العالم- أنّه إذا كانت السفينة ثقيلة لا تنقلب على وجهها إذا قمت فصلّ قائما و لو كانت متحرّكة بحدّ الاضطراب الغير الواصل إلى حدّ الانقلاب، و إذا كانت بحدّ الانقلاب فصلّ قاعدا.

و لكن في هذه المناقشة ما لا يخفى، فإنّ السفينة بأيّ مرتبة من الخفّة بلغت لا تصير بحيث يوجب قيام الشخص الواحد فيها إكفائها و انقلابها على وجهها، فالمراد بالأكفاء هو الحركة الاضطرابيّة إلى اليمين و الشمال، و من مقابله هو السير الخالص عن الاضطراب و التمايل إلى أحد

الجانبين بواسطة ثقالة السفينة و عدم تأثّرها من سرعة حركة الماء، و على هذا فالاستدلال بالرواية على المطلوب لا غبار عليه.

ثمّ إنّ القيام في حال التكبيرة أيضا يعلم حاله من القيام في حال القراءة و أنّه أيضا يشترط فيه الاستقرار بكلا المعنيين، فإنّ قوله عليه السّلام: يكفّ عن القراءة في مشيه يعلم منه الإنسان أمّا العموم للتكبيرة، أو أنّه من باب المثال، و الحكم مرتّب على الجامع بين القراءة و سائر الأذكار الواجبة، و كذا التسبيحات الأربع الواجبة في الركعتين الأخيرتين.

و أمّا القيام المتّصل بالركوع فقد عرفت أنّه ليس قياما زائدا على ما اعتبار في

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 2.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 505

القراءة، بل هو هو، و إذا فرضنا اعتبار ذلك فيه كان الاستقرار شرطا لشرط الركوع، فإنّ القيام شرط الركوع، و الاستقرار شرط القيام.

و هل النقص السهوي للاستقرار موجب لنقيصة الركن، لكونه شرطا في القيام الذي هو شرط الركن أو لا، بل الذي يضرّ نقصه سهوا هو نفس الركن دون شرطه؟

شرطيّة القيام مطلقة، أو مختصّة بحال التمكّن و العمد؟
اشارة

تحقيق المقام أن يقال أوّلا: لا بدّ من النظر إلى الدليل المثبت للشرطيّة هل هو الإجماع ممّا له القدر المتيقّن، و ليس له إطلاق في إثبات الشرطيّة في حالتي العمد و السهو، أو له إطلاق، و لا يضرّ استفادة الشرطيّة من نحو الأمر، فإنّ الأمر في هذا المقام إرشادي، و لا منافاة فيه مع إرادة الإطلاق، فإن كان من قبيل الأوّل فلا إشكال، فإنّ أصل الشرطيّة بالنسبة إلى حال السهو غير ثابت، و إن كان من قبيل الثاني كما هو الظاهر فلا إشكال في أنّ دليل لا تعاد يكون حاكما على أدلّة الأجزاء و

الشرائط التي لها إطلاق ممّا عدي الخمسة المستثناة.

و حينئذ فلا بدّ من ملاحظة أنّ الركوع الذي هو أحد تلك الخمسة هل المراد به مسمّاه العرفي و لو فرض خلوّه عن كلّ ما يعتبر فيه شرعا من الشرائط من الانحناء بالحدّ الخاصّ و نيّة القربة، و كونه عن الانتصاب القيامي و كون ذلك القيام مع الاستقرار، أو أنّ المراد به خصوص الجامع للشرائط الشرعيّة التي اعتبر في الصلاة مع تلك الشرائط.

فإن كان الأوّل فلا إشكال في عدم مضرّية نقص الاستقرار سهوا أيضا

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 506

بواسطة كونه داخلا في المستثنى منه في حديث لا تعاد، فيكون للحديث الحكومة على إطلاق دليل الاشتراط.

و إن كان الثاني كما هو الظاهر، فلا يبقى للحديث حكومة، إذ نقصه حينئذ راجع إلى نقص الركوع، و قد نصّ الحديث بوجوب الإعادة في نقص الركوع، و اللّٰه العالم بحقائق الأحكام.

و توضيح المقام يحتاج إلى تمهيد مقدّمة هي أنّ المحتمل بحسب مقام الثبوت في الأمور التي اعتبرت في حال القيام من الاستقلال في مقابل الاستناد، و من السكون و الاطمئنان في مقابل الاضطراب وجوب يختلف الحال فيها من حيث السهو عنها و من حيث الدوران بينها بعضها مع بعض، أو بين واحد منها مع القيام بحسب تلك الوجوه.

الأوّل: أن يكون شرائط للقيام المعتبر في الصلاة، فالقيام المقيّد قد أخذ جزءا أو شرطا في الصلاة، أو في التكبيرة، أو القراءة مثلا.

الثاني: أن يكون شرائط لما يصحبها من القراءة أو الأذكار، فالقراءة الخاصّة أو الذكر المخصوص أخذ جزء للصلاة.

الثالث: أن يكون شرائط لنفس الصلاة في عرض القيام و القراءة و سائر الأذكار، فكما أنّ الصلاة محتاجة إلى القيام كذلك محتاجة إلى الاستقلال على

الرجلين و إلى الاطمئنان و سكون البدن.

ثمّ إنّ الشرطيّة على كلّ من هذه التقادير الثلاث تارة يكون مطلقة بالنسبة إلى حالتي التمكّن و العجز، و بالنسبة إلى حالتي العمد و السهو، و اخرى يكون مقيّدة بخصوص حال التمكّن، أو بخصوص حال العمد، هذه أنحاء التصويرات فيها بحسب الثبوت، و يظهر الثمر بينها في مقامين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 507

الأوّل: في مقام التزاحم بين بعضها و بين القيام بأن دار الأمر مثلا بين القيام مع الاعتماد على شي ء مثل الحائط و العصا، و بين القعود مع حفظ الاستقلال بدون الاعتماد، أو بين القيام مع الاضطراب و بين القعود مع الاطمئنان، فلازم اختصاص الشرطيّة بحال التمكّن لزوم القيام في كلا الفرضين، كما هو واضح.

كما أنّ لازم إطلاق شرطيّتها في نفس القيام حتّى بالنسبة إلى حال العجز هو الانتقال إلى القعود في كليهما، و لازم إطلاق شرطيّتهما في نفس الصلاة أو في القراءة و سائر الأذكار هو ملاحظة مرجّحات باب التزاحم في البين و الحكم بلزوم الأهمّ منهما و من القيام إن كان و التخيير إن لم يكن.

و الثاني: في مقام نقصها سهوا في القيام المعتبر في بعض الأركان، مثل القيام المعتبر في تكبيرة الإحرام، و القيام المعتبر في الركوع قبله متّصلا به، فلازم اختصاص الشرطيّة بحال العمد صحّة الصلاة كما هو واضح، و لازم إطلاقها و اعتبارها في نفس الصلاة أيضا ذلك بمقتضى دليل لا تعاد، لأنّها حينئذ من جزء المستثنى منه فيه، و لازم إطلاقها و اعتباره في ذلك الركن بطلانها، لرجوع نقصها حينئذ إلى نقص الركن أعني: التكبيرة الخاصّة أو الركوع الخاصّ، فيكون من جزء المستثنى في حديث لا تعاد، هذا كلّه بحسب

مقام الثبوت.

و أمّا بحسب مقام الإثبات فاعلم أنّ ظاهر الأدلّة هو الشرطيّة المطلقة الغير المقيّدة بحال دون حال، و أمّا أنّ اعتبار هذه الأمور أوّلا في الصلاة أو في القراءة أو في القيام فلا دلالة في الأدلّة على شي ء من هذه، بل هي تلائم مع كلّ واحد منها، فإنّ قوله عليه السّلام للرجل الذي يريد أن يتقدّم عن موضع صلاته و هو مصلّ: يكفّ عن القراءة في مشيه حتّى يتقدّم إلى ذلك الموضع الذي يريد ثمّ يقرأ، إنّما يقيّد مطلق اعتبار ذلك، و أمّا أنّه قيد معتبر في القراءة أو في الصلاة في هذا الحال أو في القيام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 508

المعتبر في حال القراءة؟ كلّ محتمل.

و كذلك قوله في خبر السفينة و تفصيله بين حال الأكفاء بسبب القيام بمعنى الحركة يمينا و شمالا الموجبة لحركة المصلّي، كذلك بلزوم القعود و بين حال عدم الحركة كذلك بسببه بلزوم القيام يلائم مع كون الاطمئنان في مقابل الحركة قيدا في القيام و أن يكون قيدا في الصلاة، لكن روعي جانبه دون القيام لأهمّيته من القيام، كما يساعده الاعتبار أيضا، حيث إنّ القعود مع سكون البدن أقرب إلى حضور القلب من القيام مع الحركة يمينا و شمالا بسبب حركة السفينة كذلك.

و كذلك قوله عليه السّلام في دليل اعتبار الاستقلال في مقابل الاعتماد: لا تستند بخمرك و أنت تصلّي، فإنّه لو لا ظهوره في اعتبار ذلك في الصلاة فلا أقلّ من الإجمال و عدم الدلالة على الاعتبار في القيام.

و حينئذ فإطلاق أدلّة اعتبار القيام حيثيّة تكون سليما عن المقيّد، لا لأنّ المقيّد المنفصل يخالف المتّصل في أنّ المنفصل يكون المتيقّن منه حالة القدرة و التمكّن من

القيد بخلاف المتّصل، فإنّه يقيّد المطلق في جميع الحالات، كما ربما يحكى عن بعض في أدلّة غسل الميّت الوارد في بعضها الأمر بالغسل ثلاثا، و في آخر منفصلا الأمر بجعل شي ء من السدر في واحد من الغسلات، و شي ء من الكافور في آخر، إذ فيه أنّ دليل المقيّد و إن كان منفصلا لو تمّت فيه شرائط الإطلاق فإطلاق المادّة فيه مقدّم و يقيّد به إطلاق الدليل المطلق.

و لكن هذا في ما إذا ورد الدليلان في موضوع واحد، كما [في] ذلك المثال.

و أمّا إذا لم يعلم ورودهما كذلك كما في مسألتنا حيث عرفت أنّ الأدلّة المعتبرة للاستقلال و الاطمئنان بكلا معنييه لم يعلم كونها معتبرة ذلك في جزئيّة القيام أو شرطيّته، و الأدلّة المعتبرة للقيام ناظرة إلى إثبات الجزئيّة أو الشرطيّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 509

لنفس القيام من دون اعتبار شي ء في هذه الجهة زائدا على ماهيّة القيام خصوصا مع كونها في مقام البيان من جهة تعرّضها لحال جميع طبقات المكلّفين من الأصحّاء و المرضى بمراتبهم من شدّة المرض و خفّته المختلفة في التمكّن من الجلوس و عدمه و الاضطجاع و عدمه، فإنّه من البعيد إهمالها عن ذكر شي ء ممّا يعتبر في مسألة جزئيّة القيام.

فمقتضى القاعدة حينئذ هو الأخذ بإطلاق المطلق و هو أدلّة القيام في مسألتنا و القول بأنّ القيام من حيث شرطيّته للقراءة و الأذكار و الركوع مطلق ليس له شرط.

فلا بدّ من ملاحظة قاعدة التزاحم عند العجز عن الجمع بينه و بين واحد من تلك الأمور، فإن علم الأهميّة في جانب تقدّم، و إلّا فهو مخيّر، و كذا في صورة نسيان شي ء منها في حال القيام المتّصل بالركوع، أو قيام تكبيرة

الإحرام لا بدّ من القول بكون المورد من مصاديق المستثنى منه في حديث لا تعاد.

و الحاصل أنّ مثل قوله عليه السّلام في تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّٰهَ قِيٰاماً قال عليه السّلام: الصحيح يصلّي قائما و قُعُوداً و المريض يصلّي جالسا، و عَلىٰ جُنُوبِهِمْ الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلّي جالسا» «1» كيف يمكن القول بأنّه قد أهمل فيه بعض قيود القيام مع استقصائه لحال جميع المكلّفين، فتقييد مثله في غاية البعد مع كونه في مقام البيان.

إن قلت: لا استيحاش مع ذلك في تقييد القيام في هذا الخبر بالسكون أو الاستقلال مع تقييد قيديّتهما فيه بحال التمكّن، و أمّا بدونه فيؤخذ بإطلاق ذلك

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القيام، الحديث 22.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 510

أيضا، فيقال: إنّ الصحيح ليس المجعول في حقّه إلّا القيام، و لكنّه يختلف مراتبه في اعتبار أنحاء القيام، ففي مرتبة منه يعتبر القيام الاستقلالي الاستقراري، و هو الصحيح المتمكّن، و في أخرى يعتبر القيام الاستنادي أو القيام الاضطرابي، و هو الصحيح الغير المتمكّن كالشيخ الكبير أو العاجز من غير جهة المرض، فالصحيح بمراتبه يعتبر فيه القيام بأنحائه، لكن كلّ قسم مختصّ بنحو، و هذا لا ينافي مع إطلاقه.

نعم لو كان مفاده أنّ القيام بجميع أنحائه مجعول في حقّ الصحيح في أيّ مرتبة منه كان منافيا، لكن أنّى لنا بإثبات هذا المقدار من الدلالة، و على هذا فمقتضى الجمع هو الحكم بالانتقال من القيام ببعض مراتبه إلى بعض آخر من مراتبه، دون القعود، و الانتقال إلى القعود إنّما يصحّ إذا فرض العجز عن القيام بتمام هذه المراتب الطوليّة.

و حينئذ فيجي ء الكلام في صورة الترك السهوي لأحد

هذه الأمور عند القدرة و التمكّن منه، فإنّه إن كان ذلك في القيام الركني أو الشرط للركن يتحقّق البطلان، نعم تركه العمدي مضرّ على كلّ الحال، كما أنّ تركه الاضطراري غير مضرّ أصلا كما هو واضح.

قلت: الدليل على هذه الأمور على قسمين:

الأوّل: شهرة الأصحاب و إجماعاتهم المحكيّة على لسان الأساطين.

و الثاني: الأدلّة اللفظيّة.

أمّا القسم الأوّل فواضح عدم التعرّض فيه إلّا لأصل الاعتبار من دون تعرّض لأنّ محلّ اعتباره ما ذا، فيحتمل فيه الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة، نعم المتيقّن منها إنّما هو الاعتبار في خصوص حال التمكّن، و ليس على أزيد من ذلك لها دلالة.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 511

فما ذكرت من الانتقال إلى المرتبة السفلى من القيام عند الاضطرار عن المرتبة العليا منه صحيح بالنسبة إلى هذه الطائفة من الأدلّة لو فرض نظرها إلى تقييد القيام.

و أمّا بالنسبة إلى الطائفة الأخرى أعني: الأدلّة اللفظيّة فالإنصاف أنّ مثل قوله عليه السّلام: لا تستند بخمرك، و مثل خبر السفينة دالّان على أنّ من الأمور المعتبرة في الصلاة هو عدم الاستناد و عدم الحركة، من غير فرق بين أحوال المصلّي من القدرة أو العجز، إذ هما في مقام بيان الحكم الوضعي و إن كانا بصورة النهي أو الأمر، فكأنّه قال: الاستقلال شرط و الاستقرار كذلك، و لا شكّ في إطلاق هذين بالنسبة إلى حالتي القدرة و العجز مع عدم تعرّضهما إلّا لأصل لزوم هذين الأمرين في الصلاة، فيجي ء فيهما الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة.

و على هذا فاللازم من تقييد دليل القيام بذلك على تقدير تسليم النظر لها إلى تقييد القيام هو أنّه مع عدم التمكّن من هذه لا يتمكّن من القيام المعتبر في الصلاة، فلا محلّ للانتقال إلى القيام بالطريق

الآخر، بل لا محيص عن الانتقال إلى القعود، و لكن لا مجال لهذا التقييد بعد عدم اللسان في دليل هذه الأمور على تقييد القيام.

و بالجملة، و إن كنّا نسلّم أنّ أدلّة القيام لا إطلاق لها من حيث اشتراطه بشي ء من هذه الأمور عند القدرة فقط اللازم منه الانتقال من المرتبة العليا للقيام إلى المرتبة السفلى منه، إلّا أنّ أدلّة تلك الأمور ليس فيها اسم القدرة، بل هي في مقام الشرطيّة المطلقة، مضافا إلى عدم تعرّضها لتقييد القيام، و من حيث الاشتراط المطلق اللازم منه انتقال الصحيح العاجز عن بعض مراتب القيام إلى القعود يكون لها إطلاق، لكن ليس لأدلّة تلك الأمور نظر تقييد القيام، فيبقى إطلاق أدلّة القيام

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 512

من هذا الحيث بحاله و سليما عن المقيّد.

نعم لو كان هناك ثلاث طوائف من المطلقات: إطلاقات القيام، و إطلاقات الأذكار و القراءة، و إطلاقات الصلاة تحقّق الإجمال في جميعها بعد العلم إجمالا بورود التقييد على واحد منها، لكنّك خبير بعدم الإطلاق في جانب الصلاة، و إذن فيبقى إطلاق دليل القيام بحاله، و إطلاق دليل هذه الأمور أيضا بحاله من غير مساس أحدهما بالآخر.

و حينئذ فترك بعض هذه لا يخلو إمّا أن يكون عن عمد، أو عن اضطرار، أو عن سهو، فإن كان عن عمد فيوجب البطلان على جميع الاحتمالات، و إن كان اضطرارا فالقيام بحاله، و لا يوجب ذلك سقوطه، و إن كان سهوا فحيث إنّه لا يرجع إلى نقص القيام الركن فلا يوجب الإعادة بمقتضى لا تعاد.

هذا مضافا إلى إمكان الاستظهار من قوله عليه السّلام: لا تستند بخمرك و أنت تصلّي، أنّ عدم الاستناد شرط الصلاة، لا بمعنى الكون الصلاتي

الأعمّ من حال التشاغل بأقوالها و عدمه، بل الظاهر خصوص أقوالها و أذكارها، فإنّه المتبادر منه.

و الحاصل: لا يفهم منه القيديّة للقيام، بل يفهم عدم قيديّته إلّا للأقوال، و يترتّب على هذا أنّ تركه العمدي في جميع الأقوال مضرّ و تركه الاضطراري غير مضرّ، و أمّا تركه السهوي فإن كان في غير التكبيرة الإحرام و لم يحصل التذكّر إلّا بعد مضيّ المحلّ فلا يضرّ، لأنّه ليس بأعلى من ترك نفس المشروط و أنّه كان في تكبيرة الإحرام، فحيث إنّه يرجع إلى نقصان المشروط و هو ركن يوجب نقصه السهوي بطلان الصلاة بمقتضى الأخبار التي تقدّمت في باب التكبيرة، لا لمجرّد الإجماع حتّى يقال: إنّ القدر المتيقّن منه نقصان نفس المشروط أو نقصان شرطه، فلا محيص عن البطلان.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 513

لكن هذا كلّه في غير الأمور التي يعتبر في حقيقة القيام، و أمّا ما كان كذلك مثل الانتصاب و الاستقرار بمعنى ما يقابل المشي حيث إنّ الانحناء و كذا المشي لا يسمّيان قياما، فلا إشكال في أنّ سهوهما سهو عن القيام الركن.

و أمّا الاضطرار إلى تركهما فهل المرجع فيه إلى قاعدة الميسور حيث إنّ القيام الانحنائي و في حالة المشي و إن كانا خارجين عن مسمّى القيام حقيقة، إلّا أنّهما يعدّان ميسورا له عرفا، نظير قول «أسهد» بالسين المهملة، حيث إنّه ميسور لقول «أشهد» بالشين المعجمة عرفا و إن كان غير داخل في مصاديقه حقيقة.

أو أنّ المرجع حينئذ إلى إطلاقات إرجاع العاجز عن القيام إلى القعود؟ فعلى الأوّل تكليفه الانتقال إلى القيام الانحنائي أو المشي، و على الثاني الانتقال إلى القعود، إلّا أن يكون هنا خبر خاصّ عيّن الانتقال إلى القيامين المذكورين.

قد يقال

بالثاني، أعني: الرجوع إلى تلك الإطلاقات، و ذلك لحكومة دليل الميسور على الأدلّة الأوّلية بناء على الأخذ به في هذه المقامات.

و فيه أنّ دليل الميسور و إن كان حاكما على أدلّة الأجزاء و الشرائط المعتبرة في المركّبات المأمور بها، إلّا أنّ حكومتها بالنسبة إلى الإطلاقات الواردة في تعيين القعود عند تعذّر القيام ممنوعة، فإنّ تلك الإطلاقات متعرّضة لحال التعذّر و أنّ المكلّف به عند العجز عمّا يسمّى قياما هو القعود، دون المراتب المتوسّطة بينهما ممّا لا يسمّى باسم أحدهما.

فحكومة القاعدة على مثل هذا المضمون محلّ منع، بل اللازم القول بتخصيص القاعدة بتلك الإطلاقات، لأخصّيّتها منها مطلقا.

و كيف يمكن القول بالحكومة و اللازم منه أن يكون الإمام عليه السّلام مع كونه بصدد بيان مراتب تكليف العجزة قد أسقط من البين مرتبة لم يذكرها و هي هذه المراتب

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 514

المتوسّطة في البين، و لا يمكن الالتزام بذلك مع كونها بمقام الاستقصاء لجميع المراتب كما يعلم بمراجعتها، فالحقّ حينئذ تعيّن الرجوع إلى القعود عند العجز عن القيدين المذكورين أعني: الانتصاب و التمكّن بمعنى عدم المشي.

نعم هذا بملاحظة الأدلّة العامّة مع قطع النظر عن النصّ الخاصّ، و أمّا بملاحظة النصّ الخاصّ الموجود في المسألة و هو صحيح عليّ بن يقطين الوارد في العجز عن الانتصاب عن أبي الحسن عليه السّلام «قال: سألته عن السفينة لم يقدر صاحبها على القيام أ يصلّي فيها و هو جالس يومئ أو يسجد، قال عليه السّلام: يقوم و إن حنى ظهره» «1».

فالمتعيّن هو الرجوع إلى القيام الانحنائي بأيّ مرتبة من الانحناء بلغ و لو إلى حدّ الركوع أو أخفض، و الرواية صحيحة السند، كما أنّ الظاهر أنّ المسألة لا

خلاف فيها.

و أمّا الدلالة فالظاهر أنّ المراد بصاحب السفينة هو الملّاح الذي يكون محلّه في طرف السفينة و يكون بيده زمامها، بحيث لا يمكنه القيام عن مكانه و الغفلة عن حال السفينة، و وجه عدم قدرته مع البقاء في مكانه كون السفينة مظلّلة و كون غطائها عند أطرافها قريبة إلى السفينة بحيث لا يقدر الكائن في ذلك المحلّ من القيام بواسطة ممانعة ذلك الغطاء.

و الحاصل أنّه لمّا فرض كلامه في خصوص صاحب السفينة كان ظاهره ما ذكرنا من السؤال عن حال العجز عن الانتصاب بواسطة ممانعة الحجاب الذي يكون فوق الرأس قريبا منه، لا السؤال عن العجز عن القيام بواسطة شدّة حركة

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 5.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 515

السفينة الموجبة لحركة القائم فيها يمينا و شمالا، كما هو مورد الخبر الآخر الوارد في هذا الموضوع و الحاكم فيه بتعيّن القعود بناء على التفسير الذي اخترناه فيه، فلا يتوهّم التنافي بين الخبرين.

و على هذا فإذا فرض عدم تمكّن الملّاح المذكور من الانتقال إلى وسط السفينة أو محلّ آخر يمكنه فيه القيام و لا خروجه من أصل السفينة، كما أنّ ذلك هو مفروض السائل بقوله: لم يقدر صاحبها على القيام، فاللازم بحكم الرواية في حقّه هو الانحناء لا الانتقال إلى القعود و إن كان مقتضى العمومات المتقدّمة ذلك.

و يعلم الحكم في غير الملّاح أيضا من نفس الرواية، حيث إنّ الظاهر منه أنّ ذلك حكمه من جهة كونه لا يقدر على القيام، لا من جهة كونه ملّاحا حتّى نحتاج في غيره إلى تنقيح المناط، هذا بالنسبة إلى العاجز عن الانتصاب.

و أمّا العاجز عن التمكّن في القيام فقد عرفت

أنّ مقتضى العمومات في حقّه تعيّن القعود دون القيام مع المشي، و لكن قد يدّعي دلالة خبر المروزي على العكس «قال: قال الفقيه عليه السّلام: المريض إنّما يصلّي قاعدا إذا صار بالحالة التي لا يقدر فيها أن يمشي مقدار صلاته إلى أن يفرغ من صلاته» «1».

و فيه مضافا إلى ضعف السند قصور الدلالة، فإنّ الظاهر أنّه في مقام بيان حدّ القدرة و العجز الذي أحاله في سائر الأخبار إلى نفس المصلّي مستشهدا بقوله تعالى:

بَلِ الْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ فالمراد أنّه إذا رأى من نفسه أنّه يقدر على المشي مقدار زمان يصلّي فيه فلا يصلح له ادّعاء العجز عن القيام في الصلاة، فهذه أمارة غالبيّة يعلم بها حال المكلّف من حيث القدرة و العجز، و ليس المراد أنّ تكليف

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 6 من أبواب القيام، الحديث 4.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 516

المريض العاجز عن القيام ليس هو القعود، بل الصلاة ماشيا، حتّى ينافي مقتضى العمومات التي عرفت أنّه يعيّن القعود، فلا محيص عن الرجوع إلى العمومات التي عرفت أنّ مقتضاها تعيّن القعود.

نعم هذا مع القطع بخروج المشي عن مسمّى القيام حقيقة، فلو قطع بأنّه من أفراد القيام كان مقتضى العمومات تعيّنه، و لو شكّ كان من الشبهة المصداقيّة لكلّ من دليلي القيام و القعود، و المتعيّن حينئذ هو الاحتياط بإتيان صلاتين إحداهما ماشيا، و الأخرى قاعدا، للعلم الإجمالي بثبوت إحداهما.

ثمّ إنّك عرفت أنّ القيام الصلاتي لا يرد عليه تقييد من قبل هذه الأمور ممّا لا دخل له في مفهوم القيام، و ذلك مثل الاستقلال و الاعتماد على الرجلين على القول باعتباره في مقابل الاعتماد على الرجل الواحدة، و الاستقرار في مقابل الاضطراب،

فمع فقدان هذه الأمور يكون القيام الصلاتي محفوظا، و قد عرفت أنّ الظاهر من بعض أدلّة الاستقلال كونه شرطا للأذكار.

و يترتّب على ما ذكر أنّ السهو عن هذه الأشياء ليس سهوا عن القيام، لعدم كونه مشروطا بها، نعم يكون سهو الاستقلال حال تكبيرة الإحرام سهوا عنها، لكونها مشروطا به، فيكون مبطلا.

و من جملة ما يترتّب على ذلك أنّه لو فرض التمكّن من هذه الأمور في حال الجلوس و لا يتمكّن من بعضها أو كلّها في حال القيام كان من دوران الأمر بين حفظ المطلوبين المطلقين للمولى، أحدهما القيام، و الآخر الاستقلال مثلا، أو الاعتماد على الرجلين، أو الاستقرار، فلا بدّ من ترجيح القيام مع فقد بعض هذه الصفات على القعود مع دركها من مرجّح و إحراز أهمّية للقيام من الخارج.

و قد عرفت وجود النصّ بالأهميّة للاستقرار في ما إذا دار الأمر بينه و بين

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 517

القيام، و هو خبر السفينة المتقدّم، بناء على تفسير الأكفاء فيه بما ذكرنا من الحركة يمينا و شمالا، لا الانقلاب كما تقدّم تقويته.

كما أنّك عرفت وجود النصّ بتعيّن القيام الانحنائي في مقام الدوران بينه و بين الانتصاب الجلوسي، و أمّا غير هذين من سائر صور الدوران فخالية عن النصّ، فلا بدّ من التكلّم فيها بطريق الكلّية و أنّ مقتضى القاعدة فيها هو التخيير بين الأمرين ما لم يحرز الأهميّة في البين، و إلّا فالأهمّ هو المتعيّن أو شي ء آخر؟

و الذي أفاده شيخنا الأستاذ في هذا المقام أنّ المتعيّن في المقام تقديم القيام و أنّه ليس المقام مقام التزاحم حتّى نعمل فيه بقاعدته، و ذلك بعد تقديم مقدّمة، و هي أنّا لا نحتمل في شي ء من

الأمور المعتبرة في المقام كونه شرطا مطلقا بمعنى إطلاقه لحالتي القدرة و العجز للقيام بحسب مقام الإثبات، بل الأمر دائر بعد ملاحظة أدلّتها بين أمور ثلاثة:

الأوّل: أن يكون شرطا اختياريا للقيام.

و الثاني: شرطا كذلك للذكر.

و الثالث: شرطا كذلك للصلاة.

و على كلّ من هذه التقادير لا يرد تقييد من ناحيتها على الأدلّة الدالّة على اعتبار القيام في الصلاة في حقّ الأصحّاء القادرين، بمعنى أنّه لا يلزم منها الحكم بخروج فرد من أفراد الصحيح عن تحت هذه الأدلّة و كونه محكوما بالقعود.

و حينئذ فإطلاق تلك الأدلّة بالنسبة إلى كلّ قادر صحيح محفوظ على حاله، غاية الأمر إنّا نحتمل أن يكون بعض الأصحّاء معتبرا في حقّه قيام خاصّ، و هو ما كان عن اعتماد على الرجلين أو كذا، أو كذا، و بعض آخر بنحو آخر أعني:

القيام بغير هذه الكيفيّة إذا عجز عنه بها، و هذا على تقدير كون تلك الكيفيّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 518

شرطا عند القدرة للقيام.

فلو فرض أنّ تلك الكيفيّة معجوز عنها في القيام و مقدورة في القعود كان التكليف بلا شبهة هو القيام خاليا عنها، لا القعود معها، إذ الفرض أنّها اعتبرت شرطا في القيام اختياريّا، و قد فرض العجز عنها، فسقطت عن الشرطيّة رأسا بواسطة انتفاء الموضوع أعني: القدرة.

نعم لو فرض كونها شرطا للذكر، أو للصلاة عند التمكّن فمجرّد العجز عنها في حال القيام لا يوجب انتفاء الموضوع لها إذا كانت ممكنة حال القعود، فيقع المورد محلّا للكلام السابق، أعني: أنّ هنا مطلوبين للشارع، أحدهما القيام و الآخر الكيفيّة الكذائيّة المعتبرة في الصلاة أو في حال الذكر.

إذا عرفت ذلك فنقول: الحقّ أنّه على هذين الفرضين أيضا ينبغي عدم الإشكال في تقديم جانب

القيام و عدم معاملة التزاحم بينه و بين إحدى تلك الكيفيّات.

و وجهه أنّ الناظر في الأخبار الكثيرة جدّا الواردة في تعيين وظيفة المكلّفين على حسب طبقاتهم من الأقوياء و الضعفاء و الأضعفين بمراتبهم يكاد يقطع بأنّ الشارع قسّم هؤلاء الطبقات من المكلّفين و صنّفهم في صلواتهم، فالصلاة المجعولة في حقّ الأولى هي الصلاة عن قيام، و في حقّ الثانية هي الصلاة عن قعود، و في حقّ الأخيرة هي الصلاة عن اضطجاع على الأيمن أو على الأيسر، أو عن استلقاء، و كلّ هذه مراتب مختلفة من الصلاة، و قد اختصّت كلّ مرتبة منها بطائفة خاصّة، فليس الصلاة المشروعة في حقّ واحدة من هذه الطبقات صلاة في حقّ السائرين.

ثمّ بعد ما صار لسان هذه الأخبار هذا الذي ذكرنا إذا ضممنا إليها الأدلّة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 519

الدالّة على اعتبار الأجزاء و الشرائط في الصلاة و أنّه يعتبر في الصلاة كذا و كذا جزءا و كذا و كذا شرطا فلا بدّ من اعتبار هذه الأجزاء و الشرائط في صلاة كلّ من الطبقات السابقة بحسب ما هو المقرّر في حقّه بدون التعدّي عمّا هو وظيفته، فإذا كان واحد من تلك الشروط أنّه يعتبر في الصلاة الاستقرار أو في الذكر في حال الصلاة الاستقرار فلا بدّ من رعاية هذا الشرط في صلاة كلّ طبقة بحسب ما هو المقرّر في حقّه و مع حفظه، لا مع قطع النظر، فليس الاستقرار الجلوسي حفظا لهذا الشرط في حقّ من كان وظيفته الصلاة قياما إذا فرض أنّه غير متمكّن من الاستقرار في حال القيام، مع تمكّنه منه حال الجلوس، و لكنّه من الأقوياء على القيام، و قد فرضنا أنّ الشارع جعل صلاة

الأقوياء هي الصلاة عن قيام.

نعم لو فرض أنّ الشارع لم ينوّع المكلّفين إلى أنواع و لم يقل: إنّ النوع الكذائي يصلّي كذا و الكذائي يصلّي كذا، و هكذا، بل لاحظ جميع المكلّفين في حدّ سواء و جعل في حقّهم الصلاة الواحدة و اعتبر فيها عدّة أمور جزءا و شرطا فجعل منها: القيام عند القدرة، و القعود بدله عند العجز، و الاضطجاع بدله عند العجز، و الاستلقاء بدله عند العجز. و منها: الاستقرار إمّا شرطا لنفس الصلاة أو لأذكارها، ثمّ دار أمر المكلّف بين حفظ أحد الأمرين المعتبرين في الصلاة في عرض واحد إمّا القيام، و إمّا الاستقرار، جاء حينئذ محلّ إعمال قاعدة باب التزاحم، و لكنّه خلاف الواقع و خلاف ما يقطعه الإنسان بمراجعة الأخبار، فبمراجعتها يستريح الإنسان من هذه الجهة و أنّ المتعيّن تقديم جانب القيام.

نعم هذا على القاعدة، و لا ينافيها ورود النصّ الخاصّ في مورد على خلافها، كما ادّعينا سابقا في خبر السفينة الخفيفة التي يوجب القيام فيها إكفائها، مضافا إلى إمكان أن يقال بعدم منافاتها مع القاعدة التي ذكرنا أيضا، و ذلك لأنّ حركة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 520

السفينة على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أن يكون مجرّد كونها خارجة عن الاعتدال و السكون، فيوجب ذلك حركة البدن و خروجه عن الطمأنينة المعتبرة في الصلاة.

و الثاني: أن يكون بنحو الأكفاء و القلب الموجب لسقوط أهلها في الماء.

و الثالث: ما لم يكن بذلك الحدّ و لا بهذا، بل كانت حركة عنيفة موجبة لتعسّر القيام فيها إمّا لعدم تمكّن الإنسان من ضبط نفسه عن السقوط، فيوجب ذلك قيامه بعد السقوط مرّات عديدة يحصل بها المشقّة، و إمّا لإحداثه دوران الرأس و بعض الحالات العسرة

التحمّل في الشخص، فإذا حملنا الرواية على المعنى الأوّل كانت منافية.

و أمّا لو حملناها على الأخير فلا منافاة، إذ المراد من التعذّر الوارد في الأخبار العامّة ليس العجز العقلي عن القيام، بل العرفي الذي هو المشقّة التي لا تتحمّل عادة.

و على هذا فمورد تلك الرواية و ما ضاهاها من سائر الأخبار الواردة في الصلاة في السفينة المتحرّكة بتعيين القعود هو صورة العجز العرفي عن القيام، و هذا غير مناف مع تلك الأخبار العامّة.

فتحقّق أنّه لا تظهر ثمرة بين الاحتمالات الموجودة في شرطيّة هذه الكيفيّات المعتبرة من كونها شرطا اختياريّا للقيام و للذكر أو للصلاة في مسألة الدوران بين واحدة منها و بين القيام، بل على كلّ تقدير يتعيّن القيام كما أوضحناه.

نعم يظهر الثمر بينها في السهو عن واحدة منها مع التمكّن، كما إذا سها المتمكّن عن القيام و الاستقرار مثلا و لم يستقرّ إمّا في حال قيامه لتكبيرة الإحرام، أو في حال قيامه المتّصل بالركوع، فبناء على كونه شرطا للقيام يوجب ذلك بطلان القيام الركن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 521

أو الشرط له، و هو موجب لانتفاء الركن الموجب للبطلان. و بناء على كونه شرطا للذكر فلا يضرّ سهوه في حال القيام المتّصل بالركوع، و إنّما يضرّ في حال القيام لتكبيرة الإحرام، لأنّه شرط التكبيرة، و بانتفائه ينتفي مشروطه و هو ركن، و بناء على كونه شرطا للصلاة لا يضرّ سهوه في شي ء من الموردين فضلا عن غيرهما.

هذا كلّه في التعارض بين واحدة من هذه الحالات و بين القيام، و قد عرفت عدم المعاملة بينهما معاملة المتزاحمين.

و أمّا إذا كان التعارض بين نفس هذه الحالات بعضها مع بعض، كما لو دار الأمر بين الاستقلال

و بين الاستقرار إمّا مع حفظ القيام في كليهما، أو بدونه كذلك، فهاهنا محلّ للتزاحم، لوجود إطلاق المادّة من الطرفين.

و محصّل الكلام حينئذ أنّ التزاحم إذا كان بين التكليفين النفسيين كإنقاذ الغريقين فواضح أنّ مقتضى القاعدة العقليّة في مقام حفظ أغراض المولى بقدر الإمكان هو التخيير مع قطع التساوي، و الترجيح مع قطع الرجحان و الأهمّية.

و أمّا مع الشكّ و احتمال الأهميّة في جانب فيمكن أن يقال أيضا بالتخيير، نظرا إلى البراءة عن لزوم خصوص الطرف المحتمل أهميّته، إذ لو كان لكان عليه البيان، فحيث لم يقم دليل عليه كان العقاب عليه بلا بيان.

و أمّا التزاحم في الغيريين كما هنا فالحاكم فيه بالتخيير و الترجيح لا بدّ و أن يكون هو الشرع، فإنّ إطلاق المادّة في كلّ منهما ليس مقتضاه عقلا جعل البدل بالجعل العقلي، و ليس للعقل هذا المعنى، إذ لعلّ ذلك يوجب سقوط أصل التكليف بالمركّب رأسا، و الحاكم بالبدل إنّما هو الشارع.

و حينئذ فنقول: للمكلّف أحوال، فتارة نعلم الأهمّ و أنّه ذاك أو هذا،

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 522

و اخرى نعلم المساواة، و ثالثة لا نعلم، و حينئذ تارة نحتمل الأهميّة في واحد معيّن، و اخرى نحتملها في كلّ منهما، فإن علم الحال فلا كلام، و إن شكّ و احتمل الأهميّة في واحد معيّن فمقتضى القاعدة هو الاشتغال و لزوم ذلك الواحد المعيّن، لأنّ المقام من الدوران بين التخيير و التعيين الشرعيين، و ليس كالمقام السابق، أعني: صورة التزاحم بين النفسيّين من الدوران بين التعيين و التخيير العقليين، و قد حقّق في محلّه أنّ مقتضى القاعدة في الدوران بين الشرعيّين الاحتياط.

و لو كان المحتمل أهميّة كلّ منهما فالواجب الإتيان بصلاتين، إحداهما

مع الاستقلال مثلا، و الأخرى مع الاستقرار، للعلم الإجمالي في كلّ منهما بأنّه إمّا تعلّق به الخطاب التعييني أو التخييري، هذا، و يظهر من شيخنا المرتضى قدّس سرّه معاملة التزاحم مع جميع الصور، سواء كان بين نفس هذه الحالات، أم بينها و بين القيام، و لم يتّضح علينا وجهه.

و هاهنا مسائل:
اشارة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 523

الاولى لا إشكال في أنّ التكليف بالقيام يتبدّل عند تعذّره أو تعسّره

بما لا يتحمّل عادة بالقعود، و هو بالاضطجاع، و هو بالاستلقاء.

إنّما الكلام في هذا المقام في أنّه هل يجوز البدار للعاجز في أوّل الوقت في كلّ من هذه المراتب مع العلم أو الرجاء لحصول المرتبة الأعلى في ما بعده قبل انقضاء الوقت أو لا؟

الحقّ هو الثاني، و ذلك لأنّ التنويع للتكليف الواحد إلى نوعين أو أزيد تارة يكون إلى مثل عنواني المسافر و الحاضر من العناوين التي لا مدخليّة لها في حسن الخطاب و عدمه، و لا إشكال أنّه حينئذ ظاهر في أنّ عين ما يفيده فعل واحد من هذين العنوانين من المصلحة حاصلة بفعل العنوان الآخر بلا تفاوت أصلا.

و يترتّب عليه جواز البدار و جواز تبديل كلّ منهما بالآخر اختيارا و أنّه لو فات الصلاة في حال أحدهما فالمتّبع في قضائها حال الفوت، فإن كان مسافرا يجب قضاؤها قصرا و لو كان في الحضر، و إن كان حاضرا يجب قضاؤها تماما و لو كان في السفر.

و اخرى يكون إلى مثل عنواني القدرة و العجز ممّا لها مدخليّة في الحسن

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 524

و القبح للخطاب، فالظاهر عند العرف من التنويع حينئذ أنّهما متفاوتان في الوفاء بالمصلحة و أنّ الفعل المعلّق على عنوان القادر هو الوافي بتمام المصلحة اللزوميّة، و الآخر المعلّق على عنوان العجز واف بالناقص منها، لا بتمامها.

أ لا ترى أنّ من فات منه الصلاة في حال يكون تكليفه التيمّم فليس قضاؤها عند القدرة على الماء بالصلاة مع التيمّم، أو من فاتته و كان تكليفه الإتيان بها مستلقيا فلا يعتبر في قضائها الاستلقاء و لو جاء به في حال القوّة و السلامة.

و لو

كان الأمر في هذين العنوانين أيضا كما يفهمونه في عنواني الحاضر و المسافر لكان اللازم في القضاء مراعاة حال الفوت، فإذا كان اللازم مراعاة حال الإتيان بالقضاء فهذا أقوى شاهد على كون عمل العاجز ناقصا و قاصرا عن الوفاء بمقدار مصلحة عمل القادر و أنّ الزيادة لازمة الاستيفاء، و لازم هذا الاستظهار عدم انعقاد الظهور للكلام في إطلاق العجز بالنسبة إلى غير المستوعب منه للوقت.

و على هذا فلو علم بزوال العذر في أثناء الوقت لم يجز له البدار، لعدم كونه موضوعا، و لو كان شاكّا جاز له بمقتضى استصحاب بقاء عذره إلى آخر الوقت، لكن لو انكشف الخلاف و زال العذر في الأثناء وجب الإعادة.

فإن قلت: ينافي ما استظهرته روايتان: الاولى ما ورد في من قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عريانا و حضرت الصلاة كيف يصلّي؟ «قال عليه السّلام: إن أصاب حشيشا يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع و السجود، و إن لم يصب شيئا يستر به عورته أومأ و هو قائم» «1».

و بمعناه بعض روايات أخر، و من المعلوم أنّ إطلاق كلام السائل:

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 50 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 1.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 525

«و حضرت الصلاة» شامل لاتّفاق ذلك في أوّل الوقت لو لم نقل أنّه الظاهر منه.

و مع ذلك رخّصه الإمام للصلاة عاريا موميا و هو أيضا تكليف العاجز، لقوله عليه السّلام:

«و إن لم يصب شيئا يستر به عورته، فيعلم منه أنّ مجرّد التعليق على عنوان الاضطرار و العجز لا ينافي مع جواز البدار.

و الثانية: ما ورد في أخبار الصلاة في السفينة من رواية ابن أبي عمير عن أبي أيّوب «قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه

السّلام: إنّا ربما ابتلينا و كنّا في سفينة فأمسينا و لم نقدر على مكان نخرج فيه، فقال أصحاب السفينة: لسنا نصلّي يومنا ما دمنا نطمع في الخروج، فقال عليه السّلام: إنّ أبي كان يقول: تلك صلاة نوح عليه السّلام، أو ما ترضى أن تصلّي صلاة نوح؟ قال: فقلت: بلى جعلت فداك، فقال عليه السّلام: لا يضيقنّ صدرك، فإنّ نوحا صلّى في السفينة، قال: قلت: قائما أو قاعدا؟ قال عليه السّلام: بل قاعدا» «1». الحديث، حيث إنّه ظاهرها الرخصة في الصلاة في السفينة قاعدا، مع أنّ أصحابه كانوا يقولون: لسنا نصلّي يومنا ما دمنا نطمع في الخروج.

قلت: أمّا الرواية الأولى فيمكن أن يقال بأنّ الإطلاق فيها منزّل على الغالب بالنسبة إلى حال من غرق و بقي عريانا في ساحل البحر، أو قطع عليه و بقي في الصحراء كذلك من كونه بعيدا عن المعمورة و مأيوسا عن تحصيل الساتر إلى آخر الوقت، مضافا إلى أنّه لو سلّمنا الإطلاق بالنسبة إلى من يرجو وجدان الساتر في الأثناء فنقول: إنّ غايته الترخيص و لو كان بمقتضى استصحاب بقاء العذر.

و من هنا يظهر الجواب عن الرواية الثانية، فإنّه إذا كان مقتضى الحكم

______________________________

(1) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب القيام، الحديث 9، و فيه و في التهذيب: بل قائما. راجع التهذيب 3: 187، الحديث 376.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 526

الظاهري الاستصحابي جواز الصلاة في أوّل الوقت كان الحكم في الروايتين قابلين للحمل على ذلك، فليستا بصريحتين في الإجزاء عند انكشاف الخلاف، و هو الذي نحن بصدد إنكار استظهاره من الروايات.

و الحاصل أنّ مدّعانا أنّ الناظر في الأدلّة يكاد يطمئنّ بظهورها في عدم عرضيّة عنواني الاختيار و الاضطرار.

و يترتّب

عليه أيضا عدم جواز تحصيل الاضطرار اختيارا، نعم لو عصى و حصّله كانت صلاته صلاة المضطرّ و مسقطة للقضاء، و ذلك لأنّه مقتضى التنزيل لفعل المضطرّ منزلة فعل المختار، فإنّه و إن كان الفوت متحقّقا بناء على ما ذكرنا، إلّا أنّه نزّله الشارع منزلة عدم الفوت و منزلة المدرك للصلاة، و التنزيل المذكور لا يفيد بالنسبة إلى رفع العقوبة، لأنّه عقلي، و ينفع بالنسبة إلى رفع القضاء.

و يمكن أن يقال بالفرق بين ما إذا سيق الخطاب أوّلا غير مقيّد بعنوان الاختيار و القدرة، ثمّ ورد الخطاب الثانوي الاضطراري معلّقا بعنوان العجز عن المكلّف به الأوّلي، ففي هذه الصورة إطلاق المادّة للخطاب الأوّل محفوظ في حال العجز و إن كان الهيئة مرتفعا، و لازمة ما ذكرنا من عدم جواز البدار و تقييد الخطاب الثانوي بالعجز المستوعب للوقت عقلا و إن كان صورة العبارة للأعمّ منه و من العجز القبلي في التبعيض، و بين ما إذا سيق الخطابان مقيّدين و كان أحدهما و هو التكليف بالتامّ مشروطا بالقدرة، و الآخر الذي هو التكليف بالناقص مشروطا بالعجز، كما في المقام، حيث ورد: القادر يصلّي قائما، و العاجز عن القيام يصلّي قاعدا، ففي مثل هذه الصورة يبقى إطلاق المادّة في دليل الفعل التامّ مقرونا بما يصلح للقيديّة، إذ يحتمل أن تكون القدرة قيدا شرعيّا، و عليه فيكون ظاهر الخطاب الثانوي الشامل للعجز المستوعب متّبعا و حاكما

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 527

بأنّ القدرة قيد شرعي للخطاب الأوّلي.

فالمكلّف بحسب إدراك المصلحة منوّع على نوعين، و يختلف كيفيّة المصلحة في حقّه ثبوتا بحسبهما، فالقادر مصلحته الأوّليّة في الصلاة القياميّة، و العاجز مصلحته الأوّليّة في الصلاة القعوديّة بدون نقصان عن القسم

الأوّل، و لازمة جواز البدار و تحصيل الاضطرار لو لا حرمته النفسيّة اختيارا.

و أمّا ما استشهدنا به لكون التكليف الاضطراري من قبيل القسم الأوّل من لزوم تبعيّة القضاء لحال الفوت لو كان بالنحو الثاني مع وضوح فساده فيمكن التفصّي عنه بأنّ بعض الشروط شروط للمصلّي، و بعضها شروط للصلاة، فإذا كان الشرط من قبيل الأوّل فلا بدّ من رعاية حال المصلّي حين ما يؤدّي الصلاة من دون رعاية حال الفوت.

و لهذا لو قضى الرجل صلاة المغرب للمرأة يقضيها جهريّة، مع كونها مكلّفة بالإخفات و بالعكس، و أمّا باب صلاة المسافر فقد قامت الأدلّة بأنّهما من قيود الصلاة، لا المصلّي، فلا يختلف الحال فيها باختلاف المصلّين.

و بالجملة، فمقتضى القاعدة إلى أن يجي ء الدليل المخرج هو الفرق بين القيود المأخوذة في المصلّي و المأخوذة في الصلاة، و ما نحن فيه من قبيل الأوّل.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 528

المسألة الثانية في حكم من يقوى على القيام حال القراءة بالخصوص،

مثلا دون حال الركوع أو القيام المتّصل بالركوع أو بالعكس.

و لا إشكال في أنّ أدلّة الطرفين بانفرادها لا تشمل بإطلاقها هذه الصور، لأنّها فروض نادرة، و الأدلّة منصرفة عنها، و لكن يمكن استفادة حكمها من مجموع الأدلّة، أعني: أدلّة القيام و أدلّة القعود، كما يستفاد حكم صلاة من جلس في السفينة أو المركب السريع السير و كان في أوّل صلاته غير متجاوز عن حدّ الترخّص و في آخرها متجاوزا عنها أو بالعكس، فإنّ أدلّة كلّ من السفر و الحضر بانفرادها غير متناولة لهذين الفرضين، و لكن إذا نظرنا إلى مجموع الدليلين يعلم حكمهما من المجموع و أنّ الصلاة مجعولة في حقّهما كسائر المكلّفين، و لا يجب عليهما الصبر إلى حدّ يكون تمام الصلاة في السفر أو تمامها في

الحضر، و أمّا الصلاة التي بعضها في السفر و بعضها في الحضر فغير مشروعة، فإنّ هذا يكاد يقطع الإنسان بخلافه.

و هكذا الكلام في ما نحن فيه، لا يكاد يشكّ الإنسان في أنّ الصلاة في حقّ هذا الشخص المفروض له إحدى الحالتين في بعض صلاته و الأخرى في الآخر

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 529

مشروعة، و ليست المشروع خصوص الصلاة التي تمامها وقعت في حال القدرة، أو تمامها وقعت في حال العجز، بل الصلاة الواقع بعضها في إحدى الحالتين و الآخر في الأخرى أيضا مشروعة كمشروعيّة أختيها بلا فرق، و هذا ممّا يستفيده أهل العرف من ملاحظة الدليلين معا و إن كان كلّ واحد بانفراده غير واف بالدلالة، هذا.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 530

المسألة الثالثة في حكم من يدور أمره بين أن يقوم في جزء من صلاته

حتّى يعجز عنه في الجزء اللاحق، و بين أن يقعد في السابق حتّى يقوم في اللاحق، فهل هو مخيّر إلّا أن يعلم الأهمّية في أحد من الطرفين، كما إذا كان أحد القيامين واجبا غير ركن، و الآخر ركنا أو شرط ركن، أو أنّ اللازم مطلقا هو تقديم الجزء الأوّل بإتيانه قائما، و تعيّن القعود للثاني.

من أنّ الترتّب بين الجزءين إنّما هو في الوجود فقط دون الوجوب، فأجزاء الصلاة إنّما توجد جزءا فجزءا، لا أنّها توجب شيئا فشيئا، بل الوجوب يتعلّق بها في عرض واحد و التدرّج في مقام امتثالها و إتيانها في الخارج، و إذن فكما أنّ القدرة على القيام الأوّل عقلا موجودة، كذلك على القيام الثاني أيضا القدرة العقليّة موجودة و لو بأن يقعد في الجزء الأوّل حتّى يحصل القدرة حين الثاني، و حينئذ فلا ترجيح للأوّل لمحض الترتّب في الوجود ما لم يكن أهمّية في جانبه، كما أنّه

مع الأهميّة في اللاحق يتعيّن تقديم جانبه.

و من أنّ القدرة هنا شرط شرعي على ما سبق في المسألة الاولى، لا عقلي، و الكلام المتقدّم إنّما هو وارد مع فرض إطلاق الخطاب بالقيامين و كون القدرة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 531

بالنسبة إلى كليهما عقليّة، فإنّه لا فرق في القدرة عند العقل بين ما كانت حاصلة فعلا و بين ما أمكن تحصيله بمقدّمة، فإنّ المقدور بالواسطة أيضا مقدور.

و أمّا إذا فرضنا أنّ الخطاب في كليهما بحسب الشرع مشروط بالقدرة حاله فلا يخفى أنّ التكليف بالأوّل منجّز فعليّ، لحصول شرطه و هو القدرة فعلا، و التكليف بالقيام الثاني لم ينجّز بعد، لعدم حصول القدرة حال العمل بالنسبة إليه بعد.

نعم يمكن للمكلّف تحصيله بالقعود في الجزء الأوّل، لكن قد تحقّق في الأصول أنّ تحصيل شرط الوجوب غير واجب، بل يجوز الممانعة عن حصوله عمدا و اختيارا، فإذا صرف قدرته في الجزء الأوّل امتثالا للتكليف الفعليّ المنجّز فقد فوّت على نفسه شرط حصول الوجوب بالنسبة إلى القيام الثاني، و هو ممّا لا مانع عنه، و أمّا لو قعد في الجزء الأوّل فقد فعل المحذور و هو ترك امتثال الواجب المطلق الحاصل شرطه، فالمتعيّن بحكم العقل هو الأوّل، هذا.

و لشيخنا المرتضى قدّس سرّه في هذا المقام كلام لم نفهم ما أفاده به، قال قدّس سرّه بعد نقل القول بتقديم القيام للقراءة إذا دار الأمر بين القيام حينها و بين القيام للركوع معلّلا بقدرته على القيام حينها فيجب عليه، للعمومات، فإذا طرأ العجز ركع جالسا ما هذا لفظه:

فإن قلت: إنّ وجوب الأجزاء ليس كوجودها على وجه الترتيب، بل وجوبها في ضمن المركّب يتحقّق قبل الشروع، فعند كلّ جزء يكون هو

و ما بعده سواء في صفة الوجوب، و المفروض ثبوت العجز عن أحدهما لا بعينه، فيتّصف المقدور و هو الواحد على البدل بالوجوب، و هو معنى التخيير، إلّا أن يوجد مرجّح كما عن المبسوط و السرائر، و محتمل جماعة في جانب القيام للركوع لإدراك الركوع القيامي و القيام المتّصل بالركوع، و ربما يؤيّد بما ورد في الجالس من أنّه إذا قام في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 532

آخر السورة فركع عنه احتسب له صلاة القائم.

قلت أوّلا: إنّ الجزء الثاني إنّما يجب إتيانه قائما بعد إتيان الواجبات المتقدّمة عليها التي منها القيام، و الفرض أنّ إتيانه قائما كذلك غير ممكن، فلا يقع التكليف به، فتعلّق الوجوب بالأجزاء و إن لم يكن فيه ترتيب كنفس الأجزاء، إلّا أنّه إنّما يتعلّق بكلّ شي ء مقدور في محلّه، و هذه قاعدة مطّردة في كلّ فعلين لوحظ بينهما الترتيب شرعا، ثمّ تعلّق العجز بأحدهما على البدل، كما في من نذر الحجّ ماشيا فعجز عن بعض الطريق، و كما في من عجز عن تغسيل الميّت بالأغسال الثلاثة، فإنّه يجب في الموضعين و أمثالهما إتيان المقدار المقدور بحسب الترتيب الملحوظ فيهما عند القدرة على المجموع.

و ثانيا: إنّ المستفاد من قوله عليه السّلام: «إذا قوي فليقم» و نحوه أنّ وجوب القيام في كلّ جزء و عدمه يتبع قدرة المكلّف عليه و عجزه عنه في زمان ذلك الجزء، و ما ذكر في السؤال إنّما يستقيم إذا كان تقييد الواجبين المترتّبين في الوجود دون الوجوب بالقدرة بمجرّد اقتضاء العقل له الحاكم بكفاية ثبوت القدرة في جزء من وقت الوجوب، و لم يرد دليل لفظي يدلّ على اشتراط وجوب الفعل بالقدرة عليه عند حضور زمانه المستلزم

لسقوطه عمّن عجز عنه حينئذ و إن كان يقدر قبله و بعد زمان الوجوب على ما يتمكّن معه من الفعل في زمانه، و حينئذ فيسقط ما ذكر من الترجيح، إلى آخر ما أفاده قدّس سرّه.

فإنّ الجواب الثاني عن السؤال بما أفاده من قوله: و ثانيا إلخ و إن كان بحسب الظاهر راجعا إلى ما قلناه من كون القدرة شرطا شرعيّا لا عقليّا و إن كان مخالفا لما قلناه في الاستدلال، فإنّا إنّما نستدلّ على ذلك بالآية الشريفة المشتملة على القيام و القعود و الجنوب بعد تفسيرها بأنّ الأوّل للصحيح، و الثاني للمريض، و الثالث

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 533

للأضعف، لا بالخبر الذي ذكره، فإنّ الحقّ عدم دلالته، لوروده في مقام آخر أعني:

في بيان تحديد العجز و القدرة، فلا يصحّ الاستدلال به على اشتراط الوجوب في كلّ جزء بثبوت القدرة حينه.

و لكنّ الجواب الأوّل لم نفهم كيف يدفع به الإشكال، فإنّ الترتيب بين الأجزاء لا يخلو حاله إمّا يكون معتبرا في الصلاة في عرض سائر الأجزاء، و إمّا في نفس الأجزاء، فيكون القيام في الجزء الثاني واجبا مقيّدا بكونه عقيب ما تقدّمه الذي منه القيام في الجزء المتقدّم.

فعلى الأوّل لا إشكال في أنّه مع العجز عن الجمع و فرض كون القدرة ممحّضة في الشرطيّة العقليّة، لا ترجيح في البين إلّا مع الأهميّة، و على الثاني فلا إشكال في سقوط هذا القيد، أعني: ترتّب القيام الثاني على القيام الأوّل عند العجز عنه، فإذا دار الأمر بين حفظ أصل القيام الثاني و بين حفظ القيام الأوّل، فلا ترجيح أيضا.

و الحاصل أنّا لم نفهم مرامه قدّس سرّه، كما لم نفهم مرام بعض الأعاظم قدّس سرّه، حيث إنّه

بعد ذكره كلام الشيخ الذي تقدّم بطوله و استشكاله عليه نظير ما استشكلنا قال ما حاصله: إنّه يمكن أن يقال بلزوم تقديم الجزء الأوّل و صرف القدرة فيه و الفرق بينه و بين المتزاحمين المشتركين في الزمان بلا ترتيب زماني بينهما.

وجه الفرق أنّ المكلّف عند اشتغاله بأحد الضدّين اللذين لا يعلم بأهمّية أحدهما من الآخر لا محالة يعجز عن الاشتغال بالضدّ الآخر، فإطاعة أمر المولى صارت موجبة لامتناع إطاعة أمره الآخر.

و أمّا إذا كانا مترتّبين في الوجود فالضدّ المتأخّر ليس بوجوده مانعا عن الضدّ المتقدّم، لفرض تأخّر وجوده، و المتأخّر لا يمانع المتقدّم، فلا محالة يكون

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 534

الممانعة لإرادته أعني: إرادة المكلّف إتيانه في ما بعد، فيوجب هذه الإرادة إيجاد مقدّمته و هو ترك القيام المتقدّم، فهو إنّما يترك إطاعة أمر القيام الأوّل الذي تنجّز عليه مع فرض قدرته فعلا عليه لمحض إرادته إطاعة الواجب الذي لا يقدر عليه إلّا على تقدير ترك الأوّل، و هذا ممّا لا يصحّ الاعتذار به في مقام ترك الواجب المنجّز، و العقل لا يجزم بجوازه ما لم يثبت لديه مرجّح شرعي، هذا محصّل ما ذكره قدّس سرّه.

و لا يخفى أنّه في المتزاحمين المترتّبين اللذين علم أهميّة المتأخّر منهما كما أنّه يعتذر في ترك الأوّل بأنّه مريد لإحراز إطاعة المولى و هذا وجه مسموع منه لدى العقل، كذلك عند العلم بالتساوي أو عدم معلوميّة الحال يعتذر في تركه أيضا بأنّه مريد لإطاعة الأمر المولوي الذي يتساوى مع هذا، أو لا يعلم الحال بينهما، فإن كان العذر بالإرادة المذكورة مسموعا مع القدرة الفعليّة في الفرض الأوّل فليكن مسموعا في الفرض الثاني أيضا، فإنّه أيضا إرادة إطاعة

أمر المولى و اتّباع مرامه.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 535

المسألة الرابعة لو تجدّد عجز القائم قعد في أيّ فعل كان،

و هل يجب عليه أن يقرأ في حال الهويّ إذا كان ذلك قبل القراءة أو في أثنائها؟ الذي قوّاه شيخنا المرتضى قدّس سرّه هو الثاني، معلّلا بعموم أدلّة القيام و لو مع الانحناء التامّ، غاية الأمر عدم التمكّن معه من الاستقرار بمعنى عدم الحركة، و حيث إنّ الدليل على أصل وجوبه هو الإجماع و هو مفقود هنا فلا مانع من جهته، مضافا إلى أنّه مع فرض الدليل أيضا يكون من باب الدوران بين الاستقرار و بين القيام، و قد تقدّم قوّة ترجيح الثاني، انتهى ما أوردنا من نقل مرامه قدّس سرّه.

لكن استشكل عليه شيخنا العلّامة الأستاذ دام ظلّه على رءوس المحصّلين بأنّه لو فرض إمكان القيام بلا مشقّة عرفيّة في واحد من الحدود المتوسّطة مع وقفة ما بحيث يوجب صدق القيام الانحنائي عليه لكان ما ذكره قدّس سرّه حسنا.

و الجواب عن معارضة الاستقرار كان حينئذ بما اخترناه سابقا من أنّه إمّا شرط للقيام، و إمّا للصلاة، و إمّا للقراءة، فعلى الأوّل يكون ساقطا، لكونه شرطا عند التمكّن لا مطلقا، و على الأخيرين كذلك أيضا، لما ذكرنا من لزوم اعتبار الشرائط و الأجزاء لصلاة كلّ طائفة من المصلّين على حسب ما هو الوظيفة المقرّرة

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 536

في حقّها، فإذا كانت الوظيفة المقرّرة في حقّ شخص هو القيام الانحنائي فاللازم ملاحظة التمكّن من الاستقرار و العجز عنه في هذا الموضوع، لا في موضوع آخر ليست وظيفة لهذه الطائفة.

و لكنّ العمدة في المقام أنّ الشخص المذكور الكائن بين الحدّين القيام و القعود من غير وقفة له في حدّ من الحدود و الفرض ثبوت

المشقّة العرفيّة التي لا يتحمّل عادة لو كلّف بالوقوف في واحد من الحدود لا يصدق عليه اسم القائم، فإنّه عبارة عن الواصل إلى الحدّ، بل حال هذا أسوأ من حال الماشي، فلو قلنا بأنّ الماشي قائم لا نقول بذلك في هذا الشخص، و ذلك لأنّ الماشي واصل إلى حدّ خاصّ، غاية الأمر أنّ بدنه متحرّك بالمشي، و أمّا هذا فليس له حدّ خاصّ، و إنّما حدّه بمجرّد الفرض، و إلّا فواقعه هو الكون بين الحدّين، و هذا خارج عن مفهوم القيام.

و المفروض قيام الأدلّة على أنّ العاجز عن القيام بالمعنى الشامل للمشقّة التي لا تتحمّل عادة يكون صلاته عن قعود، و لو كان هذا المقدار اليسير الذي هو في حال الهويّ محلّا للاعتناء للزم التنبيه عليه في واحد من الأخبار و أنّه لو فرض اتّفاق القيام للمريض بالمشقّة التي لا يتحمّل فأراد الهويّ و الصلاة قاعدا فيجب عليه أن يكبّر و يقرأ في المقدار الممكن من أوّل شروعه في الهويّ إلى قراره في القعود، مع أنّه ليس منه عين و لا أثر في واحد من الأخبار.

و ربما يوجب ذلك اطمئنانا للإنسان بأنّ تكليف العاجز عن القيام هو القعود، و بعد معلوميّة أنّ الهويّ ليس قياما و لا قعودا يفهم أنّه لو اتّفق تحقّقه في الأثناء يجب عليه الكفّ عن القراءة إلى أن يستقرّ قاعدا ثمّ يقرأ، و اللّٰه العالم.

و أمّا القول بأنّ الهويّ و إن لم يكن قياما، لكنّه ميسور القيام فقد تقدّم عدم المساس للقاعدة بهذا المقام، فراجع، هذا، و لكن حيث إنّ القول بتعيّن القراءة في

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 537

الهويّ محكيّ عن الأكثر، كما عن الروض نسبته في الذكرى على

المحكيّ إلى الأصحاب و إن حكاه في الدروس على ما حكي عنه بلفظ القيل فيجمع بينهما بإرادة مشايخه المعاصرين و المقاربين، فلا ينبغي ترك الاحتياط.

و كيفيّة الاحتياط بناء على التوسعة كما قوّيناه أن يصبر حتّى يطمئنّ جالسا، ثمّ يقرأ، لأنّ حاله حينئذ حال من يعلم بطروّ الاضطرار عليه بعد ساعة مثلا، فكما لا يجب عليه المبادرة إلى الصلاة الاختياريّة بناء على المبنى المذكور، فكذلك في مقامنا لا يجب عليه المبادرة إلى القراءة هاويا و لو قلنا: إنّه محسوب من القيام واقعا، بل يصبر حتّى يصير مضطرّا فيعمل بوظيفة المضطرّ.

و أمّا لو بنينا على التضييق و وجوب المبادرة في الفرع المذكور فالاحتياط حينئذ يحصل بالقراءة هاويا بقصد القراءة المطلقة، ثمّ إعادتها بعد الاستقرار في الجلوس كذلك أيضا.

نعم على الأوّل يشكل الحال في ما إذا استلزم تأخير القراءة إلى حال القرار في القعود السكوت الطويل المنافي للصلاة، فإنّه حينئذ يجب عليه الاشتغال بالأذكار أو القرآن فرارا عن السكوت الطويل.

ثمّ لو بنينا على لزوم القراءة حال الهويّ لو عصى و لم يأت بها إلّا بعد القرار في القعود فالأقوى الحكم بالصحّة، لأنّ حاله حينئذ حال من علم بطروّ العجز عليه في آخر الوقت و عصى و أخّر الصلاة إلى آخره، فإنّه و إن كان عاصيا بتأخيره، لكن لا إشكال في صحّة صلاته المأتيّ بها حال الاضطرار، و كذلك الحال في مقامنا، فإنّ الجزء الذي قد أتى به في حال القعود قد وافق فيه تكليفه عند الاضطرار، غاية الأمر عصيانه بالتأخير.

نعم بناء على مبنى التوسعة كما هو الأقوى يسقط هذا البحث من أصله كما هو

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 538

واضح، إذ لا عصيان بالتأخير أصلا، هذا.

و لو

تجدّد القوّة للعاجز فإمّا يكون ذلك قبل الركوع قبل القراءة أم بعدها أم في أثنائها، و إمّا يكون بعده قبل الذكر و الطمأنينة حاله أم بعده، فإن بنينا على عدم التوسعة و أنّ الموضوع هو العجز المستوعب انكشف بطلان الصلاة في جميع الصور.

و إن قلنا بالتوسعة فلا إشكال في صورة اتّفاق ذلك قبل الركوع، لأنّه يأتي بالقراءة أو بتمامها إن كان قبلها أو قبل تمامها، و إن كان بعد تمامها يقوم لأجل تحقّق القيام المتّصل بالركوع، و تكون القراءة المأتيّ بها حال القعود مجزية، و لا يجب إعادتها بعد القيام، و هذا واضح.

إنّما الكلام في ما إذا اتّفق ذلك في الركوع و قبل الذكر الواجب و الطمأنينة بمقداره، فهل يجب عليه القيام منحنيا متقوّسا إلى حدّ الركوع القيامي لأجل تحقّق الذكر و الطمأنينة فيه، أو يجب إبقاء الركوع الجلوسي لإتيانهما فيه.

و على كلّ تقدير لا يجوز الانتصاب ثمّ الركوع عنه، و لو فعله بطلت الصلاة لزيادة الركن، كما عن الروض و الذكرى، بل ركنين كما عن جامع المقاصد، بل و لو لم نقل بإبطال الزيادة الركنيّة، لكونه قد نقص بعض صلاته عمدا و هو الذكر و الطمأنينة في ركوع الصلاة، لمعلوميّة أنّ هذا الركوع الثانوي وجود لغو ليس بركوع صلاتي، فقد فوّت الذكر و الطمأنينة بتفويت محلّهما الشرعي.

و أمّا زيادة الركنين كما عن جامع المقاصد فالظاهر أنّ مراده بالركن الآخر هو القيام المتّصل بالركوع، و يمكن الخدشة فيه بأنّ الزيادة فيه غير معقول بعد فرض التقييد باتّصال الركوع الصلاتي، فإنّه غير متحقّق في الوجود الثانوي و لو اتّصل بصورة الركوع.

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 539

و على كلّ حال فالوجهان المتقدّمان أعني: لزوم القيام بهيئة

التقوّس إلى حدّ الركوع أو البقاء بصورة الركوع جالسا لتحصيل الطمأنينة و الذكر مبنيّان على أنّ الواجب في الركوع أمور ثلاثة في عرض واحد:

أحدها: الركوع القيامي عن قيام مع التمكّن.

و الثاني: الذكر في الركوع القيامي كذلك.

و الثالث: الطمأنينة في الركوع القيامي كذلك.

فإذا فرض العجز عن الأوّل و قيام البدل المجعول له في حال العجز مقامه و حدث التمكّن بالنسبة إلى الأخيرين فلا وجه للإخلال بالقيد أعني: كونهما في الركوع القيامي، بل يجب عليه تحصيل القيد مع المحافظة على عدم محو صورة الركوع لئلّا يتعدّد، بمعنى أنّه مع انحطاط ظهره بحدّ الركوع يرفع رجليه عن الأرض بعد كونهما مفترشين عليها، فلا يقال: إنّ هذا حدّ غير الحدّ الذي كان في حال الركوع الأوّل، و الحالة المتوسّطة بين الحدّين خارج عن كليهما، أعني لا يسمّى ركوعا قياميّا و لا جلوسيّا، فلا محيص عن حصول التعدّد، فإنّه مدفوع بأنّ التعدّد إنّما حصل في وصف الركوع مع محفوظيّة ذاته و بقائه على وحدته الشخصيّة، إذ ليس حقيقته إلّا انحطاط الظهر بالحدّ الخاصّ، و لا يفرق الحال في ذلك بين افتراش الرجلين و انتصابهما، فالحدّ محفوظ بحاله و الاختلاف في وصفه.

أو أنّ الواجب هو الذكر و الطمأنينة في الركوع بأيّ حال وجب فيه، فإن كان الواجب هو القيام فيه، فالواجب الذكر و الطمأنينة في الركوع القيامي، و إن كان الواجب هو القعود فيه فالواجب الذكر و الطمأنينة في الركوع الجلوسي.

و بالجملة، فليس القيام معتبرا فيهما زائدا على اعتباره في الركوع، و لا إشكال أنّه حينئذ يأتي بهما في حال الركوع الجلوسي و إن تجدّدت له القوّة على

كتاب الصلاة (للأراكي)، ج 1، ص: 540

القيام، لأنّ ركوعه وقع عن قعود و

احتسب كذلك جزءا لصلاته، فصار موضوعا لوجوب الذكر و الطمأنينة فيه، فلا يجب تحصيل القيام مقدّمة لهما، كما هو واضح، فالأمر في هذه المسألة مبنيّ على مراجعة أدلّة وجوب الأمرين المذكورين و أنّه هل يكون بأيّ من النحوين.

بقيت صورة أخرى، و هي ما إذا تجدّد القوّة بعد الإتيان بالذكر و الطمأنينة، فلا إشكال في وجوب الانتصاب قائما لرفع الرأس من الركوع.

نعم لو حصل القدرة بعد رفع الرأس عنه جلوسا و الاعتدال فيه فوجوب القيام ليسجد عن قيام محلّ منع، لعدم مدخليّة الهويّ عن قيام في ماهيّة السجود، كما لعلّه يأتي في بابه إن شاء اللّٰه تعالى.

تمّ المجلّد الأوّل من كتاب الصلاة لآية اللّٰه العظمى الأراكي قدّس سرّه الشريف و يتلوه المجلّد الثاني من أوّل بحث القراءة إن شاء اللّٰه تعالى و الحمد للّٰه ربّ العالمين

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الصلاة (للأراكي)، 2 جلد، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.